وضح البرهان في مشكلات القرآن - ج ٢

محمود بن أبي الحسن بن الحسين النيسابوري الغزنوي [ بيان الحق النيسابوري ]

وضح البرهان في مشكلات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود بن أبي الحسن بن الحسين النيسابوري الغزنوي [ بيان الحق النيسابوري ]


المحقق: صفوان عدنان داوودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القلم ـ دمشق
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

وهي النبوة أولى باختيار موضعهما من القريتين مكة والطائف (١).

(سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ). (٣٣)

السقف : إمّا جمع سقيفة ، وهي : كلّ خشب عريض مثل لوح السفينة.

وإمّا جمع السّقف مثل : رهن ورهن ، على قلّته.

وأمّا جمع الجمع ؛ فجمع السّقف على السقوف ، والسقوف على السّقف ، مثل : نجم ونجوم ونجم.

(وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ).

المعارج جمع المعراج.

والآية تضمّنت أنّ في إغناء البعض وإحواج البعض مصلحة العالم ، وإلا لبسط على الكافر الرزق.

وتضمّنت أيضا تهوين أمر الدنيا حين يبذله الله لمن كفر به وعصاه.

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ). (٣٦)

أصل العشو : السير في الظلمة.

والأعشى : ضعيف البصر منه.

(نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً). (٢)

__________________

(١) أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : «وقالوا : لو لا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم» قال : يعني : من القريتين مكة والطائف ، والعظيم : الوليد بن بن المغيرة القرشي وحبيب بن عمير الثقفي.

(٢) أخرج مسلم عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما منكم من أحد إلا وقد وكل الله به قرينه من الجن. قالوا : وإياك يا رسول الله؟ قال : وإيايّ إلا أنّ الله أعانني عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير. انظر صحيح مسلم ٢٨١٤.

٢٨١

نعوّضه عن إغفال الذكر بتمكين الشيطان منه خذلانا له.

(يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ). (٣٨)

المشرق والمغرب ، كما قيل : القمران.

(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ). (٣٩)

قال ابن جنيّ : سألت أبا عليّ عنه فقال :

لما كانت الدار الآخرة تلي الدار الدنيا ولا فاصل بينهما ، إنما هي هذه فهذه صار ما يقع في الآخرة كأنّه واقع في الدنيا ، فلذلك أجرى «اليوم» وهو للآخرة مجرى وقت الظلم ، وهو قوله : (إِذْ ظَلَمْتُمْ) ، ووقت الظلم كان في الدنيا (١).

ولو لم نفعل هكذا بقي (إِذْ ظَلَمْتُمْ) غير متعلق بشيء.

ومعنى الآية :

أنّهم لا ينتفعون بسلوة التأسّي بمن شاركهم في العذاب ، لأجل ظلمهم فيما مضى وإن كان التأسّي مما يخفّ من الشدائد ، ويقلّ من أعباء المصائب.

كما قالت ليلى الأخيلية :

١٠٤٠ ـ ولو لا كثرة الباكين حولي

على إخوانهم لقتلت نفسي

١٠٤١ ـ وما يبكون مثل أخي ولكن

أسلّي النفس عنهم بالتّأسي (٢)

(أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ). (٥٢)

كأنّه قال : أفلا تبصرون أم أنتم بصراء ، فقوله : (أَنَا خَيْرٌ) بمنزلة قوله :

__________________

(١) راجع القصة في مغني اللبيب ص ١١٤ ؛ والخصائص ٢ / ١٧٢.

(٢) البيتان للخنساء ترثي أخاها صخرا وليس لليلى الأخيلية كما قال المؤلف ، وهما في ديوان الخنساء ص ٨٤ ـ ٨٥ ؛ والكامل ١ / ٩ ؛ والصناعتين ص ٢٤١.

٢٨٢

أم أنتم بصراء وعلى هذه القاعدة يجري باب الخطاب النحوي.

يعني به السؤال والجواب أحدهما على صاحبه.

(أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ). (٥٣)

أسورة جمع سوار ، مثل : عماد وأعمدة ، وغراب وأغربة.

وأساورة (١) جمع إسوار ، وكانت : أساوير ، فحذفت الياء ، كقولهم في إستار وإسكاف : أساترة وأساكفة.

وصرف الأساورة والملائكة لأنّ لهما مثالا في الواحد ، مثل : العلانية والطواعية والكراهية.

(أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ). (٥٣)

قاله على قول موسى : بملائكة الله ، لأنّ من لا يعرف الله لا يعرف ملائكته.

(فَلَمَّا آسَفُونا). (٥٥)

أغضبونا.

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً). (٥٧)

أي : لبني إسرائيل آية في القدرة على كل شيء بخلق إنسان من غير أب.

(إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ).

يضجّون. ومنه : التصدية.

وقيل : إنّ يصدّون ويصدّون (٢) واحد ، من باب : يعكفون ويعكفون ، ويعرشون ويعرشون ولما قال هذا في عيسى قال المشركون : ألهتنا خير منه.

(ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً). (٥٨)

__________________

(١) وهي قراءة الجميع عدا حفص ويعقوب.

(٢) قرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو جعفر وخلف بضم الصاد ، والباقون بكسرها. الإتحاف ص ٣٨٦.

٢٨٣

وأرادوا بذلك الجدل والخصومة (١).

وأصل الجدل : الجدل ، وهو الفتل (٢).

فكلّ مجادل يفتل خصمه بالحقّ أو بالباطل.

(لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً). (٦٠)

أي : خلقناهم على صوركم.

(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ). (٦١)

أي : نزول عيسى ، فإنّ نزوله من أشراطها.

وقال ابن بحر : هو القرآن ، فإنّ فيه إنّ الساعة كائنة وقريبة.

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ). (٦٥)

وهم اليهود والنصارى.

(مِنْ بَيْنِهِمْ).

من تلقاء أنفسهم.

(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ). (٦٧)

أي : المتحابين في الدنيا على معصية الله.

(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً). (٧٩)

في المعصية.

__________________

(١) أخرج أحمد والترمذي وصحّحه والحاكم وصحّحه عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ، ثم قرأ : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً). انظر المسند ٥ / ٢٥٢ ، والعارضة ١٢ / ١٣٣ ، والمستدرك ٢ / ٤٤٨.

(٢) قال ابن منظور : الجدل شدة الفتل.

٢٨٤

(فَإِنَّا مُبْرِمُونَ).

في الجزاء.

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ). (٨١)

من : عبد إذا أنف (١).

فسّره بعض علماء البصرة فقال له ملحد : وما يشبه الآنف من العابد؟

فقال : إنما أنزل القرآن على العرب ، وهذا كلامها ، قال خفاف بن ندبة :

١٠٤٢ ـ وأعبد أن أسبّهم بقومي

وأترك دارما وبني رياح

١٠٤٣ ـ أولئك إن سببت كفاء قومي

وأجدر أن أعاقب بالنجاح (٢)

 ـ وقال ابن عرفة (٣) : إنما يقال : عبد يعبد فهو عبد ، فلم يقال : عابد والقرآن لا يأتي بالقليل الشاذ من اللغة ، ولا سيما في موضع الاشتباه؟

ولكنّ المعنى :

فأنا أول العابدين على أنه واحد ليس له ولد ؛

__________________

(١) قال ابن منظور : عبد عبدا فهو عبد وعابد : غضب وأنف ، والاسم : العبدة ، والعبد : طول الغضب. ـ قال الكسائي في الآية : «إن كان» أي : ما كان للرحمن ، فأنا أول العابدين أي : الآنفين. قال : فأنا أول الجاحدين لما تقولون. ويقال : أنا أوّل من تعبّده على الوحدانية مخالفة لكم. وقال ابن الأنباري : (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) والوقف على ولد ، ثم يبتدىء (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) له على أنه لا ولد له. والوقف على العابدين تام.

(٢) البيتان ليسا في ديوانه.

(٣) هو نفطويه النحوي واسمه إبراهيم بن محمد بن عرفة ، كان صدوقا ، متقنا في العلوم ، حافظا لنقائض جرير والفرزدق ، وشعر ذي الرمة وغيرهم ، أخذ عن ثعلب والمبرد ، له كتاب «غريب القرآن» توفي سنة ٣٢٣ ه‍ وقد نقل عنه كثير من الأئمة.

٢٨٥

ويجوز أن يكون معنى العابدين الموحّدين ، لأنّ كل من يعبده يوحّده ، وكلّ من يوحّده يعبده.

(وَقِيلِهِ يا رَبِ). (٨٨)

من فتح «قيله» عطفه على قوله : (أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) أي : ولا نسمع قيله.

وقيل : معناه : لا يملكون الشفاعة ولا يملكون قيله.

وقيل : نصب على المصدر. إلا من شهد بالحق وقال قيله.

ومن جرّ «قيله» (١). كان المعنى : عنده علم الساعة وعلم قيله.

أي : شهد بالحقّ وبقيله.

* * *

__________________

(١) قرأ «وقيله» بحفض اللام وكسر الهاء عاصم وحمزة ، وقرأ الباقون بفتح اللام وضم الهاء.

٢٨٦

(سورة الدّخان) (١)

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ). (٣)

أي : ابتداء إنزاله فيها (٢).

(بِدُخانٍ مُبِينٍ). (١٠)

كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اللهمّ اشدد وطأتك على مضر» (٣).

فأجدبوا وصاروا يرون بالجوع بينهم وبين السماء دخانا.

(أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى). (١٣)

__________________

(١) عن ابن عباس قال : نزلت سورة (حم) الدخان بمكة. ـ وأخرج الترمذي وضعّفه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك. انظر سنن الترمذي ٢٨٩٠. ـ وأخرج ابن الضريس والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من قرأ ليلة الجمعة حم الدخان ويس أصبح مغفورا له.

(٢) أخرج سعيد بن منصور عن سعيد بن جبير قال : نزل القرآن من السماء العليا إلى السماء الدنيا جميعا في ليلة القدر ، ثم فصّل بعد ذلك في تلك السنين.

(٣) أخرج البخاري وأحمد عن مسروق قال : جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال : إني تركت رجلا في المسجد يقول في هذه الآية (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ) : يوم القيامة دخان ، فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ، ويأخذ المؤمن منه كهيئة الزكام ، فغضب ـ وكان متكئا فجلس ـ ثم قال : من علم منكم علما فليقل به ، ومن لم يكن يعلم فليقل : الله أعلم ؛ فإنّ من العلم أن يقول لما لا يعلم : الله أعلم. وسأحدثكم عن الدخان : إنّ قريشا لما استصعبت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبطأوا عن ـ

٢٨٧

أي : أنّى لهم التذكّر.

(وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ). (١٣)

فكذّبوه.

(يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى). (١٦)

يوم القيامة ، عن ابن عباس (١).

ويوم بدر عن ابن مسعود.

(وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ). (١٩)

لا تستكبروا عن أمره.

(فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ). (٢٩)

أي : لم يلحق بفقدهم شيئا من ذلك خلل ولا نقص (٢).

كما قال النابغة في ضدّه :

__________________

ـ الإسلام قال : اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف ، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجوع ، فأنزل الله : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) فأتي رسول الله فقيل : يا رسول الله استسق لمضر ، فاستسقى لهم فسقوا ، فأنزل الله : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) أفيكشف عنهم العذاب يوم القيامة؟ فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم ، فأنزل الله : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) فانتقم الله منهم يوم بدر ، فقد مضى البطشة والدخان واللزام. انظر فتح الباري ٨ / ٥٧٢ ، والمسند ١ / ٤٣١.

(١) وكذا عن الحسن فيما أخرجه عنه عبد بن حميد. وأخرج أيضا عبد بن حميد وابن جرير بسند صحيح عن عكرمة قال : قال ابن عباس : قال ابن مسعود البطشة الكبرى يوم بدر ، وأنا أقول : هي يوم القيامة. انظر تفسير الطبري ٢٥ / ١١٧.

(٢) أخرج الترمذي وغيره عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما من عبد إلا وله في السماء بابان باب يصعد منه عمله ، وباب ينزل عليه منه رزقه ، فإذا مات فقداه وبكيا عليه ، وتلا هذه الآية : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ).

٢٨٨

١٠٤٤ ـ بكى حارث الجولان من هلك ربّه

وحوران منه خاشع متضائل

١٠٤٥ ـ وآب مضلّوه بعين سخينة

وغودر بالجولان حزم ونائل (١)

(ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ). (٣٣)

إحسان ونعمة ، كما قال أوس بن حجر :

١٠٤٦ ـ لعمرك ما ملّت ثواء ثويّها

حليمة إذ ألقت مراسي مقعد

١٠٤٧ ـ وقد غبرت شهري ربيع كليهما

بحمل البلايا والخباء الممدّد (٢)

(فَأْتُوا بِآبائِنا). (٣٦)

لم يجابوا فيه لأنّ النشأة الآخرة للجزاء لا لإعادة التكليف.

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ). (٣٨)

أي : لو بطل الجزاء على الأعمال لكان الخلق أشبه شيء باللهو واللعب.

(فَاعْتِلُوهُ). (٤٧)

ادفعوه بشدة وعنف.

والعتل : أن يأخذ بمجامع ثوب الإنسان عند صدره حتى يميل من شدة الجذب وعنف الأخذ عنقه فجرّه على ذلك.

وضم التاء فيه لغة (٣) إلا أنّ الكسر أشهر.

* * *

__________________

(١) البيتان في ديوانه ص ٩٠ ـ ٩١ ، وفي الديوان [فقد] بدل [هلك] ، و[جليّة] بدل [سخينة].

(٢) البيتان في ديوانه ص ٢٦ ـ ٢٧ ؛ والحيوان ٣ / ٧١ ؛ والبيان والتبيين ٣ / ٣١٩.

(٣) وبها قرأ نافع وأبو جعفر وابن كثير وابن عامر.

٢٨٩
٢٩٠

(سورة الجاثية)

(وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). (٤)

رفع آيات بالعطف على موضع «إنّ» لا على لفظه ، كما تقول : إنّ زيدا قائم ، وعمرو قاعد.

ـ وقال الكوفيون :

الرفع في مثل هذا يكون على معنى الفاعل (١) ، وكذلك ما ارتفع بعد الظروف ، مثل قولك : في الدار زيد ، وتقريبه من الفاعل تقديره : استقرّ في الدار زيد ، وثبت في خلقكم آيات.

ـ وأمّا جرّها فللعطف على الآيات الأولى (٢).

إمّا بالعامل الأول أو بتقدير عامل آخر. أي : وإنّ في خلقكم آيات.

(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً). (١٣)

أي : من الشمس والقمر والنجوم والأمطار ، فكلّها يجري على منافع العباد.

(لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ). (١٤)

__________________

(١) قال الفراء : والرفع قراءة الناس على الاستئناف فيما بعد إنّ ، والعرب تقول : إنّ لي عليك مالا ، وعلى أخيك مال كثير ، فينصبون الثاني ويرفعونه. راجع معاني القرآن ٣ / ٤٥.

(٢) قرأ حمزة والكسائي ويعقوب «آيات» بكسر التاء منصوبة. انظر الإتحاف ص ٣٨٩.

٢٩١

لا يطمعون في نصره في الدنيا ولا في ثوابه في الآخرة.

(سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ). (٢١)

الضمير في الكناية يجوز للمؤمنين وحدهم ، وللذين اجترحوا السيئات وحدهم.

ولو نظرت إلى قوله :

(ساءَ ما يَحْكُمُونَ).

ترجّح ضمير المجترحين ، ولو قلت : إنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم سواء محياهم ومماتهم ترجّح ضمير المؤمنين لأنه يكون كالنص على استئناف ذكرهم للتشريف.

(مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ). (٢٣)

أي : لا يعصيه ولا يمنعه منه خوف الله.

(كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا). (٢٨)

أي : كتابها الذي أنزل على رسولها.

ويجوز أن يكون الكتاب اسم الجنس. أي : تدعى إلى صحائف أعمالها.

(إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ). (٢٩)

ننسخ ، كقوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ)(١) ، أي : يسخرون.

وقيل : نستدعي ذلك. أي : نأمر الملائكة بكتابته وحفظه ليحتجّ عليهم بأعمالهم ، كقوله تعالى : (بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)(٢).

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ). (٣٠)

__________________

(١) سورة الصافات : آية ١٤.

(٢) سورة الزخرف : آية ٨٠.

٢٩٢

استعارة ومجاز لتجليل الرحمة لهم ، ودخولهم فيها.

وللمجاز ثلاثة أوصاف :

الاتساع ، والتوكيد ، والتشبيه ، وقد انتظم جميعها هذا اللفظ.

أمّا الاتساع : فكأنه زيد في أسماء الجهات والمحال اسم هو الرحمة.

وأمّا التشبيه : فلأنه شبّه الرحمة ـ وإن لم يصح دخولها ـ بما يجري دخولها ووضعها موضعه.

وأمّا التوكيد : فلأنّه عبّر عن المعنى بما يخبر به عن الجوهر المتصور المحسوس.

ومثل هذا الموضع انتظام المعاني الثلاثة قول الشاعر :

١٠٤٨ ـ قرعت ظنابيب الهوى يوم عالج

ويوم النقا حتى قسرت الهوى قسرا (١)

وقول الآخر :

١٠٤٩ ـ غمر الرداء إذا تبسّم ضاحكا

غلقت لضحكته رقاب المال (٢)

وقول الآخر :

١٠٥٠ ـ تغلغل حبّ عثمة في فؤادي

فباديه مع الخافي يسير (٣)

فوصف الحبّ بالتغلغل من مجاوزة مكان إلى آخر ، فيكون ذلك بتفريغ الأول وشغل الثاني وهو من أوصاف الأعيان لا الأحداث.

* * *

__________________

(١) البيت في الخصائص ٢ / ٤٤٥ ؛ واللسان مادة : ظنب. يقال : قرع ظنابيب الشيء : إذا ذلّله ، يقول : إنه ذلل الهوى في هذين البيتين وذلك بالتقائه بحبيبه.

(٢) البيت لكثير صاحب عزّة. وهو في الخصائص ٢ / ٤٤٥ ؛ والاختيارين ص ٧ ؛ وديوان المعاني ١ / ٣٨ ؛ والنوادر للقالي ٢ / ٢٩١.

(٣) البيت لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة أحد الفقهاء السبعة. وهو في زهر الآداب ١ / ٢١٢ ؛ والخصائص ٢ / ٤٤٤ ؛ والأغاني ٨ / ٩٤ ؛ والنوادر للقالي ص ٢١٧ ؛ ومجالس ثعلب ص ٢٣٦.

٢٩٣
٢٩٤

(سورة الأحقاف)

(أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ). (٤)

هي الخط (١).

قال ابن عباس : هو شيء يخط في الأرض يستدل منه على الكوائن.

(وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ). (١٠)

عبد الله بن سلام ، عن الحسن (٢).

وأنكره الشعبي (٣) لأنّ السورة مكية.

__________________

(١) أخرج أحمد وابن المنذر والطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في «أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ» قال : الخط. ـ وأخرج سعيد بن منصور عن عطاء بن يسار قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الخط؟ فقال : علمه نبيّ ومن كان وافقه علم. قال صفوان بن سليم : فحدثت به أبا سلمة بن عبد الرحمن فقال : سألت ابن عباس فقال : أو أثارة من علم.

(٢) وهو مرويّ أيضا عن سعد بن أبي وقاص وابن عباس ومجاهد وقتادة وعكرمة. وأخرج البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال : ما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام ، وفيه نزلت : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ). فتح الباري ٧ / ١٢٨ ، مناقب الأنصار ؛ ومسلم ٢٤٨٣.

(٣) أخرج ابن المنذر عن الشعبي قال : ما نزل في عبد الله بن سلام شيء من القرآن. ـ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مسروق في الآية قال : والله ما نزلت في عبد الله بن سلام ، ما نزلت إلا بمكة ، وإنما كان إسلام ابن سلام بالمدينة ، وإنما كانت خصومة خاصم بها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٩٥

ولكنّه يجوز أن يكون بعض آياتها مدنيّة (١) ، ويجوز أن يكون إخبار الرسول بشهادة عبد الله قبل شهادته من آياته ومعجزاته.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً). (٢) (١٥)

لا بدّ من إضمار ؛ فإمّا أن تضمر : ليأتي أمرا ذا حسن.

أو تضمر : ليأتي في أمره حسنا.

وإنّما لم يكن بدّ من الإضمار لأنّ وصّينا قد استوفى مفعوليه : «الإنسان» و«بوالديه».

فلا يبقى له عمل فاحتيج إلى إضمار.

(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً).

ثقل الحمل وأمراضه وأعراضه وشدة الخوف على النفس وعلى الجنين.

(وَعْدَ الصِّدْقِ). (١٦)

أي : وعدناهم ذلك وعدا صدقا ، لكنه أضاف الوعد إلى نفسه ، كقوله تعالى :

(حَقُّ الْيَقِينِ)(٣).

(رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ). (١٥)

أي : كذلك ينبغي أن يقول ويفعل.

__________________

(١) أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن محمد بن سيرين قال : يرون أنّ هذه الآية نزلت في عبد الله بن سلام ، والسورة مكية ، والآية مدنية ، قال : وكانت الآية تنزل فيؤمر النبي أن يضعها بين آيتي كذا وكذا في سورة كذا ، يرون أن هذه منهن.

(٢) قرأ عاصم وحمزة والكسائي «إِحْساناً» والباقون حسنا.

(٣) سورة الواقعة : آية ٩٦.

٢٩٦

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما)(١). (١٧)

جوابه :

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ). (١٨)

أي : كلّ من قال كذا حقّ عليه القول.

(أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا)(٢). (٢٠)

إذهابها في الدنيا. من الذهاب بالشيء ، على معنى الفوز به. هذا ظاهر الآية.

ويحتمل أنّ ذلك في الآخرة بما فعلوه في الدنيا ، فيكون : من الذهاب بالشيء ، على معنى الفوت.

(إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ). (٢١)

الحقف : نقاء من الرمل يعوج ويدق.

(هذا عارِضٌ). (٢٤)

سحاب في ناحية السماء.

__________________

(١) أخرج الحاكم وصححه عن محمد بن زياد قال : لما بايع معاوية لابنه قال مروان : سنة أبي بكر وعمر ، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق : سنة هرقل وقيصر ، فقال مروان : هذا الذي أنزل الله فيه : وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما فبلغ ذلك عائشة فقالت : كذب مروان ، كذب مروان ، والله ما هو به ولو شئت أن أسمّي الذي أنزلت فيه لسمّيته ، ولكنّ رسول الله لعن أبا مروان في صلبه ، فمروان فضفض من لعنة الله. انظر المستدرك ٤ / ٤٨١ ، وقال الذهبي : فيه انقطاع. فضفض : سعة.

(٢) أخرج أحمد في الزهد ص ١٥٣ عن الأعمش قال : مرّ جابر بن عبد الله وهو متعلق لحما على عمر رضي الله عنه ، فقال : ما هذا يا جابر؟ قال : هذا لحم اشتهيته اشتريته. قال : وكلما اشتهيت شيئا اشتريته؟! أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا).

٢٩٧

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ). (٢٦)

أي : في الذي ما مكنّاكم ، فيكون «إن» بمنزلة «ما» في الجحد.

فيكون في «إن» إصلاح اللفظ من وجهين :

أحدهما ـ سقوط تكرير «ما».

الثاني ـ الحجاز بين الميمين في «ما» و«مكنّاهم» لأنّ الألف حاجز غير متين هذا مع ما أحدثت من الغنّة التي يزداد بها اللفظ حسن ترنّم ، يربي على حروف المدّ واللين ، ولذلك يستعمل ما بعد النون لغير عوض قويّ لا لتحسين اللفظ.

كما قال :

١٠٥١ ـ وإنّا لممّا نضرب الكبش ضربة

على رأسه تلقي اللسان من الفم (١)

(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ). (٣٥)

يجوز «من» لتبيين الجنس.

ويجوز للتبعيض ، لأنه ليس كلّ الأنبياء غلظت عليه المحنة والتكليف ، فبان عزمهم وظهر صبرهم.

* * *

__________________

(١) البيت لأبي حيّة النميري. وهو في شرح شواهد الإيضاح ص ٢١٩ ؛ ومغني اللبيب ص ٤٢٤ ، وكتاب سيبويه ١ / ٧٧٤ ؛ وطبقات فحول الشعراء ١ / ٣٨.

٢٩٨

(سورة محمّد)

(عليه الصلاة والسّلام)

(أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ). (١)

أبطلها.

وقيل : ضلّت أعمالهم ، كما قال الشاعر :

١٠٥٢ ـ هبوني امرءا منكم أضلّ بعيره

له حرمة إنّ الذمام كبير (١)

(حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها). (٤)

أي : أهل الحرب آثامها ، فلا يبقى إلا مسلم أو مسالم (٢).

وقيل : أوزارها : أثقالها من الكراع والسلاح ، كما فصّلها الأعشى بقوله :

١٠٥٣ ـ وأعددت للحرب أوزارها

رماحا طوالا وخيلا ذكورا

١٠٥٤ ـ ومن نسج داود يحدي بها

على أثر الخيل عيرا فعيرا (٣)

(وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ). (٦)

__________________

(١) البيت تقدم في ١ / ١٢١.

(٢) أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى بن مريم إماما مهديا ، وحكما عدلا ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، وتوضع الجزية ، وتضع الحرب أوزارها.

(٣) البيتان في ديوانه ص ٨٨ ؛ والأول في المعاني الكبير ٢ / ٩٢١.

وفي الديوان :

ومن نسج داود موضونة

تساق مع الحي عيرا فعيرا

٢٩٩

إذا دخلوها عرف كلّ منزله فسبق إليه.

وقيل : عرّفها : طيّبها.

قال الشاعر :

١٠٥٥ ـ فتدخل أيد في حناجر أقنعت

لعادتها من الخزير المعرّف (١)

(وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ). (١٢)

قاله وضعا منهم وتخسيسا لهم ، كما قيل في معناه :

١٠٥٦ ـ نهارك يا مغرور أكل وراحة

وليلك نوم والردى لك لازم

١٠٥٧ ـ وتكدح فيما سوف تكره غبّه

كذلك في الدنيا تعيش البهائم (٢)

(مَثَلُ الْجَنَّةِ). (١٥)

صفتها.

أي : الصفة التي مثّلت الجنة بها فصارت مثلا لها.

(فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ).

أسن الماء يأسن أسنا وأسونا فهو آسن : إذا تغيّر.

ومعنى الآية على وجهين :

ـ صفة الحال : أي : من ماء غير متغيّر.

__________________

(١) البيت لأسود بن يعفر يهجو عقال بن محمد بن سفيان ، وهو في لسان العرب مادة عرّف. (٢) البيتان كان عمر بن عبد العزيز يتمثل بهما ، وهما لعبد الأعلى القرشي في الحماسة البصرية ٢ / ٤٢٧. وهما أيضا في سير أعلام النبلاء ٥ / ١٣٨ ولم ينسبهما المحقق وعين الأدب والرياسة ص ١٧٨. ومدارج السالكين ٣ / ١٩٠ من غير نسبة. ويروى الأول [نهارك يا مغرور سهو وغفلة].

٣٠٠