محمود بن أبي الحسن بن الحسين النيسابوري الغزنوي [ بيان الحق النيسابوري ]
المحقق: صفوان عدنان داوودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القلم ـ دمشق
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
وهي النبوة أولى باختيار موضعهما من القريتين مكة والطائف (١).
(سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ). (٣٣)
السقف : إمّا جمع سقيفة ، وهي : كلّ خشب عريض مثل لوح السفينة.
وإمّا جمع السّقف مثل : رهن ورهن ، على قلّته.
وأمّا جمع الجمع ؛ فجمع السّقف على السقوف ، والسقوف على السّقف ، مثل : نجم ونجوم ونجم.
(وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ).
المعارج جمع المعراج.
والآية تضمّنت أنّ في إغناء البعض وإحواج البعض مصلحة العالم ، وإلا لبسط على الكافر الرزق.
وتضمّنت أيضا تهوين أمر الدنيا حين يبذله الله لمن كفر به وعصاه.
(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ). (٣٦)
أصل العشو : السير في الظلمة.
والأعشى : ضعيف البصر منه.
(نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً). (٢)
__________________
(١) أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : «وقالوا : لو لا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم» قال : يعني : من القريتين مكة والطائف ، والعظيم : الوليد بن بن المغيرة القرشي وحبيب بن عمير الثقفي.
(٢) أخرج مسلم عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : ما منكم من أحد إلا وقد وكل الله به قرينه من الجن. قالوا : وإياك يا رسول الله؟ قال : وإيايّ إلا أنّ الله أعانني عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير. انظر صحيح مسلم ٢٨١٤.
نعوّضه عن إغفال الذكر بتمكين الشيطان منه خذلانا له.
(يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ). (٣٨)
المشرق والمغرب ، كما قيل : القمران.
(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ). (٣٩)
قال ابن جنيّ : سألت أبا عليّ عنه فقال :
لما كانت الدار الآخرة تلي الدار الدنيا ولا فاصل بينهما ، إنما هي هذه فهذه صار ما يقع في الآخرة كأنّه واقع في الدنيا ، فلذلك أجرى «اليوم» وهو للآخرة مجرى وقت الظلم ، وهو قوله : (إِذْ ظَلَمْتُمْ) ، ووقت الظلم كان في الدنيا (١).
ولو لم نفعل هكذا بقي (إِذْ ظَلَمْتُمْ) غير متعلق بشيء.
ومعنى الآية :
أنّهم لا ينتفعون بسلوة التأسّي بمن شاركهم في العذاب ، لأجل ظلمهم فيما مضى وإن كان التأسّي مما يخفّ من الشدائد ، ويقلّ من أعباء المصائب.
كما قالت ليلى الأخيلية :
١٠٤٠ ـ ولو لا كثرة الباكين حولي |
|
على إخوانهم لقتلت نفسي |
١٠٤١ ـ وما يبكون مثل أخي ولكن |
|
أسلّي النفس عنهم بالتّأسي (٢) |
(أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ). (٥٢)
كأنّه قال : أفلا تبصرون أم أنتم بصراء ، فقوله : (أَنَا خَيْرٌ) بمنزلة قوله :
__________________
(١) راجع القصة في مغني اللبيب ص ١١٤ ؛ والخصائص ٢ / ١٧٢.
(٢) البيتان للخنساء ترثي أخاها صخرا وليس لليلى الأخيلية كما قال المؤلف ، وهما في ديوان الخنساء ص ٨٤ ـ ٨٥ ؛ والكامل ١ / ٩ ؛ والصناعتين ص ٢٤١.
أم أنتم بصراء وعلى هذه القاعدة يجري باب الخطاب النحوي.
يعني به السؤال والجواب أحدهما على صاحبه.
(أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ). (٥٣)
أسورة جمع سوار ، مثل : عماد وأعمدة ، وغراب وأغربة.
وأساورة (١) جمع إسوار ، وكانت : أساوير ، فحذفت الياء ، كقولهم في إستار وإسكاف : أساترة وأساكفة.
وصرف الأساورة والملائكة لأنّ لهما مثالا في الواحد ، مثل : العلانية والطواعية والكراهية.
(أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ). (٥٣)
قاله على قول موسى : بملائكة الله ، لأنّ من لا يعرف الله لا يعرف ملائكته.
(فَلَمَّا آسَفُونا). (٥٥)
أغضبونا.
(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً). (٥٧)
أي : لبني إسرائيل آية في القدرة على كل شيء بخلق إنسان من غير أب.
(إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ).
يضجّون. ومنه : التصدية.
وقيل : إنّ يصدّون ويصدّون (٢) واحد ، من باب : يعكفون ويعكفون ، ويعرشون ويعرشون ولما قال هذا في عيسى قال المشركون : ألهتنا خير منه.
(ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً). (٥٨)
__________________
(١) وهي قراءة الجميع عدا حفص ويعقوب.
(٢) قرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو جعفر وخلف بضم الصاد ، والباقون بكسرها. الإتحاف ص ٣٨٦.
وأرادوا بذلك الجدل والخصومة (١).
وأصل الجدل : الجدل ، وهو الفتل (٢).
فكلّ مجادل يفتل خصمه بالحقّ أو بالباطل.
(لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً). (٦٠)
أي : خلقناهم على صوركم.
(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ). (٦١)
أي : نزول عيسى ، فإنّ نزوله من أشراطها.
وقال ابن بحر : هو القرآن ، فإنّ فيه إنّ الساعة كائنة وقريبة.
(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ). (٦٥)
وهم اليهود والنصارى.
(مِنْ بَيْنِهِمْ).
من تلقاء أنفسهم.
(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ). (٦٧)
أي : المتحابين في الدنيا على معصية الله.
(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً). (٧٩)
في المعصية.
__________________
(١) أخرج أحمد والترمذي وصحّحه والحاكم وصحّحه عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «وما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ، ثم قرأ : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً). انظر المسند ٥ / ٢٥٢ ، والعارضة ١٢ / ١٣٣ ، والمستدرك ٢ / ٤٤٨.
(٢) قال ابن منظور : الجدل شدة الفتل.
(فَإِنَّا مُبْرِمُونَ).
في الجزاء.
(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ). (٨١)
من : عبد إذا أنف (١).
فسّره بعض علماء البصرة فقال له ملحد : وما يشبه الآنف من العابد؟
فقال : إنما أنزل القرآن على العرب ، وهذا كلامها ، قال خفاف بن ندبة :
١٠٤٢ ـ وأعبد أن أسبّهم بقومي |
|
وأترك دارما وبني رياح |
١٠٤٣ ـ أولئك إن سببت كفاء قومي |
|
وأجدر أن أعاقب بالنجاح (٢) |
ـ وقال ابن عرفة (٣) : إنما يقال : عبد يعبد فهو عبد ، فلم يقال : عابد والقرآن لا يأتي بالقليل الشاذ من اللغة ، ولا سيما في موضع الاشتباه؟
ولكنّ المعنى :
فأنا أول العابدين على أنه واحد ليس له ولد ؛
__________________
(١) قال ابن منظور : عبد عبدا فهو عبد وعابد : غضب وأنف ، والاسم : العبدة ، والعبد : طول الغضب. ـ قال الكسائي في الآية : «إن كان» أي : ما كان للرحمن ، فأنا أول العابدين أي : الآنفين. قال : فأنا أول الجاحدين لما تقولون. ويقال : أنا أوّل من تعبّده على الوحدانية مخالفة لكم. وقال ابن الأنباري : (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) والوقف على ولد ، ثم يبتدىء (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) له على أنه لا ولد له. والوقف على العابدين تام.
(٢) البيتان ليسا في ديوانه.
(٣) هو نفطويه النحوي واسمه إبراهيم بن محمد بن عرفة ، كان صدوقا ، متقنا في العلوم ، حافظا لنقائض جرير والفرزدق ، وشعر ذي الرمة وغيرهم ، أخذ عن ثعلب والمبرد ، له كتاب «غريب القرآن» توفي سنة ٣٢٣ ه وقد نقل عنه كثير من الأئمة.
ويجوز أن يكون معنى العابدين الموحّدين ، لأنّ كل من يعبده يوحّده ، وكلّ من يوحّده يعبده.
(وَقِيلِهِ يا رَبِ). (٨٨)
من فتح «قيله» عطفه على قوله : (أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) أي : ولا نسمع قيله.
وقيل : معناه : لا يملكون الشفاعة ولا يملكون قيله.
وقيل : نصب على المصدر. إلا من شهد بالحق وقال قيله.
ومن جرّ «قيله» (١). كان المعنى : عنده علم الساعة وعلم قيله.
أي : شهد بالحقّ وبقيله.
* * *
__________________
(١) قرأ «وقيله» بحفض اللام وكسر الهاء عاصم وحمزة ، وقرأ الباقون بفتح اللام وضم الهاء.
(سورة الدّخان) (١)
(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ). (٣)
أي : ابتداء إنزاله فيها (٢).
(بِدُخانٍ مُبِينٍ). (١٠)
كان النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «اللهمّ اشدد وطأتك على مضر» (٣).
فأجدبوا وصاروا يرون بالجوع بينهم وبين السماء دخانا.
(أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى). (١٣)
__________________
(١) عن ابن عباس قال : نزلت سورة (حم) الدخان بمكة. ـ وأخرج الترمذي وضعّفه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك. انظر سنن الترمذي ٢٨٩٠. ـ وأخرج ابن الضريس والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : من قرأ ليلة الجمعة حم الدخان ويس أصبح مغفورا له.
(٢) أخرج سعيد بن منصور عن سعيد بن جبير قال : نزل القرآن من السماء العليا إلى السماء الدنيا جميعا في ليلة القدر ، ثم فصّل بعد ذلك في تلك السنين.
(٣) أخرج البخاري وأحمد عن مسروق قال : جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال : إني تركت رجلا في المسجد يقول في هذه الآية (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ) : يوم القيامة دخان ، فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ، ويأخذ المؤمن منه كهيئة الزكام ، فغضب ـ وكان متكئا فجلس ـ ثم قال : من علم منكم علما فليقل به ، ومن لم يكن يعلم فليقل : الله أعلم ؛ فإنّ من العلم أن يقول لما لا يعلم : الله أعلم. وسأحدثكم عن الدخان : إنّ قريشا لما استصعبت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأبطأوا عن ـ
أي : أنّى لهم التذكّر.
(وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ). (١٣)
فكذّبوه.
(يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى). (١٦)
يوم القيامة ، عن ابن عباس (١).
ويوم بدر عن ابن مسعود.
(وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ). (١٩)
لا تستكبروا عن أمره.
(فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ). (٢٩)
أي : لم يلحق بفقدهم شيئا من ذلك خلل ولا نقص (٢).
كما قال النابغة في ضدّه :
__________________
ـ الإسلام قال : اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف ، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجوع ، فأنزل الله : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) فأتي رسول الله فقيل : يا رسول الله استسق لمضر ، فاستسقى لهم فسقوا ، فأنزل الله : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) أفيكشف عنهم العذاب يوم القيامة؟ فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم ، فأنزل الله : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) فانتقم الله منهم يوم بدر ، فقد مضى البطشة والدخان واللزام. انظر فتح الباري ٨ / ٥٧٢ ، والمسند ١ / ٤٣١.
(١) وكذا عن الحسن فيما أخرجه عنه عبد بن حميد. وأخرج أيضا عبد بن حميد وابن جرير بسند صحيح عن عكرمة قال : قال ابن عباس : قال ابن مسعود البطشة الكبرى يوم بدر ، وأنا أقول : هي يوم القيامة. انظر تفسير الطبري ٢٥ / ١١٧.
(٢) أخرج الترمذي وغيره عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : ما من عبد إلا وله في السماء بابان باب يصعد منه عمله ، وباب ينزل عليه منه رزقه ، فإذا مات فقداه وبكيا عليه ، وتلا هذه الآية : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ).
١٠٤٤ ـ بكى حارث الجولان من هلك ربّه |
|
وحوران منه خاشع متضائل |
١٠٤٥ ـ وآب مضلّوه بعين سخينة |
|
وغودر بالجولان حزم ونائل (١) |
(ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ). (٣٣)
إحسان ونعمة ، كما قال أوس بن حجر :
١٠٤٦ ـ لعمرك ما ملّت ثواء ثويّها |
|
حليمة إذ ألقت مراسي مقعد |
١٠٤٧ ـ وقد غبرت شهري ربيع كليهما |
|
بحمل البلايا والخباء الممدّد (٢) |
(فَأْتُوا بِآبائِنا). (٣٦)
لم يجابوا فيه لأنّ النشأة الآخرة للجزاء لا لإعادة التكليف.
(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ). (٣٨)
أي : لو بطل الجزاء على الأعمال لكان الخلق أشبه شيء باللهو واللعب.
(فَاعْتِلُوهُ). (٤٧)
ادفعوه بشدة وعنف.
والعتل : أن يأخذ بمجامع ثوب الإنسان عند صدره حتى يميل من شدة الجذب وعنف الأخذ عنقه فجرّه على ذلك.
وضم التاء فيه لغة (٣) إلا أنّ الكسر أشهر.
* * *
__________________
(١) البيتان في ديوانه ص ٩٠ ـ ٩١ ، وفي الديوان [فقد] بدل [هلك] ، و[جليّة] بدل [سخينة].
(٢) البيتان في ديوانه ص ٢٦ ـ ٢٧ ؛ والحيوان ٣ / ٧١ ؛ والبيان والتبيين ٣ / ٣١٩.
(٣) وبها قرأ نافع وأبو جعفر وابن كثير وابن عامر.
(سورة الجاثية)
(وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). (٤)
رفع آيات بالعطف على موضع «إنّ» لا على لفظه ، كما تقول : إنّ زيدا قائم ، وعمرو قاعد.
ـ وقال الكوفيون :
الرفع في مثل هذا يكون على معنى الفاعل (١) ، وكذلك ما ارتفع بعد الظروف ، مثل قولك : في الدار زيد ، وتقريبه من الفاعل تقديره : استقرّ في الدار زيد ، وثبت في خلقكم آيات.
ـ وأمّا جرّها فللعطف على الآيات الأولى (٢).
إمّا بالعامل الأول أو بتقدير عامل آخر. أي : وإنّ في خلقكم آيات.
(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً). (١٣)
أي : من الشمس والقمر والنجوم والأمطار ، فكلّها يجري على منافع العباد.
(لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ). (١٤)
__________________
(١) قال الفراء : والرفع قراءة الناس على الاستئناف فيما بعد إنّ ، والعرب تقول : إنّ لي عليك مالا ، وعلى أخيك مال كثير ، فينصبون الثاني ويرفعونه. راجع معاني القرآن ٣ / ٤٥.
(٢) قرأ حمزة والكسائي ويعقوب «آيات» بكسر التاء منصوبة. انظر الإتحاف ص ٣٨٩.
لا يطمعون في نصره في الدنيا ولا في ثوابه في الآخرة.
(سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ). (٢١)
الضمير في الكناية يجوز للمؤمنين وحدهم ، وللذين اجترحوا السيئات وحدهم.
ولو نظرت إلى قوله :
(ساءَ ما يَحْكُمُونَ).
ترجّح ضمير المجترحين ، ولو قلت : إنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم سواء محياهم ومماتهم ترجّح ضمير المؤمنين لأنه يكون كالنص على استئناف ذكرهم للتشريف.
(مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ). (٢٣)
أي : لا يعصيه ولا يمنعه منه خوف الله.
(كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا). (٢٨)
أي : كتابها الذي أنزل على رسولها.
ويجوز أن يكون الكتاب اسم الجنس. أي : تدعى إلى صحائف أعمالها.
(إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ). (٢٩)
ننسخ ، كقوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ)(١) ، أي : يسخرون.
وقيل : نستدعي ذلك. أي : نأمر الملائكة بكتابته وحفظه ليحتجّ عليهم بأعمالهم ، كقوله تعالى : (بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)(٢).
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ). (٣٠)
__________________
(١) سورة الصافات : آية ١٤.
(٢) سورة الزخرف : آية ٨٠.
استعارة ومجاز لتجليل الرحمة لهم ، ودخولهم فيها.
وللمجاز ثلاثة أوصاف :
الاتساع ، والتوكيد ، والتشبيه ، وقد انتظم جميعها هذا اللفظ.
أمّا الاتساع : فكأنه زيد في أسماء الجهات والمحال اسم هو الرحمة.
وأمّا التشبيه : فلأنه شبّه الرحمة ـ وإن لم يصح دخولها ـ بما يجري دخولها ووضعها موضعه.
وأمّا التوكيد : فلأنّه عبّر عن المعنى بما يخبر به عن الجوهر المتصور المحسوس.
ومثل هذا الموضع انتظام المعاني الثلاثة قول الشاعر :
١٠٤٨ ـ قرعت ظنابيب الهوى يوم عالج |
|
ويوم النقا حتى قسرت الهوى قسرا (١) |
وقول الآخر :
١٠٤٩ ـ غمر الرداء إذا تبسّم ضاحكا |
|
غلقت لضحكته رقاب المال (٢) |
وقول الآخر :
١٠٥٠ ـ تغلغل حبّ عثمة في فؤادي |
|
فباديه مع الخافي يسير (٣) |
فوصف الحبّ بالتغلغل من مجاوزة مكان إلى آخر ، فيكون ذلك بتفريغ الأول وشغل الثاني وهو من أوصاف الأعيان لا الأحداث.
* * *
__________________
(١) البيت في الخصائص ٢ / ٤٤٥ ؛ واللسان مادة : ظنب. يقال : قرع ظنابيب الشيء : إذا ذلّله ، يقول : إنه ذلل الهوى في هذين البيتين وذلك بالتقائه بحبيبه.
(٢) البيت لكثير صاحب عزّة. وهو في الخصائص ٢ / ٤٤٥ ؛ والاختيارين ص ٧ ؛ وديوان المعاني ١ / ٣٨ ؛ والنوادر للقالي ٢ / ٢٩١.
(٣) البيت لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة أحد الفقهاء السبعة. وهو في زهر الآداب ١ / ٢١٢ ؛ والخصائص ٢ / ٤٤٤ ؛ والأغاني ٨ / ٩٤ ؛ والنوادر للقالي ص ٢١٧ ؛ ومجالس ثعلب ص ٢٣٦.
(سورة الأحقاف)
(أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ). (٤)
هي الخط (١).
قال ابن عباس : هو شيء يخط في الأرض يستدل منه على الكوائن.
(وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ). (١٠)
عبد الله بن سلام ، عن الحسن (٢).
وأنكره الشعبي (٣) لأنّ السورة مكية.
__________________
(١) أخرج أحمد وابن المنذر والطبراني عن ابن عباس عن النبي صلىاللهعليهوسلم في «أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ» قال : الخط. ـ وأخرج سعيد بن منصور عن عطاء بن يسار قال : سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن الخط؟ فقال : علمه نبيّ ومن كان وافقه علم. قال صفوان بن سليم : فحدثت به أبا سلمة بن عبد الرحمن فقال : سألت ابن عباس فقال : أو أثارة من علم.
(٢) وهو مرويّ أيضا عن سعد بن أبي وقاص وابن عباس ومجاهد وقتادة وعكرمة. وأخرج البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال : ما سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام ، وفيه نزلت : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ). فتح الباري ٧ / ١٢٨ ، مناقب الأنصار ؛ ومسلم ٢٤٨٣.
(٣) أخرج ابن المنذر عن الشعبي قال : ما نزل في عبد الله بن سلام شيء من القرآن. ـ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مسروق في الآية قال : والله ما نزلت في عبد الله بن سلام ، ما نزلت إلا بمكة ، وإنما كان إسلام ابن سلام بالمدينة ، وإنما كانت خصومة خاصم بها محمد صلىاللهعليهوسلم.
ولكنّه يجوز أن يكون بعض آياتها مدنيّة (١) ، ويجوز أن يكون إخبار الرسول بشهادة عبد الله قبل شهادته من آياته ومعجزاته.
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً). (٢) (١٥)
لا بدّ من إضمار ؛ فإمّا أن تضمر : ليأتي أمرا ذا حسن.
أو تضمر : ليأتي في أمره حسنا.
وإنّما لم يكن بدّ من الإضمار لأنّ وصّينا قد استوفى مفعوليه : «الإنسان» و«بوالديه».
فلا يبقى له عمل فاحتيج إلى إضمار.
(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً).
ثقل الحمل وأمراضه وأعراضه وشدة الخوف على النفس وعلى الجنين.
(وَعْدَ الصِّدْقِ). (١٦)
أي : وعدناهم ذلك وعدا صدقا ، لكنه أضاف الوعد إلى نفسه ، كقوله تعالى :
(حَقُّ الْيَقِينِ)(٣).
(رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ). (١٥)
أي : كذلك ينبغي أن يقول ويفعل.
__________________
(١) أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن محمد بن سيرين قال : يرون أنّ هذه الآية نزلت في عبد الله بن سلام ، والسورة مكية ، والآية مدنية ، قال : وكانت الآية تنزل فيؤمر النبي أن يضعها بين آيتي كذا وكذا في سورة كذا ، يرون أن هذه منهن.
(٢) قرأ عاصم وحمزة والكسائي «إِحْساناً» والباقون حسنا.
(٣) سورة الواقعة : آية ٩٦.
(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما)(١). (١٧)
جوابه :
(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ). (١٨)
أي : كلّ من قال كذا حقّ عليه القول.
(أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا)(٢). (٢٠)
إذهابها في الدنيا. من الذهاب بالشيء ، على معنى الفوز به. هذا ظاهر الآية.
ويحتمل أنّ ذلك في الآخرة بما فعلوه في الدنيا ، فيكون : من الذهاب بالشيء ، على معنى الفوت.
(إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ). (٢١)
الحقف : نقاء من الرمل يعوج ويدق.
(هذا عارِضٌ). (٢٤)
سحاب في ناحية السماء.
__________________
(١) أخرج الحاكم وصححه عن محمد بن زياد قال : لما بايع معاوية لابنه قال مروان : سنة أبي بكر وعمر ، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق : سنة هرقل وقيصر ، فقال مروان : هذا الذي أنزل الله فيه : وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما فبلغ ذلك عائشة فقالت : كذب مروان ، كذب مروان ، والله ما هو به ولو شئت أن أسمّي الذي أنزلت فيه لسمّيته ، ولكنّ رسول الله لعن أبا مروان في صلبه ، فمروان فضفض من لعنة الله. انظر المستدرك ٤ / ٤٨١ ، وقال الذهبي : فيه انقطاع. فضفض : سعة.
(٢) أخرج أحمد في الزهد ص ١٥٣ عن الأعمش قال : مرّ جابر بن عبد الله وهو متعلق لحما على عمر رضي الله عنه ، فقال : ما هذا يا جابر؟ قال : هذا لحم اشتهيته اشتريته. قال : وكلما اشتهيت شيئا اشتريته؟! أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا).
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ). (٢٦)
أي : في الذي ما مكنّاكم ، فيكون «إن» بمنزلة «ما» في الجحد.
فيكون في «إن» إصلاح اللفظ من وجهين :
أحدهما ـ سقوط تكرير «ما».
الثاني ـ الحجاز بين الميمين في «ما» و«مكنّاهم» لأنّ الألف حاجز غير متين هذا مع ما أحدثت من الغنّة التي يزداد بها اللفظ حسن ترنّم ، يربي على حروف المدّ واللين ، ولذلك يستعمل ما بعد النون لغير عوض قويّ لا لتحسين اللفظ.
كما قال :
١٠٥١ ـ وإنّا لممّا نضرب الكبش ضربة |
|
على رأسه تلقي اللسان من الفم (١) |
(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ). (٣٥)
يجوز «من» لتبيين الجنس.
ويجوز للتبعيض ، لأنه ليس كلّ الأنبياء غلظت عليه المحنة والتكليف ، فبان عزمهم وظهر صبرهم.
* * *
__________________
(١) البيت لأبي حيّة النميري. وهو في شرح شواهد الإيضاح ص ٢١٩ ؛ ومغني اللبيب ص ٤٢٤ ، وكتاب سيبويه ١ / ٧٧٤ ؛ وطبقات فحول الشعراء ١ / ٣٨.
(سورة محمّد)
(عليه الصلاة والسّلام)
(أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ). (١)
أبطلها.
وقيل : ضلّت أعمالهم ، كما قال الشاعر :
١٠٥٢ ـ هبوني امرءا منكم أضلّ بعيره |
|
له حرمة إنّ الذمام كبير (١) |
(حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها). (٤)
أي : أهل الحرب آثامها ، فلا يبقى إلا مسلم أو مسالم (٢).
وقيل : أوزارها : أثقالها من الكراع والسلاح ، كما فصّلها الأعشى بقوله :
١٠٥٣ ـ وأعددت للحرب أوزارها |
|
رماحا طوالا وخيلا ذكورا |
١٠٥٤ ـ ومن نسج داود يحدي بها |
|
على أثر الخيل عيرا فعيرا (٣) |
(وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ). (٦)
__________________
(١) البيت تقدم في ١ / ١٢١.
(٢) أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى بن مريم إماما مهديا ، وحكما عدلا ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، وتوضع الجزية ، وتضع الحرب أوزارها.
(٣) البيتان في ديوانه ص ٨٨ ؛ والأول في المعاني الكبير ٢ / ٩٢١.
وفي الديوان :
ومن نسج داود موضونة |
|
تساق مع الحي عيرا فعيرا |
إذا دخلوها عرف كلّ منزله فسبق إليه.
وقيل : عرّفها : طيّبها.
قال الشاعر :
١٠٥٥ ـ فتدخل أيد في حناجر أقنعت |
|
لعادتها من الخزير المعرّف (١) |
(وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ). (١٢)
قاله وضعا منهم وتخسيسا لهم ، كما قيل في معناه :
١٠٥٦ ـ نهارك يا مغرور أكل وراحة |
|
وليلك نوم والردى لك لازم |
١٠٥٧ ـ وتكدح فيما سوف تكره غبّه |
|
كذلك في الدنيا تعيش البهائم (٢) |
(مَثَلُ الْجَنَّةِ). (١٥)
صفتها.
أي : الصفة التي مثّلت الجنة بها فصارت مثلا لها.
(فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ).
أسن الماء يأسن أسنا وأسونا فهو آسن : إذا تغيّر.
ومعنى الآية على وجهين :
ـ صفة الحال : أي : من ماء غير متغيّر.
__________________
(١) البيت لأسود بن يعفر يهجو عقال بن محمد بن سفيان ، وهو في لسان العرب مادة عرّف. (٢) البيتان كان عمر بن عبد العزيز يتمثل بهما ، وهما لعبد الأعلى القرشي في الحماسة البصرية ٢ / ٤٢٧. وهما أيضا في سير أعلام النبلاء ٥ / ١٣٨ ولم ينسبهما المحقق وعين الأدب والرياسة ص ١٧٨. ومدارج السالكين ٣ / ١٩٠ من غير نسبة. ويروى الأول [نهارك يا مغرور سهو وغفلة].