الوجيز

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ

الوجيز

المؤلف:

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ


المحقق: الدكتور دريد حسن أحمد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

الجزاء (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) المراد به تحريم صيد البر ، والذي تناله الأيدي فراخ الطير ، وصغار الوحش ، والبيض ، والذي تناله الرماح الكبار من الصيد (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) معناه : ليعاملكم معاملة من يطلب منكم أن يعلم ، مظاهرة في العدل وقوله : بالغيب معناه : أن يخشى عقابه إذا توارى بحيث لا يقع عليه الحس (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) أي من تجاوز حدّ الله ، وخالف أمره بالصيد (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم. ثم ذكر سبحانه عقيب ذلك ما يجب على ذلك الإعتداء من الجزاء فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ) هو كل الوحش ، أكل أو لم يؤكل (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي وأنتم محرمون بحج أو عمرة (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) هو أن يتعمد القتل وإن كان ذاكرا لإحرامه (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) فجزاء ذلك الفعل مثل ما قتل ، ففي النعامة بدنة ، وفي حمار الوحش وشبهه بقرة ، وفي الظبي والأرنب شاة (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) قال ابن عباس : يريد يحكم في الصيد بالجزاء رجلان صالحان منكم ، أي من أهل ملتكم ودينكم فقيهان عدلان فينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) أي يهديه هديا يبلغ الكعبة ، قال ابن عباس يريد إذا أتى مكة ذبحه وتصدّق به (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) أن يقوم عدله من النعم ثم يجعل قيمته طعاما يتصدق به (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) أن يصوم عن كل مدين يوما (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) أي عقوبة ما فعله في الآخرة إن لم يتب (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) من أمر الجاهلية (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) أي من عاد إلى قتل الصيد محرما فالله سبحانه يكافيه عقوبة بما صنع (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) معناه : قادر لا يغلب ، ذو انتقام ينتقم ممن يتعدى أمره ، ويرتكب نهيه.

٩٦ ـ ثمّ بين سبحانه ما يحلّ من الصيد وما لا يحلّ فقال : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) أي أبيح لكم صيد الماء (وَطَعامُهُ) يعني طعام البحر يريد به المملوح ، وإنما سمي طعاما لأنه يدّخر ليطعم فصار كالمقتات من الأغذية ، فيكون المراد بصيد البحر : الطري ، وبطعامه : المملوح ، لأن عندنا لا يجوز أكل ما يقذف به البحر ميّتا للمحرم (مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) قيل معناه : منفعة للمقيم والمسافر وقيل : للمحل والمحرم (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) هذا يقتضي تحريم الإصطياد في حال الإحرام ، وتحريم أكل ما صاده الغير (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) هذا أمر منه تعالى بأن يتقي جميع معاصيه ، ويجتنب جميع محارمه ، لأن إليه الرجوع في الوقت الذي لا يملك أحد فيه الضرّ والنفع سواه.

٩٧ ـ لما ذكر سبحانه حرمة الحرم عقّبه بذكر البيت الحرام والشهر الحرام فقال : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) أي جعل الله حجّ الكعبة أو نصب الكعبة (قِياماً لِلنَّاسِ) أي لمعايش الناس ومكاسبهم لأنه يحصل لهم في زيارتها من التجارة وأنواع البركة ولهذا قال : سعيد بن جبير : من أتى هذا البيت يريد شيئا للدنيا والآخرة أصابه (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) يعني الأشهر الحرم الأربعة ، وأحد فرد ، وثلاثة سرد : أي متتابعة ، فالفرد : رجب ، والسرد : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، وإنما خرج مخرج الواحد لأنه ذهب به مذهب الجنس (وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) مرّ ذكرهما في أول السورة ، وإنما ذكر هذه الجملة بعد ذكر البيت لأنها من أسباب حجّ البيت فدخلت في جملته فذكرت معه قال أبو بكر الأنباري : إن الله تعالى منّ على المسلمين بأن جعل الكعبة صلاحا لدينهم ودنياهم وقياما لهم (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) إنه الله تعالى علم أنّ العرب يكونون أصحاب عداوات وطوائل وأنهم يكونون حوالي الكعبة ، فلما خلق السماوات والأرض جعل الكعبة موضع أمن ، وعظّم حرمتها في القلوب ، وبقيت تلك الحرمة إلى يومنا

١٦١

هذا ، فلولا كونه سبحانه عالما بالأشياء قبل كونها لما كان هذا التدبير وفقا للصلاح.

٩٨ ـ ٩٩ ـ (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن عصاه (وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن تاب وأناب وأطاع ، وجمع بين المغفرة والرحمة ليعلم أنه لا يقتصر على وضع العقاب عنه بل ينعم عليه بفضله ، ولما أنذر وبشّر في هذه الآية عقبها بقوله (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) أي ليس على الرسول إلا أداء الرسالة ، وبيان الشريعة ، فأما القبول والإمتثال فإنه يتعلق بالمكلفين المبعوث إليهم (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) أي لا يخفى عليه شيء من أحوالكم التي تظهرونها وتخفونها ، وفيه غاية الزجر والتهديد.

١٠٠ ـ (قُلْ) يا محمد (لا يَسْتَوِي) أي لا يتساوى (الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) أي الحرام والحلال وقيل : الكافر والمؤمن (وَلَوْ أَعْجَبَكَ) أيها السامع ، أو أيها الإنسان (كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) أي كثرة ما تراه من الحرام لأنه لا يكون في الكثير من الحرام بركة ، ويكون في القليل من الحلال بركة (فَاتَّقُوا اللهَ) أي فاجتنبوا ما حرّم الله عليكم (يا أُولِي الْأَلْبابِ) يا ذوي العقول (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لتفلحوا وتفوزوا بالثواب العظيم ، والنعيم المقيم.

١٠١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) خاطب الله المؤمنين ونهاهم عن المسألة عن أشياء لا يحتاجون إليها في الدين ، إذا أبديت وأظهرت ساءت وحزنت (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) معناه : وإن تسألوا عن أشياء حين ينزل القرآن تحتاجون إليها في الدين من بيان محمد (ص) ونحو ذلك تكشف لكم ، وهذه الأشياء غير الأشياء الأولى (عَفَا اللهُ عَنْها) أي عفا الله عن تبعة سؤالكم (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) فلا تعودوا إلى مثلها فيكون تقدير الآية : لا تسألوا عن أشياء ترك الله ذكرها وبيانها لأنكم لا تحتاجون إليها في التكليف ان تظهر لكم تحزنكم وتغمكم.

١٠٢ ـ ١٠٣ ـ ثم أخبر سبحانه أن قوما سألوا مثل سؤالهم فلما أجيبوا إلى ما سألوا كفروا فقال : (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) انهم قوم عيسى (ع) سألوه إنزال المائدة ثم كفروا بها (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) يريد ما حرّمها على ما حرمها أهل الجاهلية من ذلك ، ولا أمر بها ، والبحيرة : هي الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن وكان آخرها ذكرا بحروا أذنها ، وامتنعوا من ركوبها ونحرها ، ولا تطرد عن ماء ولا تمنع من مرعى ، فإذا لقيها المعيي لم يركبها (وَلا سائِبَةٍ) وهي ما كانوا يسيبونه ، فإن الرجل إذا نذر القدوم من سفر ، أو البرء من علة أو ما أشبه ذلك قال : ناقتي سائبة ، فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها ، وأن لا تخلى عن ماء ، ولا تمنع من مرعى (وَلا وَصِيلَةٍ) وهي في الغنم ، كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم ، وإذا ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم ، فإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم (وَلا حامٍ) وهو الذكر من الإبل ، كانت العرب إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا : قد حمى ظهره فلا يحمل عليه ، ولا يمنع من ماء ولا من مرعى. أعلم الله أنه لم يحرم من هذه الأشياء شيئا (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) هذا إخبار منه تعالى أن الكفار يكذبون على الله بادعائهم أن هذه الأشياء من فعل الله أو أمره (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) خصّ الأكثر بأنهم لا يعقلون لأنهم اتباع ، فهم لا يعقلون أن ذلك كذب وافتراء كما يعقله الرؤساء ، عن قتادة والشعبي وقيل : إن معناه : أن أكثرهم لا يعقلون ما حرّم عليهم وما حلل لهم ، يعني أن المعاند هو الأقل منهم ، عن أبي علي الجبائي. وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول المجبرة لأنه سبحانه نفى أن يكون جعل البحيرة وغيرها ، وعندهم أنه سبحانه هو الجاعل والخالق له.

١٦٢

١٠٤ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا) أي هلموا (إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) من القرآن ، واتباع ما فيه ، والإقرار بصحته (وَإِلَى الرَّسُولِ) وتصديقه ، والإقتداء به وبأفعاله (قالُوا) في الجواب عن ذلك (حَسْبُنا) أي كفانا (ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) يعني مذاهب آبائنا. ثم أخبر سبحانه منكرا عليهم (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ) أي أنهم يتبعون آباءهم فيما كانوا عليه من الشرك وعبادة الأوثان وإن كان آباؤهم (لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً) من الدين (وَلا يَهْتَدُونَ) طريق العلم ، وفي هذه الآية دلالة على فساد التقليد ، وأنه لا يجوز العمل في شيء من أمور الدين إلا بحجة ، وفي هذه الآية دلالة أيضا على وجوب المعرفة.

١٠٥ ـ لمّا بيّن سبحانه حكم الكفار الذين قلّدوا آباءهم وأسلافهم ، وركنوا إلى أديانهم ، عقّبه بالأمر بالطاعة ، وبيان أن المطيع لا يؤاخذه بذنوب العاصي فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) معناه : احفظوا أنفسكم من ملابسة المعاصي والإصرار على الذنوب (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) أي لا يضركم ضلال من ضل من آبائكم وغيرهم إذا كنتم مهتدين وهذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لأن الله تعالى خاطب بها المؤمنين فقال : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) : يعني عليكم أهل دينكم كما قال : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، وهذا قول ابن عباس (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) أي مصيركم ومصير من خالفكم (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي يجازيكم بأعمالكم ، وفي هذه غاية الزجر والتهديد.

١٠٦ ـ لما قدم الأمر بالرجوع إلى ما أنزل عقّبه بذكر هذا الحكم المنزل فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي يا أيها المؤمنون (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) الشهادة التي تقام بها الحقوق عند الحكام (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ) أي حضر أسباب الموت من مرض وغيره (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي من أهل دينكم وملتكم (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أي من غير أهل ملتكم (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) ومعناه : فأصابكم الموت. علم الله تعالى ان من الناس من يسافر فيصحبه في سفره أهل الكتاب دون المسلمين ، وينزل القرية التي لا يسكنها غيرهم ، ويحضره الموت فلا يجد من يشهده من المسلمين فقال : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) : أي من غير دينكم ، فالعدلان من المسلمين للحضر والسفر إن أمكن اشهادهما في السفر ، والذميان في السفر خاصة إذا لم يوجد غيرهما ثم قال : (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ) المعنى : تحبسونهما من بعد صلاة العصر ، لاجتماع الناس وتكاثرهم في ذلك الوقت ، ومعنى تحبسونهما : تقفونهما وتقيمونهما ، كما تقول : مرّ بي فلان على فرس فحبس على دابته ، أي وقفه والخطاب في تحبسونهما للورثة ، ويجوز أن يكون خطابا للقضاة ويكون بمعنى الأمر ، أي فاحبسوهما (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً) أي لا نشتري بتحريف الشهادة ثمنا ومعناه : لا نبيعه بعرض من الدنيا ، لأن من باع شيئا فقد اشترى ثمنه ، ويريد لا نحابي في شهادتنا أحدا (وَلَوْ كانَ) المشهود له (ذا قُرْبى) خصّ ذا القربى بالذكر لميل الناس إلى أقربائهم ومن يناسبونه (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) أي شهادة لزمنا اداؤها بأمر الله تعالى (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) أي انا إن فعلنا ذلك كنا من الآثمين.

١٠٧ ـ ١٠٨ ـ ثمّ بيّن سبحانه الحكم بعد ظهور الخيانة من الوصيين أو الشاهدين فقال : (فَإِنْ عُثِرَ) أي اطلع وظهر (عَلى أَنَّهُمَا) أي الشاهدين (اسْتَحَقَّا) أي استوجبا (إِثْماً) أي ذنبا بأيمانهم الكاذبة وخيانتهما ، وقصدهما في شهادتهما إلى غير الإستقامة (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) أي مقام الشاهدين اللذين هما من غيرنا (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) المعنى : فالأوليان بأمر الميت آخران من أهله

١٦٣

يقومان مقام الخائنين اللذين عثر على خيانتهما ، ومعنى الأوليين الأقربان إلى الميت (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) أي شهادتنا وقولنا في وصية صاحبنا أحق بالقبول والصدق من شهادتهما وقولهما وقيل : يريد به فيقولان : والله ليميننا خير من يمينهما ، وسميت اليمين هاهنا شهادة لأن اليمين كالشهادة على ما يحلف عليه أنه كذلك (وَمَا اعْتَدَيْنا) أي ما جاوزنا الحق فيما قلنا من أن شهادتنا أحق من شهادتهما (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) تقديره : إنا إن اعتدينا لمن جملة الظالمين لنفوسنا ثم بيّن سبحانه وجه الحكمة في استحلاف الشهود فقال : (ذلِكَ أَدْنى) أي ذلك الإحلاف والإقسام ، أو ذلك الحكم أقرب إلى (أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) أي حقها وصدقها ، لا يكتمون شيئا ولا يزيدون شيئا ، لأن اليمين تردع عن أمور كثيرة لا يرتدع عنها مع عدم اليمين (أَوْ يَخافُوا) أي أقرب إلى أن يخافوا (أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ) إلى أولياء الميت (بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم فيفتضحوا ويغرموا ، فربما لا يحلفون كاذبين ، ويتحفظون في الشهادة مخافة رد اليمين والشهادة إلى المستحق عليهم (وَاتَّقُوا اللهَ) أن تحلفوا أيمانا كاذبة ، أو تخونوا أمانة (وَاسْمَعُوا) الموعظة (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) إلى ثوابه وجنته.

١٠٩ ـ (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) هو كقوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) والمعنى : اتقوا عقاب يوم يجمع الله فيه الرسل (فَيَقُولُ) لهم (ما ذا أُجِبْتُمْ) أي ما الذي أجابكم قومكم فيما دعوتموهم إليه ، وهذا تقرير في صورة الاستفهام على وجه التوبيخ للمنافقين عند إظهار فضيحتهم على رؤوس الأشهاد (قالُوا لا عِلْمَ لَنا) فيه أقوال (أولها) : لا علم لنا كعلمك لأنك تعلم باطنهم وانا لا نعلم غيبهم وباطنهم ، وذلك هو الذي يقع عليه الجزاء (وثانيها) : لا علم لنا إلا ما علمتنا فحذف لدلالة الكلام عليه (وثالثهما) : أن المراد به تحقيق فضيحتهم ، أي أنت أعلم بحالهم منا ولا تحتاج من ذلك إلى شهادتنا (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) المراد : أنت تعلم ما غاب وما بطن ، ونحن إنما نعلم ما نشاهد. وفي هذه الآية دلالة على إثبات المعاد والحشر والنشر.

١١٠ ـ لما عرّف سبحانه يوم القيامة بما وصفه به من جمع الرسل فيه عطف عليه بذكر المسيح فقال : (إِذْ قالَ اللهُ) ومعناه : إذ يقول الله في الآخرة (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) وهذا إشارة إلى بطلان قول النصارى لأنّ من له أمّ لا يكون إلها (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) أي اذكر ما أنعمت به عليك وعلى أمّك واشكره ، أفرد النعمة في اللفظ ويريد به الجمع كما قال تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) ، وإنما جاز ذلك لأنه مضاف فصلح للجنس ثم فسر نعمته بأن قال : (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) وهو جبرائيل (ع) ، وقد مضى تفسيره في سورة البقرة عند قوله : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) أي في حال ما كنت صبيا في المهد ، وفي حال ما كنت كهلا (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ) قيل الكتابة يعني الخط (وَالْحِكْمَةَ) أي العلم والشريعة (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) أي واذكر ذلك أيضا إذ تصور الطين كهيئة الطير الذي تريد ، أي كخلقته وصورته وقوله : بإذني : أي تفعل ذلك بإذني وأمري (فَتَنْفُخُ فِيها) أي تنفخ فيها الروح ، لأن الروح جسم يجوز أن ينفخه المسيح بأمر الله (فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) إذا نفخ المسيح فيها الروح قلبها الله لحما ودما ، ويخلق فيها الحياة فصارت طائرا بإذن الله ، أي بأمره وإرادته لا بفعل المسيح (وَتُبْرِئُ) أي تصحح (الْأَكْمَهَ) الذي ولد أعمى (وَالْأَبْرَصَ) من به برص مستحكم (بِإِذْنِي) أي بأمري ومعناه : انك تدعوني حتى أبرىء الأكمه والأبرص ، ونسب ذلك إلى المسيح لما كان

١٦٤

بدعائه وسؤاله (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) أي اذكر إذ تدعوني فاحيي الموتى عند دعائك ، وأخرجهم من القبور حتى يشاهدهم الناس أحياء (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ) عن قتلك وأذيتك (إِذْ جِئْتَهُمْ) أي حين جئتهم (بِالْبَيِّناتِ) بالحجج والمعجزات (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وجحدوا نبوتك (مِنْهُمْ) أي من بني إسرائيل (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) يعنون به عيسى ، (سِحْرٌ مُبِينٌ) : يعني به ان ما جاء به سحر ظاهر واضح.

١١١ ـ ثمّ بيّن سبحانه تمام نعمته على عيسى فقال : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ) أي واذكر إذ أوحيت (إِلَى الْحَوارِيِّينَ) أي القيت إليهم بالآيات التي أريتهم إياها ، وهم وزراء عيسى وأنصاره (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) أي صدقوا بي وبصفاتي ، وبعيسى أنه عبدي ونبيي (قالُوا) أي قال الحواريون (آمَنَّا) أي صدقنا (وَاشْهَدْ) يا الله (بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ).

١١٢ ـ ١١٣ ـ ثم أخبر سبحانه عن الحواريين وسؤالهم فقال : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) معناه : هل يفعل ربك ذلك بمسألتك إياه ليكون علما على صدقك ، ولا يجوز أن يكونوا شكوا في قدرة الله تعالى على ذلك لأنهم كانوا عارفين مؤمنين ، وكأنهم سألوه ذلك ليعرفوا صدقه وصحة أمره من حيث لا يعرض عليهم فيه إشكال ولا شبهة ، ومن ثمّ قالوا : وتطمئن قلوبنا ، كما قال إبراهيم : ولكن ليطمئن قلبي (قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) معناه : اتقوا الله أن تسألوه شيئا لم تسأله الأمم قبلكم وقيل : أمرهم أن لا يقترحوا الآيات ، وأن لا يقدموا بين يدي الله ورسوله لأن الله تعالى قد أراهم البراهين والمعجزات بإحياء الموتى وغيره مما هو أوكد مما سألوه وطلبوه (قالُوا) أي قال الحواريون (نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) الإرادة هاهنا بمعنى المحبة التي هي ميل الطباع ، أي نحب ذلك (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) معناه : نريد أن نزداد يقينا ، وذلك أن الدلائل كلما كثرت مكنت المعرفة في النفس (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) بأنك رسول الله ، طلبوا المعاينة والعلم الضروري ، والتأكيد في الإعجاز (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) لله بالتوحيد ، ولك بالنبوة وقيل : من الشاهدين لك عند بني إسرائيل إذا رجعنا إليهم.

١١٤ ـ ١١٥ ـ ثمّ أخبر سبحانه عن سؤال عيسى (ع) إياه فقال : (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) عن قومه لمّا التمسوا منه (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً) أي خوانا عليه طعام (مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً) معناه : نتخذ اليوم الذي تنزل فيه عيدا نعظمه نحن ومن يأتي بعدنا (لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) أي لأهل زماننا ومن يجيء بعدنا (وَآيَةً مِنْكَ) أي ودلالة منك عظيمة الشأن في إزعاج قلوب العباد إلى الإقرار بمدلولها ، والإعتراف بالحق الذي تشهد به ظاهرها ، تدل على توحيدك ، وصحة نبوة نبيك (وَارْزُقْنا) أي واجعل ذلك رزقا لنا ، وقيل معناه : وارزقنا الشكر عليها (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) وفي هذا دلالة على أن العباد قد يرزق بعضهم بعضا ، لأنه لو لم يكن كذلك لم يصح أن يقال له سبحانه : (أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) كما لا يجوز أن يقال : أنت خير الآلهة لما لم يكن غيره إلها (قالَ اللهُ) مجيبا له إلى ما التمسه (إِنِّي مُنَزِّلُها) يعني المائدة (عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) أي بعد إنزالها عليكم (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) قيل في معناه أقوال ، أحدها : أنه أراد عالمي زمانه ، فجحد القوم فكفروا بعد نزولها فمسخوا قردة وخنازير ، عن قتادة ، وروي عن أبي الحسن موسى أنهم مسخوا خنازير وثانيها : أنه أراد عذاب الإستئصال ، وثالثها : أنه أراد جنسا من العذاب لا يعذب به أحدا غيرهم ، وإنما استحقوا هذا النوع من العذاب بعد نزول المائدة لأنهم كفروا

١٦٥

بعد ما رأوا الآية التي هي من أزجر الآيات عن الكفر بعد سؤالهم لها ، فاقتضت الحكمة اختصاصهم بفن من العذاب عظيم الموضع ، كما اختصت آيتهم بفن من الزجر عظيم الموقع.

١١٦ ـ ١١٨ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدم من أمر المسيح فقال : (وَإِذْ قالَ اللهُ) والمعنى : إذ يقول الله يوم القيامة لعيسى (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) هذا وإن خرج مخرج الإستفهام فهو تقريع وتهديد لمن ادعى ذلك عليه من النصارى ، كما جرى في العرف بين الناس إن من ادعى على غيره قولا فيقال لذلك الغير بين يدي المدعى عليه ذلك القول : أأنت قلت هذا القول؟ ليقول : لا فيكون ذلك إستعظاما لذلك القول ، وتكذيبا لقائله ، وقد اعترض على قوله : إلهين فقيل : لا يعلم في النصارى من اتخذ مريما إلها ، والجواب عنه من وجوه : احدها : انهم لما جعلوا المسيح إلها لزمهم أن يجعلوا أمه إلها لأن الولد يكون من جنس الوالدة ، فهذا عن طريق الإلزام لهم. الثاني : انهم لما عظموهم تعظيم الالهة أطلق اسم الآلهة عليهما ، كما أطلق اسم الرب على الرهبان والأحبار في قوله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) ، لما عظموهم تعظيم الرب ، والثالث : يحتمل أن يكون فيهم من قال بذلك ، ويعضد هذا القول ما حكاه الشيخ أبو جعفر عن بعض النصارى انه كان فيما مضى قوم يقال لهم المريمية يعتقدون في مريم أنها إليه (قالَ) يعني عيسى (سُبْحانَكَ) جلّ جلالك وعظمت وتعاليت ، ثم تبرأ من قول النصارى فقال (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) أي لا يجوز لي أن أقول لنفسي ما لا يحق لي ، فآمر الناس بعبادتي وأنا عبد مثلهم (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) يريد أني لم أقله لأني لو كنت قلته لما خفي عليك لأنك علام الغيوب (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي تعلم غيبي وسري ولا أعلم غيبك وسرك (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) لأنه علّل علمه بما في نفس عيسى بأنه علام الغيوب وعيسى ليس كذلك ، فلذلك لم يعلم ما يختص الله بعلمه (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أي لم أقل للناس إلّا ما أمرتني به من الإقرار لك بالعبودية ، وانك ربي وربهم وإلهي وإلههم ، وأمرتهم أن يعبدوك وحدك ولا يشركوا معك غيرك في العبادة (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) أي شاهدا (ما دُمْتُ) حيا (فِيهِمْ) بما شاهدته منهم وعلمته وبما أبلغتهم من رسالتك التي حملتنيها وأمرتني بأدائها إليهم (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) أي قبضتني إليك وأمتني (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) أي الحفيظ (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي أنت عالم بجميع الأشياء لا تخفى عليك خافية ، ولا يغيب عنك شيء (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) لا يقدرون على دفع شيء من أنفسهم (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) في هذا تسليم الأمر لمالكه وتفويض إلى مدبره ، وتبرؤ من أن يكون إليه شيء من أمور قومه كما يقول الواحد منّا إذا تبرّأ من تدبير أمر من الأمور ويريد تفويضه إلى غيره : هذا الأمر لا مدخل لي فيه ، فإن شئت فافعله ، وإن شئت فاتركه ، مع علمه وقطعه على ان أحد الأمرين لا يكون منه ، والعزيز : هو المنيع القادر الذي لا يضام ، والقاهر الذي لا يرام ، والحكيم : هو الذي يضع الأشياء موضعها ، ولا يفعل إلا الحسن الجميل.

١١٩ ـ ١٢٠ ـ لما بيّن عيسى بطلان ما عليه النصارى (قالَ اللهُ) تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) يعني ما صدقوا فيه في دار التكليف ، لأن يوم القيامة لا تكليف فيه على أحد (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي دائمين فيها في نعيم مقيم لا يزول (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بما فعلوا (وَرَضُوا عَنْهُ) بما أعطاهم من الجزاء والثواب (ذلِكَ

١٦٦

الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) هو ما يحصلون فيه من الثواب. ثم بيّن تعالى عظيم قدرته واتساع مملكته فقال : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَ) نزّه تعالى نفسه عما قالت النصارى أن معه إلها فقال : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) دون كل من سواه لقدرته عليه وحده (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو يقدر على المعدومات بأن يوجدها ، وعلى الموجودات بأن يعدمها ، وعلى كثير منها بأن يعيدها بعد الإفناء ، وعلى مقدورات غيره بأن يقدر عليها ويمنع منها.

سورة الأنعام مكية

عدد آياتها مائة وخمس وستون آية

١ ـ ٢ ـ بدأ الله تعالى هذه السورة بالحمد لنفسه إعلاما بأنه المستحق لجميع المحامد لأن أصول النعم وفروعها منه تعالى ، ولأن له الصفات العلى فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) يعني اخترعهما بما اشتملا عليه من عجائب الصنعة ، وبدائع الحكمة (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) يعني الليل والنهار ثم عجب سبحانه ممن جعل له شريكا مع ما يرى من الآيات الدالة على وحدانيته فقال : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي جحدوا الحق (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي يسوون به غيره بأن جعلوا له أندادا وقيل : معنى يعدلون : يشركون به غيره ، والوجه في التعجيب أن هؤلاء الكفار مع اعترافهم بأن اصول النعم منه ، وأنه هو الخالق والرازق عبدوا غيره ، ونقضوا ما اعترفوا به ، وأيضا فإنهم عبدوا ما لا ينفع ولا يضرّ من الحجارة والموات (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) يعني به آدم والمعنى : أنشأ أباكم واخترعه من طين وأنتم من ذريته (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أي كتب وقدّر أجلا (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) يعني بالأجلين أجل الحياة إلى الموت ، وأجل الموت إلى البعث وقيام الساعة وعن ابن عباس قال قضى أجلا من مولده إلى مماته ، وأجل مسمى عنده من الممات إلى البعث لا يعلم ميقاته أحد سواه ، فإذا كان الرجل صالحا واصلا لرحمه زاد الله له في أجل الحياة ، ونقص من أجل الممات إلى المبعث ، وإذا كان غير صالح ولا واصل نقصه الله من أجل الحياة وزاد في أجل المبعث ، قال : وذلك قوله : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) ولا ينقص من عمره إلّا في كتاب (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) خطاب للكفار الذين شكّوا في البعث والنشور واحتجاج عليهم بأنّه سبحانه خلقهم ونقلهم من حال إلى حال ، وقضى عليهم الموت وهم يشاهدون ذلك ، ويقرّون بأنه لا محيص منه ، ثم بعد هذا يشكون ويكذّبون بالبعث ، ومن قدر على ابتداء الخلق فلا ينبغي أن يشك في أنه يصح منه إعادتهم وبعثهم.

٣ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) معناه : الله يعلم في السماوات وفي الأرض سرّكم وجهركم ، ويكون الخطاب لجميع الخلق لأن الخلق إما أن يكونوا ملائكة فهم في السماء أو بشرا أو جنّا فهم في الأرض ، فهو سبحانه عالم بجميع أسرارهم وأحوالهم ومتصرفاتهم ، ولا يخفى عليه منها شيء ، ويقويه قوله : (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) : أي يعلم جميع ما تعملونه من الخير والشر فيجازيكم على حسب أعمالكم (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) والمعنى : يعلم نياتكم وأحوالكم وأعمالكم ، وفي قوله : (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) دلالة على أنه عالم لنفسه ، لأن من كان عالما بعلم لا يصح ذلك منه.

٤ ـ ٥ ـ ثمّ أخبر سبحانه عن الكفار المذكورين في أول الآية فقال : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) أي لا تأتيهم حجة (مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) أي من حججه وبيناته : كانشقاق القمر ، وآيات القرآن ، وغير ذلك من المعجزات (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) لا يقبلونها ، ولا يستدلون بها على ما دلهم الله عليه من توحيده ، وصدق رسوله (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) أي

١٦٧

بالحق الذي أتاهم به محمد (ص) من القرآن وسائر أمور الدين (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ) أي أخبار (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) والمعنى : أخبار استهزائهم وجزاؤه وهو عقاب الآخرة.

٦ ـ ثم حذّرهم سبحانه ما نزل بالأمم قبلهم فقال : (أَلَمْ يَرَوْا) أي ألم يعلم هؤلاء الكفار (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) أي من أمة ، وكل طبقة مقترنين في وقت قرن (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) معناه : جعلناهم ملوكا وأغنياء وقال ابن عباس : أعطيناهم ما لم نعطكم من كثرة العبيد والأموال والولاية والبسطة وطول العمر ، ونفاذ الأمر وأنتم تسمعون أخبارهم ، وترون ديارهم وآثارهم (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) قال ابن عباس : يريد به الغيث والبركة (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ) أي ماء الأنهار (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) ولم يغن ذلك عنهم شيئا لما طغوا واجترأوا علينا (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) أي خلقنا من بعد هلاكهم جماعة أخرى.

٧ ـ ثم أخبر سبحانه عن عنادهم فقال : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ) يا محمد (كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) أي كتابة في صحيفة (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) أي فعاينوا ذلك معاينة ، ومسوه بأيديهم (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أخبر سبحانه أنهم يدفعون الدليل حتى لو أتاهم الدليل مدركا بالحس لنسبوا ذلك إلى السحر لعظم عنادهم ، وقساوة قلوبهم.

٨ ـ ١٠ ـ ثم أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار أنهم قالوا (لَوْ لا) وقالوا أي هلا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ) أي على محمد (مَلَكٌ) نشاهده فنصدقه ، ثم أخبر تعالى عن عظم عنادهم فقال : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً) على ما اقترحوه لما آمنوا به ، واقتضت الحكمة استئصالهم وأن لا ينظرهم ولا يمهلهم ، وذلك قوله : (لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي لأهلكوا بعذاب الاستئصال ، ثم قال تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً) أي لو جعلنا الرسول ملكا (لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) لأنهم لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته ، لأن أعين الخلق تحار عن رؤية الملائكة إلّا بعد التجسم بالاجسام الكثيفة ، ولذلك كانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة الإنس وكان جبرائيل يأتي النبي (ص) في صورة دحية الكلبي (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) قال الزجاج : كانوا هم يلبسون على ضعفتهم في أمر النبي فيقولون : إنما هذا بشر مثلكم فقال : (لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً) فرأوا هم الملك رجلا لكان يلحقهم فيه من اللبس مثل ما لحق ضعفتهم منهم وهذا احتجاج عليهم بأن الذي طلبوه لا يزيدهم بيانا بل يكون الأمر في ذلك على ما هم عليه من الحيرة ، ثم قال سبحانه على سبيل التسلية لنبيه من تكذيب المشركين إياه ، واستهزائهم به (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) يقول : لقد استهزأت الأمم الماضية برسلها كما استهزأ بك قومك ، فلست بأول رسول يستهزأ به ، ولا هم أول أمة استهزأت برسولها (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ) أي فحل بالساخرين منهم (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من وعيد أنبيائهم بعاجل العقاب في الدنيا.

١١ ـ ١٣ ـ ثم خاطب سبحانه نبيه (ص) فقال : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفار (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي سافروا فيها (ثُمَّ انْظُرُوا) والنظر طلب الإدراك بالبصر وبالفكر وبالاستدلال ، ومعناه هنا : فانظروا بأبصاركم ، وتفكروا بقلوبكم (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) المستهزئين. وإنما أمرهم بذلك لأن ديار المكذبين من الأمم السالفة كانت باقية ، وأخبارهم في الخسف والهلاك كانت شائعة ، فإذا سار هؤلاء في الأرض ، وسمعوا أخبارهم ، وعاينوا آثارهم ، دعاهم ذلك إلى الإيمان ، وزجرهم عن الكفر والطغيان ثم قال (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفار (لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الله الذي خلقهما أم الأصنام؟ فإن أجابوك فقالوا : لله وإلا (قُلْ)

١٦٨

أنت (لِلَّهِ) أي ملكهما وخلقهما ، والتصرف فيهما كيف يشاء له (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي أوجب على نفسه الإنعام على خلقه (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي ليؤخرن جمعكم إلى يوم القيامة ، فيكون تفسيرا للرحمة على ما ذكرناه أن المراد به إمهال العاصي ليتوب (لا رَيْبَ فِيهِ) معناه ليجمعن هؤلاء المشركين الذين خسروا أنفسهم إلى هذا اليوم الذي يجحدونه ويكفرون به (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي أهلكوها بارتكاب الكفر والعناد (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي لا يصدقون بالحق (وَلَهُ ما سَكَنَ) أي وله كل متمكن ساكن (فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) خلقا وملكا وإنما ذكر الليل والنهار هنا ، وذكر السماوات والأرض فيما قبل ، لأن الأول يجمع المكان ، والثاني يجمع الزمان وهما ظرفان لكل موجود ، فكأنه أراد الأجسام والأعراض ولما نبه على اثبات الصانع عقبّه بذكر صفته فقال : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) والسميع : هو الذي على صفة يصح لأجلها أن يسمع المسموعات إذا وجدت ، وهو كونه حيا لا آفة به ولذلك يوصف به فيما لم يزل ، والعليم : هو العالم بوجوه التدابير في خلقه وبكل ما يصح أن يعلم.

١٤ ـ ١٥ ـ (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سبق ذكرهم (أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) أي مالكا ومولى ، ووليّ الشيء مالكه الذي هو أولى به من غيره والمعنى : لا أتخذ غير الله وليّا (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما ومنشئهما من غير احتذاء على مثال (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) أي يرزق ولا يرزق والمراد : يرزق الخلق ولا يرزقه أحد (قُلْ) يا محمد (إِنِّي أُمِرْتُ) أي أمرني ربي (أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أي استسلم لأمر الله ، ورضي بحكمه (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) المعنى أمرت بالأمرين جميعا : أي أمرت بالإيمان ، ونهيت عن الشرك (قُلْ) يا محمد (إِنِّي أَخافُ) معناه : أوقن وأعلم (إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بترك أمره وترك نهيه (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) يعني يوم القيامة ، ومعنى العظيم هنا : أنه شديد على العباد ، وعظيم في قلوبهم.

١٦ ـ (مَنْ يُصْرَفْ) العذاب (عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) الله يريد من غفر له فإنه يثيبه الله لا محالة ، وذكر سبحانه الرحمة مع صرف العذاب لئلا يتوهم أنه ليس له إلّا صرف العذاب عنه فقط (وَذلِكَ الْفَوْزُ) أي الظفر بالبغية (الْمُبِينُ) الظاهر البيّن ، ويحتمل أن يكون معنى الآية : أنه لا يصرف العذاب عن أحد إلّا برحمة الله.

١٧ ـ ١٨ ـ (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) أي ان يمسك بفقر أو مرض أو مكروه (فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) أي لا مزيل ولا مفرج له عنك إلّا هو ، ولا يملك كشفه سواه مما يعبده المشركون (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) أي وان يصبك بغنى ، أو سعة في الرزق ، أو صحة في البدن ، أو شيء من محاب الدنيا (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الخير والضر (قَدِيرٌ) ولا يقدر أحد على دفع ما يريده لعباده من مكروه أو محبوب والضر اسم جامع لكل ما يتضرر به من المكاره ، كما ان الخير اسم جامع لكل ما ينتفع به (وَهُوَ الْقاهِرُ) ومعناه : القادر على أن يقهر غيره (فَوْقَ عِبادِهِ) معنى فوق ههنا قهره واستعلاؤه عليهم ، فهم تحت تسخيره وتذليله بما علاهم به من الإقتدار الذي لا ينفك منه أحد (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) معناه : أنه مع قدرته عليهم لا يفعل إلّا ما تقتضيه الحكمة ، والخبير : العالم بالشيء.

١٩ ـ ٢٠ ـ (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفار (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ) أي أعظم (شَهادَةً) معناه أيّ شيء أكبر شهادة حتى يشهد لي بالبلاغ ، وعليكم بالتكذيب؟ (اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) يشهد لي بالرسالة والنبوة (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ) أي أنزل إليّ حجة وشهادة على صدقي (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) أي لأخوفكم به من عذاب الله تعالى (وَمَنْ بَلَغَ) أي ولا خوّف به

١٦٩

من بلغه القرآن إلى يوم القيامة ، وقال محمد بن كعب : من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا وسمع منه. ثم قال سبحانه تعالى موبّخا لهم قل يا محمد لهم (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) هذا استفهام معناه الجحد والإنكار ، وتقديره : كيف تشهدون أن مع الله آلهة أخرى بعد وضوح الأدلة ، وقيام الحجة بوحدانية الله تعالى؟ ثم قال سبحانه لنبيه : (قُلْ) أنت يا محمد (لا أَشْهَدُ) بمثل ذلك وإن شهدتم بإثبات الشريك لله بعد قيام الحجة بوحدانية الله تعالى ثم قال : (قُلْ) يا محمد لمن شهد أنّ معه آلهة أخرى (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) به وبعبادته من الأوثان وغيرها. ثم ذكر سبحانه أن الكفار بين جاهل ومعاند فقال : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) وهذا مفسر في سورة البقرة (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) المعنيّ به أهل الكتاب ، قال عبد الله بن سلام : نعرف نبي الله بالنعت الذي نعته الله إذا رأيناه فيكم كما يعرف أحدنا أبنه إذا رآه بين الغلمان ، وايم الله الذي يحلف به ابن سلام لأنا بمحمد أشدّ معرفة مني بابني.

٢١ ـ ٢٢ ـ ثمّ بيّن سبحانه ما يلزمهم من التوبيخ والتهجين بالإشراك فقال : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) معناه : ومن أكفر ممن اختلق على الله كذبا فأشرك به الآلهة (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) أي بالقرآن وبمحمد ومعجزاته (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي لا يفوز برحمة الله وثوابه ورضوانه ، ولا بالنجاة من النار الظالمون ، والظالم ههنا : هو الكافر بنبوة محمد (ص) ، المكذب بآياته ، الجاحد لها (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) عني بهم من تقدّم ذكرهم من الكفار فإنه سبحانه يحشرهم يوم القيامة من قبورهم إلى موضع الحساب (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) إن المشركين كانوا يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم عند الله ، فقيل لهم يوم القيامة : أي شركاؤكم الذين كنتم تزعموا أنّها تشفع لكم؟ توبيخا لهم وتبكيتا على ما كانوا يدعونه ومعنى تزعمون ، تكذبون.

٢٣ ـ ٢٤ ـ ثمّ بيّن سبحانه جواب القوم عند توجه التوبيخ إليهم فقال : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) الفتنة ها هنا الشرك ، والإفتتان بالأوثان (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) معناه : ما كنا مشركين في الدنيا عند أنفسنا وفي اعتقدانا وتقديرنا ، وذلك أن المشركين في الدنيا يعتقدون كونهم مصيبين فيحلفون على هذا في الآخرة (انْظُرْ) يقول الله تعالى عند حلف هؤلاء : انظر يا محمد (كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) وهذا وإن كان لفظه لفظ الإستفهام فالمراد به التنبيه على التعجب منهم ومعناه : انظر إلى اخباري عن افترائهم كيف هو؟ فإنه لما كان قولهم ما كنا مشركين كذبا في الحقيقة جاز أن يقال : كذبوا على أنفسهم (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي ضلت عنهم أوثانهم التي كانوا يعبدونها ، ويفترون الكذب بقولهم : هؤلاء ، شفعاؤنا عند الله غدا ، فذهبت عنهم في الآخرة فلم يجدوها ولم ينتفعوا بها.

٢٥ ـ ثم وصف الله سبحانه حالهم عند استماع القرآن فقال : (وَمِنْهُمْ) أي ومن الكفار الذين تقدّم ذكرهم (مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) يريد يستمعون إلى كلامك (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) قد ذكرنا الكلام فيه في سورة البقرة عند قوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) معناه وإن يروا كل معجزة دالة على نبوتك لا يؤمنوا بها لعنادهم (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) يعني أنهم إذا دخلوا عليك يجيئون مجيء مخاصمين ، مجادلين ، رادين عليك قولك ، ولم يجيئوا مجيء من يريد الرشاد والنظر في الدلالة الدالة على توحيد الله ، ونبوة نبيه (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا) أي ما هذا القرآن (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي

١٧٠

أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها.

٢٦ ـ ثم كنّى عن الكفار الذين تقدم ذكرهم فقال : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) أي ينهون الناس عن اتباع النبي (ص) ، ويتباعدون عنه فرارا منه (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) معناه : ما يهلكون بنهيهم عن قبوله ، وبعدهم عنه إلّا أنفسهم (وَما يَشْعُرُونَ) أي وما يعلمون إهلاكهم إياها بذلك.

٢٧ ـ ٢٨ ـ ثمّ بيّن سبحانه ما ينال هؤلاء الكفار يوم القيامة من الحسرة ، وتمني الرجعة فقال : (وَلَوْ تَرى) يا محمد ، أو يا أيها السامع (إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) المعنى : عاينوا النار ، (فَقالُوا) أي فقال الكفار حين عاينوا العذاب ، وندموا على ما فعلوا (يا لَيْتَنا نُرَدُّ) إلى الدنيا (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) أي بكتب ربنا ورسله ، وجميع ما جاءنا من عنده (وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يعني من جملة المؤمنين بآيات الله (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) فأظهره الله ، وشهدت به جوارحهم ، وظهرت فضيحتهم في الآخرة ، وتهتكت أستارهم (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) أي لو ردوا إلى الدنيا وإلى حال التكليف كما طلبوه لعادوا إلى ما نهوا عنه من الكفر والتكذيب (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) معناه : هم كاذبون فيما يخبرون به عن أنفسهم بأنهم متى ردوا آمنوا.

٢٩ ـ ٣٠ ـ (وَقالُوا إِنْ هِيَ) أي ما هي (إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) عنوا بذلك أنه لا حياة لنا في الآخرة ، وإنما هي هذه التي حيينا بها في الدنيا (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) أي لسنا بمبعوثين بعد الموت ، ثم خاطب سبحانه نبيه (ص) فقال : (وَلَوْ تَرى) يا محمد (إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) المعنى : وقفوا على ما وعدهم ربهم من العذاب الذي يفعله بالكفار ، والثواب الذي يفعله بالمؤمنين في الآخرة ، وعرفوا صحة ما أخبرهم به من الحشر والحساب (قالَ) أي يقول الله تعالى لهم (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) كما قالت الرسل ، وهذا سؤال توبيخ وتقريع ، وقوله : هذا إشارة إلى الجزاء والحساب والبعث (قالُوا) أي فيقول هؤلاء الكفار مقرّين بذلك ، مذعنين له (بَلى) هو حق (وَرَبِّنا) قسم ذكروه وأكّدوا اعترافهم به (قالَ) الله تعالى (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي بكفركم ، وإنما قال : ذوقوا لأنهم في كل حال يجدون ذلك وجدان الذائق المذوق في شدة الإحساس.

٣١ ـ ٣٢ ـ ثم أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار ، فقال : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) المراد : بلقاء جزاء الله كما يقال للميت : لقي فلان عمله ، أي لقي جزاء عمله (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ) أي القيامة (بَغْتَةً) أي فجأة (قالُوا) عند معاينة ذلك اليوم وأهواله ، وتباين أحوال أهل الثواب والعقاب (يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) أي على ما تركنا وضيّعنا في الدنيا من تقديم أعمال الآخرة (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ) أي أثقال ذنوبهم (عَلى ظُهُورِهِمْ) وقال ابن عباس : يريد آثامهم وخطاياهم ، وقال قتادة والسدي : ان المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة ، وأطيبه ريحا فيقول : أنا عملك الصالح طال ما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم ، فذلك قوله : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ) وفدا : أي ركبانا ، وان الكافر إذا خرج من قبره استقبله أقبح شيء صورة ، وأخبثه ريحا فيقول : أنا عملك السيء طال ما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك اليوم ، وذلك قوله : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) أي بئس الحمل حملهم ، ثم ردّ قولهم : (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) أي باطل وغرور إذا لم يجعل ذلك طريقا إلى الآخرة (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ) وما فيها من أنواع النعيم والجنان (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) معاصي الله لأنها باقية دائمة لا يزول عنهم

١٧١

نعيمها ، ولا يذهب عنهم سرورها (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أن ذلك كما وصف لهم فيزهدوا في شهوات الدنيا ، ويرغبوا في نعيم الآخرة ، ويفعلوا ما يؤديهم إلى ذلك من الأعمال الصالحة ، وفي هذه الآية تسلية للفقراء بما حرموا من متاع الدنيا.

٣٣ ـ ٣٤ ـ ثم سلّى سبحانه نبيّه (ص) على تكذيبهم إياه بعد إقامة الحجة عليهم فقال : (قَدْ نَعْلَمُ) نحن يا محمد (إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) أي ما يقولون : إنك شاعر أو مجنون وأشباه ذلك (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) معناه : لا يكذبونك بقلوبهم اعتقادا وإن كانوا يظهرون بأفواههم التكذيب عنادا ، وهو قول أكثر المفسرين قالوا : يريد أنهم يعلمون أنك رسول الله ولكن يجحدون بعد المعرفة (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أي بالقرآن والمعجزات يجحدون بغير حجة سفها وجهلا وعنادا ثم زاد سبحانه في تسلية نبيه (ص) بقوله : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا) أي صبروا على ما نالهم منهم من التكذيب والأذى في أداء الرسالة (حَتَّى أَتاهُمْ) جاءهم (نَصْرُنا) إياهم على المكذبين (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) معناه : لا أحد يقدر على تكذيب خبر الله ، ولا على إخلاف وعده ، وإن ما أخبر الله به أن يفعل بالكفار فلا بد من كونه لا محالة ، وما وعدك به من نصره فلا بد من حصوله لأنه لا يجوز الكذب في إخباره ، ولا الخلف في وعده (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) أي خبرهم في القرآن كيف أنجيناهم ونصرناهم على قومهم.

٣٥ ـ ٣٧ ـ ثمّ بيّن سبحانه أن هؤلاء الكفار لا يؤمنون فقال مخاطبا لنبيه (ص) : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ) أي عظم واشتد (عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) وانصرافهم عن الإيمان وقبول دينك ، وامتناعهم من اتباعك وتصديقك (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) أي قدرت وتهيأ لك (أَنْ تَبْتَغِيَ) أي تطلب وتتخذ (نَفَقاً فِي الْأَرْضِ) أي سربا في جوف الأرض (أَوْ سُلَّماً) أي مصعدا (فِي السَّماءِ) ودرجا (فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) أي حجة تلجئهم إلى الإيمان ، وتجمعهم على ترك الكفر فافعل ذلك (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) بالإلجاء ، ولم يفعل ذلك لأنه ينافي التكليف ، ويسقط استحقاق الثواب الذي هو الغرض بالتكليف (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) معناه : فلا تجزع ولا تتحسر لكفرهم وإعراضهم عن الإيمان (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) ومعناه : انما يستجيب إلى الإيمان بالله وما أنزل إليك من يسمع كلامك ، ويصغي إليك وإلى ما تقرأه عليه من القرآن ، ويتفكر في آياتك ، فإن من لم يتفكر ولم يستدل بالآيات بمنزلة من لم يسمع (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) يريد أن الذين لا يصغون إليك من هؤلاء الكفار ، ولا يتدبرون فيما تقرأه عليهم وتبينه لهم من الآيات والحجج بمنزلة الموتى ، فكما أيست أن تسمع الموتى كلامك إلى أن يبعثهم الله ، فكذلك فآيس من هؤلاء أن يستجيبوا لك ، ثم وصف الموتى بأن يبعثهم ويحكم فيهم (ثُمَّ إِلَيْهِ) أي إلى حكمه (يُرْجَعُونَ) معناه : يبعثهم الله من القبور ، ثم يرجعون إلى موقف الحساب ، ثم عاد سبحانه إلى حكاية أقوال الكفار فقال عاطفا على ما تقدم : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) هذا إخبار عن رؤساء قريش لما عجزوا من معارضته فيما أتى به من القرآن اقترحوا عليه مثل آيات الأولين : كعصا موسى ، وناقة ثمود فقال سبحانه : (قُلْ) يا محمد (إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) كما يسألونها (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ما في انزالها من وجوب الاستئصال لهم إذا لم يؤمنوا عند نزولها ، وما في الإقتصار بهم على ما أوتوه من الآيات من المصلحة.

٣٨ ـ ٣٩ ـ لما بيّن سبحانه أنه قادر على أن ينزل آية عقّبه بذكر ما يدل على كمال قدرته ، وحسن تدبيره وحكمته فقال :

١٧٢

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) أي ما من حيوان يمشي على وجه الأرض (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) جمع بهذين اللفظين جميع الحيوانات لأنها لا تخلوا إما أن تكون مما يطير بجناحيه ، أو يدب (إِلَّا أُمَمٌ) أي أصناف مصنفة تعرف بأسمائها ، يشتمل كل صنف على العدد الكثير (أَمْثالُكُمْ) يريد أشباهكم في إبداع الله إياها ، وخلقه لها ، ودلالتها على أن لها صانعا (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) أي ما تركنا ، وقيل معناه : ما قصرنا ، ويريد بالكتاب القرآن لأنه ذكر جميع ما يحتاج إليه فيه من أمور الدين والدنيا وهذا مثل قوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) معناه : يحشرون إلى الله بعد موتهم يوم القيامة كما يحشر العباد ويؤيده قوله : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ). ومعنى إلى ربهم : إلى حيث لا يملك النفع والضر إلّا الله سبحانه إذ لم يمكّن منه كما مكّن في الدنيا (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بالقرآن (صُمٌّ وَبُكْمٌ) قد بيّنا معناهما في سورة البقرة (فِي الظُّلُماتِ) أي في ظلمات الكفر والجهل لا يهتدون إلى شيء من منافع الدين (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) هذا مجمل قد بيّنه في قوله : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) ، (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) ، (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) ، (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) ، والمعنى : من يشاء الله يخذله بأن يمنعه الطافه وفوائده وذلك إذا واتر عليه الأدلة ، وأوضح له الحجج فأعرض عنها ، ولم ينعم النظر (وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي ومن يشأ أن يرحمه ويهديه إلى الجنة يجعله على الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة.

٤٠ ـ ٤١ ـ ثم أمر سبحانه نبيّه بمحاجة الكفار فقال : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفار (أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) في الدنيا كما نزل بالأمم قبلكم مثل عاد وثمود (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) أي القيامة (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) أي أتدعون فيها لكشف ذلك عنكم هذه الأوثان التي تعلمون أنها لا تقدر أن تنفع أنفسها ولا غيرها ، أو تدعون الله هو خالقكم ومالككم لكشف ذلك عنكم؟ (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أن هذه الأوثان آلهة لكم. احتجّ سبحانه عليهم بما لا يدفعونه لأنهم كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله ، ثم قال : (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) وبل استدراك وإيجاب بعد نفي ، أعلمهم الله تعالى أنهم إذا لحقتهم الشدائد في البحار والبراري والقفار يتضرّعون إليه ، ويقبلون عليه (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) أي يكشف الضرّ الذي من أجله دعوتم إن شاء أن يكشفه (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) أي تتركون دعاء ما تشركون من دون الله لأنه ليس عندهم ضرر ولا نفع.

٤٢ ـ ٤٥ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) رسلا (إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) فخالفوهم (فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) يريد به الفقر والبؤس و

الأسقام والأوجاع (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) ومعناه : لكي يتضرعوا (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) معناه : فهلا تضرعوا إذ جاءهم بأسنا (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) فأقاموا على كفرهم فلم تنجع فيهم العظة (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ) بالوسوسة والإغراء بالمعصية لما فيها من عاجل اللذة (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) يعني أعمالهم (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) أي تركوا ما وعظوا به وتأويله : تركوا العمل بذلك (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) أي كل نعمة وبركة من السماء والأرض والمعنى : أنه تعالى امتحنهم بالشدائد لكي يتضرعوا ويتوبوا ، فلما تركوا ذلك فتح عليهم أبواب النعم والتوسعة في الرزق ليرغبوا بذلك في نعيم الآخرة (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا) من النعم ، واشتغلوا بالتلذذ ، وأظهروا السرور بما أعطوه ، ولم يروه نعمة من الله تعالى حتى يشكروه (أَخَذْناهُمْ) أي أحللنا بهم

١٧٣

العقوبة (بَغْتَةً) أي مفاجأة من حيث لا يشعرون (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) أي آيسون من النجاة والرحمة (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) معناه : فاستؤصل الذين ظلموا بالعذاب فلم يبق لهم عقب ولا نسل (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على إهلاك أعدائه ، وإعلاء كلمة رسله ، حمد الله تعالى نفسه بأن استأصل شأفتهم ، وقطع دابرهم ، لأنه سبحانه أرسل إليهم وانظرهم بعد كفرهم وأخذهم بالبأساء والضراء ، واختبرهم بالمحنة والبلاء ، ثم بالنعمة والرخاء ، وبالغ في الإنذار والإمهال والإنظار ، فهو المحمود على كل حال.

٤٦ ـ ٤٩ ـ ثمّ زاد سبحانه في الإحتجاج عليهم فقال : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفار (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ) أي ذهب بهما فصرتم صمّا عميا (وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) أي طبع عليها ، وانما خصّ هذه الأشياء بالذكر لأن بها تتم النعمة دينا ودنيا (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) المعنى : من إله غير الله يأتيكم بما أخذ منكم قال ابن عباس : يريد لا يقدر هؤلاء الذين يعبدون أن يجعلوا لكم أسماعا وأبصارا وقلوبا تعقلون بها ، وتفهمون ، أي إن أخذها الله منكم فمن يردها عليكم؟ بيّن سبحانه بهذا أنه كما لا يقدر على ذلك غير الله فكذلك يجب أن لا تعبدوا سواه (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي نبين لهم في القرآن الآيات (ثُمَّ هُمْ) أي الكفار (يَصْدِفُونَ) أي يعرضون عن تأمل الآيات والفكر فيها وقيل : إعراضهم عنها كفرهم بها ثم زاد تعالى في الحجاج فقال : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ) أي أعلمتم (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) أي عذبكم الله بعد اعذاره عليكم ، وإرساله الرسل (بَغْتَةً) أي مفاجأة (أَوْ جَهْرَةً) أي علانية وقيل : البغتة أن يأتيهم ليلا ، والجهرة أن يأتيهم نهارا (هَلْ يُهْلَكُ) أي لا يهلك بهذا العذاب (إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) أي الكافرون الذين يكفرون بالله ، ويفسدون في الأرض ثم بيّن سبحانه أنه لا يبعث الرسل أربابا يقدرون على كل شيء يسألون عنه من الآيات ، وإنما يرسلهم لما يعلمه من المصالح فقال : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) ثم ذكر الآية الثانية فقال : (فَمَنْ آمَنَ) أي صدق الرسل (وَأَصْلَحَ) أي عمل صالحا في الدنيا (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في الآخرة (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) كما يحزن أهل النار (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي أدلتنا وحججنا (يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ) يصيبهم العذاب يوم القيامة (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بفسقهم وخروجهم من الإيمان.

٥٠ ـ ثم أمر النبي (ص) أن يقول لهم بعد اقتراحهم الآيات منه : اني لا أدعي الربوبية ، وإنما ادعي النبوة فقال : (قُلْ) يا محمد (لا أَقُولُ لَكُمْ) أيها الناس (عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) يريد خزائن رحمة الله وقيل : أرزاق الخلق حتى يؤمنوا طمعا في المال (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) الذي يختص الله بعلمه وإنما أعلم قدر ما يعلمني الله تعالى من أمر البعث والنشور ، والجنة والنار ، وغير ذلك (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) لأني إنسان تعرفون نسبي (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) يريد ما أخبركم إلّا بما أنزله الله إلي (قُلْ) يا محمد لهم (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي هل يستوي العارف بالله سبحانه ، العالم بدينه ، والجاهل به وبدينه؟ فجعل الأعمى مثلا للجاهل ، والبصير مثلا للعارف بالله وبنبيه وفي تفسير أهل البيت : هل يستوي من يعلم ومن لا يعلم (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) فتنصفوا من أنفسكم ، وتعملوا بالواجب عليكم من الإقرار بالتوحيد.

٥١ ـ ثمّ أمر سبحانه بعد تقديم البينات بالإنذار فقال : (وَأَنْذِرْ) أي عظ وخوّف (بِهِ) أي بالقرآن (الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) يريد المؤمنين يخافون يوم القيامة وما فيها من شدة الأهوال وقال الصادق (ع): انذر بالقرآن من

١٧٤

يرجون الوصول إلى ربهم ترغبهم فيما عنده ، فإن القرآن شافع مشفّع لهم (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ) أي غير الله (وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) لأن شفاعة الأنبياء وغيرهم للمؤمنين إنما تكون بإذن الله لقوله سبحانه : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ، فذلك راجع إلى الله تعالى (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) كي يخافوا في الدنيا ، وينتهوا عما نهيتهم عنه.

٥٢ ـ ٥٣ ـ ثم نهى سبحانه رسوله عليه وآله السلام عن إجابة المشركين فيما اقترحوه عليه من طرد المؤمنين فقال : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) يريد يعبدون ربهم بالصلاة المكتوبة (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) يعني يطلبون ثواب الله ، ويعملون ابتغاء مرضاة الله ، لا يعدلون بالله شيئا ، قال الزجاج : شهد الله لهم بصدق النيات ، وأنهم مخلصون في ذلك له ، أي يقصدون الطريق الذي أمرهم بقصده (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) يريد ما عليك من حساب المشركين شيء ، ولا عليهم من حسابك شيء ، إنما الله الذي يثيب أولياءه ، ويعذب اعداءه (فَتَطْرُدَهُمْ) أي ليس رزقهم عليك ولا رزقك عليهم ، وإنما يرزقك وإياهم الرزاق (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) لهم بطردهم عن ابن زيد وقيل : فتكون من الضارين لنفسك بالمعصية عن ابن عباس (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي كما ابتلينا قبلك الغني بالفقير ، والشريف بالوضيع ، ابتلينا هؤلاء الرؤساء من قريش بالموالي فإذا نظر الشريف إلى الوضيع قد آمن قبله حمي أنفا أن يسلم ويقول : سبقني هذا بالإسلام فلا يسلم ، وإنما قال سبحانه : فتنا وهو لا يحتاج إلى الإختبار لأنه عاملهم معاملة المختبر (لِيَقُولُوا) هذه لام العاقبة ، المعنى : فعلنا هذا ليصبروا ويشكروا ، فآل أمرهم إلى هذه العاقبة (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) والإستفهام معناه الإنكار ، كأنهم أنكروا أن يكونوا سبقوهم بفضيلة ، أو خصّوا بمنة (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) هذا استفهام تقرير أي انه كذلك.

٥٤ ـ ثم أمر سبحانه نبيّه بتعظيم المؤمنين فقال : (وَإِذا جاءَكَ) يا محمد (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) أي يصدّقون (بِآياتِنا) أي بحججنا وبراهيننا (فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أمر نبيّه (ص) أن يسلّم عليهم من الله تعالى ، فهو تحية من الله على لسان نبيه (ص) (كَتَبَ رَبُّكُمْ) أي أوجب ربكم (عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) إيجابا مؤكدا ، وقيل معناه : كتبه في اللوح المحفوظ ، وقد سبق بيان هذا في أول السورة (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) أنه عمله وهو جاهل بمقدار المكروه فيه ، أي لم يعرف أن فيه مكروها (ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ) أي رجع عن ذنبه ولم يصر على ما فعل ، وأصلح عمله (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

٥٥ ـ ثم عطف سبحانه على الآيات التي احتجّ بها على مشركي مكة وغيرهم فقال : (وَكَذلِكَ) أي كما قدّمنا من الدلالات على التوحيد والنبوة (نُفَصِّلُ الْآياتِ) وهي الحجج والدلالات أي نميزها ونبينها ونشرحها على صحة قولكم ، وبطلان ما يقوله هؤلاء الكفار (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) أي ليظهر طريق من عاند بعد البيان لمن أراد التفهم لذلك من المؤمنين ليجانبوها ، ويسلكوا غيرها.

٥٦ ـ ثم أمر الله سبحانه نبيّه بأن يظهر البراءة مما يعبدونه فقال : (قُلْ) يا محمد (إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعني الأصنام التي تعبدونها وتدعونها آلهة (قُلْ) يا محمد (لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) في عبادتها ، أي إنما عبدتموها على طريق الهوى لا على طريق البيّنة ، والبرهان (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً) أي إن أنا فعلت ذلك (وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) الذين سلكوا سبيل الدين.

٥٧ ـ ٥٨ ـ لما أمر النبي (ص) بأن يتبرّأ مما يعبدونه عقّب

١٧٥

ذلك سبحانه بالبيان انه على حجة من ذلك وبينة ، وانه لا بينة لهم فقال : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفار (إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي على أمر بيّن لا متبع لهوى (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) أي بما أتيتكم به من البيان : يعني القرآن (ما عِنْدِي) أي ليس عندي (ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) قيل معناه : الذي تطلبونه من العذاب ، كانوا يقولون : يا محمد آتنا بالذي تعدنا ، وهذا كقوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) يريد أن ذلك عند ربي في الفصل بين الحق والباطل (يَقُصُّ الْحَقَ) بقوله ويخبر به (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) لأنه لا يظلم في قضاياه ولا يجوز عن الحق (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفار (لَوْ أَنَّ عِنْدِي) أي برأيي وإرادتي (ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) من إنزال العذاب بكم (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي لفرغ من الأمر بأن أهلككم فاستريح منكم ، غير أن الأمر فيه إلى الله تعالى (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) وبوقت عذابهم وما يصلحهم.

٥٩ ـ ٦٠ ـ لما ذكر سبحانه أنه أعلم بالظالمين ، بيّن عقيبه أنه لا يخفى عليه شيء من الغيب ، ويعلم أسرار العالمين قال : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) معناه : وعنده خزائن الغيب الذي فيه علم العذاب المستعجل به وغير ذلك لا يعلمها أحد إلّا هو ، أو من أعلمه إياه وتأويل الآية : ان الله تعالى عالم بكل شيء من مبتدآت الأمور وعواقبها ، فهو يعجل ما تعجيله أصوب وأصلح ، ويؤخر ما تأخيره أصوب وأصلح ، (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) من حيوان وغيره (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) وقيل : يعلم ما سقط من ورق الأشجار وما بقي (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) معناه : وما تسقط من حبة في باطن الأرض إلّا يعلمها (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) قد جمع الأشياء كلها في قوله : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) لأن الأجسام كلها لا تخلو من أحد هذين (إِلَّا فِي كِتابٍ) معناه : وهو مكتوب في كتاب (مُبِينٍ) أي في اللوح المحفوظ ، ولم يكتبها في اللوح المحفوظ ليحفظها ويدرسها فإنه كان عالما بها قبل أن كتبها ، ولكن ليعارض الملائكة الحوادث على ممر الأيام بالمكتوب فيه فيجدونها موافقة للمكتوب فيه فيزدادون علما ويقينا بصفات الله تعالى ، وأيضا فإن المكلف إذا علم أن أعماله مكتوبة في اللوح المحفوظ تطالعها الملائكة قويت دواعيه إلى الأفعال الحسنة ، وترك القبائح (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) أي يقبض أرواحكم عن التصرف (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) أي ما كسبتم من الأعمال على التفصيل بالنهار على كثرته وكثرتكم ، وفيه إشارة إلى رحمته حيث يعلم مخالفتهم إياه ثم لا يعاجلهم بعقوبة ، ولا يمنعهم فضله ورحمته (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) أي ينبهكم من نومكم في النهار ، جعل انتباههم من النوم بعثا (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) معناه : لتستوفوا آجالكم وفي هذا حجة على النشأة الثانية لأن منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم ، في أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الآخر (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) يريد إذا تمت المدة المضروبة لكل نفس نقله إلى الدار الآخرة ، ومعنى إليه : إلى حكمه وجزائه ، وإلى موضع ليس لأحد سواه فيه أمر (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ) يخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بما غفلتم عنه من أعمالكم. وفي هذه الآية دلالة على البعث والإعادة ، نبّه الله على ذلك بالنوم واليقظة ، فإنّ كلا منهما لا يقدر عليه غيره تعالى.

٦١ ـ ٦٢ ـ ثم زاد سبحانه في بيان كماله قدرته فقال (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) معناه : والله المقتدر المستعلي على عباده ومثله قوله : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ، فالمراد به أنه أقوى وأقدر منهم ، وأنه القاهر لهم (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) تقديره ، وهو الذي يقهر عباده ، ويرسل عليكم حفظة ، أي ملائكة يحفظون أعمالكم ويحصونها عليكم ويكتبونها ، وفي هذا لطف للعباد لينزجروا عن المعاصي إذا علموا أن عليهم حفظة من عند الله يشهدون بها عليهم يوم القيامة (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ

١٧٦

تَوَفَّتْهُ) أي تقبض روحه (رُسُلُنا) يعني أعوان ملك الموت (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) لا يغفلون ولا يتوانون. ثم بيّن سبحانه أن هؤلاء الذين تتوفاهم رسله يرجعون إليه فقال : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ) أي إلى الموضع الذي لا يملك الحكم فيه إلّا هو (مَوْلاهُمُ الْحَقِ) قد مرّ معناه عند قوله : (أَنْتَ مَوْلانا) ، والحق اسم من أسماء الله تعالى ، والمعنى : أن أمره كله حق لا يشوبه باطل ، وجد لا يجاوزه هزل (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) أي القضاء فيهم يوم القيامة لا يملك الحكم في ذلك اليوم سواه ، كما قد يملك الحكم في الدنيا غيره بتمليكه إياه (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) أي إذا حاسب فحسابه سريع ، لا يشغله محاسبة أحد عن محاسبه غيره ، وروي عن أمير المؤمنين (ع) أنه سأل كيف يحاسب الله الخلق ولا يرونه؟ قال : كما يرزقهم ولا يرونه ؛ وروي أنه سبحانه يحاسب جميع عباده على مقدار حلب شاة ، وهذا يدل على انه لا يشغله محاسبة أحد عن محاسبة غيره (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفّار (مَنْ يُنَجِّيكُمْ) أي يخلصكم (مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) من شدائدهما وأهوالهما (تَدْعُونَهُ) عند معاينة هذه الأهوال (تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) أي علانية وسرا (لَئِنْ أَنْجانا) أي في أي شدة وقعتم قلتم : لئن أنجيتنا (مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لإنعامك علينا (قُلِ) يا محمد (اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) أي ينعم عليكم بالنجاة والفرج ويخلصكم الله من كل غم (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) بالله تعالى بعد قيام الحجة عليكم.

٦٥ ـ (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفار (هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ) أي يرسل (عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) عذابا من فوقكم : عنى به الصيحة والحجارة والطوفان والريح كما فعل بعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط ، أو من تحت أرجلكم : عنى به الخسف كما فعل بقارون (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) يضرب بعضكم ببعض بما يلقيه بينكم من العداوة والعصبية (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) ومعناه : يقتل بعضكم بعضا حتى يفني بعضكم بعضا ، ثم أكد سبحانه الإحتجاج عليهم (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي انظر يا محمد كيف نردد الآيات ونظهرها مرة بعد أخرى بوجوه أدلتها حتى تزول الشبه (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) أي لكي يعلموا الحق فيتبعوه ، والباطل فيجتنبوه.

٦٦ ـ ٦٧ ـ (وَكَذَّبَ بِهِ) أي بما نصرف من الآيات وقال الأزهري : الهاء يعود إلى القرآن (قَوْمُكَ) يعني قريش والعرب (وَهُوَ الْحَقُ) أي القرآن ، أو تصريف الآيات حقّ ، بمعنى أنه يدل على الحق ، ثم بيّن سبحانه أن عاقبة تكذيبهم يعود عليهم فقال : (قُلْ) يا محمد (لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أي لم أؤمر بمنعكم من التكذيب بآيات الله ، وان أحفظكم من ذلك ، وأحول بينكم وبينه ، لأن الوكيل على الشيء هو القائم بحفظه ، والذي يدفع الضرر عنه (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) أي لكل خبر من أخبار الله ورسوله حقيقة كائنة إما في الدنيا وإما في الآخرة (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) فيه وعيد وتهديد لهم إما بعذاب الآخرة وإمّا بالحرب ، وتقديره : وسوف تعلمون ما يحل بكم من العذاب.

٦٨ ـ ٦٩ ـ ثم أمر سبحانه بترك مجالستهم عند استهزائهم بالقرآن فقال : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) خاطب النبي (ص) ، أي إذا رأيت هؤلاء الكفار ، وقيل : الخطاب له والمراد غيره ، ومعنى يخوضون : يكذبون بآياتنا وديننا (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي فاتركهم ولا تجالسهم (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) أي يدخلوا في حديث غير الإستهزاء بالقرآن (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ) المعنى : وان أنساك الشيطان نهينا إياك عن الجلوس معهم (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى) أي بعد ذكرك نهينا ، وما يجب عليك من الإعراض (مَعَ الْقَوْمِ

١٧٧

الظَّالِمِينَ) يعني في مجالس الكفار والفساق الذين يظهرون التكذيب بالقرآن والآيات ، والإستهزاء بذلك (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي ليس على المؤمنين الذين اتقوا معاصي الله سبحانه من حساب الكفرة شيء بحضورهم مجلس الخوض (وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي نهوا عن مجالستهم لكي يتقي المشركون إذا رأوا اعراض هؤلاء المؤمنين عنهم ، وتركهم مجالستهم ، فلا يعودون لذلك. وقيل معناه : ليس على المتقين من الحساب يوم القيامة مكروه ولا تبعة ولكنه أعلمهم أنهم محاسبون ، وحكم بذلك عليهم لكي يعلموا أن الله يحاسبهم فيتقوا.

٧٠ ـ ثم عاد تعالى إلى وصف من تقدم ذكرهم من الكفار فقال : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) أي دعهم واعرض عنهم ، وإنما أراد به اعراض انكار لأنه قال بعد ذلك : وذكر ، يريد دع ملاطفتهم ومجالستهم ، ولا تدع مذاكرتهم ودعوتهم ، ونظيره في سورة النساء : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ) (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) يعني به اغتروا بحياتهم (وَذَكِّرْ بِهِ) أي عظ بالقرآن (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) أي لكي لا تسلم نفس للهلكة بما كسبت : أي بما عملت وقيل : ان معنى تبسل تؤخذ وقيل : تسلم إلى خزنة جهنم وقيل : تجازى (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌ) أي ناصر ينجيها من العذاب (وَلا شَفِيعٌ) يشفع لها (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ) وإن تفد كل فداء (لا يُؤْخَذْ مِنْها) معناه : وان تقسط كل قسط في ذلك اليوم لا يقبل منها لأن التوبة هناك غير مقبولة ، وإنما تقبل في الدنيا (أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا) أي اهلكوا وقيل : اسلموا للهلكة فلا مخلص لهم وقيل : جوزوا (بِما كَسَبُوا) أي بكسبهم وعملهم (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) أي ماء مغلي حار (وَعَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي بكفرهم ، يريد جزاء على كفرهم. وفيها دلالة على الوعيد العظيم لمن كانت هذه سبيله في الإستهزاء بالقرآن وبآيات الله وتحذير عن سلوك طريقتهم ، وقال الفراء : ما من أمة إلا ولهم عيد يلعبون فيه ويلهون إلا أمة محمد (ص) فإن أعيادهم صلاة ودعاء وعبادة.

٧١ ـ ثم أمر سبحانه نبيّه (ص) والمؤمنين بخطاب الكفار فقال : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفار الذين يدعون إلى عبادة الأصنام ، أو قل أيها الإنسان أو أيها السامع (أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا) ان عبدناه (وَلا يَضُرُّنا) إن تركنا عبادته (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) هذا مثل يقولون لكل خائب لم يظفر بحاجته : ردّ على عقبيه ، ونكص على عقبيه وتقديره : أنرجع القهقرى في مشيتنا؟ والمعنى : أنرجع عن ديننا الذي هو خير الأديان؟ (بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ) لا يهتدي إلى طريق وقيل معناه : دعته الشياطين إلى اتباع الهوى وقيل : أهلكته وقيل : ذهبت به عن نفطويه وقيل : أضلته عن أبي مسلم (لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا) أي إلى الطريق الواضح يقولون له : إئتنا ولا يقبل منهم ، ولا يصير إليهم لأنه قد تحيّر لاستيلاء الشيطان عليه ، يهوى ولا يهتدي. ثم أمره الله سبحانه فقال : (قُلْ) لهؤلاء الكفار (إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) أي دلالة الله لنا على توحيده وأمر دينه هو الهدى الذي يؤدي المستدل به إلى الصلاح والرشاد في دينه ، وهو الذي يجب أن نعمل عليه ، ونستدل به ، فلا نترك ذلك إلى ما تدعون إليه (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) معناه : وأمرنا أن نسلم وقيل معناه : أن نسلم أمورنا ونفوّضها إلى الله ، ونتوكل عليه فيها.

٧٢ ـ ٧٣ ـ (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي وقيل لنا : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ) أي واتقوا رب العالمين ، أي تجنبوا معاصيه فتتقوا عقابه (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي تجمعون إليه يوم

١٧٨

القيامة يجازي كل عامل منكم بعمله (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) معناه : خلقهما للحق لا للباطل كما قال : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ) أي واتقوا يوم يقول كن فيكون وقيل : إن قوله : (كُنْ فَيَكُونُ) فيه إضمار جميع ما يخلق في ذلك الوقت ، وهذا إنما ذكر ليدل على سرعة أمر يخلق في ذلك الوقت ، وهذا إنما ذكر ليدل على سرعة أمر البعث والساعة فكأنه يقول : ويوم يقول للخلق موتوا يموتون ، وانتشروا فينتشرون ، أي لا يتعذر عليه ذلك ولا يتأخر عن وقت إرادته (قَوْلُهُ الْحَقُ) أي يأمر فيقع أمره ، أي ما وعدوا به من الثواب ، وحذروا به من العقاب (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) إن الملك قد وجب له في ذلك اليوم الذي فيه ينفخ في الصور ، فقد خص ذلك اليوم بأن الملك له فيه كما خصه في قوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ، والوجه فيه : أنه لا يبقى ملك من ملّكه الله في الدنيا ، أو تغلّب عليه ، بل يتفرد سبحانه بالملك. وأما الصور فقيل فيه : إنه قرن ينفخ فيه إسرافيل عليه‌السلام نفختين ، فتفنى الخلائق كلهم بالنفخة الأولى ، ويحيون بالنفخة الثانية ، فتكون النفخة الأولى لانتهاء الدنيا ، والثانية لابتداء الآخرة. (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) يعلم ما لا يشاهده الخلق وما يشاهدونه (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في أفعاله (الْخَبِيرُ) العالم بعباده وأفعالهم.

٧٤ ـ ٧٥ ـ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) أي واذكر إذ قال (لِأَبِيهِ آزَرَ) فيه أقوال (احدها) أنه اسم أبي إبراهيم (وثانيها) أن اسم أبي إبراهيم تارخ ، قال الزجاج : ليس بين النسابين اختلاف أن اسم أبي إبراهيم تارخ وهذا الذي قاله الزجاج يقوي ما قاله أصحابنا : ان آزر كان جد إبراهيم لأمه حيث صح عندهم أن آباء النبي إلى آدم كلهم كانوا موحدين وأجمعت الطائفة على ذلك ، وروي عن النبي (ص) أنه قال : لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا ، ولم يدنسني بدنس الجاهلية ، ولو كان في آبائه كافرين ، لم يصف جميعهم بالطهارة ، ومع قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) استفهام المراد به الإنكار ، أي لا تفعل ذلك (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ) عن الصواب (مُبِينٍ) ظاهر (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) أي مثل ما وصفناه من قصة إبراهيم ، وقوله لأبيه ما قال ، نريه (مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعني كشط الله له عن الأرضين حتى رآهن وما تحتهن ، وعن السماوات حتى رآهن وما بهن من الملائكة ، وحملة العرش (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) أي من المتيقنين بأن الله سبحانه هو خالق ذلك والمالك له.

٧٦ ـ ٧٩ ـ لما تقدّم ذكر الآيات التي أراها الله تعالى إبراهيم (ع) بيّن سبحانه كيف استدلّ بها ، وكيف عرف الحق من جهتها فقال : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) أي أظلم عليه ، وستر بظلامه كل ضياء (رَأى كَوْكَباً) واختلف في الكوكب الذي رآه فقيل : هو الزهرة ، وقيل : هو المشتري (قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ) أي غرب (قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) علم أن الأفول لا يجوز على الإله ، فاستدلّ بذلك على أنه محدث مخلوق ، وكذلك كانت حاله في رؤية القمر والشمس فإنه لما رأى أفولهما قطع على حدوثهما واستحالة إلهيتهما (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) عند طلوعه ورأى كبره وإشراقه ، وانبساط نوره وضياءه في الدنيا (قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ) وصار مثل الكوكب في الأفول والغيبوبة ، وعلم أنه لا يجوز أن يكون ذلك صفة الإله (قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) إلى رشدي ، ولم يوفقني ويلطف بي في إصابة الحق من توحيده (لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) بعبادة هذه الحوادث (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً) أي طالعة ، وقد ملأت الدنيا نورا ، ورأى عظمها وكبرها (قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ) من الكوكب والقمر (فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ) حينئذ لقومه (يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) مع الله الذي

١٧٩

خلقني وخلقكم (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) أي نفسي (لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً) أي مخلصا مائلا عن الشرك إلى الإخلاص (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

٨٠ ـ ٨١ ـ (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) أي خاصموه وجادلوه ، وخوفوه من ترك عبادة آلهتهم (قالَ) أي إبراهيم لهم : (أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ) أي وفقني لمعرفته ، ولطف بي في العلم بتوحيده ، وترك الشرك ، واخلاص العبادة له (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) أي لا أخاف منه ضررا إن كفرت به ، ولا أرجو نفعا إن عبدته ، لأنه بين صنم قد كسر فلم يدفع عن نفسه ، ونجم دل افوله على حدوثه ، فكيف تحاجونني وتدعونني إلى عبادة من لا يخاف ضره ، ولا يرجى نفعه (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) معناه : إلّا أن يقلب الله هذه الأصنام التي تخوفونني بها فيحييها ويقدرها فتضر وتنفع ، فيكون ضررها ونفعها إذ ذاك دليلا على حدوثها أيضا ، وعلى توحيد الله ، وعلى أنه المستحق للعبادة دون غيره ، وأنه لا شريك له في ملكه ، ثم أثنى على الله سبحانه فقال : (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي هو عالم بكل شيء ، ثم أمرهم بالتذكر والتدبر فقال : (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) ثم احتج عليهم وأكّد الحجاج بقوله : (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) أي كيف تلزمونني أن أخاف ما أشركتم به من الأوثان المخلوقة وقد تبين حالهم في أنهم لا يضرون ولا ينفعون؟ (وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ) أي ولا تخافون القادر على الضر والنفع جعلتم له شركاء في ملكه تعبدونهم من دونه (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) أي حجة على صحته (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) أنحن وقد عرفنا الله بادلته ، ووجهنا العبادة نحوه ، أم أنتم وقد أشركتم بعبادة غيره من الأصنام؟ (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي تستعملون عقولكم وعلومكم فتميزون الحق من الباطل ، والدليل من الشبهة.

٨٢ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) معناه : الذين عرفوا الله تعالى ، وصدقوا به وبما أوجبه عليهم ، ولم يخلطوا ذلك بظلم ، والظلم : هو الشرك (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) من الله بحصول الثواب والأمان من العقاب (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أي محكوم لهم بالإهتداء إلى الحق والدين وقيل : إلى الجنة.

٨٣ ـ ٨٧ ـ ثمّ بين سبحانه أن الحجج التي ذكرها إبراهيم (ع) لقومه آتاه إياها ، واعطاها إياها ، بمعنى أنه هداه لها ، وأنه احتج بها بأمره فقال : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا) أي أدلتنا (آتَيْناها) أي أعطيناها (إِبْراهِيمَ) وأخطرناها بباله ، وجعلناها حججا (عَلى قَوْمِهِ) من الكفار حتى تمكن من إيرادها عليهم عند الحاجة (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) من المؤمنين الذين يصدقون الله ورسوله ويطيعونه ، ونفضل بعضهم على بعض بحسب أحوالهم في الإيمان واليقين (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) يجعل التفاوت بينهم على ما توجبه حكمته ، ويقتضيه علمه (وَوَهَبْنا لَهُ) أي لإبراهيم (إِسْحاقَ) وهو ابنه من سارة (وَيَعْقُوبَ) ابن إسحاق (كُلًّا هَدَيْنا) أي كل الثلاثة فضلنا بالنبوة (وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هؤلاء (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) أي من ذرية نوح (داوُدَ) وهو داود بن إيشا (وَسُلَيْمانَ) ابنه (وَأَيُّوبَ) وهو أيوب بن اموص بن رازج بن روم بن عيصا بن إسحاق بن إبراهيم (وَيُوسُفَ) بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (وَمُوسى) بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب (وَهارُونَ) أخاه وكان أكبر منه بسنة (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) بنيل الثواب والكرامات (وَزَكَرِيَّا) وهو زكريا بن أذن بن بركيا (وَيَحْيى) وهو إبنه (وَعِيسى) وهو ابن مريم بنت عمران (وَإِلْياسَ)

١٨٠