وضح البرهان في مشكلات القرآن - ج ٢

محمود بن أبي الحسن بن الحسين النيسابوري الغزنوي [ بيان الحق النيسابوري ]

وضح البرهان في مشكلات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود بن أبي الحسن بن الحسين النيسابوري الغزنوي [ بيان الحق النيسابوري ]


المحقق: صفوان عدنان داوودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القلم ـ دمشق
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

(وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ). (٤٥)

أي : ما بلغ أهل مكة معشار ما أوتي الأولون ، من القوى والقدر.

وقال ابن عباس : هم الأولون ما بلغوا معشار ما أتيناهم (١).

أي : ما بلغ أهل مكة معشار ما أوتي الأولون ، هذه الأمة فلا أمة أعلم منهم ، ولا كتاب أهدى من كتابهم.

(أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى). (٤٦)

أي : تناظرون مثنى ، وتتفكرون في أنفسكم فرادى ، فهل تجدون في أحواله وأخلاقه ومنشئه ومبعثه ما يتهمه في صدقه.

(يَقْذِفُ بِالْحَقِ). (٤٨)

يرمي به على الباطل.

(وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ). (٤٩)

لا يثبت إذا بدا.

(وَما يُعِيدُ).

لا يعرف إذا زال.

وقيل : لا يأتي بخير في البدء والإعادة. أي : الدنيا والآخرة.

(وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ). (٥٢)

التباطؤ.

وقيل : التناول. قال الراجز :

٩٤٤ ـ بات ينوش الدلو نوشا من علا

نوشا به يقطع أجواز الفلا (٢)

__________________

(١) أخرجه الطبري في تفسيره ٢٢ / ١٠٤.

(٢) الرجز لغيلان بن حريث. وهو في الكامل ٢ / ٢٩٢ ؛ والمنصف ١ / ١٢٤ ؛ وشرح المفصل ٤ / ٧٣ ؛ وحروف المعاني للزجاجي ص ٧٦.

٢٠١

والمراد بالتناوش هنا الرجعة ، عن ابن عباس.

والتوبة ، عن السدي (١).

والتناول ، عن الزجّاج.

أي : كيف يكون التناول من بعيد لما كان قريبا منهم فلم يتناولوه (٢).

(وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ).

يقولون : لا بعث ولا حساب.

(مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ). (٥٣)

أي : يقذفون من قلوبهم وهي بعيدة عن الصدق والصواب.

* * *

__________________

(١) وهو مرويّ عن قتادة أيضا. انظر الدر المنثور ٦ / ٧١٤.

(٢) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٢٥٩.

٢٠٢

(سورة الملائكة)

(فاطر) (١)

(مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ). (١)

قد ذكرناها أنها لتكرّر تلك الأعداد (٢) ، ولم ينصرف للعدل والعجمة. وقال بعض الطاعنين : إنّ صاحب الأجنحة الثلاثة لا يطير ، لزوال الاعتدال ، ويكون كالجادف الذي أحد جناحيه مقصوص؟

وأجاب عنه الجاحظ : [إنّه قريب معقول في الطيران ، إذا وضع على غير هذا الوضع ، يصير ثلاثة أجنحة وفق تلك الطبيعة ، ولو كان الوطواط في تركيبه كسائر الطير لما طار بلا ريش](٣) وكل إنسان فإنما ركبته في رجله ، وذوات الأربع ركبها في أيديها ، والإنسان وكل سبع فكفّه في يده ، والطائر كفّه في رجله.

ويجوز أن يكون موضع الجناح الثالث بين الجناحين ، فيكون عونا لهما ، فيستوي القري والحصص (٤) ، وإذا كان ذلك مكيّفا في معرفة العبد فكيف في قدرة الربّ؟!

ـ وأيضا قال : هذا البناء لتعدد العدد المسمى به ، ولذلك عدل عن البناء الأول.

__________________

(١) عن ابن عباس قال : كنت لا أدري ما «فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» حتى أتياني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها. قال : ابتدأتها.

(٢) راجع ١ / ٢٧٣.

(٣) راجع الحيوان للجاحظ ٣ / ٢٣٢.

(٤) يقال : رجل أحصّ بيّن الحصص : قليل شعر الرأس ، وكذا : طائر أحصّ الجناح. القاموس : حصّ.

٢٠٣

فثلاث إذا عبارة عن ثلاث ثلاث ، فتكون ثلاثة أجنحة من جانب وثلاثة من جانب فيعتدل.

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً). (٨)

جوابه محذوف ، يجوز أن يكون مثل : تريد أن تهديه ، ويجوز : فإنه يتحسّر عليه ، ويجوز : كمن آمن وعمل صالحا ، ويجوز : كمن علم الحسن والقبيح ، ويجوز : فإنّ الله يضلّه ، إلا أنه وقع «من يشاء» موقع الجميع.

ـ وإنما كان أكثر استفهامات القرآن بلا جواب لمعنيين :

أحدهما : ليكثر احتمال الجواز.

والثاني : لأنها من عالم لا يستعلم مستفيدا.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً). (١٠)

قال قتادة : أي : فليتعزز بطاعة الله.

وقال عليّ : من سرّه الغنى بلا مال ، والعزّ بلا سلطان ، والكثرة بلا عشيرة ، فليخرج من ذلّ معصية الله إلى طاعته.

وأنشد :

٩٤٥ ـ من رام ملكا في الورى

من غير سلطان ومال

٩٤٦ ـ وأراد عزّا لم يؤثّل

ه العشائر والموالي

٩٤٧ ـ فليعتصم بدخوله

في عزّ طاعة ذي الجلال (١)

(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ).

التوحيد.

وقيل : الثناء الحسن على الصالحين.

__________________

(١) الأبيات ليست في ديوانه.

٢٠٤

(وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ).

أي : يرتفع الكلام الطيب بالعمل الصالح.

(وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ). (١١)

قال البلخي (١) : أي : من عمر آخر غير الأول ، كما تقول : عندي درهم ونصفه.

أي : نصف آخر ، لأنّه لا يمتنع أن يزيد الله في العمر أو ينقص.

كما روي : «إنّ صلة الرّحم تزيد في العمر» (٢).

على أن تكون الأحوال قبل التغيير وبعده مستقرة في سابق علمه.

(وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ). (٢٧)

جدد : طرائق.

والجدّة : الطريقة.

(وَغَرابِيبُ سُودٌ). (٢٧)

من شرط التأكيد أن يتقدّم الأظهر ، كقولك : أسود حالك ، وأصفر فاقع ، فكذلك ينبغي أن يجيء : سود غرابيب ، ولكن تقديم الغرابيب لأنّ العرب ترغب عن اسم السواد ، حتى يسمّون الأسود من الخيل : الأدهم ، والأسود من الإبل : الأصفر.

__________________

(١) تقدمت ترجمته ص ٢٠٠.

(٢) الحديث ورد عن أبي أمامة مرفوعا ، ولفظه : «صنائع المعروف تقي مصارع السوء ، وصدقة السرّ تطفىء غضب الرّب ، وصلة الرحم تزيد في العمر». أخرجه الطبراني في الكبير بسند حسن. ـ وعن ابن مسعود مرفوعا : «صدقة السرّ تطفىء غضب الربّ ، وصلة الرّحم تزيد في العمر». أخرجه القضاعي ، وهو حديث ضعيف. راجع المقاصد الحسنة للسخاوي ص ٢٦٠ ـ ٢٦١.

٢٠٥

قال أبو عبيدة في بيت الأعشى :

٩٤٨ ـ تلك خيلي منهم وتلك ركابي

هنّ صفر أولادها كالزّبيب (١)

فبدأ الله بما هو واجب عندهم ، وأخّر ما هو أكره في أسماعهم.

(فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ). (٣٢)

يحتمل أصحاب الصغائر والكبائر ، فيكون قوله : (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) دليلا على أنّ جملة هذه الأمة مصطفاة متخيّرة على غيرها وإن كان فيها الفسقة المرقة.

(وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ).

والمقتصد : المتوسط في الطاعة.

(وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ).

والسابق : أهل الدرجة القصوى منها.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ). (٣٤)

هموم الدنيا ومعايشها.

(وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ). (٣٧)

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : الشيب. وفي معناه قيل :

٩٤٩ ـ وقائلة : تبيضّ والغواني

نوافر عن معاينة القتير

٩٥٠ ـ ألا إنّ المشيب نذير ربّي

ولست مسوّدا وجه النّذير (٢)

__________________

(١) البيت في ديوانه ص ٢٧ من قصيدة له يمدح فيها قيس بن معديكرب وهو في شواهد الإيضاح ص ١١٤.

(٢) البيتان في روح المعاني ٢٢ / ٢٠١ من غير نسبة ؛ وعيون الأخبار ٤ / ٥١ ؛ والعقد الفريد ٢ / ٣٢٦ من غير نسبة من المحقق ، وهما للعتبي في الكامل ١ / ٣٤٢. والثاني في تفسير القرطبي ١٤ / ٢٥٤. ـ

٢٠٦

(إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ). (٤٢)

ما لقوه من صنوف العذاب أو الموت.

(ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها). (٤٥)

لأنها خلقت للناس.

* * *

__________________

ـ ورواية العقد الفريد :

وقائلة تقول ـ وقد رأتني ـ

أرفع عارضيّ من القتير :

عليك الخطر علّك أن تدنّى

إلى بيض ترائبهنّ حور

فقلت لها : المشيب نذير عمري

ولست مسوّدا وجه النذير

٢٠٧
٢٠٨

(سورة يس) (١)

(ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ). (٦)

يجوز أن يكون «ما» بمعنى النفي (٢).

ويجوز بمعنى الذي.

أي : لنخوّفنّهم الذي خوّف آباءهم ، وهذا أولى ، لأنّ الأرض لا تخلو من حجة تخوّف.

(إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً). (٨)

نزلت الآيتان فيمن همّ أن يفتك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصرفهم الله عنه (٣).

ـ ويجوز أن يكون ذلك صورة عذابهم في الآخرة.

ـ ويجوز أن يكون ذلك مثل امتناعهم عن الإيمان كالمغلول عن التصرف.

__________________

(١) عن ابن عباس قال : نزلت سورة يس بمكة. ـ وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي عن معقل بن يسار أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يس قلب القرآن ، لا يقرأها عبد يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له ما تقدّم من ذنبه ، فاقرؤوها على موتاكم. المسند ٥ / ٢٦ ؛ والمستدرك ١ / ٥٦٥ ؛ وأبو داود ٣١٢١.

(٢) أي : هذه الأمة لم يأتهم نذير حتى جاءهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) أخرج ابن جرير عن عكرمة قال : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا لأفعلنّ ولأفعلن ، فنزلت : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) إلى قوله : (لا يُبْصِرُونَ) فكانوا يقولون : هذا محمد ، فيقول : أين هو؟ أين هو؟ لا يبصره. انظر تفسير الطبري ٢٢ / ١٥٢.

٢٠٩

كما قال الأفوه الأودي :

٩٥١ ـ كيف الرشاد إذا ما كنت في نفر

لهم عن الرشد أغلال وأقياد

٩٥٢ ـ أعطوا غواتهم جهلا مقادتهم

وكلّهم في حبال الغيّ منقاد (١)

(فَهُمْ مُقْمَحُونَ).

مرفوعة رؤوسهم.

والقمح : رفع الشيء إلى الفم.

وقيل : المقمح : الذي يرفع رأسه فيصوّبها إلى ظهره ، فيكون خارج الصدر متطامن ما بين المنكبين ، وتلك هيئة البعير إذا رفع رأسه (٢).

(وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا). (١٢)

أعمالهم.

(وَآثارَهُمْ).

سننهم التي استنّ بها من بعدهم (٣) ، كقوله تعالى : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ)(٤).

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ

__________________

(١) البيتان في الحماسة البصرية ٢ / ٦٩ ؛ والاختيارين ص ٧٨ ؛ وأمالي القالي ٢ / ٢٢٨.

(٢) عن ابن عباس أنّ نافع بن الأزرق سأله عن قوله تعالى : مُقْمَحُونَ؟ قال : المقمح : الشامخ بأنفه المنكس برأسه ، قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم ، أما سمعت قول الشاعر :

ونحن على جوانبها قعود

نغضّ الطرف كالإبل القماح

(٣) أخرج الترمذي وحسنه ، والحاكم وصححه وعبد الرزاق عن أبي سعيد الخدري قال : كان بنو سلمة في ناحية من المدينة ، فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد ، فأنزل الله : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) فدعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنه يكتب آثاركم ، ثم قرأ إليهم الآية فتركوا. انظر العارضة ١٢ / ١٠٧ ؛ والمستدرك ٢ / ٤٢٩.

(٤) سورة القيامة : آية ١٣.

٢١٠

اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ). (١٤)

أصحاب القرية : أهل أنطاكية.

والرسولان الأولان : تومان وبولص.

والثالث : شمعون.

(قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ). (٢٠)

رجل يسعى : حبيب النجار.

كان من بني إسرائيل ، وكانت السماء أمسكت فتطيّروا بهم وقتلوهم ، فلمّا رأى حبيب نعيم الجنّة تمنّى إيمان قومه بني إسرائيل ، فقال : (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي (٢٧)).

بأيّ شيء غفر.

ـ الجزء الثّالث والعشرون ـ

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ). (٢٨)

لم تحتج إلى جند.

(إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً). (٢٩)

أي : ما كانت إلا صيحة.

(فَإِذا هُمْ خامِدُونَ).

ميّتون كالنار الخامدة.

(يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ). (٣٠)

تلقين لهم أن يتحسّروا على ما فاتهم.

(وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ). (٣٢)

٢١١

إن كلا لجميع لدينا محضرون.

وبالتشديد (١) : على أنها بمعنى «إلا».

أو : «إن» بمعنى «ما» أي : ما كلّ إلا جميع لدينا محضرون.

و«جميع» في الوجهين تأكيد للكلّ.

(لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ). (٣٥)

يحتمل معنى الإثبات والنفي.

الإثبات أي : يأكلون هنيئا بغير صنعة كالرطب والفواكه ، ويصنعون منه بأيديهم.

(نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ). (٣٧)

نخرج منه ضوءه كما تسلخ الشاة من جلدها.

(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها). (٣٨)

لانتهائها وفنائها عند انقضاء الدنيا (٢).

وقيل : لأبعد مغاربها من الأفق ، ثم تكرّ راجعة إليها.

(وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ). (٣٩)

القمر نصبه بتقدير فعل مضمر ، كأنّه : قدرنا القمر قدّرناه ، فيكون

__________________

(١) قرأ «لّما» بالتشديد ابن عامر وعاصم وحمزة وابن جماز على أنها بمعنى إلا ، و«إن» نافية والباقون بتخفيفها على أنّ «إن» مخففة من الثقيلة ، و«ما» مزيدة للتأكيد. راجع الإتحاف ص ٣٦٤.

(٢) أخرج البخاري وغيره عن أبي ذر قال : كنت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند غروب الشمس فقال : يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس ، قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فذلك قوله : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) قال : مستقرها تحت العرش. انظر فتح الباري ٨ / ٥٤١.

٢١٢

الفعل المضمر قبل القمر معلوما بالفعل المظهر بعده. هذا مذهب سيبويه في قولك : زيدا ضربته.

قال أبو عبيد : لا سيما وقد تقدّم القمر ما يمكن أن يعمل في نصبه ، وهو : (نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) ، أي : نسلخ النهار ، ونقدّر القمر قدرناه منازل.

هي المنازل المعروفة الثمانية والعشرون.

(حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ).

العذق اليابس.

والعذق : ما يخرج من قضبان الكرم والنخيل ، فيدقّ ويتقوس.

والقديم : الذي أتى عليه حول فدقّ واستقوس.

ولا يعجبنا اختيار المتكلمين لفظة «القديم» من بين أسماء الله الحسنى ، وقد شبّه الله بالعرجون بعض خلقه في أضعف حالاته ، وجعل القديم من أدق صفاته (١).

ـ وكذلك قولهم : «الذات» خطأ ؛

لأنّ صفات الله لا تلحقها تاء التأنيث للمبالغة (٢) ، لا يقال : علّامة ، وهو أعلم العالم.

__________________

(١) راجع ما كتبناه في ذلك في المقدمة بعنوان : «من آراء المؤلف في علم الكلام» ١ / ٧٧.

(٢) نقل ابن القيم عن السهيلي في ذلك كلاما حسنا فقال : وأمّا الذات فقد استهوى أكثر الناس ولا سيما المتكلمين القول فيها أنها في معنى النفس والحقيقة. ويقولون : ذات الباري هي نفسه ، ويعبرون بها عن وجوده وحقيقته ، ويحتجون في إطلاق ذلك بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قصة إبراهيم : «ثلاث كذبات كلهنّ في ذات الله» ، وقول خبيب :

وذلك في ذات الإله ...

 ................

قال : وليست هذه اللفظة إذا استقريتها في اللغة والشريعة كما زعموا ، ولو كان كذلك لجاز أن يقال : عند ذات الله ، واحذر ذات الله ، كما قال تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) وذلك غير مسموع. ـ

٢١٣

(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ). (٤٠)

أي : بسرعة سير القمر ، كما يرى ذلك في حركتها من المغرب إلى المشرق ؛ فبينا هو يجامع الشمس في الأفق الغربي من أول الشهر ، إذ هو يستقبله في النصف منه.

ـ وقال يحيى بن سلّام (١) : إنّ المراد به ليلة البدر ، لأنه يبادر في صبيحتها بالمغيب قبل طلوعها.

(وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ).

أي : لا يأتي الليل إلا بعد النهار. وقت النهار بتمامه.

ـ وسئل الرّضا (٢) عند المأمون عن الليل والنهار أيّهما أقدم وأسبق؟

فقال : النهار. فطلب منه الدليل؟

فقال : أما من القرآن فقوله تعالى : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ).

__________________

ـ وإذا قلت : جاهدت في الله ، وأحببتك في الله ، فمحال أن يكون هذا اللفظ حقيقة لما يدل عليه هذا الحرف من معنى الوعاء ، وإنما هو على حذف المضاف. أي : في مرضاة الله وطاعته. وإذا ثبت هذا فقوله : «في ذات الله» أو «في ذات الإله» إنما يريد : في الديانة والشريعة التي هي ذات الإله ، فذات وصف للديانة ، وكذلك هي في الأصل موضوعها نعت لمؤنث ، ألا ترى أنّ فيها تاء التأنيث ، وإذا كان الأمر كذلك فقد صارت عبارة عما تشرّف بالإضافة إلى الله تعالى عزوجل لا عن نفسه سبحانه ، قال : وهذا من كلامه من المرقصات ، فإنه أحسن فيه ما شاء. راجع بدائع الفوائد ٢ / ٦ ـ ٧.

(١) أبو زكريا البصري ، روى الحروف عن أصحاب الحسن البصري ، وروى عن حماد بن سلمة. كان ثقة ثبتا ذا علم بالكتاب والسنّة ومعرفة اللغة والعربية ، صنف «تفسير القرآن» وليس لأحد من المتقدمين مثله ، توفي سنة ٢٠٠ ه‍. وتوجد بعض الأجزاء منه مخطوطة.

(٢) هو أبو الحسن علي الرضا بن موسى الكاظم ، أحد الأئمة الاثني عشر على اعتقاد الإمامية ، وكان المأمون قد زوجه ابنته أم حبيب ، وجعله وليّ عهده. توفي سنة ٢٠٢ ه‍. راجع وفيات الأعيان ٣ / ٢٦٩ ـ ٢٧١.

٢١٤

وأمّا من الحساب : فخلق الدنيا بطالع السرطان ، والكواكب في أشرافها ، فيقتضي كون الشمس من الحمل في عاشر الطالع أن يكون في وسط السماء.

(وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).

يسيرون بسرعة.

ومنه : فرس سابح وسبوح.

قال الراجز :

٩٥٣ ـ ومهمه فيه السّراب يسبح

يدأب فيه القوم حتّى يطلحوا

٩٥٤ ـ وإن غدوا فيه وإن تروّحوا

كأنّما أمسوا بحيث أصبحوا (١)

(حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ). (٤١)

أي : آباءهم. سمّي الآباء ذريّة ؛ لأنه ذرأ الأبناء منهم ، على طريق تسمية السبب باسم المسبب ، كما قال الراجز :

٩٥٥ ـ أقبل في المستنّ من ربابه

أسنمة الآبال في سحابه (٢)

(وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ). (٤٢)

من سائر السفن التي هي مثل سفينة نوح.

__________________

(١) الرجز لمسعود أخي ذي الرمة. وهو في ديوان المعاني ٢ / ١٢٨ ؛ والصناعتين ص ٢٩٣ ؛ والحيوان ٣ / ٧٣ ؛ وربيع الأبرار ١ / ٢٠٥. وكان أبو حامد المرورّوذي الفقيه الشافعي إذا سمع تراجع المتكلمين في مسائلهم ، ورأى ثباتهم على مذاهبهم بعد طول جدالهم يتمثل بهذين البيتين. ـ ولم ينسبهما محققا كتاب الصناعتين علي البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم.

(٢) الرجز في الكشاف ؛ وشرح أبيات الكشاف ص ١٣٦ ، يصف مطرا بالكثرة والثروة ؛ وغريب الحديث للخطابي ٢ / ٨٥ ؛ والكامل ٢ / ٦٨. وفي المخطوطة [أسيمه] بدل [أسنمة] و[سجامه] بدل [سحابه] وكلاهما تصحيف.

٢١٥

وقيل : هي الزواريق.

وقيل : الإبل فإنها سفن البرّ. قال طرفة :

٩٥٦ ـ كأنّ حدوج المالكية غدوة

خلايا سفين بالنّواصف من دد (١)

وقال المثقّب :

٩٥٧ ـ وهنّ كذاك حين قطعن فلجا

كأنّ حمولهنّ على سفين

٩٥٨ ـ يشبّهن السّفين وهنّ بخت

عراضات الأباهر والشّؤون (٢)

(اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ). (٤٥)

من عذاب الدنيا.

(وَما خَلْفَكُمْ).

من عذاب الآخرة.

(وَهُمْ يَخِصِّمُونَ). (٤٩)

أي : في متاجرهم ومبايعهم.

(يَنْسِلُونَ). (٥١)

يسرعون (٣).

__________________

(١) البيت في معلقته الدالية. وهو في شرح المعلقات لابن النحاس ١ / ٥٤ ؛ والفرق بين الحروف الخمسة ص ٤٥١ ؛ والخصائص ١ / ٧٠ ؛ واللسان مادة ددا. وفي المخطوطة : [سنين] بدل [سفين] و[مرود] بدل [من دد] وكلاهما تصحيف. النواصف : رحاب في الأودية ، والحدوج : مراكب النساء ، ودد : اسم موضع.

(٢) البيتان من قصيدته المفضلية. وهما في المفضليات ص ٢٢٨ ؛ ومنتهى الطلب ١ / ٢٩٩.

(٣) عن ابن عباس أنّ نافع بن الأزرق سأله عن قوله تعالى : (إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ)؟ قال : النسل : المشي الخبب. قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم أما سمعت نابغة بن جعدة وهو يقول :

عسلان الذئب أمشي قاربا

برد الليل عليه فنسل

٢١٦

وقيل : يخرجون.

(مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا). (٥٢)

يخفّف عنهم بين النفختين فينامون (١).

(فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ). (٥٥)

ناعمون.

وذلك الشغل افتضاض الأبكار.

وقيل : السماع.

والأولى أن يحمل على كلّ لذة ونعيم.

وقال الفرّاء : الفكه والفاكه واحد (٢) ، وهو : الرجل الطيّب الحديث ، الناعم البال.

وقال أبو عبيدة : الفكه : الذي يتفكّه بالطعام (٣).

والفاكه : صاحب الفاكهة ، كالتامر واللابن.

(وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ). (٥٧)

يستدعون ويتمنّون.

(سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ). (٥٨)

ولهم من الله سلام يسمعونه (٤).

__________________

(١) عن مجاهد قال : للكفار هجعة يجدون فيها طعم النوم قبل يوم القيامة ، فإذا صيح بأهل القبور يقول الكافر : (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) فيقول المؤمن : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ).

(٢) راجع معاني القرآن للفراء ٢ / ٣٨١.

(٣) راجع مجاز القرآن ٢ / ١٦٣. وقرأ «فكهون» أبو جعفر.

(٤) أخرج ابن ماجه وابن أبي الدنيا والبزار وابن مردويه عن جابر رضي الله عنه قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بينا أهل الجنّة في نعيمهم إذ سطح لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الربّ قد أشرف عليهم من فوقهم فقال : السّلام عليكم يا أهل الجنّة ، وذلك قول الله : (سَلامٌ

٢١٧

ومعناه : بشارة الله لهم بسلامتهم أبدا.

(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ). (٥٩)

ينفصل فرق المجرمين بعضهم عن بعض.

(وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً). (٦٢)

خلقا كثيرا.

والأولى : جبلا ، بدليل مؤنّثه الجبلة ، كقوله تعالى : (وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ)(١).

وهذا كما يقال : بعير ذفر ، وناقة ذفرة ، إذا كانت عظيمة الذّفرى (٢).

ويجوز أن يكون الجبلّ جمع جبلّة.

وأمّا «جبلا» بالضمتين (٣) ، فهي جمع جبيل ، مثل : سبيل وسبل ، ومعناه المجبول ، مثل : الجريح والقتيل.

(لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ). (٦٦)

أعميناهم في الدنيا.

(فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ).

الصراط : الطريق ، فكيف يبصرون.

(لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ). (٦٧)

أي : منازلهم حيث يجترحون المأثم.

__________________

قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) قال : فينظر إليهم وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ، ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم.

(١) سورة الشعراء : آية ١٨٤.

(٢) الذفرى : عظم في أعلى العنق من الإنسان ، والذّفر من الإبل : العظيم الذفرى ، والأنثى : ذفرة. وقيل : الذفرة : النجيبة الغليظة الرقبة.

(٣) وهي قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي ورويس وخلف. الإتحاف ص ٣٦٦.

٢١٨

(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ). (٦٨)

نبلغه ثمانين سنة.

(نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ).

نردّه من القوة إلى الضعف ، ومن الجدّة إلى البلى ، ومن الزيادة إلى النقصان.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا). (٧١)

مما تولينا خلقه ، كقوله تعالى : (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)(١).

وقال الحسن : ما عملت قوانا.

واليد : القوّة ، كالأيد.

والله يتعالى عن أن تحلّه القوة أو الضعف ، ولكن معناه : مما عملت قوانا التي أعطيناها الأشياء من الأمور السماوية والأرضية.

(وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ). (٧٥)

أي : في النار.

أو : عند الحساب.

لا يتمكّنون من نصرهم وهم حاضرون.

* * *

__________________

(١) الآية تمامها : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) سورة الشورى : آية ٣٠.

٢١٩
٢٢٠