الوجيز

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ

الوجيز

المؤلف:

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ


المحقق: الدكتور دريد حسن أحمد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

الهمكم الله بعقولكم حتى ميزتم بين المعلم وغير المعلم ، (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) أي مما أمسك الجوارح عليكم (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) أي قبل الإرسال وقيل معناه : اذكروا اسم الله على ذبح ما تذبحونه ، وهذا صريح في وجوب التسمية (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) قد مرّ تفسيره.

٥ ـ ثم بيّن سبحانه في هذه الآية ما يحل من الأطعمة والأنكحة إتماما لما تقدم فقال : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) وقد مرّ معناه وهذا يقتضي تحليل كل مستطاب من الأطعمة إلّا ما قام الدليل على تحريمه (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) انه مختص بالحبوب وما لا يحتاج فيه إلى التذكية ، فأما ذبائحهم فلا تحل (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) معناه : وطعامكم يحل لكم ان تطعموهم (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) معناه : وأحل لكم العقد على المحصنات : أي العفايف من المؤمنات (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) إذا أسلمن (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي مهورهن (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) يعني اعفاء غير زانين بكل فاجرة وهو منصوب على الحال (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) أي ولا متفردين ببغية واحدة ، خادنها وخادنته : اتخذها لنفسه صديقة يفجر بها ، وقد مرّ معنى الإحصان والسفاح والاخدان في سورة النساء (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) أي ومن يجحد ما أمر الله بالإقرار به ، والتصديق له : من توحيد الله ، وعدله ، ونبوة نبيه (ص) (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) الذي عمله واعتقده قربة إلى الله تعالى ، وإنما تحبط الأعمال بأن لا يستحق عليها ثواب (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي الهالكين. وقيل : المعني بقوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) أهل الكتاب ، ويكون معناه : ومن يمتنع عن الإيمان ولم يؤمن.

٦ ـ لمّا تقدّم الأمر بالوفاء بالعقود ومن جملتها إقامة الصلاة ، ومن شرائطها الطهارة ، بيّن سبحانه ذلك بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) معناه : إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم على غير طهر ، وحذف الإرادة لأن في الكلام دلالة على ذلك ، ومثله قوله : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) ، وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ، والمعنى إذا أردت قراءة القرآن ، وإذا كنت فيهم فإذا أردت أن تقيم لهم الصلاة ، وهو قول ابن عباس وأكثر المفسرين (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) هذا أمر منه سبحانه بغسل الوجه ، والغسل هو امرار الماء على المحل حتى يسيل ، والمسح : أن يبل المحل بالماء من غير أن يسيل ؛ وحدّ الوجه من قصاص شعر الرأس إلى محادر شعر الذقن طولا ، وما دخل بين الإبهام والوسطى عرضا (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) أي واغسلوا ذلك أيضا ، والمرافق : جمع مرفقة وهو المكان الذي يرتفق به ، أي يتكأ عليه من اليد (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) وهذا أمر بمسح الرأس والمسح أن تمسح شيئا بيديك كمسح العرق عن جبينك ، والظاهر لا يوجب التعميم في مسح الرأس ، لأن من مسح البعض يسمى ماسحا (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) عن أحمد بن محمد قال : سألت أبا الحسن موسى بن جعفر (ع) عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع بكفه على الأصابع ثم مسحهما إلى الكعبين. وروي عن ابن عباس أنه وصف وضوء رسول الله (ص) : فمسح على رجليه ، وروي عنه أنه قال : إن في كتاب الله المسح ويأبى الناس إلّا الغسل ، وقال : الوضوء غسلتان ومسحتان (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) معناه : إن كنتم جنبا عند القيام إلى الصّلاة فتطهروا بالإغتسال وهو أن تغسلوا جميع البدن (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) قد مر تفسيره في سورة

١٤١

النساء فلا معنى لإعادته (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى الصّلاة ، والغسل من الجنابة ، والتيمم عند عدم الماء أو تعذر استعماله ليلزمكم في دينكم من ضيق ، ولا ليعنتكم فيه (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) بما فرض عليكم من الوضوء والغسل من الاحداث والجنابة ، أي ينظف أجسادكم بذلك من الذنوب ، ويؤيد ما قلناه ما روي من أن النبي (ص) قال : إن الوضوء يكفر ما قبله (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) أي ويريد الله تعالى مع تطهيركم من ذنوبكم بطاعتكم إياه فيما فرض عليكم من الوضوء والغسل إذا قمتم إلى الصلاة مع وجود الماء ، أو التيمم عند عدمه ، أن يتم نعمته بإباحته لكم التيمم ، وتصييره لكم الصعيد الطيب طهورا ، رخصة لكم منه من سوابغ نعمه التي أنعم بها عليكم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي لتشكروا الله على نعمته بطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه. وقد تضمنت هذه الآية أحكام الوضوء وصفته ، وأحكام الغسل والتيمم.

٧ ـ ١٠ ـ لمّا قدّم سبحانه ذكر بيان الشرائع عقّبه بتذكير نعمه فقال : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) ولم يقل نعم الله للإشعار بعظم النعمة لا من جهة التضعيف ، إذ كل نعمة لله فإنه يستحق عليها أعظم الشكر لكونها أصل النعم ، إذ هي مثل الخلق والحياة والعقل والحواس والقدرة والآلات (وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) معناه : ما أخذ عليهم رسول الله (ص) عند اسلامهم وبيعتهم بأن يطيعوا الله في كل ما يفرضه عليهم مما ساءهم أو سرّهم (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا) يعني سمعنا ما تقول ، وأطعناك فيما سمعنا (وَاتَّقُوا اللهَ) مضى بيانه (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما تضمرونه في صدوركم من المعاني ، والمراد بالصدور هاهنا القلوب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ) أي قائمين (لِلَّهِ) أي ليكن من عادتكم القيام لله بالحق في أنفسكم بالعمل الصالح ، وفي غيركم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) بغض قوم (عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) أي لا يحملنكم بغضهم على أن لا تعدلوا في حكمكم فيهم ، وسيرتكم بينهم فتجوروا عليهم (اعْدِلُوا) أي اعملوا بالعدل أيها المؤمنون في أوليائكم وأعدائكم (هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) أي العدل أقرب إلى التقوى (وَاتَّقُوا اللهَ) أي خافوا عقابه بفعل الطاعات ، واجتناب السيئات (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ) أي عالم (بِما تَعْمَلُونَ) أي بأعمالكم يجازيكم عليها (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا بوحدانية الله تعالى ، وأقرّوا بنبوة محمد (ص) (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الحسنات من الواجبات والمندوبات (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي مغفرة لذنوبهم ، وتكفير لسيئاتهم ، والمراد به التغطية والستر (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) يريد ثوابا عظيما ، والفرق بين الثواب والأجر : ان الثواب يكون جزاء على الطاعات والأجر قد يكون على سبيل المعاوضة بمعنى الأجرة ، والوعد : هو الخبر الذي يتضمن النفع من المخبر ، والوعيد : هو الخبر الذي يتضمن النفع من المخبر ، والوعيد : هو الخبر الذي يتضمن الضرر من المخبر (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي جحدوا توحيد الله وصفاته ، وأنكروا نبوة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بدلائلنا وبراهيننا (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) معناه : انهم يخلدون في النار.

١١ ـ ثم خاطب الله سبحانه المؤمنين ، وذكرهم نعمته عليهم بما دفع عنهم كيد الأعداء فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ) أي قصدوا (أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) انهم اليهود همّوا بأن يفتكوا بالنبي (ص) وهم بنو النضير ، دخل رسول الله (ص) مع جماعة من أصحابه عليهم ، وهموا بالفتك بهم ، فآذن الله به رسوله فاطلع النبي (ص) أصحابه على ذلك وانصرفوا ، وكان ذلك احدى

١٤٢

معجزاته ، عن مجاهد وقتادة وأكثر المفسرين (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) أي منعهم عن الفتك بكم (وَاتَّقُوا اللهَ) ظاهر المعنى (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ) أي فليثق (الْمُؤْمِنُونَ) بنصر الله ، وليتوكلوا عليه ، فان الله تعالى كافيهم وناصرهم (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي عهدهم المؤكد باليمين بإخلاص العبادة له ، والإيمان برسله وما يأتون به من الشرائع (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) معناه : أخذنا من كل سبط منهم ضمينا بما عقدنا عليهم من الميثاق في أمر دينهم (وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ) خطاب لبني اسرائيل الذين أخذ منهم الميثاق ، أي قال الله لهم : إني معكم بالنصر والحفظ ، أنصركم على عدوي وعدوكم الذين أمرتكم بقتلهم ان قاتلتموهم ووفيتم بعهدي وميثاقي الذي أخذته عليكم ، ثم ابتدأ سبحانه فقال : (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ) يا معشر بني اسرائيل (وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ) أي اعطيتموها (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) أي صدقتم بما أتاكم به رسلي من شرائع ديني (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) أي نصرتموهم وقيل : عظمتموهم ووقرتموهم وأطعتموهم (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي أنفقتم في سبيل الله وأعمال البر نفقة حسنة يجازيكم بها ، فكأنه قرض من هذا الوجه وقيل : معنى قوله حسنا : عفوا عن طيبة نفس ، وان لا يتبعه منّ ولا أذى (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي لأغطين على ما مضى من إجرامكم بعفوي ، وإسقاطي عنكم وبال ذلك (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ظاهر المعنى (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ) أي بعد بعث النقباء ، وأخذ الميثاق (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي أخطأ قصد الطريق الواضح ، وزال عن منهاج الحق.

١٣ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) فيه تسلية للنبي (ص) يقول : لا تعجبن يا محمد من هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليك وإلى أصحابك ، وينكثوا العهد الذي بينك وبينهم ويغدروا بك ، فإن ذلك دأبهم ، وعادة اسلافهم الذين أخذت ميثاقهم على طاعتي في زمن موسى ، وبعثت منهم اثني عشر نقيبا ، فنقضوا ميثاقي وعهدي ، فلعنتهم بنقضهم ذلك العهد والميثاق (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) أي يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق ولا تلين ومعناه : سلبناهم التوفيق واللطف الذي تنشرح به صدورهم حتى ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ، وهذا كما يقول الإنسان لغيره : أفسدت سيفك ، إذا ترك تعاهده حتى صدىء ، وجعلت أظافيرك سلاحك إذا لم يقصها (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) أي يفسرونه على غير ما أنزل ، ويغيرون صفة النبي (ص) (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) وتركوا نصيبا مما وعظوا به ، ومما أمروا به في كتابهم من اتباع النبي فصار كالمنسي عندهم ، ولو آمنوا به واتبعوه لكان ذلك لهم حظا (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) يعني على كذب وزور ، ونقض عهد ، ومظاهرة للمشركين على رسول الله (ص) وغير ذلك مما كان يظهر من اليهود من أنواع الخيانات (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) لم يخونوا (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) ما داموا على عهدك ولم يخونوك (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ظاهر المعنى.

١٤ ـ (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) أي ومن الذين ذكروا انهم نصارى أخذنا الميثاق بالتوحيد والإقرار بنبوة المسيح وجميع أنبياء الله ، وانهم كانوا عبيد الله ، فنقضوا هذا الميثاق واعرضوا عنه ، وهذا اشارة إلى انهم ابتدعوا النصرانية التي هم عليها اليوم وتسموا بها (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) مرّ بيانه (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) المراد بين أصناف النصارى خاصة ، من اليعقوبية والملكائية والنسطورية من الخلاف والعداوة وإنما أغرى بينهم العداوة

١٤٣

بالأهواء المختلفة في الدين ، وذلك ان النسطورية قالت : ان عيسى بن الله ، واليعقوبية قالت : ان الله هو المسيح بن مريم ، والملكائية وهم الروم قالوا : ان الله ثالث ثلاثة : الله وعيسى ومريم وقوله : (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) عنى به ان المعاداة تبقى بينهم إلى يوم القيامة (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ) عند المحاسبة (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) في الدنيا من نقض الميثاق ، ويعاقبهم على ذلك بحسب استحقاقهم ، فكأنه لما قال سبحانه : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) ، بين بعد ذلك انه سيجازيهم على صنيعهم وقبيح فعلهم.

١٥ ـ ١٦ ـ لمّا ذكر سبحانه ان اليهود والنصارى نقضوا العهد ، وتركوا ما أمروا به ، عقّب ذلك بدعائهم إلى الإيمان بمحمد (ص) ، وذكّرهم ما أتاهم به من أسرار كتبهم حجة عليهم فقال : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) يخاطب اليهود والنصارى (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) محمد (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) يعني ما بيّنه (ص) من رجم الزانين ، وأشياء كانوا يحرفونها من كتابهم بسوء التأويل (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) معناه : يصفح عن كثير منهم بالتوبة (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) يعني بالنور محمد (ص) لأنه يهتدي به الخلق كما يهتدون بالنور (وَكِتابٌ مُبِينٌ) فيكون اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين (يَهْدِي بِهِ اللهُ) أي الكتاب المبين وهو القرآن (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) أي من اتبع رضاء الله في قبول القرآن والإيمان ، وتصديق النبي (ص) ، واتباع الشرائع (سُبُلَ السَّلامِ) قيل : السلام هو الله تعالى ومعناه : سبل الله ، وهو شرائعه التي شرعها لعباده وهو الإسلام (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) معناه : من الكفر إلى الإيمان لأن الكفر يتحيّر فيه صاحبه كما يتحيّر في الظلام ، ويهتدي بالإيمان إلى النجاة كما يهتدي بالنور (بِإِذْنِهِ) أي بلطفه (وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي ويرشدهم إلى طريق الحق وهو دين الإسلام.

١٧ ـ ١٨ ـ ثم حكى سبحانه عن النصارى ما قالوا في المسيح (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) كفّرهم الله سبحانه بهذا القول لأنهم قالوه على وجه التدين به والإعتقاد لا على وجه الحكاية والإنكار ، وإنما كفروا بذلك لوجهين (أحدهما) انهم كفروا بالنعمة من حيث أضافوها إلى غير الله ممن ادّعوا إلهيته (والآخر) انهم كفروا بأنهم وصفوا المسيح وهو محدث بصفات الله سبحانه فقالوا : هو إله ، وكل جاهل بالله كافر ، لأنه لما ضيّع نعمة الله تعالى كان بمنزلة من أضافها إلى غيره (قُلْ) يا محمد (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي من يقدر ان يدفع من أمر الله شيئا؟ (إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) عنى بذلك انه لو كان المسيح إلها لقدر على دفع أمر الله تعالى اذا أراد اهلاكه واهلاك غيره ، وليس بقادر عليه لاستحالة القدرة على مغالبة القديم ، أي فكيف يجوز اعتقاد الربوبية فيه مع انه مسخّر مربوب مقهور؟ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) ومن كان بهذه الصفة فلا ثاني له ، وذلك يدلك على أن المسيح ملك له ، واذا كان ملكا له لم يكن إلها ولا إبنا له ، لأن المملوك لا يجوز أن يكون مالكا ، فكيف يكون إلها؟! وقوله (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي يخلق ما يشاء أن يخلقه ، فإن شاء خلق من ذكر وأنثى ، وإن شاء خلق من أنثى من غير ذكر فدل بها على انه ليس في كون المسيح من أنثى بغير ذكر دلالة على كونه إلها ، وقوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي يقدر على كل شيء يريد أن يخلقه. ثم حكى عن الفريقين من أهل الكتاب فقال : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) قيل ان اليهود قالوا : نحن في القرب من الله بمنزلة

١٤٤

الإبن من أبيه والنصارى لما قالوا : المسيح ابن الله جعلوا نفوسهم أبناء الله وأحباءه (قُلْ) لهؤلاء المفترين على ربهم (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) أي فلأي شيء يعذبكم بذنوبكم إن كان الأمر على ما زعمتم؟ فإن الأب يشفق على ولده ، والحبيب على حبيبه فلا يعذبه ، وهم يقرون بأنهم يعذبون أربعين يوما عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) أي ليس الأمر على ما قلتم : انكم أبناء الله وأحباؤه ، بل أنتم خلق من بني آدم إن أحسنتم جوزيتم على إحسانكم وإن أسأتم جوزيتم على إساءتكم كما يجازى غيركم (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) وإنما علّق العذاب بالمشيئة مع انه سبحانه لا يشاء العقوبة إلّا لمن كان عاصيا لما في ذلك من البلاغة والإيجاز برد الأمور إلى العالم الحكيم الذي يجريها على وجه الحكمة (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يملك ذلك وحده لا شريك له يعارضه (وَما بَيْنَهُما) أي ما بين الصنفين (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) معناه : ويؤول إليه أمر العباد فلا يملك ضرهم ونفعهم غيره.

١٩ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) يعني محمدا (ص) (يُبَيِّنُ لَكُمْ) أي يوضح لكم اعلام الدين. وفيه دلالة على انه سبحانه اختصه من العلم بما ليس مع غيره (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) أي على انقطاع من الرسل ، ودروس من الدين والكتب (أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) معناه : قد جاءكم رسولنا كراهة ان تقولوا ، أو لأن لا تقولوا محتجين يوم القيامة : ما جاءنا بشير بالثواب على الطاعة ، ولا نذير بالعقاب على المعصية ، ثم بيّن سبحانه انه قد قطع عنهم عذرهم ، وأزاح علتهم بإرسال رسوله فقال : (فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) وهو محمد (ص) ، يبشر كل مطيع بالثواب ، ويخوّف كل عاص بالعقاب (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ظاهر المعنى.

٢٠ ـ ٢١ ـ ثم ذكر سبحانه صنع اليهود في المخالفة لنبيّهم تسلية لنبينا (ص) فقال : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) أي واذكر يا محمد إذ قال موسى لهم (يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) وأياديه لديكم وآلاءه فيكم (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) يخبرونكم بأنباء الغيب ، وتنصرون بهم على الأعداء ، ويبينون لكم الشرائع (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) بأن سخر لكم من غيركم خدما يخدمونكم (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي أعطاكم ما لم يؤت أحدا من عالمي زمانهم. ثمّ كلفهم سبحانه دخول الأرض المقدسة بعد ذكر النعم فقال : (يا قَوْمِ) حكاية عن خطاب موسى (ع) لقومه (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) وهي بيت المقدس والمقدسة : المطهرة ، طهرت من الشرك وجعلت مكانا وقرارا للأنبياء والمؤمنين (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أي كتب في اللوح المحفوظ انها لكم وقيل معناه : وهب الله لكم (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) أي لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) الثواب في الآخرة ، وإنما قال ذلك لأنهم كانوا أمروا بدخولها كما أمروا بالصلاة وغيرها عن قتادة والسدي.

٢٢ ـ ٢٤ ـ ثم ذكر جواب القوم فقال سبحانه (قالُوا) يعني بني إسرائيل (يا مُوسى إِنَّ فِيها) أي في الأرض المقدسة (قَوْماً) أي جماعة (جَبَّارِينَ) شديدي البطش والبأس والخلق (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها) يعني لقتالهم (حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا) يعني الجبارين (مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ قالَ رَجُلانِ) من جملة النقباء الذين بعثهم موسى ليعرف خبر القوم ، هما يوشع بن نون ، وكالب بن يوفنا (مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) الله تعالى (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بالتوفيق للطاعة

١٤٥

(ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ). أخبر عن الرجلين انهما قالا : ادخلوا يا بني إسرائيل على الجبارين باب مدينتهم ، وإنما علما انهم يظفرون بهم ويغلبونهم إذا دخلوا باب مدينتهم لما اخبر به موسى (ع) من وعد الله تعالى بالنصرة وقيل : لما رأياه من القاء الله الرعب في قلوب الجبارين ، فعلما انهم ان دخلوا الباب غلبوا (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا) في نصرة الله على الجبارين (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالله وبما آتاكم به رسوله من عنده. ثم أخبر عن قوم موسى بأنهم (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها) أي هذه المدينة (أَبَداً ما دامُوا) أي ما دام الجبارون (فِيها) وإنما قالوا ذلك لأنهم جبنوا وخافوا من قتالهم لعظم أجسامهم ، وشدة بطشهم ، ولم يثقوا بوعد الله سبحانه بالنصرة لهم عليهم (فَاذْهَبْ) يا موسى (أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) الجبارين (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) إلى أن تظفر بهم وترجع إلينا ، فحينئذ ندخل.

٢٥ ـ ٢٦ ـ ثم ذكر سبحانه دعاء موسى على قومه عند مخالفتهم إياه فقال تعالى : (قالَ) أي قال موسى (ع) إذ غضب على قومه (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي) أي لا أملك إلّا تصريف نفسي في طاعتك لأنها التي تجيبني إذا دعوت (وَأَخِي) أي وأخي كذلك لا يملك إلّا نفسه ، أو يكون معناه : ولا أملك أيضا إلّا أخي لأنه يجيبني إذا دعوت (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي فافصل بيننا وبينهم بحكم ، وسمّاهم فسّاقا وان كانوا قد كفروا بالرد على نبيهم لخروجهم من الإيمان إلى الكفر ، قال الله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) ، قيل في سؤال موسى الفرق بينه وبينهم : انه سأله تعالى أن يحكم ويقضي بما يدل على بعدهم عن الحق والصواب فيما ارتكبوا من العصيان ، ولذلك القوا في التيه ، عن ابن عباس والضحاك (قالَ) أي قال الله سبحانه لموسى (ع) (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) أي أن الأرض المقدسة حرمت عليهم (أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) يعني يتحيرون في المسافة التي بينهم وبينها لا يهتدون إلى الخروج منها ، وكان مقداره ستة فراسخ كانوا يصبحون حيث أمسوا ، ويمسون حيث أصبحوا (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) خطاب لموسى (ع) أمره الله تعالى أن لا يحزن على إهلاكهم لفسقهم.

٢٧ ـ (وَاتْلُ) أي واقرأ (عَلَيْهِمْ) يا محمد (نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ) أي خبرهما (بِالْحَقِ) أي بالصدق (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) أي فعلا فعلا يتقرب به إلى الله تعالى (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) تقبل الطاعة إيجاب الثواب عليها ، قالوا : وكانت علامة القبول في ذلك الزمان نارا تأتي فتأكل المتقبل ولا تأكل المردود (قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) قال الذي لم يتقبل منه للذي تقبل منه : لأقتلنك ، فقال له : لم تقتلني؟ (قالَ) انه تقبل قربانك ولم يتقبل قرباني قال له : وما ذنبي؟ (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) للمعاصي. قال ابن عباس : أراد إنما يتقبل الله ممن كان زاكي القلب ، وردّ عليك لأنك لست بزاكي القلب ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها ان الله تعالى أراد أن يبين ان حال اليهود في نقض العهد وارتكاب الفواحش كارتكاب ابن آدم في قتله أخاه وما عاد عليه من الوبال.

٢٨ ـ ٣٠ ـ ثم أخبر سبحانه عن هابيل انه قال لأخيه حين هدّده بالقتل لما تقبل قربانه ولم يتقبل قربان أخيه (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ) ومعناه : لئن مددت اليّ يدك (لِتَقْتُلَنِي) أي لأن تقتلني (ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) أي لأن أقتلك (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) معناه : إني أخاف في مدي إليك يدي لقتلك (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) معناه : إني لا

١٤٦

أبدؤك بالقتل لأني أريد أن ترجع بإثم قتلي ان قتلتني ، وإثم الذي كان منك قبل قتلي وقيل معناه : بإثم قتلي وإثمك الذي هو قتل جميع الناس حيث سننت القتل (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) أي فتصير بذلك من الملازمين النار (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) أي عقاب العاصين (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ) معناه : شجعته نفسه على (قَتْلَ أَخِيهِ) أي على ان يقتل أخاه (فَقَتَلَهُ) ترك رأسه بين حجرين فشدخه (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي صار ممن خسر الدنيا والآخرة ، وذهب عنه خيرهما.

٣١ ـ (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ) قالوا : كان هابيل أول ميت من الناس ، فلذلك لم يدر قابيل كيف يواريه وكيف يدفنه ، حتى بعث الله غرابين احدهما حي والآخر ميت ، فبحث الأرض ودفنه فيها ، ففعل قابيل به مثل ذلك (لِيُرِيَهُ) أي ليري الغراب قابيل (كَيْفَ يُوارِي) أي كيف يغطي ويستر (سَوْأَةَ أَخِيهِ) أي عورة أخيه (قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ) فقال القاتل : يا ويلتي أعجزت (أَنْ أَكُونَ) في هذا العلم (مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ) أي أستر (سَوْأَةَ أَخِي) والسوأة عبارة عما يكره ، وعما ينكر (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) على قتله ، ولكن لم يندم على الوجه الذي يكون توبة فلذلك لم يقبل ندمه وقيل : من النادمين على حمله لا على قتله.

٣٢ ـ ثم بيّن سبحانه التكليف في باب القتل فقال : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) قال الزجاج معناه : من جناية ذلك ، وذلك إشارة إلى قتل أحد ابني آدم أخاه ظلما (كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي حكمنا عليهم وفرضنا (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً) أي من قتل منهم نفسا ظلما (بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي بغير قود (أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) أو من قتل منهم بغير فساد كان منها في الأرض فاستحقت بذلك قتلها ، وفسادها في الأرض إنما يكون بالحرب لله ولرسوله ، وإخافة السبيل على ما ذكره الله في قوله : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) الآية (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) معناه : هو ان الناس كلهم خصماؤه في قتل ذلك الإنسان ، وقد وترهم وتر من قصد لقتلهم جميعا فأوصل اليهم من المكروه ما يشبه القتل الذي أوصله إلى المقتول ، فكأنه قتلهم كلهم ، ومن استنقذها من غرق أو حرق أو هدم أو ما يميت لا محالة ، أو استنقذها من ضلال ، فكأنما أحيا الناس جميعا ، أي أجره على الله أجر من أحياهم جميعا ، لأنه في اسدائه المعروف إليهم بإحيائه أخاهم المؤمن بمنزلة من أحيا كل واحد منهم وهذا المعنى مروي عن أبي عبد الله (ع) ثم قال : وافضل من ذلك أن يخرجها من ضلال إلى هدى (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ) معناه : ولقد أتت بني إسرائيل الذي ذكرنا قصصهم وأخبارهم رسلنا بالبينات الواضحة ، والمعجزات الدالة على صدقهم وصحة نبوتهم (ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ) يعني من بني إسرائيل (بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) أي مجاوزون حدّ الحق بالشرك عن الكلبي ، وبالقتل عن غيره ، والأولى ان يكون عاما في كل مجاوز عن حق ويؤيده ما روي عن أبي جعفر عليه‌السلام : المسرفون هم الذين يستحلون المحارم ويسفكون الدماء.

٣٣ ـ ٣٤ ـ لمّا قدّم تعالى ذكر القتل وحكمه عقبه بذكر قطاع الطريق والحكم فيهم فقال : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ) أي أولياء الله كقوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ) (وَرَسُولَهُ) أي يحاربون رسوله (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) المروي عن أهل البيت (ع): ان المحارب هو كل من شهر السلاح ، وأخاف الطريق ، سواء كان في المصر أو خارج

١٤٧

المصر ، فإن اللص المحارب في المصر وخارج المصر سواء ، وهو مذهب الشافعي والأوزاعي ومالك (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهم‌السلام : إنما جزاء المحارب على قدر استحقاقه ، فإن قتل فجزاؤه أن يقتل ، وإن قتل وأخذ المال فجزاؤه أن يقتل ويصلب ، وإن أخذ المال ولم يقتل فجزاؤه أن تقطع يده ورجله من خلاف ، وإن أخاف السبيل فقط فإنما عليه النفي لا غير ، وبه قال إبن عباس وسعيد بن جبير وقتادة والسدي والربيع وقوله : (مِنْ خِلافٍ) معناه : اليد اليمنى ، والرجل اليسرى (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) الذي يذهب إليه أصحابنا الإمامية أن ينفى من بلد إلى بلد حتى يتوب ويرجع ، وبه قال إبن عباس والحسن والسدي وسعيد بن جبير وغيرهم ، وإليه ذهب الشافعي (ذلِكَ) أي فعل ما ذكرناه (لَهُمْ خِزْيٌ) أي فضيحة وهوان (فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) زيادة على ذلك (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) لما بيّن سبحانه حكم المحارب استثنى من جملتهم من يتوب مما ارتكبه قبل أن يؤخذ ويقدر عليه ، لأن توبته بعد قيام البينة عليه ووقوعه في يد الامام لا تنفعه ، بل يجب إقامة الحد عليه (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يقبل توبته ويدخله الجنة.

٣٥ ـ لما تقدّم ذكر القتل والمحاربين عقّب ذلك بالموعظة والأمر بالتقوى فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) أي اتقوا معاصيه واجتنبوها (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) أي اطلبوا إليه بما يرضيه من الطاعات ، وقيل : الوسيلة أفضل درجات الجنّة ؛ وروي عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال : سلوا الله لي الوسيلة فانها درجة في الجنة لا ينالها إلا عبد واحد ، وأرجو أن أكون أنا هو (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) أي في طريق دينه مع أعدائه ؛ والجهاد في سبيل الله قد يكون باليد واللسان والقلب وبالسيف والقول والكتاب (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لكي تظفروا بنعيم الأبد ، والمعنى اعملوا على رجاء الفلاح والفوز وقيل : لعل وعسى من الله واجب ، فكأنه قال : اعملوا لتفلحوا.

٣٦ ـ ٣٧ ـ ثم أخبر سبحانه عن وعيد الكفار فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ) أي لكل واحد منهم (ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) من المال والولاية والملك (وَمِثْلَهُ) أي مثل ذلك (مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ) أي ليجعلوا ذلك فداهم وبدله (مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ) الذي يستحقونه على كفرهم فافتدوا بذلك (ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) ذلك الفداء (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي وجيع (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ) أي كلما دفعتهم النار بلهبها رجوا أن يخرجوا وهو كقوله كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل معناه : يكادون يخرجون منها إذا دفعتهم النار بلهبها (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) يعني جهنم (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي دائم ثابت لا يزول ولا يحول.

٣٨ ـ ٤٠ ـ لمّا ذكر تعالى الحكم فيمن أخذ المال جهارا عقّبه ببيان الحكم فيمن أخذ المال اسرارا فقال : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) والألف واللام للجنس فالمعنى : كل من سرق رجلا كان أو امرأة ، وبدأ بالسارق هنا لأن الغالب وجود السرقة في الرجال ، وبدأ في آية الزنا بالنساء فقال : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) لأن الغالب وجود ذلك في النساء (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) أي أيمانهما تقطع من أصول الأصابع ، وتترك له الإبهام والكف ، وفي المرة الثانية تقطع رجله اليسرى من أصل الساق ويترك عقبه يعتمد عليها في الصلاة ، فإن سرق بعد ذلك خلد في السجن ، (جَزاءً بِما كَسَبا) أي افعلوا ذلك بهما مجازاة بكسبهما وفعلهما (نَكالاً مِنَ اللهِ) أي عقوبة على ما فعلاه (وَاللهُ عَزِيزٌ) لا يغلب ولا يقهر (حَكِيمٌ) يفعل على وجه الحكمة (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) أي أقلع وندم على ما كان منه من

١٤٨

فعل الظلم بالسرقة (وَأَصْلَحَ) أي وفعل الفعل الصالح الجميل (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) أي يقبل توبته باسقاط العقاب بها عن المعصية التي تاب منها ، ووصف الله بأنه يتوب على التائب فيه فائدة عظيمة وهي ان في ذلك ترغيبا للعاصي في فعل التوبة ، ولذلك وصف نفسه تعالى بالتواب الرحيم ، ووصف العبد بأنه تواب ومعناه : أوّاب وهو من صفات المدح (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيه دلالة على ان قبول التوبة تفضل من الله (أَلَمْ تَعْلَمْ) قيل هو خطاب للنبي والمراد به أمته كقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) (أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له التصرف فيهما بلا دافع ولا منازع (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) اذا كان مستحقا للعقاب (وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) اذا عصاه ولم يتب ، لأنه إذا تاب فقد وعده تعالى بأنه لا يؤاخذه بذلك بعد التوبة (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) مر معناه.

٤١ ـ لمّا تقدّم ذكر اليهود والنصارى عقّبه سبحانه بتسلية النبي (ص) وأمانه من كيدهم فقال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ) أي لا يغمك (الَّذِينَ يُسارِعُونَ) أي مسارعة الذين يسارعون (فِي الْكُفْرِ) أي يبادرون فيه بالإصرار عليه ، والتمسك به (مِنَ) المنافقين (الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) أي ومن اليهود (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) هو كناية عن اليهود والمنافقين والمعنى : سماعون قولك ليكذبوا عليك (سَمَّاعُونَ) كلامك (لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) ليكذبوا عليك إذا رجعوا أي قائلون للكذب ، سماعون لقوم آخرين ارسلوهم في قصة زان محصن فقالوا لهم : إن أفتاكم محمد بالجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فلا تقبلوه ، لأنهم كانوا حرّفوا حكم الرجم الذي في التوراة (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) أي كلام الله (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أي من بعد أن وضعه الله مواضعه : أي فرض فروضه ، وأحل حلاله وحرّم حرامه ، يعني بذلك ما غيّروه من حكم الله في الزنا ، ونقلوه من الرجم إلى أربعين جلدة. وهذه تسلية للنبي (ص) يقول : ان اليهود كيف يؤمنون بك مع أنهم يحرفون كلام الله في التوراة ، ويحرفون كلامك (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) أي يقول يهود خيبر ليهود المدينة : إن أعطيتم هذا ، أي ان أمركم محمد بالجلد فاقبلوه ، وإن لم تعطوه ـ يعني الجلد ـ أي إن أفتاكم محمد بالرجم فاحذروه (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ) الفتنة : العذاب ، أي من يرد الله عذابه كقوله تعالى : (عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) : أي يعذبون ، وقوله : (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) : أي عذابكم (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي فلن تستطيع أن تدفع لأجله من أمر الله الذي هو العذاب أو الفضيحة والهلاك شيئا (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) معناه : أولئك اليهود لم يرد الله ان يطهر من عقوبات الكفر التي هي الختم والطبع والضيق قلوبهم كما طهر قلوب المؤمنين منها بأن كتب في قلوبهم الإيمان ، وشرح صدورهم للإسلام (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) أراد الخزي الذي لهم في الدنيا هو ما لحقهم من الذل والصغار والفضيحة بإلزام الجزية ، وإظهار كذبهم في كتمان الرجم ، وإجلاء بني النضير من ديارهم.

٤٢ ـ ٤٣ ـ ثم وصفهم تعالى فقال : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) قد مرّ تفسيره ، أعاد الله تعالى ذمّهم على استماع الكذب تأكيدا وتشديدا ومبالغة في الزجر عنه (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) أي يكثرون الأكل للسحت وهو الحرام (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) أراد به اليهود الذين تحاكموا إلى النبي في حد الزنا فخيره الله تعالى بين أن يحكم بينهم وبين أن يعرض عنهم وفي روايات أصحابنا ان هذا التخيير ثابت في الشرع للأئمة والحكام (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ) أي عن الحكم بينهم

١٤٩

(فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) أي لا يقدرون لك على ضرر في دين أو دنيا ، فدع النظر بينهم ان شئت (وَإِنْ حَكَمْتَ) أي وان اخترت ان تحكم بينهم (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي العدل ، وقيل : بما في القرآن وشريعة الإسلام (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي العادلين (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ) أي كيف يحكمك يا محمد هؤلاء اليهود فيهم فيرضون بك حكما (وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ) التي أنزلناها على موسى ، وهي التي يقرون بها أنها كتابي الذي أنزلته وانه حق ، وان ما فيه من حكمي يعلمونه ولا يتناكرونه (فِيها حُكْمُ اللهِ) أي أحكامه وقيل : عنى به الحكم بالرجم (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي يتركون الحكم به جرأة عليّ ، وفي هذا تعجيب للنبي ، وتقريع لليهود الذين نزلت الآية فيهم ، وقوله (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد تحكيمك ، أو حكمك بالرجم (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أي وما هم بمؤمنين بحكمك انه من عند الله مع جحدهم نبوتك.

٤٤ ـ لمّا بين الله تعالى ان اليهود تولوا عن أحكام التوراة ، وصف التوراة وما أنزل فيها فقال : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً) أي بيان للحق ، ودلالة على الأحكام (وَنُورٌ) معناه : فيها هدى : بيان للحكم الذي جاؤوا يستفتون فيه النبي (ص) (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) معناه : يحكم بالتوراة النبيون الذين اذعنوا بحكم الله ، وأقروا به ومعناه : يقضي بها النبيون الذين اسلموا من وقت موسى إلى وقت عيسى ، وصفهم بالإسلام اسلموا من وقت موسى إلى وقت عيسى ، وصفهم بالإسلام لأن الإسلام دين الله ، فكل نبي مسلم (لِلَّذِينَ هادُوا) لليهود ، أي يحكمون بالتوراة لهم وفيما بينهم (وَالرَّبَّانِيُّونَ) الذين علت درجاتهم في العلم وقيل : الذين يعملون بما يعلمون (وَالْأَحْبارُ) العلماء الخيار (بِمَا اسْتُحْفِظُوا) به أي بما استودعوا (مِنْ كِتابِ اللهِ) بما أمروا بحفظ ذلك ، والقيام به ، وترك تضييعه (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) كانوا شهداء على الكتاب انه من عند الله وحده لا شريك له (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) أي لا تخشوا يا علماء اليهود الناس في اظهار صفة النبي محمد (ص) وأمر الرجم ، واخشوني في كتمان ذلك (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) أي لا تأخذوا بترك الحكم الذي أنزلته على موسى أيها الأحبار عوضا خسيسا ، وهو الثمن القليل ، نهاهم الله تعالى بهذا عن أكل السحت على تحريفهم كتاب الله ، وتغييرهم حكمه (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) معناه : من كتم حكم الله الذي أنزله في كتابه وأخفاه ، وحكم بغيره من رجم المحصن (فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) هم اليهود خاصة.

٤٥ ـ ثم بيّن سبحانه حكم التوراة في القصاص فقال : (وَكَتَبْنا) أي فرضنا (عَلَيْهِمْ) أي على اليهود الذين تقدّم ذكرهم (فِيها) أي في التوراة (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) معناه : إذا قتلت نفس نفسا أخرى عمدا فإنه يستحق عليه القود إذا كان القاتل عاقلا مميزا ، وكان المقتول مكافئا للقاتل ، أما بأن يكونا مسلمين حرين ، أو كافرين ، أو مملوكين (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِ) كل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس جرى القصاص بينهما في العين والأنف والأذن والسن وجميع الأطراف (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) هذا عام في كل ما يمكن أن يقتصّ فيه مثل الشفتين واليدين والرجلين وغيرهما (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ) أي بالقصاص الذي وجب له تصدق به على صاحبه بالعفو (فَهُوَ) أي التصدّق (كَفَّارَةٌ لَهُ) فهو مغفرة له عند الله وثواب عظيم (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) هو عام في كل من حكم بخلاف ما أنزل الله فيكون ظالما لنفسه بإرتكاب المعصية الموجبة للعقاب.

٤٦ ـ ٤٧ ـ لمّا قدّم تعالى ذكر اليهود أتبعه بذكر النصارى

١٥٠

فقال : (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ) أي واتبعنا على آثارهم النبيين الذين أسلموا (بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي بعثناه رسولا من بعدهم (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي لما مضى (مِنَ التَّوْراةِ) التي أنزلت على موسى ، صدق بها ، وآمن بها (وَآتَيْناهُ) أي وأعطينا عيسى الكتاب المسمى الإنجيل ، والمعنى : وأنزلنا عليه (الْإِنْجِيلَ فِيهِ) يعني في الإنجيل (هُدىً) أي بيان وحجة ودلائل له على الأحكام (وَنُورٌ) سماه نورا لأنه يهتدى به كما يهتدى بالنور (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) يعني الإنجيل يصدق بالتوراة لأن فيه : ان التوراة حق وقيل معناه : انه أتى على النحو الذي وصف في التوراة (وَهُدىً) أي ودلالة وإرشادا ، ومعناه : وهاديا وراشدا (وَمَوْعِظَةً) أي واعظا (لِلْمُتَّقِينَ) يزجرههم عن المعاصي ، ويدعوهم إلى الطاعة ، وإنما خصّ المتقين بالذكر لأنهم اختصوا بالإنتفاع به ، وإلا فانه هدى لجميع الخلق (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ) هذا أمر لهم ، وقيل في معناه قولان (أحدهما) إنّ تقديره : وقلنا ليحكم أهل الإنجيل ، فيكون على حكاية ما فرض عليهم ، وحذف القول لدلالة ما قبله عليه من قوله : وقفينا ، كما قال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) (والثاني) انه تعالى استأنف أمر أهل الإنجيل على غير الحكاية ، لأن أحكامه كانت حينئذ موافقة لأحكام القرآن لم تنسخ (بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) أي في الإنجيل (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) قيل : إن من ها هنا بمعنى الذي ، وهو خبر عن قوم معروفين ، وهم اليهود الذين نقدم ذكرهم ، عن الجبائي ، وقيل : ان من للجزاء ، أي من لم يحكم من المكلفين بما أنزل الله فهو فاسق ، لأن هذا الإطلاق يدل على أن المراد من ذهب إلى ان الحكمة في خلاف ما أمر الله به ، فلهذا قال فيما قبل : (فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) ، فيكون معنى الفاسقين الخارجين عن الدين ، وجعلوا الكفر والظلم والفسق صفة لموصوف واحد ، وقيل : ان الأول في الجاحد ، والثاني والثالث في المقرّ التارك.

٤٨ ـ لمّا بيّن تعالى نبوة موسى وعيسى عقّب ذلك ببيان نبوة محمد (ص) احتجاجا على اليهود والنصارى بأن طريقته كطريقتهم في الوحي والمعجز فقال : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ) يا محمد (الْكِتابَ) يعني القرآن (بِالْحَقِ) أي بالعدل (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ) يعني التوراة والإنجيل وما فيهما من توحيد الله وعدله ، والدلالة على نبوته ، والحكم بالرجم على ما تقدم ذكره (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) معناه : وأمينا عليه شاهدا بأنه الحق (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) يعني بين اليهود بالقرآن في الرجم على الزانين (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) يريد فيما حرفوا وبدّلوا من أمر الرجم (عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) معناه : لا تزغ ، فكأنه قال : لا تزغ عما جاءك باتباع أهوائهم ويجوز ان يكون الخطاب له والمراد جميع الحكام (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) الخطاب للأمم الثلاث : أمة موسى ، وأمة عيسى ، وأمة محمد. بيّن ان لكل نبي شريعة ومنهاجا ، أي سبيلا واضحا غير شريعة صاحبه وطريقته (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) ومعناه : ولو شاء الله لجمعكم على ملّة واحدة في دعوة جميع الأنبياء ، لا تبدل شريعة منها ولا تنسخ (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ) أي ليمتحنكم (فِي ما آتاكُمْ) أي فيما فرضه عليكم ، وشرعه لكم (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) معناه : بادروا الفوت بالموت أو العجز ، وبادروا إلى ما أمرتكم به (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) أي مصيركم (جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ) فيخبركم (بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من أمر دينكم ، ثم يجازيكم على حسب استحقاقكم.

٤٩ ـ ٥٠ ـ (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ

١٥١

أَهْواءَهُمْ) إنما كرر سبحانه الأمر بالحكم بينهم لأنهما حكمان أمر بهما جميعا لأنهم احتكموا إليه في زنا المحصن ، ثم احتكموا إليه في قتيل كان بينهم (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) معناه : احذرهم أن يضلوك بالكذب على التوراة لأنه ليس كذلك الحكم فيها ، فإني قد بينت لك حكمها وفي هذه الآية دلالة على وجوب مجانبة أهل البدع والضلال وذوي الأهواء ، وترك مخالطتهم (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي فإن اعرضوا عن حكمك بما أنزل الله (فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) ذكر البعض تغليظا للعقاب ، والمراد انه يكفي ان يؤاخذوا ببعض ذنوبهم في إهلاكهم والتدمير عليهم وعذاب الآخرة (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) هذا تسلية للنبي (ص) عن امتناع القوم من الإقرار بنبوته ، والإسراع الى إجابته بأن أهل الإيمان قليل ، وأهل الفسق كثير ، فلا ينبغي ان يعظم عليك ذلك ثم أنكر عليهم فعلهم فقال : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) والمراد به اليهود لأنهم كانوا اذا وجب الحكم على ضعفائهم الزموهم إياه ، وإذا وجب على أقويائهم واشرافهم لم يؤاخذوهم به ، فقيل لهم : أفحكم الجاهلية ، أي عبدة الأوثان تطلبون وأنتم أهل الكتاب وقيل : المراد به كل من طلب غير حكم الله فانه يخرج منه إلى حكم الجاهلية (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً) أي لا أحد حكمه أحسن من حكم الله (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي لا أحد حكمه أحسن من حكم الله أي عند قوم عندهم العلم بصحته.

٥١ ـ ٥٣ ـ لمّا تقدّم ذكر اليهود والنصارى أمر سبحانه عقيب ذلك بقطع موالاتهم ، والتبرء منهم فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) أي لا تعتمدوا على الإستنصار بهم متوددين إليهم ، وخصّ اليهود والنصارى بالذكر لأن سائر الكفار بمنزلتهما في وجوب معاداتهم (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ابتداء كلام أخبر سبحانه أن بعض الكفار ولي بعض في العون والنصرة ، ويدهم واحدة على المسلمين وفي هذه دلالة على ان الكفر كله كالملة الواحدة في أحكام المواريث لعموم قوله (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) أي هو كافر مثلهم ، والمعنى : انه محكوم له حكمهم في وجوب لعنه والبراءة منه ، وانه من أهل النار (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إلى طريق الجنة لكفرهم واستحقاقهم العذاب الدائم ، بل يضلهم عنها إلى طريق النار (فَتَرَى) يا محمد (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك ونفاق يعني عبد الله ابن أبي (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) أي في موالاة اليهود ومناصحتهم وقيل : في معاونتهم على المسلمين (يَقُولُونَ) أي قائلين (نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) أي دولة تدور لأعداء المسلمين على المسلمين فنحتاج إلى نصرتهم (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) يريد بفتح الله تعالى لمحمد (ص) على جميع خلقه (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) فيه اعزاز للمؤمنين ، واذلال للمشركين ، وظهور الإسلام ، وهلاك اليهود والمنافقين (فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) أي فيصبح أهل النفاق على ما كان منهم من نفاقهم وولايتهم لليهود ، ودس الأخبار إليهم نادمين على ما فعلوا والمعنى : إذا فتح الله على المؤمنين ندم المنافقون والكفار على تفويتهم أنفسهم ذلك ، وكذلك اذا ماتوا وتحققوا دخول النار (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا الله ورسوله ظاهرا وباطنا تعجبا من نفاق المنافقين ، واجترائهم على الله بالأيمان الكاذبة (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ) يعني المنافقين حلفوا بالله (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي جهدوا جهد أيمانهم قال عطا : أي حلفوا بأغلظ الأيمان وأوكدها (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) أي انهم مؤمنون ومعكم في معاونتكم على أعدائكم (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي ضاعت أعمالهم التي عملوها لأنهم أوقعوها على خلاف الوجه المأمور به ، وبطل ما أظهروه من الإيمان

١٥٢

لأنه لم يوافق باطنهم ظاهرهم فلم يستحقوا به الثواب (فَأَصْبَحُوا) أي صاروا (خاسِرِينَ) أي خسروا الدنيا والآخرة.

٥٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) أي من يرجع منكم : أي من جملتكم إلى الكفر بعد إظهار الإيمان فلن يضر دين الله شيئا ، فإن الله لا يخلي دينه من أنصار يحمونه (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) أي يحبهم الله ويحبون الله (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) وهو من الذل الذي هو اللين ، لا من الذي هو الهوان ، (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) بالقتال لإعلاء كلمة الله واعزاز دينه (وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) فيما يأتون من الجهاد والطاعات (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ) أي محبتهم لله ، ولين جانبهم للمؤمنين ، وشدتهم على الكافرين بفضل من الله ، وتوفيق ولطف منه ، ومنة من جهته (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي يعطيه من يعلم انه محل له (وَاللهُ واسِعٌ) أي جواد لا يخاف نفاد ما عنده (عَلِيمٌ) بموضع جوده وعطائه ، فلا يبذله إلا لمن تقتضي الحكمة إعطاءه.

٥٥ ـ ٥٦ ـ ثمّ بيّن تعالى من له الولاية على الخلق ، والقيام بأمورهم ، وتجب طاعته عليهم فقال : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) أي الذي يتولى مصالحكم ، ويتحقق تدبيركم هو الله تعالى ، ورسوله يفعله بأمر الله (وَالَّذِينَ آمَنُوا) ثم وصف الذين آمنوا فقال : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) بشرائطها (وَيُؤْتُونَ) أي ويعطون (الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) أي في حال الركوع. وهذه الآية من أوضح الدلائل على صحة إمامة علي عليه‌السلام بعد النبي بلا فصل ، والوجه فيه : انه إذا ثبت ان لفظة وليكم تفيد من هو أولى بتدبير أموركم ، ويجب طاعته عليكم ، وثبت أن المراد بالذين آمنوا عليّ عليه‌السلام ثبت النص عليه بالإمامة ووضح ، فالمعني بالذين آمنوا هو عليّ بدلالة الرواية الواردة من طريق العامة والخاصة بنزول الآية فيه لما تصدق بخاتمه في حال الركوع وقد تقدّم ذكرها (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ) بالقيام بطاعته (وَرَسُولَهُ) باتباع أمره (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالموالاة والنصرة (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ) أي جند الله وقيل : أنصار الله (هُمُ الْغالِبُونَ) الظاهرون على أعدائهم ، الظافرون بهم.

٥٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً) أي أظهروا الإيمان باللسان ، واستبطنوا الكفر ، فذلك معنى تلاعبهم بالدين (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يعني اليهود والنصارى (وَالْكُفَّارَ) أي ومن الكفار (أَوْلِياءَ) بطانة وأخلاء (وَاتَّقُوا اللهَ) في موالاتهم بعد النهي عنها (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بوعده ووعيده ، أي ليس من صفات المؤمنين موالاة من يطعن في الدين ، فمن كان مؤمنا غضب لإيمانه على من طعن فيه ، وكافأه بما يستحقه من المقت والعداوة.

٥٨ ـ ثم أخبر سبحانه عن صفة الكفار الذين نهى الله المؤمنين عن موالاتهم فقال : (وَإِذا نادَيْتُمْ) أيها المؤمنون (إِلَى الصَّلاةِ) أي دعوتم إليها (اتَّخَذُوها) أي اتخذوا الصلاة (هُزُواً وَلَعِباً) معناه : أنهم كانوا إذا أذن المؤذن للصلاة تضاحكوا فيما بينهم وتغامزوا على طريق السخف والمجون تجهيلا لأهلها ، وتنفيرا للناس عنها وعن الداعي إليها (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) فيه قولان (أحدهما) انهم لا يعقلون ما لهم في إجابتهم إليها من الثواب ، وما عليهم في استهزائهم بها من العقاب (والثاني) انهم بمنزلة من لا عقل له يمنعه من القبائح ، ويردعه من الفواحش.

١٥٣

٥٩ ـ ثم أمر الله سبحانه رسوله بحجاجهم فقال : (قُلْ) يا محمد (يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا) أي هل تسخطون منا (إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) فوحدناه ووصفناه بما يليق به من الصفات العلى ، ونزهناه عما لا يجوز عليه في ذاته وصفاته (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) من القرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) على الأنبياء (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) أي إنما كرهتم إيماننا وأنتم تعلمون أنا على الحق لأنكم فسقتم بأن أقمتم على دينكم لمحبتكم الرئاسة وكسبكم بها الأموال.

٦٠ ـ ثم أمر سبحانه نبيه (ص) أن يخاطبهم فقال : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المستهزئين من الكفار واليهود (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) أي هل أخبركم (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ) أي بشر مما نقمتم من إيماننا ثوابا : أي جزاء ، المعنى : ان كان ذلك عندكم شرا فأنا أخبركم بشر منه عاقبة عند الله (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) أي أبعده من رحمته (وَغَضِبَ عَلَيْهِ) بفسقه وكفره ، وغضبه عليه : أراد به العقوبة والاستخفاف به (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) أي مسخهم قردة وخنازير ، قال المفسرون : يعني بالقردة أصحاب السبت ، وبالخنازير كفار مائدة عيسى (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) ومن عبد الطاغوت والطاغوت : هنا الشيطان لأنهم أطاعوه (أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً) أي هؤلاء الذين وصفهم الله بأنه لعنهم وغضب عليهم وانهم عبدوا الطاغوت شر مكانا في عاجل الدنيا وآجل الآخرة أما في الدنيا فبالقتل والسبي وضرب الذلة والمسكنة عليهم ، والزام الجزية ، وأما في الآخرة فبعذاب الأبد (وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) أي أجوز عن الطريق المستقيم ، وأبعد من النجاة ، قال المفسرون : فلما نزلت هذه الآية غير المسلمون أهل الكتاب وقالوا : يا إخوان القردة والخنازير ، فنكسوا رؤوسهم وافتضحوا.

٦١ ـ ٦٣ ـ (وَإِذا جاؤُكُمْ) أيها المؤمنون (قالُوا آمَنَّا) أي صدقنا (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) معناه : وقد دخلوا به في أحوالهم وخرجوا به إلى أحوال أخر ، وقوله : (وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) أكد الكلام بالضمير تعيينا إياهم بالكفر ، وتمييزا لهم من غيرهم بهذه الصفة (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) معناه : بما كانوا يكتمون من نفاقهم إذ أظهروا بألسنتهم ما أضمروا خلافه في قلوبهم. ثم بيّن الله سبحانه انهم يضمّون إلى نفاقهم خصالا أخر ذميمة فقال : (وَتَرى) يا محمد (كَثِيراً مِنْهُمْ) قيل : المراد بالكثير رؤساؤهم وعلماؤهم (يُسارِعُونَ) يبادرون (فِي الْإِثْمِ) كل معصية (وَالْعُدْوانِ) الظلم ، أي يسارعون في ظلم الناس ، وفي الجرم الذي يعود عليهم بالوبال والخسران (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) أي الرشوة في الحكم وسماها سحتا لأنه يؤدي إلى الإستئصال ويقال : لأنّها تذهب بالبركة من المال (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي لبئس العمل عملهم (لَوْ لا يَنْهاهُمُ) أي هلا ينهاهم ، والكناية في هم تعود إلى الكثير (الرَّبَّانِيُّونَ) أي علماء أهل الإنجيل (وَالْأَحْبارُ) علماء أهل التوراة (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ) عن كل ما قالوه بخلاف الحق (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) أي الحرام والرشوة (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) أي لبئس الصنع صنعهم حيث اجتمعوا على معصية الله وفي هذه الآية دلالة على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه.

٦٤ ـ (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) أي مقبوضة عن العطاء ، ممسكة عن الرزق ، فنسبوه إلى البخل (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) معناه جعلوا بخلاء والزموا البخل ، فهم أبخل قوم فلا يلفى يهودي أبدا غير لئيم بخيل (وَلُعِنُوا بِما قالُوا) أي ابعدوا عن رحمة الله وثوابه بسبب هذه المقالة ثم رد الله عليهم بضد مقالتهم فقال : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) أي ليس الأمر على ما وصفوه ، بل هو جواد فليس لذكر اليد هنا معنى غير إفادة معنى

١٥٤

الجود ، وإنما قال : يداه على التثنية مبالغة في معنى الجود والإنعام لأن ذلك أبلغ فيه من أن يقول بل يده مبسوطة (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) معناه : يعطي كيف يشاء من يشاء من عباده ، ويمنع من يشاء من عباده ، لأنه متفضل بذلك فيفعل على حسب المصلحة (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) ، ويريد بالكثير منهم المقيمين على الكفر وإنما إزدادوا كفرا لأنه كلما أنزل الله حكما ، وأخبرهم النبي (ص) به جحدوه وإزدادوا بذلك طغيانا ، وهو التمادي والمجاوزة عن الحد ، وكفرا انضمّ إلى كفرهم (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي بين اليهود والنصارى وقيل : يريد به اليهود خاصة ، وقد مرّ تفسيره في أول السورة عند قوله : فاغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) أي لحرب محمد وفي هذا دلالة ومعجزة لأن الله أخبره فوافق خبره المخبر ، فقد كانت اليهود أشد أهل الحجاز بأسا ، وأمنعهم دارا حتى ان قريشا كانت تعتضد بهم ، والأوس والخزرج تستبق إلى محالفتهم ، وتتكثر بنصرتهم ، فأباد الله خضراءهم واستأصل شأفتهم واجتث أصلهم (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) بمعصية الله ، وتكذيب رسله ، ومخالفة أمره ونهيه ، واجتهادهم في محو ذكر النبي (ص) من كتبهم (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) العاملين بالفساد والمعاصي في أرضه.

٦٥ ـ ٦٦ ـ (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ) يعني اليهود والنصارى (آمَنُوا) بمحمد (ص) (وَاتَّقَوْا) الكفر والفواحش (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي سترناها عليهم ، وغفرناها لهم (وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) ظاهر المعنى (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أي عملوا بما فيهما على ما فيهما دون ان يحرفوا شيئا منهما أو يغيروا أو يبدلوا كما كانوا يفعلونه (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) يريد به القرآن (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ) بإرسال السماء عليهم مدرارا (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) بإعطاء الأرض خيرها وبركتها والمعنى : لتركوا في ديارهم ولم يجلوا عن بلادهم ولم يقتلوا (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) أي من هؤلاء قوم معتدلون في العمل من غير غلو ولا تقصير (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) أي أكثر هؤلاء اليهود والنصارى يعملون الأعمال السيئة ، وهم الذين يقيمون على الكفر والجحود بالنبي (ص).

٦٧ ـ ثم أمر سبحانه نبيّه بالتبليغ ، ووعده العصمة والنصرة فقال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) وهذا نداء تشريف وتعظيم (بَلِّغْ) أي أوصل إليهم (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) إن الله تعالى بعث النبي (ص) برسالة ضاق بها ذرعا وكان يهاب قريشا ، فأزال الله بهذه الآية تلك الهيبة. عن ابن عباس ، وجابر بن عبد الله قالا : أمر الله محمدا (ص) أن ينصب عليا (ع) للناس فيخبرهم بولايته فتخوف رسول الله (ص) أن يقولوا : حابى ابن عمه ، وأن يطعنوا في ذلك عليه ، فأوحى الله إليه هذه الآية فقام بولايته يوم غدير خم (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أي يمنعك من أن ينالوك بسوء (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) المراد : لا يهديهم إلى الجنة والثواب وفي هذه الآية دلالة على صدق النبي (ص) وصحة نبوته أنه وقع مخبره على ما أخبر به فدل ذلك على انه من عند عالم الغيوب والسرائر ، وروي أن النبي (ص) لمّا نزلت هذه الآية قال لحراس من أصحابه كانوا يحرسونه منهم سعد وحذيفة : الحقوا بملاحقكم فإن الله تعالى عصمني من الناس.

٦٨ ـ ثم أمر سبحانه النبي (ص) أن يخاطب اليهود فقال : (قُلْ) يا محمد (يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) من الدين الصحيح (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ

١٥٥

رَبِّكُمْ) أي حتى تقرّوا بالتوراة والإنجيل والقرآن المنزل إلى جميع الخلق ، وقيل معناه : حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما فيهما ، وإنما كان ذلك قبل النسخ لهما عن الجبائي (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) مرّ تفسيره قبل (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي لا تحزن عليهم ، وهذه تسلية للنبي (ص) ، أي فلا تحزن فإن تكذيب الأنبياء عادتهم ودأبهم وقيل معناه : لا تحزن على ذلك الكفر وتجاوز الحد في الظلم منهم فإن ضر ذلك عائد عليهم ، وقيل معناه : لا تحزن على هلاكهم وعذابهم فذلك جزاؤهم بفعالهم.

٦٩ ـ قد مضى تفسير هذه الآية مشروحا في سورة البقرة وقيل : ان من آمن يرجع إلى الجميع ، ويكون معناه : من يستديم الإيمان ويستمرّ عليه.

٧٠ ـ ٧١ ـ ثم أقسم سبحانه بأنه أخذ عليهم الميثاق فقال : (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) يريد الأيمان المؤكدة التي أخذها أنبياؤهم على الإخلاص في التوحيد ، والعمل بما أمر به ، والانتهاء عما نهى عنه ، والتصديق برسله ، والبشارة بمحمد (ص). ووجه الإحتجاج عليهم بذلك وإن كان أخذ الميثاق على آبائهم انهم عرفوا ذلك في كتبهم ، وأقرّوا بصحته ، فالحجة لازمة لهم ، وعتب المخالفة يلحقهم كما يلحق آباءهم (وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) أي مما لا تهوى أنفسهم ، أي بما لا يوافق مرادهم (فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) أي كذبوا طائفة وقتلوا طائفة فإن قيل : لم عطف المستقبل على الماضي ، فجوابه : ليدل على أن ذلك من شأنهم ففيه معنى كذبوا وقتلوا ويكذبون ويقتلون ، مع ان قوله : يقتلون فاصلة يجب أن يكون موافقا لرؤوس الآي ، ويمكن أن يقال : التقدير فيه : فريقا كذبوا لم يقتلوه ، وفريقا كذبوا يقتلون وقد ذكرنا تفسير الفريقين في سورة البقرة عند قوله ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون (وَحَسِبُوا) أي وظنّوا (أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي عقوبة على قتلهم وتكذيبهم ، يريد : وظنوا ان الله لا يعذبهم عن عطاء عن ابن عباس وقيل : حسب القوم ان لا يكون بليّة عن قتادة والحسن والسدّي. وقيل : فتنة : أي شدّة وقحط عن مقاتل ، والكل متقارب وقيل : وحسبوا بفعلهم غير فاتن لهم ، وذلك أنهم كانوا يقولون : نحن أبناء الله وأحباؤه (فَعَمُوا وَصَمُّوا) عن الحق ، على التشبيه بالأعمى والأصم لأنه لا يهتدي إلى طريق الرشد في الدين لإعراضه عن النظر ، كما لا يهتدي هذا إلى طريق الرشد في الدنيا لأجل عماه وصممه (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) يريد أن فريقا منهم تابوا فتاب الله عليهم (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) أي عادوا إلى ما كانوا عليه يريد : فلما انقضت تلك القرون ، ونشأت قرون أخر تخلقوا بأخلاق آبائهم فعموا عن الحق ، وصموا عن استماعه (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) أراد بكثير منهم من كان في عصر نبينا (ص) (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي عليم بأعمالهم ، وهذا كالوعيد لهم.

٧٢ ـ ٧٤ ـ ثم عاد تعالى إلى ذكر النصارى فقال : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) وهذا مذهب اليعقوبية منهم لأنهم قالوا : ان الله اتحد بالمسيح اتحاد الذات فصارا شيئا واحدا ، وصار الناسوت لاهوتا وذلك قولهم : انه الإله (وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أي خالقي وخالقكم ، ومالكي ومالككم ، وإني وإياكم عبيده (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) أي بأن يزعم أن غيره يستحق العبادة (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) معناه : فإن الله يمنعه الجنة (وَمَأْواهُ) أي مصيره (النَّارُ) وهذا كله إخبار من المسيح لقومه (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) معناه : لا ناصر لهم

١٥٦

يخلصهم مما هم فيه من أنواع العذاب (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) والقائلون بهذه المقالة جمهور النصارى يقولون : ثلاثة أقانيم جوهر واحد : أب وابن وروح القدس إله واحد (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) أي ليس إله إلا إلها واحدا وإنما دخلت من للتوكيد (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) أي وان لم يرجعوا ويتوبوا عما يقولون من القول بالتثليث أقسم (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وإنما خصّ منهم الذين يستمرون على كفرهم لأنه علم أن بعضهم يؤمن ، وفي هذا تحذير من الجزاء (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ) قال الفراء : هذا أمر في لفظ الإستفهام ، وقد يرد الأمر بلفظ الإستفهام كقوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) ، وإنما دخلت إلى لأن معنى التوبة الرجوع إلى طاعة الله (وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) الاستغفار : طلب المغفرة بالدعاء (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر الذنوب ويسترها رحمة منه لعباده.

٧٥ ـ ٧٧ ـ لمّا قدّم سبحانه ذكر مقالات النصارى عقّبه بالرد عليهم ، والحجاج لهم فقال : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ) أي ليس هو بإله (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) أي كما أن الرسل الذين مضوا قبله ليسوا بآلهة وإن أتوا بالمعجزات الباهرات ، فكذلك المسيح (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) لأنها تصدق بآيات ربها ، ومنزلة ولدها ، وتصدقه فيما أخبرها به بدلالة قوله : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) إنه احتجاج على النصارى بأن من ولده النساء ، ويأكل الطعام ، لا يكون إلها للعباد ، لأن سبيله سبيلهم في الحاجة إلى الصانع المدبر (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) أمر سبحانه النبي (ص) وأمته بأن يفكروا فيما بيّن تعالى من الآيات : أي الدلالات على بطلان ما اعتقدوه من ربوبية المسيح ، ثم أمر بأن ينظر (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الحق الذي يؤدي إليه تدبر الآيات؟ فالنظر الأول إنما هو إلى فعله تعالى الجميل في نصب الآيات ، وإزاحة العلل ، والنظر الثاني إلى أفعالهم القبيحة ، وتركهم التدبر للآيات ، ثم زاد تعالى في الإحتجاج عليهم فقال : (قُلْ) يا محمد (أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) أي أتوجهون عبادتكم إلى من لا يقدر لكم على النفع والضر؟ لأن القادر عليهما هو الله والمستحق للعبادة إنما هو القادر على أصول النعم والنفع والضر والخلق والإحياء والرزق (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالكم (الْعَلِيمُ) بضمائركم (قُلْ) يا محمد للنصارى فإنهم لمخاطبون هنا (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ) أي لا تتجاوزوا الحق إلى الغلو فيفوتكم الحق (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) والآية خطاب للذين كانوا في عصر النبي (ص) نهوا أن يتبعوا أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم ، وأن يقلدوهم فيما هووا ، والأهواء ههنا : المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة ، لأن الإنسان قد يستثقل النظر لما فيه من المشقة ، ويميل طبعه إلى بعض المذاهب فيعتقده وهو ضلال فيهلك به (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) يعني به هؤلاء الذين ضلوا عن الحق وأضلوا كثيرا من الخلق أيضا ، ونسب الإضلال إليهم من حيث كان بدعائهم وإغوائهم (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) ومعنى سواء السبيل : مستقيم الطريق ، وقيل له : سواء لأنه يستقيم بصاحبه إلى الجنة ، والخلود في النعيم.

٧٨ ـ ٨٠ ـ ثم أخبر تعالى عما جرى على أسلافهم فقال : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) قيل في معناه أقوال (أحدها) أن معناه : لعنوا على لسان داود فصاروا قردة ، وعلى لسان عيسى فصاروا خنازير ، وإنما خصّ عيسى وداود لأنهما أنبه الأنبياء المبعوثين من بعد موسى (وثانيها) ما قاله ابن عباس : أنه يريد في الزبور وفي الإنجيل ، ومعنى هذا : ان الله تعالى لعن في الزبور من يكفر

١٥٧

من بني إسرائيل وفي الإنجيل كذلك ، فلذلك قيل : على لسان داود وعيسى والمراد : أن الله أيّسهم من المغفرة مع الإقامة على الكفر لدعاء الأنبياء عليهم بالعقوبة ، ودعوتهم مستجابة ، وإنما ذكر اللعن على لسانهما إزالة للإبهام بأن لهم منزلة بولادة الأنبياء تنجيهم من العقوبة (ذلِكَ) إشارة إلى اللعن المتقدم ذكره (بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أي بمعصيتهم واعتدائهم. ثم بيّن تعالى حالهم فقال : (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) أي لم يكن ينهى بعضهم بعضا ولا ينتهون ، أي لا يكفون عما نهوا عنه. وإنما سمي القبيح منكرا لأنه ينكره العقل من حيث أن العقل يقبل الحسن ويعترف به ولا يأباه ، وينكر القبيح ويأباه ، وما ينكره العقل فهو الباطل ، وما يقر به فهو الحق ثم أقسم سبحانه فقال : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي بئس شيئا فعلهم (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) أي من اليهود (يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال أبو جعفر الباقر (ع) يتولون الملوك الجبارين ، ويزينون لهم اهواءهم ليصيبوا من دنياهم ، وفي هذا توبيخ لأولئك القوم ، وتنبيه على سوء فعالهم ، وخبث عقائدهم (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ) أي بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في الآخرة (أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي سخط الله عليهم (وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) وذهب ابن عباس ومجاهد والحسن إلى أن هذه الآية في المنافقين من اليهود ، والكناية في قوله : منهم عائدة إليهم ، ويؤكده ما بعد هذه الآية.

٨١ ـ (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أي لو كانوا يصدقون بالله (وَالنَّبِيِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ) من القرآن ، ويعتقدون ذلك على الحقيقة كما يظهرونه (مَا اتَّخَذُوهُمْ) يعني الكافرين (أَوْلِياءَ) يريد الموالاة على الحقيقة (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) وصفهم بالفسق وإن كان الكفر أبلغ في باب الذم لأمرين (أحدهما) أنهم خارجون عن أمر الله ، وهذا المعنى لا يظهر بأن يصفهم بالكفر (والآخر) أن الفاسق في كفره هو المتمرد فيه ، والكلام يدل على أنهم فاسقون في كفرهم أي خارجون إلى التمرد فيه.

٨٢ ـ ٨٤ ـ ثم ذكر تعالى معاداة اليهود للمسلمين فقال : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) وصف اليهود والمشركين بأنهم أشدّ الناس عداوة للمؤمنين ، لأن اليهود ظاهروا المشركين على المؤمنين مع أن المؤمنين يؤمنون بنبوّة موسى والتوراة التي أتى بها ، فكان ينبغي أن يكونوا إلى من وافقهم في الإيمان بنبيّهم وكتابهم أقرب ، وإنما فعلوا ذلك حسدا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) يعني الذين قدمنا ذكرهم من النجاشي ملك الحبشة وأصحابه ، الذين جاؤوا مع جعفر مسلمين (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ) أي من النصارى (قِسِّيسِينَ) أي عبادا وقيل : علماء (وَرُهْباناً) أي أصحاب الصوامع (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) معناه : أن هؤلاء النصارى الذين آمنوا لا يستكبرون عن اتباع الحق والإنقياد له كما استكبر اليهود وعباد الأوثان ، وأنفوا عن قبول الحق (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) من القرآن (تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) أي لمعرفتهم بأن المتلو عليهم كلام الله ، وأنه حق (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا) أي صدقنا بأنه كلامك أنزلته على نبيك (فَاكْتُبْنا) في أم الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ (مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي مع محمد وأمته الذين يشهدون بالحق (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِ) معناه : لأي عذر لا نؤمن بالله ، وهذا جواب لمن قال لهم من قومهم تعنيفا لهم : لم آمنتم؟ والحق : هو القرآن والإسلام (وَنَطْمَعُ) أي نرجو ونأمل (أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا) يعني في الجنة لإيماننا بالحق

١٥٨

(مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) المؤمنين من أمة محمد.

٨٥ ـ ٨٦ ـ (فَأَثابَهُمُ) أي جازاهم (اللهُ بِما قالُوا) أي بالتوحيد عن الكلبي ، وعلى هذا فإنما علّق الثواب بمجرد القول لأنه قد سبق من وصفهم ما يدل على إخلاصهم فيما قالوه وهو المعرفة في قوله : (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) والبكاء المؤذن بحقيقة الإخلاص ، واستكانة القلب ومعرفته ، والقول إذا اقترن به المعرفة والإخلاص فهو الإيمان الحقيقي الموعود عليه الثواب وقيل : ان المراد بما قالوا : ما سألوا ، يعني قوله : (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) ، ونطمع أن يدخلنا الآية ، عن ابن عباس ، وعلى هذا فيكون القول معناه المسألة للجنة (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) مر تفسيره (وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) أي المؤمنين (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) لما ذكر سبحانه الوعد لمؤمنيهم ذكر الوعيد لمن كفر منهم وكذب ، وأطلق اللفظ به ليكون لهم ولمن جرى مجراهم في الكفر ، وإنما شرط في الوعيد على الكفر التكذيب بالآيات وان كان كل منهما يستحق به العقاب ، لأن صفة الكفار من أهل الكتاب أنهم يكذبون بالآيات.

٨٧ ـ ٨٨ ـ لما تقدم ذكر الرهبان وكانوا قد حرّموا على أنفسهم الطيبات نهى الله المؤمنين عن ذلك : قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي يا أيها المؤمنون (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) يريد : لا تجروها مجرى المحرمات في شدة الإجتناب والطيبات : اللذيذات التي تشتهيها النفوس ، وتميل إليها القلوب ، وقد يقال : الطيب بمعنى الحلال (وَلا تَعْتَدُوا) أي لا تتعدوا حدود الله وأحكامه (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) معناه : يبغضهم ويريد الانتقام منهم (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) لفظه أمر والمراد به الإباحة (حَلالاً طَيِّباً) أي مباحا لذيذا (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) هذا استدعاء إلى التقوى بألطف الوجوه وتقديره : أيها المؤمنون بالله لا تضيعوا إيمانكم بالتقصير في التقوى فيكون عليكم الحسرة العظمى ، واتقوا في تحريم ما أحل الله لكم وفي جميع معاصيه من به تؤمنون وهو الله تعالى. وفي هاتين الآيتين دلالة على كراهة التخلي والتفرد والتوحش والخروج عما عليه الجمهور في التأهل وطلب الولد ، وعمارة الأرض ، وقد روي عن النبي (ص) كان يأكل الدجاج والفالوذج ، وكان يعجبه الحلواء والعسل وقال : ان المؤمن حلو يحب الحلاوة ، وقال : إن في بطن المؤمن زاوية لا يملؤها إلا الحلواء.

٨٩ ـ (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) مضى الكلام في لغو اليمين وحكمه في سورة البقرة ولا كفارة فيه عند أكثر المفسرين والفقهاء (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) معناه : بالذي عقدتم وتفسيره : أن يضمر الأمر ثم يحلف بالله فيعقد عليه اليمين وقيل : هو ما عقدت عليه قلبك وتعمدته (فَكَفَّارَتُهُ) أي كفارة ما عقدتم إذا حنثتم (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) قال أصحابنا : يعطي كل واحد مدين أو مدا ، والمد : رطلان وربع ، ويجوز أن يجمعهم على ما هذا قدره ليأكلوا ، فإن كان المساكين ذكورا وإناثا جاز ذلك (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) أي تعطيهم كما تعطي أهلك في العسر واليسر (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) لكل واحد منهم ثوب (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) معناه : عتق رقبة عبد أو أمة ، وهذه الثلاثة واجبة على التخيير (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) معناه : فكفارته صيام ثلاثة أيام وحد من ليس بواجد هو من ليس عنده ما يفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته (ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدم ذكره من الكفارة (كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) يعني إذا حلفتم وحنثتم لأن الكفارة لا تجب بنفس اليمين ، وإنما تجب باليمين والحنث (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) قال ابن عباس : يريد لا تحلفوا

١٥٩

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) معناه : كما بيّن أمر الكفارة وجميع الأحكام يبين لكم آياته وفروضه لتشكروه على تبيينه لكم أموركم ، ونعمه عليكم.

٩٠ ـ ٩١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) قال ابن عباس : يريد بالخمر جميع الأشربة التي تسكر ، وقال في الميسر : يريد القمار وهو في أشياء كثيرة (وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ) ذكرناهما في أول السورة (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) المعنى : شرب الخمر ، وعبادة الأنصاب ، والإستسقام بالازلام ، رجس : أي خبيث من عمل الشيطان ، وإنما نسبها إلى الشيطان وهي أجسام لما يأمر به الشيطان فيها من الفساد ، فيأمر بشرب المسكر ليزيل العقل ، ويأمر بالقمار ليستعمل فيه الأخلاق الدنية ، ويأمر بعبادة الأصنام لما فيها من الشرك بالله ، ويأمر بالأزلام لما فيها من ضعف الرأي ، والإتكال على الإتفاق (فَاجْتَنِبُوهُ) أي كونوا على جانب منه : أي في ناحية (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) معناه : لكي تفوزوا بالثواب. وفي هذه الآية دلالة على تحريم الخمر في هذه الأشياء من أربعة أوجه (أحدها) أنه سبحانه وصفها بالرجس وهو النجس ، والنجس محرم بلا خلاف (والثاني) أنه نسبها إلى عمل الشيطان وذلك يوجب تحريمها والثالث أنه أمر باجتنابها والأمر يقتضي الإيجاب ـ والرابع ـ أنه جعل الفوز والفلاح في اجتنابها ثم بين تعالى أنه إنما نهى عن الخمر لما يعلم في اجتنابه من الصلاح وخير الدارين فقال : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) المعنى : يريد الشيطان إيقاع العداوة بينكم بالإغواء المزين لكم ذلك ، حتى إذا سكرتم زالت عقولكم ـ وأقدمتم من القبائح على ما كان يمنعه منه عقولكم (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) أي يمنعكم عن الذكر لله بالتعظيم والشكر على آلائه (وَعَنِ الصَّلاةِ) التي هي قوام دينكم (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) صيغته الإستفهام ومعناه النهي ، وهذا أبلغ في باب النهي من أن يقال : انتهوا ولا تشربوا.

٩٢ ـ لما أمر الله تعالى باجتناب الخمر وما بعدها عقبّه بالأمر بالطاعة له فيه وفي غيره فقال : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) والطاعة هي امتثال الأمر ، والإنتهاء عن المنهي عنه (وَاحْذَرُوا) هذا أمر منه تعالى بالحذر من المحارم والمناهي قال عطاء : يريد واحذروا سخطي ، والحذر : هو امتناع القادر من الشيء لما فيه من الضرر (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي فإن أعرضتم ولم تعملوا بما آمركم به (فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) معناه : الوعيد والتهديد ، كأنه قال : فاعلموا أنكم قد استحققتم العقاب لتوليكم عما أدى رسولنا إليكم من البلاغ المبين : يعني الأداء الظاهر الواضح.

٩٣ ـ (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ) أي إثم وحرج (فِيما طَعِمُوا) من الحلال ، وهذه اللفظة صالحة للأكل والشرب جميعا (إِذا مَا اتَّقَوْا) شربها بعد التحريم (وَآمَنُوا) بالله (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي داموا على الإيمان (ثُمَّ اتَّقَوْا) بفعل الفرائض (وَأَحْسَنُوا) بفعل النوافل ، وعلى هذا يكون الإتقاء الأول اتقاء الشرب بعد التحريم ، والإتقاء الثاني هو الدوام على ذلك ، والإتقاء الثالث اتقاء جميع المعاصي وضم الإحسان إليه (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي يريد ثوابهم أو إجلالهم وإكرامهم وتبجيلهم.

٩٤ ـ ٩٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خصّ المؤمنين بالذكر وإن كان الكفار أيضا مخاطبين بالشرائع لأنهم القابلون لذلك ، المنتفعون به (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ) أي ليختبرن الله طاعتكم عن معصيتكم (بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) أي بتحريم شيء من الصيد ، ومعنى الإختبار من الله : أن يأمر وينهى ليظهر المعلوم ، ويصح

١٦٠