الوجيز

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ

الوجيز

المؤلف:

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ


المحقق: الدكتور دريد حسن أحمد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

لَكُمْ) أيها المؤمنون صرتم (فِي) أمر هؤلاء (الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) أي فرقتين مختلفتين فمنكم من يكفرهم ، ومنكم من لا يكفرهم (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا) أي ردّهم الى حكم الكفار بما أظهروا من الكفر وقيل معناه : أهلكهم بكفرهم (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا) أي تحكموا بهداية (مَنْ أَضَلَّ اللهُ) أي حكم الله بضلاله وسماه ضالا (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) معناه : ومن نسبه الله إلى الضلالة فلن ينفعه أن يحكم غيره بهدايته.

٨٩ ـ ثم بيّن تعالى أحوال هؤلاء المنافقين فقال (وَدُّوا) أي ود هؤلاء المنافقون الذين اختلفتم في أمرهم ، يعني تمنوا (لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً) فتستوون أنتم وهم ، وتكونون مثلهم كفارا ، ثم نهى تعالى المؤمنين أن يوادوهم فقال : (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ) أي فلا تستنصروهم ، ولا تستنصحوهم ولا تستعينوا بهم في الأمور (حَتَّى يُهاجِرُوا) أي حتى يخرجوا من دار الشرك ويفارقوا أهلها المشركين بالله (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في ابتغاء دينه وهو سبيله فيصيروا عند ذلك مثلكم ، لهم ما لكم ، وعليهم ما عليكم ، وإنما سمي الدين سبيلا وطريقا لأن من يسلكه أداه إلى النعمة ، وساقه إلى الجنة (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي اعرضوا عن الهجرة في سبيل الله (فَخُذُوهُمْ) أيها المؤمنون (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) أين أصبتموهم من أرض الله من الحل والحرم (وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا) أي خليلا (وَلا نَصِيراً) أي ناصرا ينصركم على أعدائكم.

٩٠ ـ لمّا أمر تعالى المؤمنين بقتال الذين لا يهاجرون عن بلاد الشرك ، وان لم يوالوهم استثنى من جملتهم فقال : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) معناه : الا من وصل من هؤلاء إلى قوم بينكم وبينهم موادعة وعهد فدخلوا فيهم بالحلف أو الجوار ، فحكمهم حكم أولئك في حقن دمائهم ، ثم استثنى لهم حالة أخرى فقال : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) أي ضاقت قلوبهم من (أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) يعني من قتالكم وقتال قومهم فلا عليكم ولا عليهم ، وإنما عني به أشجع فإنهم قدموا المدينة في سبعمائة يقودهم مسعود بن دخيلة ، فأخرج إليهم النبي احمال التمر ضيافة وقال : نعم الشيء الهدية أمام الحاجة وقال لهم : ما جاء بكم ـ قالوا : لقرب دارنا منك ، وكرهنا حربك وحرب قومنا ـ يعنون بني ضمرة الذين بينهم وبينهم عهد ـ لقلتنا فيهم ، فجئنا لنوادعك ، فقبل النبي ذلك منهم ووادعهم ، فأمر الله تعالى المسلمين أن لا يتعرضوا لهؤلاء (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ) بتقوية قلوبهم فيجترؤن على قتالكم (فَلَقاتَلُوكُمْ) أي لو فعل ذلك لقاتلوكم (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) يعني هؤلاء الذين أمر بالكفّ عن قتالهم بدخولهم في عهدكم ، أو بمصيرهم اليكم ، حصرت صدورهم أن يقاتلوكم (فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) يعني صالحوكم واستسلموا لكم والسلم : الصلح (فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) يعني إذا سالموكم فلا سبيل لكم إلى نفوسهم وأموالهم.

٩١ ـ ثمّ بيّن تعالى طائفة أخرى منهم فقال : (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ) يعني قوما آخرين غير الذين وصفتهم قبل (يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ) فيظهرون الإسلام (وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) فيظهرون لهم الموافقة في دينهم (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها) المراد بالفتنة هنا الشرك ، أي كلما دعوا إلى الكفر أجابوا ورجعوا إليه ، والفتنة في اللغة الإختبار ، والإركاس : الرد (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ) أيها المؤمنون ، أي فإن لم يعتزل قتالكم هؤلاء الذين يريدون ان يأمنوكم ويأمنوا قومهم (وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ

١٢١

السَّلَمَ) يعني : ولم يستسلموا لكم فيعطوكم المقادة وصالحوكم (وَ) لم (يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ) عن قتالكم (فَخُذُوهُمْ) أي فأسروهم (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي وجدتموهم وأصبتموهم (وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) أي حجة ظاهرة.

٩٢ ـ (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) معناه : ما اذن الله ولا أباح لمؤمن ان يقتل مؤمنا إلّا ان يقتله خطأ والخطأ : هو ان يريد شيئا فيصيب غيره ، مثل ان يرمي إلى غرض أو إلى صيد فيصيب انسانا فيقتله (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي فعليه اعتاق رقبة مؤمنة في ماله خاصة على وجه الكفارة حقا لله ، والرقبة المؤمنة هي البالغة التي آمنت وصلّت وصامت ، فلا يجزي في كفارة القتل الطفل ولا الكافر (وَدِيَةٌ) أي وعليه وعلى عاقلته دية (مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) أي إلى أهل القتيل ، والمسلمة : هي المدفوعة إليهم فتقسم بينهم على حساب الميراث (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) يعني الا أن يتصدق أولياء القتيل بالدية على عاقلة القاتل ويتركوها عليهم (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) معناه : فإن كان القتيل من جملة قوم هم أعداء لكم يناصبونكم الحرب ، وهو في نفسه مؤمن ولم يعلم قاتله انه مؤمن فقتله وهو يظنه مشركا (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي فعلى قاتله تحرير رقبة (مُؤْمِنَةٍ) كفارة ، وليس فيه دية لأن الدية ميراث وأهله كفار لا يرثونه (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي عهد وذمة وليسوا أهل حرب لكم (فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) تلزم عاقلة قاتله (وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي يلزم قاتله كفارة لقتله (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي لم يقدر على عتق الرقبة بأن لا يجد العبد ولا ثمنه (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ) أي فعليه صيام شهرين (مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ) أي ليتوب الله به عليكم ، فتكون التوبة من فعل الله (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) أي لم يزل عليما بكل شيء (حَكِيماً) فيما يأمر به وينهى عنه. وأما الدية الواجبة في قتل الخطأ فمائة من الإبل ان كانت العاقلة من أهل الإبل بلا خلاف ، فأما الدية من الذهب فألف دينار ، ومن الورق عشرة آلاف درهم ودية الخطأ تتأدى في ثلاث سنين على العاقلة وهم : الأخوة وبنو الأخوة ، والأعمام وبنو الأعمام ، وأعمام الأب وأبناؤهم والموالي وليس الزام الدية للعاقلة على سبيل مؤاخذة البريء بالسقيم لأن ذلك ليس بعقوبة ، بل هو حكم شرعي تابع للمصلحة وقد قيل : ان ذلك على سبيل المؤاساة والمعاونة.

٩٣ ـ لمّا بيّن تعالى قتل الخطأ وحكمه عقّبه ببيان قتل العمد وحكمه فقال : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) أي قاصدا إلى قتله ، عالما بإيمانه وحرمة قتله وعصمة دمه ، وقيل معناه : مستحلا لقتله عن عكرمة وابن جريج وجماعة ، وقيل : معنى العمد أن يقتله لدينه ، رواه العياشي عن الصادق (ع) (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً) مقيما (فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ) أبعده من الخير وطرده عنه على وجه العقوبة (وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) ظاهر المعنى. وفي هذه الآية وعيد شديد لمن قتل مؤمنا متعمدا ، حرّم الله به قتل المؤمن وغلّظ فيه ، وقال أبو مجلز في قوله : (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) : فهي جزاؤه ان جازاه.

٩٤ ـ لمّا بيّن تعالى أحكام القتل وأنواعه عقّب ذلك بالأمر بالتثبت والتأني حتى لا يفعل ما يعقب الندامة فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ) أي صرتم وسافرتم (فِي سَبِيلِ اللهِ) للغزو والجهاد (فَتَبَيَّنُوا) أي ميّزوا بين الكافر والمؤمن ، توقفوا وتأنّوا حتى تعلموا من يستحق القتل والمراد : لا تعجلوا في القتل لمن أظهر السلام ظنا منكم بأنه لا حقيقة لذلك (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ) أي حياكم بتحية أهل

١٢٢

الإسلام ، أو من استسلم لكم فلم يقاتلكم مظهرا أنه من أهل ملتكم (لَسْتَ مُؤْمِناً) أي ليس لإيمانكم حقيقة وإنما أسلمت خوفا من القتل ، أو لست بآمن (تَبْتَغُونَ) أي تطلبون (عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) يعني الغنيمة والمال ومتاع الحياة الدنيا الذي لا بقاء له (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) أي في مقدوره فواضل ونعم ورزق ان اطمعتموه فيما أمركم به وقيل معناه : ثواب كثير لمن ترك قتل المؤمن (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) معناه : كما كان هذا الذي قتلتموه مستخفيا في قومه بدينه خوفا على نفسه منهم كنتم أنتم مستخفين بأديانكم من قومكم حذرا على أنفسكم (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) فمنّ الله عليكم باظهار دينه ، واعزاز أهله ، حتى أظهرتم الإسلام بعد ما كنتم تكتمونه من أهل الشرك (فَتَبَيَّنُوا) معناه : تبينوا هذه الفوائد بضمائركم واعرفوها وابتغوها (إِنَّ اللهَ كانَ) أي لم يزل (بِما تَعْمَلُونَ) أي بما تعملونه (خَبِيراً) عليما.

٩٥ ـ ٩٦ ـ لمّا حثّ سبحانه على الجهاد عقّبه بما فيه من الفضل والثواب فقال : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي لا يعتدل المتخلفون عن الجهاد في سبيل الله من أهل الإيمان بالله وبرسوله ، والمؤثرون الدعة والرفاهية على مقاساة الحرب ، والمشقة بلقاء العدو (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) أي إلا أهل الضرر منهم بذهاب أبصارهم وغير ذلك من العلل التي لا سبيل لأهلها إلى الجهاد للضرر الذي بهم (وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) ومنهاج دينه لتكون كلمة الله هي العليا ، والمستفرغون جهدهم ووسعهم في قتال أعداء الله واعزاز دينه (بِأَمْوالِهِمْ) انفاقا لها فيما يوهن كيد الأعداء (وَأَنْفُسِهِمْ) حملا لها على الكفاح في اللقاء (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) معناه : فضيلة ومنزلة (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) معناه : وكلا الفريقين من المجاهدين والقاعدين عن الجهاد وعده الله الجنة قيل : المراد بالكل هنا المجاهد والقاعد من أولي الضرر المعذور (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ) من غير أولي الضرر (أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ) أي منازل بعضها أعلى من بعض من منازل الكرامة وقيل : هي درجات الأعمال كما يقال : الإسلام درجة ، والفقه درجة ، والهجرة درجة (وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) هذا بيان خلوص النعيم بأنه لا يشوبه غم بما كان منه من الذنوب ، بل غفر له ذلك ثم رحمه بإعطائه النعم والكرامات (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لم يزل الله غفارا للذنوب ، صفوحا لعبيده من العقوبة عليها (رَحِيماً) بهم متفضلا عليهم.

وجاء في الحديث : إنّ الله فضّل المجاهدين على القاعدين سبعين درجة ، بين كل درجتين مسيرة سبعين خريفا للفرس الجواد المضمر.

٩٧ ـ ٩٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ) أي تقبض أرواحهم (الْمَلائِكَةُ) ملك الموت أو هو وغيره (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) أي في حالهم فيها ظالمو أنفسهم إذ بخسوها حقها من الثواب ، وأدخلوا عليها العقاب بفعل الكفر (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) أي قالت لهم الملائكة فيم كنتم؟ أي في أي شيء كنتم من دينكم؟ على وجه التقرير لهم أو التوبيخ لفعلهم (قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) يستضعفنا أهل الشرك بالله في أرضنا وبلادنا بكثرة عددهم وقوتهم ، ويمنعوننا من الإيمان بالله واتباع رسوله ، على جهة الإعتذار (قالُوا) أي قالت الملائكة لهم (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) أي فتخرجوا من أرضكم ودوركم ، وتفارقوا من يمنعكم من الإيمان بالله ورسوله إلى أرض يمنعكم أهلها من أهل الشرك فتوحدوه وتعبدوه وتتبعوا رسوله ثم قال تعالى : (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) أي مسكنهم جهنم (وَساءَتْ) أي جهنم (مَصِيراً) لأهلها الذين صاروا إليها ، ثم استثنى من ذلك فقال : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ)

١٢٣

الذين استضعفهم المشركون (مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) وهم الذين يعجزون عن الهجرة لإعسارهم ، وقلة حيلتهم ، وهو قوله : (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) في الخلاص من مكة وقيل معناه : لا يهتدون لسوء معرفتهم بالطريق ، أي لا يعرفون طريقا إلى المدينة (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) معناه : لعلّ الله أن يعفو عنهم لما هم عليه من الفقر ، ويتفضل عليهم بالصفح عنهم في تركهم الهجرة من حيث لم يتركوها اختيارا (وَكانَ اللهُ عَفُوًّا) أي لم يزل الله ذا صفح بفضله عن ذنوب عباده بترك عقوبتهم على معاصيهم (غَفُوراً) أي ساترا عليهم ذنوبهم بعفوه لهم عنها.

١٠٠ ـ ثم قال سبحانه : (وَمَنْ يُهاجِرْ) يعني يفارق أهل الشرك ، ويهرب بدينه من وطنه إلى أرض الإسلام (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في منهاج دين الله ، وطريقه الذي شرعه لخلقه (يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) أي متحولا من الأرض ، وسعة في الرزق (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) أخبر سبحانه ان من خرج من بلده مهاجرا من أرض الشرك ، فارا بدينه إلى الله ورسوله (ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) قبل بلوغه دار الهجرة وأرض الإسلام (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي ثواب عمله ، وجزاء هجرته على الله تعالى (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) أي ساترا على عباده ذنوبهم بالعفو عنهم (رَحِيماً) بهم رفيقا. جاء في معنى الآية عن النبيّ (ص): من فر بدينه من أرض إلى أرض ، وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة ، وكان رفيق ابراهيم ومحمد عليهما‌السلام.

١٠١ ـ (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) معناه : اذا سرتم فيها ، أي سافرتم (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أي حرج واثم (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) معناه : أن تقصروا من عدد الصّلاة فتصلوا الرباعيات ركعتين عن مجاهد وجماعة من المفسرين ، وهو قول أكثر الفقهاء ، وهو مذهب أهل البيت (ع) (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني خفتم فتنة الذين كفروا في أنفسكم أو دينكم ، وقيل معناه : ان خفتم ان يقتلكم الذين كفروا في الصّلاة (إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) أي ظاهري العداوة. والصلاة في السفر كل فريضة ركعتان إلا المغرب فإنها ثلاث ليس فيها تقصير ، تركها رسول الله في السفر والحضر ثلاث ركعات ، وفي هذا الخبر دلالة على ان فرض المسافر مخالف لفرض المقيم ، وقد أجمعت الطائفة على ذلك وأما حد السفر الذي يجب عنده القصر فعندنا ثمانية فراسخ ، وقيل ستة عشر فرسخا وهو مذهب الشافعي.

١٠٢ ـ ثم ابتدأ تعالى ببيان صلاة الخوف في جماعة فقال : (وَإِذا كُنْتَ) يا محمد (فِيهِمْ) يعني في أصحابك الضاربين في الأرض ، الخائفين عدوّهم ان يغزوهم (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) معناه : أقمت لهم الصلاة بأن تؤمهم (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أي من اصحابك الذين أنت فيهم (مَعَكَ) في صلاتك وليكن سائرهم في وجه العدو ، وتقديره : ولتقم طائفة منهم تجاه العدو (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) المأمور بأخذ السلاح الطائفة المصلية مع رسول الله ، يأخذون من السلاح مثل السيف يتقلدون به ، والخنجر يشدونه إلى دروعهم ، وكذلك السكين ونحو ذلك (فَإِذا سَجَدُوا) يعني الطائفة التي تصلي معه ، وفرغوا من سجودهم (فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ) يعني فليصيروا بعد فراغهم من سجودهم مصافين للعدو (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا) وهم الذين كانوا بازاء العدو (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) يعني وليكونوا حذرين من عدوهم ، متأهبين لقتالهم بأخذ الأسلحة ، أي آلات الحرب (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) معناه : تمنى الذين كفروا (لَوْ تَغْفُلُونَ) لو تعتزلون (عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ) وتشتغلون عن

١٢٤

أخذها تأهبا للقتال (وَأَمْتِعَتِكُمْ) أي وعن أمتعتكم التي بها بلاغكم في اسفاركم فتسهون عنها (فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) أي يحملون عليكم حملة واحدة وأنتم متشاغلون بصلاتكم فيصيبون منكم غرة فيقتلونكم ، ويستبيحون عسكركم وما معكم ، والمعنى : لا تتشاغلوا بأجمعكم بالصّلاة عند مواقفة العدو فيتمكن عدوكم من أنفسكم وأسلحتكم ، ولكن أقيموها على ما أمرتم به (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ) معناه : لا حرج عليكم ولا إثم ولا ضيق ان نالكم أذى من مطر وأنتم مواقفوا عدوكم (أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى) يعني اعلّاء أو جرحى (أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) إذا ضعفتم عن حملها ، لكن اذا وضعتموها فاحترسوا منهم (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) لئلا يميلوا عليكم وأنتم غافلون (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) مذلا يبقون فيها أبدا. وفي الآية دلالة على صدق النبي وصحة نبوته ، وذلك انها نزلت والنبي بعسفان ، والمشركون بضجنان ، فتواقفوا فصلى النبي بعسفان ، والمشركون بضجنان ، فتواقفوا فصلى النبي وأصحابه صلاة الظهر بتمام الركوع والسجود ، فهم المشركون بأن يغيروا عليهم فقال بعضهم : ان لهم صلاة أخرى أحب إليهم من هذه ، يعنون صلاة العصر ، فأنزل الله عليه هذه الآية ، فصلى بهم العصر صلاة الخوف.

١٠٣ ـ (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) معناه : فإذا فرغتم من صلاتكم أيها المؤمنون وأنتم مواقفو عدوكم (فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً) أي في حال قيامكم وقعودكم (وَعَلى جُنُوبِكُمْ) أي مضطجعين أي ادعو الله في هذه الأحوال لعلّه ينصركم على عدوكم ، ويظفركم بهم وقيل معناه : فإذا أردتم الصلاة فصلوا قياما إذا كنتم أصحّاء ، وقعودا اذا كنتم مرضى لا تقدرون على القيام ، وعلى جنوبكم اذا لم تقدروا على القعود (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) معناه : فإذا استقررتم في أوطانكم ، وأقمتم في أمصاركم ، فأتموا الصلاة التي اذن لكم في قصرها (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) معناه : ان الصلاة كانت على المؤمنين واجبة مفروضة.

١٠٤ ـ عاد الكلام إلى الحث على الجهاد فقال تعالى (وَلا تَهِنُوا) أي ولا تضعفوا (فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) أي في طلب القوم الذين هم أعداء الله وأعداء المؤمنين من أهل الشرك (إِنْ تَكُونُوا) أيها المؤمنون (تَأْلَمُونَ) مما ينالكم من الجراح (فَإِنَّهُمْ) يعني المشركون (يَأْلَمُونَ) أيضا مما ينالهم منكم من الجراح والأذى (كَما تَأْلَمُونَ) أي مثل ما تألمون أنتم من جراحهم واذاهم (وَتَرْجُونَ) أنتم أيها المؤمنون (مِنَ اللهِ) الظفر عاجلا ، والثواب آجلا على ما ينالكم منهم (ما لا يَرْجُونَ) هم على ما ينالهم منكم (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بمصالح خلقه (حَكِيماً) في تدبيره إياهم ، وتقديره أحوالهم.

١٠٥ ـ ١٠٦ ـ ثم خاطب الله نبيّه فقال : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) يا محمد (الْكِتابَ) يعني القرآن (بِالْحَقِ) الذي يجب لله على عباده (لِتَحْكُمَ) يا محمد بين الناس (بِما أَراكَ اللهُ) أي أعلمك الله في كتابه (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) نهاه ان يكون لمن خان مسلما أو معاهدا في نفسه أو ماله خصيما يدافع من طالبه عنه بحقه الذي خانه فيه ويخاصم ثم قال : (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) أمره بأن يستغفر الله في مخاصمته عن الخائن (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) يصفح عن ذنوب عباده المسلمين ويترك مؤاخذتهم بها ، والخطاب وان توجه إلى النبي فالمراد بذلك أمته.

١٠٧ ـ ١٠٩ ـ ثم نهى تعالى عن المجادلة والدفع عن أهل الخيانة مؤكدا لما تقدم فقال : (وَلا تُجادِلْ) قيل الخطاب

١٢٥

للنبيّ (ص) والمراد قومه ، تقديره : ولا تجادل أيها الإنسان (عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) أي يخونون أنفسهم ويظلمونها ، وإنما قال : يختانون أنفسهم وان خانوا غيرهم لأن ضرر خيانتهم كأنه راجع إليهم ، لا حق بهم ، كما تقول لمن ظلم غيره : ما ظلمت إلا نفسك (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً) أي من كان كثير الخيانة وقد ألفها واعتادها والأثيم : فاعل الإثم (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ) أي يكتمون عن الناس (وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) ومعناه : يتسترون عن الناس بمعاصيهم في أخذ الأموال لئلا يفتضحوا في الناس ، ولا يتسترون من الله وهو مطلع عليهم وقيل معناه : يستحيون من الناس ولا يستحيون من الله (إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) أي يدبرون بالليل قولا لا يرضاه الله (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) قال الحسن : حفيظا لأعمالهم وقال غيره : عالما بأعمالهم ، لا يخفى عليه شيء منها. وفي هذه الآية تقريع بليغ لمن يمنعه حياء الناس وحشمتهم عن ارتكاب القبائح ، ولا يمنعه خشية الله عن ارتكابها ، وهو سبحانه أحق أن يراقب ، وأجدر أن يحذر ، وفيها أيضا توبيخ لمن يعمل قبيحا ثم يقرف غيره به سواء كان ذلك الغير مسلما أو كافر (ها أَنْتُمْ) خطاب للذابين عن السارق (هؤُلاءِ) يعني الذين (جادَلْتُمْ) أي خاصمتم ودافعتم (عَنْهُمْ) عن الخائنين (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي لا مجادل عنهم ، ولا شاهد على براءتهم بين يدي الله يوم القيامة ، وفي هذه الآية النهي عن الدفع عن الظالم والمجادلة عنه (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) أي من يحفظهم ويتولى معونتهم ، يعني لا يكون يوم القيامة عليهم وكيل يقوم بأمرهم ، ويخاصم عنهم.

١١٠ ـ ١١٢ ـ ثمّ بيّن تعالى طريق التلافي والتوبة مما سبق منهم من المعصية فقال : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) أي معصية أو امرا قبيحا (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بارتكاب جريمة وقيل : يعمل سوءا بأن يسرق أو يظلم نفسه بأن يرمي بالسرقة بريئا وقيل : المراد بالسوء الشرك ، وبالظلم ما دون الشرك (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) أي يتوب إليه ، ويطلب منه المغفرة (يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) ان جريمتهم وإن عظمت فإنها غير مانعة من المغفرة (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) ظاهر المعنى ونظيره : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بكسبه (حَكِيماً) في عقابه. ثم بيّن انّ من ارتكب إثما ثم قذف به غيره كيف يعظم عقابه فقال : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً) أي يعمل ذنبا على عمد أو غير عمد (أَوْ إِثْماً) أي ذنبا تعمده وقيل : الخطيئة : الشرك ، والاثم : ما دون الشرك (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) ثم ينسب ذنبه إلى بريء (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً) كذبا عظيما يتحيّر من عظمه (وَإِثْماً مُبِيناً) أي ذنبا ظاهرا بيّنا.

١١٣ ـ ١١٤ ـ ثم بيّن سبحانه لطفه برسوله ، وفضله عليه ، إذ صرف كيدهم عنه ، وعصمه من الميل إليهم ، فقال : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) قيل : فضل الله النبوة ، ورحمته : نصرته إياه بالوحي (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) لقصدت واضمرت جماعة من هؤلاء الذين تقدم ذكرهم (أَنْ يُضِلُّوكَ) المعنى : لولا حفظ الله تعالى لك ، وحراسته إياك ، لهمّت طائفة من المنافقين أن يقتلوك ويهلكوك ومثله : وهموا بما لم ينالوا (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) معناه : ان وبال ما همّوا من الإهلاك والإذلال يعود عليهم حتى استحقّوا العذاب الدائم (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) أي لا يضرّونك بكيدهم ومكرهم شيئا فإن الله حافظك وناصرك ومسددك ومؤيدك (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي القرآن والسنة ، واتصاله بما قبله ان المعنى كيف يضلّونك وهو ينزّل عليك الكتاب ، ويوحي

١٢٦

اليك بالأحكام؟ (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) أي ما لم تعلمه من الشرائع ، وأنباء الرسل الأولين ، وغير ذلك من العلوم (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) قيل فضله عليك منذ خلقك إلى أن بعثك عظيم ، إذ جعلك خاتم النبيين ، وسيد المرسلين ، وأعطاك الشفاعة وغيرها ، ثم قال : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) أي أسرارهم ، ومعنى النجوى : لا يتم إلا بين اثنين فصاعدا (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) فإن في نجواه خيرا (أَوْ مَعْرُوفٍ) يعني بالمعروف أبواب البر (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) أي تأليف بينهم بالمودة قال أمير المؤمنين : إن الله فرض عليكم زكاة جاهكم كما فرض عليكم زكاة ما ملكت أيديكم (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) يعني ما تقدم ذكره (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي لطلب رضاء الله (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ) أي نعطيه (أَجْراً عَظِيماً) أي مثوبة عظيمة في الكثرة والمنزلة والصفة ، أما الكثرة : فلأنه دائم ، وأما المنزلة : فلأنه مقارن للتعظيم والإجلال ، وأما الصفة : فلأنه غير مشوب بما ينغّصه وفي الآية دلالة على ان فاعل المعصية هو الذي يضر بنفسه لما يعود عليه من وبال فعله.

١١٥ ـ لمّا بيّن سبحانه التوبة عقّبه بذكر حال الإصرار فقال : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) أي من يخالف محمدا ويعاده (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) أي ظهر له الحق والإسلام ، وقامت له الحجة ، وصحت الأدلة بثبوت نبوته ورسالته (وَيَتَّبِعْ) طريقا (غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) أي غير طريقهم الذي هو دينهم (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) أي نكله إلى من انتصر به ، واتكل عليه من الأوثان (وَنُصْلِهِ) أي نلزمه دخول (جَهَنَّمَ) عقوبة له على ما اختاره من الضلالة بعد الهدى (وَساءَتْ مَصِيراً) قد مر معناه.

١١٦ ـ قد مرّ تفسيرها فيما تقدم وقوله : (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) أي ذهب عن طريق الحق ، والغرض المطلوب ، وهو النعيم المقيم في الجنة ، بعيدا : لأنّ الذهاب عن نعيم الجنة يكون على مراتب ، أبعدها الشرك بالله ..

١١٧ ـ ١٢١ ـ لمّا ذكر في الآية المتقدمة أهل الشرك وضلالهم ذكر في هذه الآية حالهم وفعالهم فقال : (إِنْ يَدْعُونَ) أي ما يدعون هؤلاء المشركون وما يعبدون (مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله (إِلَّا إِناثاً) إلا أوثانا ، وكانوا يسمّون الأوثان باسم الإناث : اللات ، والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى ، واساف ونائلة (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) أي ماردا شديدا في كفره وعصيانه ، متماديا في شركه وطغيانه (لَعَنَهُ اللهُ) أبعده الله عن الخير بإيجاب الخلود في نار جهنم (وَقالَ) يعني الشيطان لما لعنه الله (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً) أي حظا (مَفْرُوضاً) أي معلوما وقيل : مقدارا محدودا (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) هذا من مقالة إبليس ، يعني لأضلنهم عن الحق والصواب ، واضلاله : دعاؤه إلى الضلال ، وتسبيبه له بحبائله وغروره ووساوسه (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) يعني امنينهم طول البقاء في الدنيا فيؤثرون بذلك الدنيا ونعيمها على الآخرة ، وقيل معناه : أقول لهم : ليس وراءكم بعث ولا نشر ، ولا جنة ولا نار ، ولا ثواب ولا عقاب ، فافعلوا ما شئتم وقيل معناه : امنينهم بالأهواء الباطلة الداعية إلى المعصية ، وأزين لهم شهوات الدنيا وزهراتها ، وأدعو كلّا منهم إلى نوع يميل طبعه إليه فأصده بذلك عن الطاعة ، والقيه في المعصية (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) ليقطعن الآذان من أصلها وهذا شيء قد كان مشركو العرب يفعلونه يجدعون آذان الأنعام (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) معناه : دين الله وأمره ، وأراد بذلك تحريم الحلال ، وتحليل الحرام (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا) أي (مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) أي ظاهرا ، وأيّ خسران

١٢٧

أعظم من استبدال الجنة بالنار ، وأيّ صفقة أخسر من استبدال رضاء الشيطان برضاء الرحمن (يَعِدُهُمْ) الشيطان أن يكون لهم ناصرا (وَيُمَنِّيهِمْ) معناه : يعدهم الفقر إن انفقوا مالهم في أبواب البر ، ويمنيهم طول البقاء في الدنيا ، ودوام النعيم فيها ليؤثروها على الآخرة (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) أي لا يكون لما يعدهم ويمنيهم أصل وحقيقة ، والغرور : إيهام النفع فيما فيه ضرر (أُولئِكَ) اشارة إلى الذين اتخذوا الشيطان وليا من دون الله فاغتروا بغروره ، وتابعوه فيما دعاهم إليه (مَأْواهُمْ) مستقرهم جميعا (جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) أي مخلصا ولا مهربا ولا معدلا.

١٢٢ ـ قد مرّ تفسير صدر الآية في هذه السورة ، وقوله : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) استفهام فيه معنى النفي ، أي لا أحد أصدق من الله قولا فيما أخبره ، ووعدا فيما وعده.

١٢٣ ـ ١٢٤ ـ لمّا ذكر سبحانه الوعد والوعيد قال عقيب ذلك (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ) معناه : ليس الثواب والعقاب بأمانيكم ، وقيل : الخطاب لأهل الشرك من قريش لأنهم قالوا : لا نبعث ولا نعذب (وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) أي ولا بأماني أهل الكتاب في انه لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) يريد بذلك جميع المعاصي صغائرها وكبائرها ، وإن من ارتكب شيئا منها فإن الله سبحانه يجازيه عليها إمّا في الدنيا وإما في الآخرة (وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) معناه : ولا يجد هذا الذي يعمل سوءا من معاصي الله وخلاف أمره وليا يلي أمره ، وينصره ويحامي عنه ، ويدفع عنه ما ينزل به من عقوبة الله ، ولا نصيرا أي ناصرا ينصره وينجيه من عذاب الله وقوله سبحانه : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) وإنما قال : وهو مؤمن ليبين ان الطاعة لا تنفع من دون إيمان (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) وعد الله تعالى بهذه الآية جميع المكلفين من الرجال والنساء إذا عملوا الأعمال الصالحة ، أي الطاعات الخالصة وهم مؤمنون موحدون مصدقون نبيه بأن يدخلهم الجنة ، ويثبتهم فيها ، ولا يبخسهم شيئا مما يستحقونه من الثواب ، وان كان مقدار نقير في الصغر ، وقد قابل سبحانه الوعيد العام في الآية التي قبل هذه الآية بالوعد العام في هذه الآية ليقف المؤمن بين الخوف والرجاء.

١٢٥ ـ ١٢٦ ـ ثمّ بيّن سبحانه من يستحق الوعد الذي ذكره قبل فقال : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً) وهو في صورة الإستفهام والمراد به التقرير ومعناه : من أصوب طريقا ، وأهدى سبيلا؟ أي لا أحد أحسن إعتقادا (مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أي استسلم وجهه ، والمراد بقوله : وجهه هنا : ذاته ونفسه والمعنى : انقاد لله سبحانه بالطاعة ، ولنبيه (ص) بالتصديق (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي فاعل للفعل الحسن الذي أمره الله تعالى ، وقيل معناه : وهو محسن في جميع أقواله وأفعاله ، وقيل : إن المحسن هنا هو الموحّد ، وروي عن النبي (ص) سئل عن الإحسان فقال : أن تعبد الله تعالى كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي اقتدى بدينه وسيرته وطريقته ، يعني ما كان عليه إبراهيم ، وأمر به بنيه من بعده وأوصاهم به من الإقرار بتوحيده وعدله ، وتنزيهه عما لا يليق به (حَنِيفاً) أي مستقيما على منهاجه وطريقه ، وقد مرّ معنى الحنيف في سورة البقرة (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) والمراد بخلته لله انه كان مواليا لأولياء الله ، ومعاديا لأعداء الله ، والمراد بخلة الله تعالى له : نصرته على من أراده بسوء (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وملكا فهو مستغن عن جميع خلقه ، والخلق محتاجون إليه (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) يعني لم يزل سبحانه عالما بجميع ما يفعله عباده ، ومعنى المحيط بالشيء انه العالم به من جميع وجوهه.

١٢٨

١٢٧ ـ ثم عاد كلام الله تعالى الى ذكر النساء والأيتام وقد جرى ذكرهم في أول السورة فقال : (وَيَسْتَفْتُونَكَ) أي يسألونك الفتوى وهو تبيين المشكل من الأحكام (فِي النِّساءِ) ويستخبرونك يا محمد عن الحكم فيهن وعما يجب لهنّ وعليهنّ (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) معناه : قل : يا محمد الله يبين لكم ما سألتم في شأنهن (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) أي ويفتيكم أيضا ما يقرأ عليكم في الكتاب ، أي القرآن وتقديره : وكتابه يفتيكم ، أي يبيّن لكم الفرائض المذكورة (فِي يَتامَى النِّساءِ) أي الصغار (اللَّاتِي) لم يبلغن (لا تُؤْتُونَهُنَ) أي لا تعطونهن (ما كُتِبَ لَهُنَ) إن المعنى : وما يتلى عليكم في توريث صغار النساء ، وهي آيات الفرائض التي في أول السورة ، (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) معناه وترغبون عن نكاحهن ، ولا تؤتونهن نصيبهن من الميراث فيرغب فيهن غيركم ، فقد ظلمتموهن من وجهين (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) معناه : ويفتيكم في المستضعفين من الصبيان الصغار أن تعطوهم حقوقهم (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) أي ويفتيكم في أن تقوموا لليتامى بالقسط في أنفسهم وفي مواريثهم وأموالهم وتصرفاتهم ، وإعطاء كل ذي حق منهم حقه صغيرا كان أو كبيرا ، ذكرا كان أو أنثى (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) أي مهما فعلتم من خير أيها المؤمنون من عدل وبرّ في أمر النساء واليتامى ، وانتهيتم في ذلك إلى أمر الله وطاعته (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) أي لم يزل به عالما ولا يزال كذلك.

١٢٨ ـ (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ) أي علمت (مِنْ بَعْلِها) أي من زوجها (نُشُوزاً) أي استعلاء وارتفاعا بنفسه عنها إلى غيرها (أَوْ إِعْراضاً) يعني انصرافا بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أي لا حرج ولا إثم على كل واحد منهما من الزوج والزوجة (أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) بأن تترك المرأة له يومها ، أو تضع عنه بعض ما يجب لها من نفقة أو كسوة أو غير ذلك لتستعطفه بذلك ، وتستديم المقام في حباله (وَالصُّلْحُ) بترك بعض الحق (خَيْرٌ) من طلب الفرقة بعد الالفة (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) معناه : وأحضرت أنفس كل واحد من الرجل والمرأة الشح بحقه قبل صاحبه ، فشح المرأة يكون بترك حقها من النفقة والكسوة والقسمة وغيرها ، وشح الرجل بإنفاقه على التي لا يريدها ، (وَإِنْ تُحْسِنُوا) خطاب للرجال ، أي وإن تفعلوا الجميل بالصبر على ما تكرهون من النساء (وَتَتَّقُوا) من الجور عليهن في النفقة والكسوة والعشرة بالمعروف (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي هو سبحانه خبير بما يكون منكم في أمرهن ، يحفظه لكم وعليكم حتى يجازيكم بأعمالكم.

١٢٩ ـ ١٣٠ ـ (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) أي لن تقدروا أن تسوّوا بين النساء في المحبة والمودة بالقلب ولو حرصتم على ذلك كل الحرص ، فإن ذلك ليس إليكم ولا تملكونه فلا تكلفونه ولا تؤاخذون به (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) أي فلا تعدلوا بأهوائكم عن من لم تملكوا محبة منهن كل العدول حتى يحملكم ذلك على ان تجوروا على صواحبها في ترك اداء الواجب لهن عليكم (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) أي تذروا التي لا تميلون إليها كالتي هي لا ذات زوج ولا أيّم (وَإِنْ تُصْلِحُوا) يعني في القسمة بين الأزواج ، والتسوية بينهن في النفقة وغير ذلك (وَتَتَّقُوا) الله في أمرهن ، وتتركوا الميل الذي نهاكم الله عنه في تفضيل واحدة على الأخرى (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) يستر عليكم ما مضى منكم من الحيف في ذلك اذا تبتم ورجعتم إلى الإستقامة والتسوية بينهن ، ويرحمكم بترك المؤاخذة على ذلك (وَإِنْ

١٢٩

يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) يعني اذا أبى كل واحد من الزوجين مصلحة الآخر ، بأن تطالب المرأة بنصيبها من القسمة والنفقة والكسوة وحسن العشرة ، ويمتنع الرجل من إجابتها إلى ذلك ويتفرقا حينئذ بالطلاق ، فانه سبحانه يغني كل واحد منهما من سعته ، أي من سعة فضله ورزقه (وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً) أي لم يزل واسع الفضل على العباد ، حكيما فيما يدبرهم به.

١٣١ ـ ١٣٢ ـ ثم ذكر سبحانه بعد اخباره باغناء كل واحد من الزوجين بعد الافتراق من سعة فضله ما يوجب الرغبة اليه في ابتغاء الخير منه فقال : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) إخبارا عن كمال قدرته ، وسعة ملكه ، أي فإن من يملك ما في السماوات وما في الأرض لا يتعذر عليه الإغناء بعد الفرقة ، والايناس بعد الوحشة ، ثم ذكر الوصية بالتقوى فإنّ بها ينال خير الدنيا والآخرة فقال : (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) من اليهود والنصارى وغيرهم (وَإِيَّاكُمْ) أي وأوصيناكم أيها المسلمون في كتابكم (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) وتقديره : بأن اتقوا الله أي اتقوا عقابه باتقاء معاصيه ، ولا تخالفوا أمره ونهيه (وَإِنْ تَكْفُرُوا) أي تجحدوا وصيته إياكم وتخالفوها (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) لا يضره كفرانكم وعصيانكم وهذه إشارة إلى ان امره جميع الأمم بطاعته ، ونهيه إياهم عن معصيته ، ليس استكثارا بهم عن حاجة (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا) أي لم يزل سبحانه غير محتاج إلى خلقه بل الخلائق كلهم محتاجون اليه (حَمِيداً) أي مستوجبا للحمد عليكم بصنائعه الحميدة اليكم ، وآلائه الجميلة لديكم ، فاستديموا ذلك باتقاء معاصيه ، والمسارعة إلى طاعته فيما يأمركم به ثم قال : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي حافظا لجميعه لا يعزب عنه علم شيء منه ، ولا يؤوده حفظه وتدبيره.

١٣٣ ـ ١٣٤ ـ (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) يعني ان يشأ الله يهلككم (أَيُّهَا النَّاسُ) ويفنكم (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) أي بقوم آخرين غيركم ينصرون نبيه ويوازرونه (وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) أي لم يزل سبحانه ولا يزال قادرا على الإبدال والإفناء والإعادة (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي يملك سبحانه الدنيا والآخرة فيطلب المجاهد الثوابين عند الله (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) أي يسمع المسموعات ، ويبصر المبصرات.

١٣٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) أي دائمين على القيام بالعدل (شُهَداءَ لِلَّهِ) أمر الله تعالى عباده بالثبات والدوام على قول الحق ، والشهادة بالصدق تقرّبا اليه ، وطلبا لمرضاته (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي ولو كانت شهادتكم على أنفسكم (أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) أي على والديكم ، وعلى أقرب الناس اليكم فقوموا فيها بالقسط والعدل ، واقيموها على الصحة والحق (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) معناه : ان يكن المشهود عليه غنيا أو فقيرا ، أو المشهود له غنيا أو فقيرا ، فلا يمنعكم ذلك عن قول الحق ، والشهادة بالصدق (فَاللهُ أَوْلى بِهِما) انه أولى بالغني والفقير ، وانظر لهما من سائر الناس (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى) يعني هوى الأنفس في إقامة الشهادة فتشهدوا على إنسان لاحنة بينكم وبينه ، أو وحشة أو عصبية وتمتنعوا الشهادة له لأحد هذه المعاني ، وتشهدوا للإنسان بغير حق لميلكم اليه بحكم صداقة أو قرابة (أَنْ تَعْدِلُوا) أي لان تعدلوا ، يعني لأجل ان تعدلوا في الشهادة (وَإِنْ تَلْوُوا) أي تمطلوا في اداء الشهادة (أَوْ تُعْرِضُوا) عن أدائها (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) معناه : إنه كان عالما ما يكون منكم من إقامة الشهادة أو تحريفها والاعراض عنها.

١٣٠

١٣٦ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) معناه : يا أيها الذين آمنوا في الظاهر بالاقرار بالله ورسوله آمنوا في الباطن ليوافق باطنكم ظاهركم ، ويكون الخطاب للمنافقين الذين كانوا يظهرون خلاف ما يبطنون (وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) وهو القرآن (وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) هو التوراة والإنجيل (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ) أي يجحده أو يشبهه بخلقه ، أو يرد أمره ونهيه (وَمَلائِكَتِهِ) أي ينفيهم أو ينزلهم منزلة لا تليق بهم (وَكُتُبِهِ) فيجحدها (وَرَسُولِهِ) فينكرهم (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي يوم القيامة (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) أي ذهب عن الحق وبعد عن قصد السبيل ذهابا بعيدا. قال الحسن : الضلال البعيد هو ما لا ائتلاف له.

١٣٧ ـ ١٣٩ ـ ثم قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) قيل في معناه أقوال (أحدها) انه عني به الذين آمنوا بموسى ثم كفروا بعبادة العجل وغير ذلك (ثُمَّ آمَنُوا) يعني النصارى بعيسى (ثُمَّ كَفَرُوا) به (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) بمحمد (ص) عن قتادة (وثانيها) انه عني به الذين آمنوا بموسى ثم كفروا بعد موسى ، ثم آمنوا بعزيز ، ثم كفروا بعيسى ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد (ص) عن الزجاج والفراء (وثالثها) انه عني به طائفة من أهل الكتاب أرادوا تشكيك نفر من أصحاب رسول الله فكانوا يظهرون الإيمان بحضرتهم ثم يقولون : قد عرضت لنا شبهة أخرى فيكفرون ، ثم ازدادوا كفرا بالثبات عليه إلى الموت ، عن الحسن ، وذلك معنى قوله تعالى : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) باظهارهم الإيمان ، فلو كانت بواطنهم كظواهرهم في الإيمان لما كفروا فيما بعد (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) معناه : ولا يهديهم إلى سبيل الجنة ثم قال : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ) أي اخبرهم يا محمد (بِأَنَّ لَهُمْ) في الآخرة (عَذاباً أَلِيماً) أي وجيعا ان ماتوا على كفرهم ونفاقهم ثم وصف هؤلاء المنافقين فقال : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ) أي مشركي العرب (أَوْلِياءَ) أي ناصرين ومعينين واخلاء (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي من غيرهم (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) أي يطلبون عندهم القوة والمنعة باتخاذهم هؤلاء أولياء. ثم أخبر سبحانه ان العزة والمنعة له فقال : (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) يريد سبحانه انهم لو آمنوا مخلصين له ، وطلبوا الإعتزاز بالله تعالى وبدينه ورسوله والمؤمنين لكان أولى بهم من الإعتزاز بالمشركين ، فان العزة جميعا لله سبحانه ، يعز من يشاء ، ويذل من يشاء.

١٤٠ ـ لمّا تقدّم ذكر المنافقين وموالاتهم الكفار ، عقّب ذلك بالنهي عن مجالستهم ومخالطتهم فقال : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) أي في القرآن (أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) أي يكفر بها المشركون والمنافقون ويستهزءون بها (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ) أي مع هؤلاء المستهزئين الكافرين (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) أي حتى يأخذوا في حديث غير الاستهزاء بالدين وقيل : حتى يرجعوا إلى الإيمان ويتركوا الكفر والاستهزاء (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) يعني انكم اذا جالستموهم على الخوض في كتاب الله ، والهزء به ، فأنتم مثلهم ، وإنما حكم بأنهم مثلهم لأنهم لم ينكروا عليهم مع قدرتهم على الإنكار ، ولم يظهروا الكراهة لذلك ، ومتى كانوا راضين بالكفر كانوا كفارا ، لأن الرضا بالكفر كفر. وفي الآية دلالة على وجوب إنكار المنكر مع القدرة وزوال العذر ، وان من ترك ذلك مع القدرة عليه فهو مخطىء آثم ، وفيها أيضا دلالة على تحريم مجالسة الفساق والمبتدعين من أي جنس كانوا (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) أي ان الله يجمع الفريقين من أهل الكفر والنفاق في القيامة في النار ، والعقوبة فيها ، كما اتفقوا في الدنيا على عدواة

١٣١

المؤمنين والمظاهرة عليهم.

١٤١ ـ قد وصف الله سبحانه المنافقين والكافرين فقال : (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) أي ينتظرون بكم أيها المؤمنون ، لأنهم كانوا يقولون : سيهلك محمد (ص) وأصحابه فنستريح منهم ، ويظهر قومنا وديننا (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ) أي فان اتفق لكم فتح وظفر على الأعداء (قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) نجاهد عدوكم ، ونغزوهم معكم ، فاعطونا نصيبنا من الغنيمة فقد شهدنا القتال (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) أي حظ بإصابتهم من المؤمنين (قالُوا) أي قال المنافقون للكافرين (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) أي ألم نغلبكم على رأيكم بالموالاة لكم؟ ونمنعكم من الدخول في جملة المؤمنين وقيل معناه : ألم نبيّن لكم انا على ما أنتم عليه؟ أي ألم نضمكم إلى أنفسنا ، ونطلعكم على أسرار محمد (ص) وأصحابه ، ونكتب اليكم بأخبارهم حتى غلبتم عليهم؟ فاعرفوا لنا هذا الحق عليكم (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ندفع عنكم صولة المؤمنين بتخذيلنا إياهم عنكم ، وكوننا عيونا لكم حتى انصرفوا عنكم وغلبتموهم (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) هذا اخبار منه سبحانه عن نفسه بأنه الذي يحكم بين الخلائق يوم القيامة ، ويفصل بينهم بالحق (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) ان المراد لن يجعل الله لليهود على المؤمنين نصرا ولا ظهورا عن ابن عباس.

١٤٢ ـ ١٤٣ ـ ثم بيّن سبحانه أفعالهم القبيحة فقال (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) قد ذكرنا معناه في أول البقرة وعلى الجملة خداع المنافقين لله إظهارهم الإيمان الذي حقنوا به دماءهم وأموالهم ومعنى خداع الله إياهم أن يجازيهم على خداعهم كما قلناه في قوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) أي متثاقلين (يُراؤُنَ النَّاسَ) يعني انهم لا يعملون شيئا من أعمال العبادات على وجه القربة إلى الله ، وإنما يفعلون ذلك إبقاء على أنفسهم ، وحذرا من القتل ، وسلب الأموال ، وإذا رآهم المسلمون صلّوا ليروهم انهم يدينون بدينهم ، وان لم يرهم أحد لم يصلوا (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) أي ذكرا لله قليلا ومعناه : لا يذكرون الله عن نية خالصة ، ولو ذكروه مخلصين لكان كثيرا ، وإنما وصف بالقلة لأنه لغير الله (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ) أي مرددين بين الكفر والإيمان وصفهم سبحانه بالحيرة في دينهم ، وانهم لا يرجعون إلى صحة نية لا مع المؤمنين على بصيرة ولا مع الكافرين على جهالة (لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) أي لا مع هؤلاء في الحقيقة ولا مع هؤلاء ، يظهرون الإيمان كما يظهره المؤمنون ، ويضمرون الكفر كما يضمره المشركون ، فلم يكونوا مع أحد الفريقين في الحقيقة (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) أي طريقا ومذهبا.

١٤٤ ـ ١٤٦ ـ ثمّ نهى سبحانه عن موالاة المنافقين فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) أي أنصارا (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) فتكونوا مثلهم (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) أي حجة ظاهرة ، وهو استفهام يراد به التقرير ، وفيه دلالة على أن الله لا يعاقب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه والإستحقاق ، وانه لا يعاقب الأطفال بذنوب الآباء (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) فإن للنار طبقات ودركات ، كما ان للجنة درجات ، فيكون المنافق على أسفل طبقة منها لقبح عمله عن ابن كثير وأبي عبيدة وجماعة ، وقيل : ان المنافقين في توابيت من حديد مغلقة عليهم في النار ، عن

١٣٢

عبد الله بن مسعود وابن عباس ، وقيل : ان الادراك يجوز أن يكون منازل بعضها أسفل من بعض بالمسافة ، ويجوز أن يكون ذلك اخبارا عن بلوغ الغاية في العقاب كما يقال : السلطان بلّغ فلانا الحضيض ، وبلّغ فلانا العرش ، يريدون بذلك انحطاط المنزلة وعلوّها لا المسافة ، عن أبي القاسم البلخي (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) ولا تجديا محمد لهؤلاء المنافقين ناصر ينصرهم فينقذهم من عذاب الله إذ جعلهم في أسفل طبقة من النار ، ثم استثنى تعالى فقال : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) من نفاقهم (وَأَصْلَحُوا) نياتهم (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) أي تبرأوا من الآلهة والأنداد ، وقيل : طلبوا بإيمانهم رحمة الله ورضاه مخلصين (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) أي فإنهم إذا فعلوا ذلك يكونون في الجنة مع المؤمنين ، ومحل الكرامة (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) سوف كلمة ترجئة وعدة واطماع ، وهي من الله إيجاب لأنه أكرم الأكرمين ووعد الكريم إنجاز.

١٤٧ ـ (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ) ما يصنع الله بعذابكم. والمعنى : لا حاجة لله إلى عذابكم وجعلكم في الدرك الأسفل من جهنم ، لأنه لا يجتلب بعذابكم نفعا ، ولا يدفع به عن نفسه ضررا (إِنْ شَكَرْتُمْ) أي أديتم الحق الواجب لله عليكم ، وشكرتموه على نعمه (وَآمَنْتُمْ) به وبرسوله (وَكانَ اللهُ شاكِراً) يعني انه سبحانه مجازيا لكم على الشكر (عَلِيماً) بما يستحقونه من الثواب على الطاعات.

١٤٨ ـ ١٤٩ ـ (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) لا يحب الله الشتم في الإنتصار (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) فلا بأس له أن ينتصر ممن ظلمه بما يجوز الإنتصار به في الدين (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً) لما يجهر به من سوء القول (عَلِيماً) بصدق الصادق ، وكذب الكاذب ، فيجازي كلا بعمله. وفيها ترغيب في مكارم الأخلاق ونهي عن كشف عيوب الخلق ، واخبار بتنزيه ذاته تعالى عن إرادة القبائح (إِنْ تُبْدُوا) أي تظهروا (خَيْراً) أي حسنا جميلا من القول لمن أحسن إليكم شكرا على انعامه عليكم (أَوْ تُخْفُوهُ) أي تتركوا إظهاره (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) معناه : أو تصفحوا عمّن أساء إليكم مع القدرة على الإنتقام منه (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا) أي صفوحا عن خلقه ، يصفح لهم عن معاصيهم (قَدِيراً) أي قادرا على الإنتقام منهم ، وهذا حثّ منه سبحانه منه لخلقه على العفو عن المسيء مع القدرة على الإنتقام والمكافأة ، فإنه تعالى مع كمال قدرته يعفو عنهم ذنوبا أكثر من ذنب من يسيء إليهم.

١٥٠ ـ ١٥٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ) من اليهود والنصارى (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) أي يكذبوا رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه وأوحى إليهم ، وذلك معنى إرادتهم التفريق بين الله ورسله (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) كما فعل اليهود صدقوا بموسى ومن تقدمه من الأنبياء وكذّبوا بعيسى ومحمد ، وكما فعلت النصارى صدقوا عيسى ومن تقدمه من الأنبياء وكذبوا بمحمد (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) أي طريقا إلى الضلالة التي أحدثوها (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) أي هؤلاء الذين أخبرنا عنهم بأنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض هم الكافرون حقيقة فاستيقنوا ذلك (وَأَعْتَدْنا) أي أعددنا وهيأنا (لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) يهينهم ويذلهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي صدقوا الله ووحدوه ، وأقروا بنبوة رسله (وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) بل آمنوا بجميعهم (أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ) أي سنعطيهم أجورهم ، وسمى الله الثواب أجرا دلالة على انه مستحق ، أي نعطيهم

١٣٣

ثوابهم الذي إستحقوه على إيمانهم بالله ورسله (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي لم يزل غفورا لمن هذه صفتهم ما سلف لهم من المعاصي والآثام ، رحيما متفضلا عليهم بأنواع الأنعام.

١٥٣ ـ ١٥٤ ـ لمّا أنكر على اليهود التفريق بين الرسل في الإيمان ، عقّبه بالإنكار عليهم في طلبهم المحالات مع ظهور الآيات والمعجزات فقال : (يَسْئَلُكَ) يا محمد (أَهْلُ الْكِتابِ) يعني اليهود (أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) واختلف في معناه : (أحدها) انهم سألوه أن ينزل على رجال منهم بأعيانهم كتبا يأمرهم الله تعالى فيها بتصديقه واتباعه (وثانيها) انهم سألوا أن ينزل عليهم كتابا خاصا لهم وقال الحسن : إنما سألوا ذلك للتعنت والتحكم في طلب المعجزات لا لظهور الحق ، ولو سألوه ذلك استرشادا لا عنادا لأعطاهم الله ذلك (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) أي لا يعظمن عليك يا محمد مسألتهم إياك إنزال الكتب عليهم من السماء ، فإنهم سألوا موسى ـ يعني اليهود ـ أعظم من ذلك بعد ما أتاهم بالآيات الظاهرة ، والمعجزات القاهرة التي يكفي الواحد منها في معرفة صدقه ، وصحة نبوته فلم يقنعهم ذلك (فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) أي معاينة (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) أنفسهم بهذا القول ، وقد ذكرنا قصة هؤلاء في سورة البقرة عند قوله : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) الآية (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) أي عبدوه واتخذوه إلها (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) أي الحجج الباهرات ، قد دل الله بهذا على جهل القوم وعنادهم (فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) مع عظم جريمتهم وخيانتهم ، وقد أخبر الله بهذا عن سعة رحمته ومغفرته ، وتمام نعمته ، وانه لا جريمة تضيق عنها رحمته ، ولا خيانة تقصر عنها مغفرته (وَآتَيْنا مُوسى) أي أعطيناه (سُلْطاناً مُبِيناً) أي حجة ظاهرة تبين عن صدقه وصحة نبوته (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ) أي الجبل لما امتنعوا من العمل بما في التوراة ، وقيل ما جاءهم به موسى (بِمِيثاقِهِمْ) أي بما أعطوا الله سبحانه من العهد ليعملن بما في التوراة وقيل معناه : ورفعنا الجبل فوقهم بنقضهم ميثاقهم الذي أخذ عليهم بأن يعملوا بما في التوراة ، وانما نقضوه بعبادة العجل وغيرها (وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) يعني باب حطة ، وقد مر بيانه هناك (وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) أي لا تتجاوزوا في يوم السبت ما أبيح لكم إلى ما حرم عليكم ، قال قتادة : أمرهم الله ان لا يأكلوا الحيتان يوم السبت وأجاز لهم ما عداه (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) أي عهدا وثيقا وكيدا بأن يأتمروا بأوامره ، وينتهوا عن مناهيه وزواجره.

١٥٥ ـ ١٥٨ ـ (فَبِما نَقْضِهِمْ) أي فبنقض هؤلاء الذين تقدم ذكرهم ووصفهم (مِيثاقَهُمْ) أي عهودهم التي عاهدوا الله عليها ان يعملوا بها في التوراة (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ) أي جحودهم بإعلام الله وحججه وأدلته التي احتجّ بها عليهم في صدق أنبيائه ورسله (وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ) بعد قيام الحجة عليهم بصدقهم (بِغَيْرِ حَقٍ) أي بغير استحقاق منهم لذلك (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ) مضى تفسيره في سورة البقرة (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) قد شرحنا معنى الختم والطبع عند قوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) المعنى : إلّا جمعا قليلا (وَبِكُفْرِهِمْ) أي بجحود هؤلاء لعيسى (وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) أي أعظم كذب وأشنعه (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) يعني قول اليهود : انا قتلنا عيسى بن مريم ، رسول الله حكاه الله تعالى عنهم ، أي رسول الله في زعمه (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) بعث يهوذا رجلا من أصحابه يقتله فدخل فلم يره ، فألقى الله عليه شبه عيسى فلما خرج على أصحابه قتلوه وصلبوه (وَإِنَّ الَّذِينَ

١٣٤

اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) قيل يعني بذلك علماءهم علموا أنه غير مقتول (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) أي لم يكن لهم بمن قتلوه علم ، لكنهم اتبعوا ظنهم فقتلوه ظنا منهم أنه عيسى ولم يكن (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) ان الله تعالى نفى عن عيسى القتل على وجه التحقيق واليقين (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) يعني بل رفع الله عيسى إليه ولم يصلبوه ولم يقتلوه (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) معناه : لم يزل الله سبحانه منتقما من أعدائه ، حكيما في أفعاله وتقديراته ، فاحذروا أيها السائلون محمدا أن ينزل عليكم كتابا من السماء حلول عقوبة بكم كما حل بأوائلكم في تكذيبهم رسله. عن ابن عباس ، وما مرّ في تفسير هذه الآية من ان الله القى شبه عيسى على غيره فان ذلك من مقدور الله بلا خلاف بين المسلمين فيه ، ويجوز ان يفعله الله سبحانه على وجه التغليظ للمحنة ، والتشديد في التكليف ، ومعجزا للمسيح.

١٥٩ ـ ثم أخبر تعالى انه لا يبقى أحد منهم إلّا ويؤمن به فقال : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) ان كلا الضميرين يعودان إلى المسيح ، أي ليس يبقى أحد من أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلّا ويؤمنن بالمسيح قبل موت المسيح اذا أنزله الله إلى الأرض وقت خروج المهدي في آخر الزمان لقتل الدجال ، فتصير الملل كلها ملة واحدة وهي ملة الإسلام الحنيفية دين إبراهيم (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) يعني عيسى يشهد عليهم بأنه قد بلّغ رسالات ربه ، وأقرّ على نفسه بالعبودية ، وانه لم يدعهم إلى أن يتخذوه إلها.

١٦٠ ـ ١٦١ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدم بقوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) أي من اليهود معناه : فبما ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي التي تقدّم ذكرها (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ) ولكنّه لما طال الكلام اجمل في قوله فبظلم وأخبر انه حرّم على اليهود الذين نقضوا ميثاقهم الذي واثقوا الله عليه ، وكفروا بآياته ، وقتلوا أنبياءه وقالوا على مريم بهتانا عظيما وفعلوا ما وصفه الله .. طيبات من المآكل وغيرها (أُحِلَّتْ لَهُمْ) أي كانت حلالا لهم قبل ذلك ، فلما فعلوا ما فعلوا اقتضت المصلحة تحريم هذه الأشياء عليهم عقوبة لهم على ظلمهم (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) أي وبمنعهم عباد الله عن دينه وسبيله التي شرعها لعباده (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا) أي ما فضل على رؤوس أموالهم بتأخيرهم له عن محله إلى أجل آخر (وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) أي عن الربا (وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) أي بغير استحقاق ولا استيجاب ، وهو ما كانوا يأخذونه من الرشى في الأحكام (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ) أي هيّأنا يوم القيامة لمن جحد الله أو الرسل من هؤلاء اليهود (عَذاباً أَلِيماً) أي مؤلما موجعا.

١٦٢ ـ ثم ذكر سبحانه مؤمني أهل التوراة فقال : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) والدين ، وذلك ان عبد الله بن سلام وأصحابه قالوا للنبي (ص) : ان اليهود لتعلم ان الذي جئت به حق ، وانك لعندهم مكتوب في التوراة (مِنْهُمْ) أي من اليهود يعني ابن سلام وأصحابه من علماء اليهود (وَالْمُؤْمِنُونَ) يعني أصحاب النبي من غير أهل الكتاب (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يا محمد من القرآن والشرائع انه حق (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) من الكتب على الأنبياء والرسل (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) والمعنى : والذين يؤدون الصلاة بشرائطها (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي والمعطون زكاة أموالهم (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ) بأنه واحد لا شريك له (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وبالبعث الذي فيه جزاء الأعمال (أُولئِكَ) أي هؤلاء الذين وصفهم الله (سَنُؤْتِيهِمْ) أي سنعطيهم (أَجْراً) أي ثوابا وجزاء على ما كان منهم من

١٣٥

طاعة الله واتباع أمره (عَظِيماً) أي جزيلا ، وهو الخلود في الجنة.

١٦٣ ـ ثم خاطب سبحانه نبيّه بقوله : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) يا محمد ، قدّمه في الذكر وان تأخرت نبوته لتقدمه في الفضل (كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) وقدم نوحا لأنه أبو البشر كما قال : (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) (وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) أي وأوحينا إلى النبيين من بعد نوح (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) أعاد ذكر هؤلاء بعد ذكر النبيين تعظيما لأمرهم ، وتفخيما لشأنهم (وَالْأَسْباطِ) وهم أولاد يعقوب وقيل : ان الأسباط في ولد إسحاق كالقبائل في ولد إسماعيل ، وقد بعث منهم عدة رسل كيوسف وداود وسليمان وموسى وعيسى ، أراد بالوحي إليهم الوحي إلى الأنبياء منهم ، كما تقول : أرسلت إلى بني تميم اذا أرسلت إلى وجوههم (وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ) وقدّم عيسى على أنبياء كانوا قبله لشدة العناية بأمره لغلو اليهود في الطعن فيه ، والواو لا يوجب الترتيب (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) أي كتابا يسمى زبورا واشتهر به ، كما اشتهر كتاب موسى بالتوراة ، وكتاب عيسى بالإنجيل.

١٦٤ ـ ١٦٥ ـ ثم اجمل ذكر الرسل بعد تسمية بعضهم فقال : (وَرُسُلاً) أي ورسلا آخرين (قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ) أي ما حكينا لك أخبارهم ، وعرفناك شأنهم وأمورهم (مِنْ قَبْلُ) قصّهم عليه من قبل هؤلاء بمكة في سورة الأنعام وفي غيرها لأن هذه السورة مدنية (وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) هذا يدل على ان الله سبحانه أرسل رسلا كثيرة لم يذكرهم في القرآن ، وانما قصّ بعضهم على النبي لفضيلتهم على من لم يقصهم عليه (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) فائدته انه سبحانه كلّم موسى بلا واسطة ، إبانة له بذلك من ساير الأنبياء لأن جميعهم كلمهم الله سبحانه بواسطة الوحي وروي ان رسول الله (ص) لما قرأ الآية التي قبل هذه على الناس قالت اليهود فيما بينهم : ذكر محمد (ص) النبيين ولم يبين لنا أمر موسى ، فلما نزلت هذه الآية وقرأها عليهم قالوا : ان محمدا قد ذكره وفضله بالكلام عليهم (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ) بالجنة والثواب لمن آمن وأطاع (وَمُنْذِرِينَ) بالنار والعقاب لمن كفر وعصى (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) فيقولوا : لم ترسل إلينا رسولا ، ولو أرسلت لآمنا بك ، كما أخبر سبحانه في آية أخرى بقوله : (لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) أي مقتدرا على الإنتقام ممن يعصيه ويكفر به (حَكِيماً) فيما أمر به عباده ، وفي جميع أفعاله.

١٦٦ ـ ثم قال سبحانه بعد إنكارهم وجحودهم (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) معناه : ان لم يشهد لك هؤلاء بالنبوة فالله يشهد لك بذلك (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) معناه : انزل القرآن وهو عالم بأنك موضع لإنزاله عليك لقيامك فيه بالحق ، ودعائك الناس إليه (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) بأنك رسول الله ، وان القرآن نزل من عند الله (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) معناه : ان شهادة الله تكفي ولا يحتاج معها إلى شهادة.

١٦٧ ـ ١٦٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بأنفسهم (وَصَدُّوا) غيرهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن الدين الذي بعثك الله به إلى خلقه (قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً) يعني جاوزوا عن قصد الطريق جوازا شديدا ، وزالوا عن المحجة التي هي دين الله الذي ارتضاه لعباده وبعثك به إلى خلقه زوالا بعيدا عن الرشاد (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) جحدوا رسالة محمد (وَظَلَمُوا) محمدا بتكذيبهم إياه ، ومقامهم على الكفر على علم منهم بظلمهم أولياء الله حسدا لهم وبغيا عليهم (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) أي لم يكن الله ليعفو لهم عن ذنوبهم بترك عقابهم عليها (وَلا

١٣٦

لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) أي لا يهديهم إلى طريق الجنة ، لأن الهداية إلى طريق الإيمان قد سبقت وعم الله بها جميع المكلفين (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) معناه : لكن يهديهم طريق جهنم جزاء لهم على ما فعلوه من الكفر والظلم (خالِدِينَ فِيها) أي مقيمين فيها (أَبَداً وَكانَ ذلِكَ) أي تخليد هؤلاء الذين وصفهم في جهنم (عَلَى اللهِ يَسِيراً) لأنه اذا أراد ذلك لم يقدر على الإمتناع منه أحد.

١٧٠ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب لجميع المكلفين (قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ) يعني محمدا (ص) (بِالْحَقِ) أي بالدين الذين ارتضاه الله لعباده (مِنْ رَبِّكُمْ) أي من عند ربكم (فَآمِنُوا) أي صدقوه وصدّقوا ما جاءكم به من عند ربكم (خَيْراً لَكُمْ) مما أنتم عليه من الجحود والتكذيب (وَإِنْ تَكْفُرُوا) أي تكذبوه فيما جاءكم به من عند الله (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي فإن ضرر ذلك يعود عليكم دون الله (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بما أنتم صائرون إليه من طاعته أو معصيته (حَكِيماً) في أمره ونهيه إياكم ، وتدبيره فيكم وفي غيركم.

١٧١ ـ ثم عاد سبحانه إلى حجاج أهل الكتاب فقال : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) خطاب لليهود والنصارى لأن النصارى غلت في المسيح فقالت : هو إبن الله ، وبعضهم قال : هو الله ، وبعضهم قال : هو ثالث ثلاثة : الأب والإبن وروح القدس ، واليهود غلت فيه حتى قالوا : ولد لغير رشدة ، فالغلو لازم للفريقين (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) أي لا تفرطوا في دينكم ، ولا تجاوزوا الحق فيه (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) أي قولوا : انه جلّ جلاله واحد لا شريك له ، ولا صاحبة ولا ولد ، ولا تقولوا في عيسى : انه إبن الله أو شبهه فإنه قول بغير الحق (إِنَّمَا الْمَسِيحُ) وقد ذكرنا معناه وقيل : سمي بذلك لأنه كان يمسح الأرض مشيا (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) هذا بيان لقوله : المسيح ، يعني انه ابن مريم لا ابن الله كما يزعمه النصارى ، ولا ابن أب كما تزعمه اليهود (رَسُولُ اللهِ) أرسله الله إلى الخلق لا كما زعمت الفرقتان المبطلتان (وَكَلِمَتُهُ) يعني أنه حصل بكلمته التي هي قوله : كن (أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) خلقها في رحمها (وَرُوحٌ مِنْهُ) معناه : إنسان أحياه الله بتكوينه بلا واسطة من جماع أو نطفة كما جرت العادة بذلك (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أمرهم الله بتصديقه ، والإقرار بوحدانيته ، وتصديق رسله فيما جاؤوا به من عنده ، وفيما أخبروهم به من أن الله سبحانه لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) هذا خطاب للنصارى ، ومعناه : لا تقولوا الله ثلاثة أب وابن وروح القدس (انْتَهُوا) عن هذه المقالة الشنيعة ، أي امتنعوا عنها (خَيْراً لَكُمْ) أي ائتوا بالإنتهاء عن قولكم خيرا لكم مما تقولون (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) أي ليس كما تقولون : إنه ثالث ثلاثة ولا صاحبة له ، ولا شريك له. ثم نزّه سبحانه نفسه عما يقوله المبطلون فقال : (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) ولفظة سبحانه تفيد التنزيه عما لا يليق به ، أي هو منزه عن ان يكون له ولد (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وملكا وخلقا وهو يملكهما ، وله التصرف فيهما وفيما بينهما ، ومن جملة ذلك عيسى وأمه ، فكيف يكون المملوك والمخلوق إبنا للمالك والخالق (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) معناه : وكفى بالله حافظا لأعمال العباد حتى يجازيهم عليها.

١٧٢ ـ ١٧٣ ـ (لَنْ يَسْتَنْكِفَ) أي لن يأنف ولم يمتنع (الْمَسِيحُ) يعني عيسى (ع) من (أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) أي ولا الملائكة المقربون يأنفون ويستكبرون عن الإقرار بعبوديته ، والإذعان له بذلك ، والمقربون : الذين قربهم تعالى ، ورفع منازلهم على غيرهم

١٣٧

من خلقه (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ) أي من يأنف عن عبادته (وَيَسْتَكْبِرْ) أي يتعظم بترك الإذعان لطاعته (فَسَيَحْشُرُهُمْ) أي فسيبعثهم (إِلَيْهِ) يوم القيامة (جَمِيعاً) يجمعهم لموعدهم عنده ، ومعنى قوله : إليه : أي إلى الموضع الذي لا يملك التصرف فيه سواه (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) ويؤتيهم جزاء أعمالهم (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي يزيدهم على ما كان وعدهم به من الجزاء على أعمالهم الحسنة ، والثواب عليها ، من الفضل والزيادة ما لم يعرفهم مبلغه ، لأنه وعد على الحسنة عشر أمثالها من الثواب إلى سبعين ضعفا ، وإلى سبعمائة ، وإلى الأضعاف الكثيرة ، والزيادة تفضّل من الله تعالى عليهم (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا) أي أنفوا عن الإقرار بوحدانيته (وَاسْتَكْبَرُوا) أي تعظموا عن الإذعان له بالطاعة والعبودية (فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي مؤلما موجعا (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي ولا يجد المستنكفون المستكبرون لأنفسهم وليا ينجيهم من عذابه ، وناصرا ينقذهم من عقابه.

١٧٤ ـ ١٧٥ ـ لمّا فصّل الله ذكر الأحكام التي يجب العمل بها ذكر البرهان بعد ذلك ليكون الإنسان على ثقة ويقين فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) وهو خطاب للمكلفين من ساير الملل الذين قصّ قصصهم في هذه السورة (قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي أتاكم حجة من الله يبرهن لكم عن صحة ما أمركم به وهو محمد لما معه من المعجزات القاهرة الشاهدة بصدقه وقيل : هو القرآن (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ) معه (نُوراً مُبِيناً) يبيّن لكم الحجة الواضحة ، ويهديكم إلى ما فيه النجاة لكم من عذابه ، وأليم عقابه ، وذلك النور هو القرآن (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ) أي صدقوا بوحدانية الله ، واعترفوا ببعث محمد (ص) (وَاعْتَصَمُوا بِهِ) أي تمسكوا بالنور الذي أنزله على نبيه (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ) أي نعمة منه هي الجنة (وَفَضْلٍ) يعني ما يبسط لهم من الكرامة وتضعيف الحسنات ، وما يزاد لهم من النعم على ما يستحقونه (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي يوفقهم لإصابة فضله الذي يتفضل به على أوليائه ، ويسددهم لسلوك منهج من أنعم عليه من أهل طاعته ، واقتفاء آثارهم ، والإهتداء بهديهم ، والإستنان بسنتهم ، واتباع دينهم وهو الصراط المستقيم الذي ارتضاه الله منهجا لعباده.

١٧٦ ـ لمّا بيّن سبحانه في أول السورة بعض سهام الفرائض ختم السورة ببيان ما بقي من ذلك فقال : (يَسْتَفْتُونَكَ) يا محمد أي يطلبون منك الفتيا في ميراث الكلالة (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ) أي يبين لكم الحكم (فِي الْكَلالَةِ) وهو إسم للأخوة والأخوات (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) يعني ليس له ولد ذكر أو أنثى (وَلَهُ أُخْتٌ) يعني وللميت أخت لأبيه وأمه ، أو لأبيه ، لأن ذكر أولاد الأم قد سبق في أول السورة (فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) عنى به أن الأخت إذا كانت الميتة ولها أخ من أب وأم أو من أب فالمال كله له بلا خلاف إذا لم يكن هناك ولد ولا والد (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ) يعني إن كانت الأختان أثنتين (فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) الأخ أو الأخت من التركة (وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً) أي اخوة وأخوات مجتمعين لأب وأم أو لأب (فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وفي قوله سبحانه : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) ، دلالة على أن الأخ أو الأخت لا يرثان مع البنت ، لأنه سبحانه شرط في ميراث الأخ والأخت عدم الولد ، والولد يقع على الإبن والبنت بلا خلاف فيه بين أهل اللغة ، وما روي من الخبر

١٣٨

في أن الأخوات مع البنات عصبة خبر واحد (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ) أمور مواريثكم (أَنْ تَضِلُّوا) لئلا تخطؤا في الحكم فيها (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فائدته هنا : بيان كونه سبحانه عالما بجميع ما يحتاج إليه عباده من أمر معاشهم ومعادهم على ما توجبه الحكمة.

سورة المائدة مدنية

عدد آياتها مائة وعشرون آية

١ ـ خاطب الله سبحانه المؤمنين فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وتقديره : يا أيها المؤمنون وهو اسم تكريم وتعظيم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أي بالعهود التي أخذ الله سبحانه على عباده بالإيمان به وطاعته فيما أحلّ أو حرّم عليهم وما فرض وما حدّ في القرآن كله ، أي فلا تتعدوا فيه ولا تنكثوا ، ثم ابتدأ سبحانه كلاما آخر فقال : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) واختلف في تأويله على أقوال (أحدها) ان المراد به الأنعام ، وإنما ذكر البهيمة للتأكيد كما يقال : نفس الإنسان ، فمعناه : أحلت لكم الأنعام الإبل والبقر والغنم (وثانيها) ان المراد بذلك أجنة الأنعام التي توجد في بطون أمهاتها إذا أشعرت وقد ذكيت الأمهات وهي ميتة ، فذكاتها ذكاة أمهاتها (وثالثها) ان بهيمة الأنعام وحشيها كالظباء وبقر الوحش وحمر الوحش ، والأولى حمل الآية على الجميع (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) معناه : إلّا ما يقرأ عليكم تحريمه في القرآن وهو قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) الآية (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) معناه : أحلت لكم بهيمة الأنعام ، أي الوحشية من الظباء والبقر والحمر غير مستحلين اصطيادها في حال الإحرام (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) معناه : ان الله يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما يريد تحليله ، وتحريم ما يريد تحريمه ، وإيجاب ما يريد إيجابه ، وغير ذلك من أحكامه وقضاياه ، فافعلوا ما أمركم به ، وانتهوا عما نهاكم عنه.

٢ ـ ثم ابتدأ سبحانه بتفصيل الأحكام فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا الله ورسوله فيما أوجب عليهم (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) معناه : لا تحلوا حرمات الله ، ولا تتعدوا حدود الله ، وحملوا الشعائر على المعالم ، أي معالم حدود الله وأمره ونهيه وفرائضه (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) معناه : ولا تستحلوا الشهر الحرام بأن تقاتلوا فيه أعداءكم من المشركين (وَلَا الْهَدْيَ) أي ولا تستحلوا الهدي وهو ما يهديه الإنسان من بعير أو بقرة أو شاة إلى بيت الله تقربا إليه ، وطلبا لثوابه ، فيكون المعنى : ولا تستحلوا ذلك فتغصبوه أهله ، ولا تحولوا بينهم وبين أن يبلغوه محله من الحرم ، ولكن خلوهم حتى يبلغوا به المحل الذي جعله الله له ، وقوله : (وَلَا الْقَلائِدَ) معناه : ولا تحلوا القلائد ، عنى بالقلائد الهدي المقلد وإنما كرر لأنه أراد المنع من حل الهدي الذي لم يقلد ، والهدي الذي قلد (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ) أي ولا تحلّوا قاصدين البيت (الْحَرامَ) أي لا تقاتلوهم ، لأنه من قاتل في الأشهر الحرم فقد أحل (يَبْتَغُونَ) أي يطلبون. يعني الذين يأمون البيت (فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) يلتمسون رضوان الله عنهم بأن لا يحل بهم من حل بغيرهم من الأمم من العقوبة في عاجل دنياهم (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) معناه : إذا حللتم من إحرامكم فاصطادوا الصيد إن شئتم حينئذ ، لأن السبب المحرم قد زال (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) ولا يحملنكم (شَنَآنُ قَوْمٍ) أي بغضاء قوم (أَنْ صَدُّوكُمْ) أي لأن صدوكم ، أي لأجل انهم صدوكم (عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) يعني النبي وأصحابه لما صدوهم عام الحديبية (أَنْ تَعْتَدُوا) ومعناه : لا يكسبنكم بغضكم قوما الإعتداء عليهم (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) أمر الله عباده بأن يعين بعضهم بعضا على البر

١٣٩

والتقوى وهو العمل بما أمرهم الله تعالى به واتقاء ما نهاهم عنه ، ونهاهم أن يعين بعضهم بعضا على الإثم ، وهو ترك ما أمرهم به ، وارتكاب ما نهاهم عنه من العدوان ، وهو مجاوزة ما حدّ الله لعباده في دينهم ، وفرض لهم في أنفسهم (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) هذا أمر منه تعالى بالتقوى ، ووعيد لمن تجاوز أمره.

٣ ـ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) أي حرم عليكم أكل الميتة والإنتفاع بها (وَالدَّمُ) أي وحرم عليكم الدم وكانوا يجعلونه في المباعر ويشوونه ويأكلونه (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) وإنما ذكر لحم الخنزير ليبين أنه حرام بعينه لا لكونه ميتة ، حتى انه لا يحل تناوله وإن حصل فيه ما يكون ذكاة لغيره (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) وتقديره : وحرّم عليكم ما أهل لغير الله به ، وقد ذكرنا معناه في سورة البقرة (وَالْمُنْخَنِقَةُ) وهي التي يدخل رأسها ، بين شعبتين من شجرة فتنخنق وتموت (وَالْمَوْقُوذَةُ) وهي التي تضرب حتى تموت (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) وهي التي تقع من جبل أو مكان عال ، أو تقع في بئر فتموت (وَالنَّطِيحَةُ) هي التي ينطحها غيرها فتموت (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) أي وحرّم عليكم ما أكله السبع بمعنى : قتله السبع ، وهي فريسة السبع (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) يعني إلّا ما أدركتم ذكاته فذكيتموه من هذه الأشياء (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) يعني الحجارة التي كانوا يعبدونها وهي الأوثان (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) أي وحرّم عليكم الإستقسام بالأزلام ومعناه : إن جميع ما سبق ذكره فسق ، أي ذنب عظيم وخروج من طاعة الله إلى معصيته (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) ليس يريد يوما بعينه بل معناه : الآن يئس الكافرون من دينكم ، يريد أن الله تعالى حوّل الخوف الذي كان يلحقهم من الكافرين اليوم إليهم ، ويئسوا من بطلان الإسلام (فَلا تَخْشَوْهُمْ) خطاب للمؤمنين نهاهم أن يخشوا ويخافوا من الكفار أن يظهروا على دين الإسلام (وَاخْشَوْنِ) أي ولكن اخشوني : أي خافوني (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (ص) لما نزلت هذه الآية قال : الله أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ورضا الرب برسالتي ، وولاية علي بن أبي طالب من بعدي وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) خاطب سبحانه المؤمنين بأنه أتم النعمة عليهم بإظهارهم على المشركين ، ونفيهم عن بلادهم (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) أي رضيت لكم الإسلام لأمري ، والإنقياد لطاعتي على ما شرعت لكم من حدوده وفرائضه ومعالمه ، دينا : أي طاعة منكم لي ، فالزموها ولا تفارقوها (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ) معناه : فمن دعته الضرورة في مجاعة حتى لا يمكنه الإمتناع من أكله (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) أي غير مائل إلى إثم (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) المعنى : فمن اضطر إلى ما حرّمت عليه غير متجانف لاثم فأكله ، فإن الله غفور لذنوبه ، ساترا عليه أكله ، لا يؤاخذه به. وهو رحيم : أي رفيق بعباده ، ومن رحمته أباح لهم ما حرّم عليهم في حال الخوف على النفس.

٤ ـ (يَسْئَلُونَكَ) يا محمد (ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) أي شيء أحل لهم؟ أي يستخبرك المؤمنون ما الذي أحل لهم من المطاعم والمآكل؟ (قُلْ) يا محمد (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) منها وهي الحلال الذي أذن لكم ربكم في أكله من المأكولات والذبائح والصيد (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) أي وأحل لكم أيضا مع ذلك صيد ما علّمتم من الجوارح ، أي الكواسب من سباع الطير والبهائم (مُكَلِّبِينَ) أي أصحاب الصيد بالكلاب (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) أي لأن تؤدبونهن حتى يصرن معلمة مما

١٤٠