تفسير يحيى بن سلّام - المقدمة

تفسير يحيى بن سلّام - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٩

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تقديم بقلم الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة

القرآن كتاب الله وخطابه للعالمين : أنزله العزيز الحكيم على رسوله محمد المصطفى الأمين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بلسان قومه. فالمخاطبون به هم أهل اللسان. (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣) [فصلت : ٣]. قال ابن خلدون : إن القرآن نزل بلغة العرب ، وعلى أساليب بلاغتهم. فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه. ولم يظهر ما ظهر من عناد المشركين ومخالفتهم له إلا بسبب معارضته لهم وتحديهم به. (وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) [الأحقاف : ١٢].

واحتاج الصحابة لفهم بعض نصوصه والوقوف على دقائقها ، والإدراك التام لمعانيها أن يسألوا رسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها. فكان يفسّر لهم بعض ألفاظ القرآن واستعمالاته : يبين مجمله ، ويوضح مشكله ، ويدلّهم على ما ورد به من تخصيص للعام أو تقييد للمطلق. وقد اشتملت على ذلك كله أبواب التفسير من كتب السّنة والبيان من وظيفة الرسول. قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل : ٤٤] ، وقال : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٦٤) [النحل : ٦٤].

وذكروا عن المقرئين أمثال عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهم ، وفيما رواه أبو عبد الرحمن السلمي عنهم : أنهم كانوا إذا تعلّموا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلّموا ما فيها من العلم والعمل. قالوا : فتعلّمنا القرآن والعلم والعمل جميعا.

وكانت طريقة الصحابة في بيان مدلولات القرآن نفس الطريقة التي ألفوها في تفسير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا يتركونها إلا إذا دعاهم الأمر إلى إمعان النظر فيما يتوقفون عنده من الآي ، فيستعينون بقوة أفهامهم وكمال سليقتهم اللغوية ، ومعرفتهم بدقائق التصرفات القولية وأسرارها ، غير غافلين مع ذلك من عادات العرب التي كانوا على إلمام بها ، وعن أحوال معاصريهم في البلاد من أصحاب الديانات كاليهودية والنصرانية.

وتلقّى التابعون عن الصحابة أقوالهم وآراءهم في التفسير ، وأضافوا إليها ما هداهم الله عن طريق الاجتهاد والنظر إليه ، مما يكشف عما غمض فهمه أو تصوروه خطأ لدى

٣

معاصريهم. وكانت في هذا مدارس ثلاث : مدرسة مكة أتباع ابن عباس ، ومدرسة أهل الكوفة أصحاب ابن مسعود ، ومدرسة المدينة التي برز فيها زيد بن أسلم.

ومن هؤلاء وأولئك جميعا تكونت المرحلة الأولى ، مرحلة التفسير بالمأثور. عرف من رجالها مجاهد ، وإسماعيل السدي ، والحسن البصري ، وعبد الملك بن جريج ، وسفيان الثوري ، ويحيى بن سلام ، والطبري. وهي وإن اعتمدت الإسناد عند أكثر أفرادها في رواية التفسير لكنها عنيت بجوانب عديدة أخرى.

فبعضها عني بعلوم اللغة والقراءات وأسباب النزول.

وبعضها كان يقوم على علوم اللغة وعلى رواية الشعر والاستشهاد به ، وذكر مجازات العرب وطرق استخدامها.

والبعض الآخر يتميز مع الرواية للأقوال الكثيرة بنقدها مع التعليل لها بجملة من الحجج العلمية.

والمدرسة الأولى هذه هي أقرب المدارس إلى الأصل الذي أخذت منه ، واعتمدت عليه. وهي الأبعد عن التكلف وعن العمل بالرأي الذميم. فكل ما فيها أساسه الصحة أي النقل إما عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو أصحابه ، وإما عن العرب في لغتها وما تتحمله اللغة من اختلاف في دلالاتها.

وبدون هذا لا يقدر أحد على الإحاطة بمعاني القرآن. وهذا العلم ضروري لقول حبر الأمة ابن عباس محذرا : من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار.

وتطور الأمر بعد ذلك من بداية عصر التدوين إلى اليوم ، وأصبح القصد من علم التفسير البحث عن بيان معاني القرآن وعما يستفاد منها باختصار أو توسع.

والتفسير معدود في طليعة العلوم الإسلامية. وقد جعلوا من استمداداته بجانب علم العربية علم الآثار ، وأخبار العرب ، وأصول الفقه ، وعلم الكلام ، وعلم القراءات. واشترطوا على المفسّر أن يكون عارفا باللغة والبيان. وقالوا : لا يعرف تفسير القرآن إلا من عرف اثنتي عشرة خصلة هي : المكي والمدني ، والناسخ والمنسوخ ، والتقديم والتأخير ، والمقطوع والموصول ، والخاص والعام ، والإضمار والعربية.

ومرّ تاريخ التفسير في عصر التدوين بمراحل متعددة ، تميّزت بخصائص عديدة :

منها الانفصال عن الحديث بترك الأسانيد ، ولكن مع الاحتفاظ بما ورد منه أحيانا في دواوين السّنة.

وانفصال التفسير انفصالا تاما عن المدرسة النقلية. فجاءت كتب التفسير متأثرة بالمنهج العقلي ومعتمدة على الرأي.

وظهرت منها تفاسير عرفت بالقراءات أو بعلوم العرب : من لغة ، أو نحو ، أو بيان ، أو أدب.

أو بالمذاهب الكلامية والعقدية ، أو بالمذاهب الفقهية وبآيات الأحكام.

٤

فكل عالم أو مجتهد في اللغة أو البيان ، وفي الفقه أو الأحكام سلم له الناس ، خاصتهم وعامتهم ، بالتفوق وبلوغ الذروة في العلم إلا وقد أسهم في إغناء علم التفسير ، الذي هو المرجع الأساس لفهم كتاب الله ، والعمل بأحكامه ، والتأدب بحكمه وتوجيهاته.

وطلعت علينا تفاسير أخرى كانت متأثرة بالمذاهب الصوفية أو الإشارية ، أو بالنحل والأهواء ، وأخرى نزع فيها بعض المفسّرين منزع الثقافة العلمية أو الفلسفية المعاصرة.

وربما وقعت أيدينا أحيانا على مؤلفات هي بعيدة تمام البعد عن موضوع التفسير فلا صلة ولا علاقة لها به.

ومع التنوع واختلاف المناهج بين جملة ما وصل إلينا من التفاسير على طول عصر التدوين نلفي ظاهرة أخرى خطيرة أملتها النوازع العقدية والأهواء أو السياسات. وهكذا ابتعد أصحابها عن أصول التفسير وقواعده. فلم يلتزموا الأصول العلمية الكثيرة ولا الذوقية في تحريراتهم ، وكانوا يفتقدون مع ذلك المعرفة بأسرار ودقائق بناء اللغة العربية فلم يتحروا الأمانة ولا الصدق فيما صدر عنهم من ذلك.

وكانت من بين هؤلاء طائفة من الباطنية القديمة عطلت دلالة التراكيب ، وأنكرت أن تكون المعاني مستفادة منها بطريق الوضع اللغوي والتأليف النحوي والبلاغي.

وجنحت إلى الإشارات بإيراد الأعداد وأسرار الحروف. وزعمت أن علم ذلك خفي يتلقّى بطريق الوراثة أو الوصاية أو الهبة. فكانوا بذلك معطلين لمعنى الدين منكرين لحقيقته وملحدين عنه إلى الكفر [التفسير ورجاله : ٨].

وتلحق بهذه الطائفة في العصر الحاضر جماعة ، بضاعتها مزجاة في علوم اللغة العربية وأسرارها. وهي ذات تكوين غربي لا يعينها بمفرده على التمييز بين خصائص الآداب والحضارات العالمية. وقصدها الأساس فيما ذهبت إليه القبول التام للحضارة الغربية المعاصرة دون تحفظ أو نقد ، وسلوك الاتجاه الليبرالي التحديثي للتوصل إلى قراءة التراث الديني الإسلامي من منظور غربي علماني ، مع إغفال تام لأصول التفسير وقوانين التأويل. وهي تدعوا إلى قراءة جديدة للقرآن ، مستبعدة معها البيان النبوي والسّنة الموثقة التي اقترنت به من عهد نزوله ، كما أنها تعتمد في فهم التراث الديني الإسلامي وقائع التاريخ والتجربة الحضارية الإسلامية انطلاقا من فروض مسبقة وآراء التزمت بها.

وهذا من الهرمينوطيقاscituenemreH التي عرفها الغرب ، وتقوم بالدعوة إليها وبعثها من جديد ثلة من الأغراب عن تفكيرنا ومناهجنا.

ذكر د / حسن الشافعي عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة «الهرمينوطيقا الغربية» وردها إلى أصلها. فهي مصطلح إغريقي يطلق على قواعد التأويل والفهم للنصوص الدينية. وقد التصق من قديم بالتيولجيا المسيحية. وهي تقدم صورة للفكر الديني

٥

والفلسفي في سياق الحضارة الغربية ودراسات الكتاب المقدس. كما أنها تهدد اللسان العربي وبيانه فضلا عن تراثنا الديني والحضاري.

ولكون النصرانية لا يتضمن إنجيلها شيئا من التشريع ، استبعد أهل هذه الفئة الفكرة المبتدعة العلوم الشرعية وردوها في فهم القرآن.

وطبق الهرمينوطيقيون من جهة المنهج التفكيكي على آيات القرآن الكريم طلبا للكشف عن القرآن الحقيقي الذي اختلط نصه في زعمهم بأساطير وأوشاب ينبغي تخليصه منها ، كما دعوا إلى تسليط قوانين البحث على جملة من الحقائق اعتبرها المسلمون من مظاهر قدسية الكتاب العزيز ، فشككوا في الوحي وفي جميع القرآن وقطعيته ، منصرفين عن السّنة المبينة والمعضدة له انصرافا كاملا ، ومنتهين إلى إنكار كون القرآن من عند الله. وكل ذلك استهدفوه من أبحاثهم قبل إعدادها ، بل قبل الشروع فيها.

ومن جهة ثانية اتجهت هذه الفئة من خلال فهمها التقدمي لنصوص القرآن إلى رفض جملة من التشريعات الإسلامية كإباحة الطلاق والقول بتعدد الزوجات مثلا ، مدّعية أن هذا الفهم للقرآن يفرض القطيعة الثقافية مع التفاسير الرجعية ، وهكذا أوّلوا الخلق والزوج والإرث ونحوها من الكلم الواضحة التي ورد بها القرآن بتآويل بعيدة كل البعد عن مدلولاتها في اللغة العربية الصحيحة ، طمعا في الخلوص من هذا إلى القول مثلا بالمساواة التامة بين الذكر والأنثى ، مؤكّدين أن تأويل القرآن لا يلزم أن يكون مقتصرا على ثقافة معيّنة بل يتعيّن لديهم أن يخضع لظروف وبيئات ثقافية متنوعة. ويعلّلون هذا كله ، ويجرأون على الله بقولهم : إن للقرآن وظيفة مؤقتة ، واستجابة لظروف آنية غير دائمة ، وهذا ما تقتضيه تاريخانية الأحكام والنصوص القرآنية في مدلولاتها ومجال تطبيقاتها.

وهذه المحادة للقرآن وهديه وأحكامه لا تقبل من عاقل متدبّر ولا من مفكر ينطلق من أسس سليمة في تفكيره ونظرياته فكيف إذا كان من مسلم أو مؤمن!. لقد حادوا عن قوانين اللغة ، وتجاهلوا عروبة النص القرآن ، ولغوا في تفسير القرآني لغوا سخيفا مكشوفا. فهم ليسوا أهل اللسان ، ولا أهل القرآن ، ولا أهل الشريعة. وقد بذلوا من الجهد قصاراه لاستبعاد العلوم الشرعية التي دونت وأنضجت لخدمة النصوص الدينية وتوثيقها وفهمها واستنباط الأحكام منها حتى يتم لهم التحرر المطلق ويقولوا في القرآن بما تأولوه تحكّما وبما ليس منه.

وتباينت على هذا الأساس المدرستان المتقابلتان : مدرسة التفسير النبوي ، والمدرسة العصرية. ووردت فيهما توجيهات ونصوص لا تخفى على أحد إلا على من طبع الله على قلبه فهو لا يعي ولا يفهم وهو شديد الجدال. فمن التوجيهات مقالة شيخ الإسلام ابن تيمية : إن أحسن وأصح الطرق في التفسير : تفسير القرآن بالقرآن. فما أجمل في مكان فإنه قد يفسر في موضع آخر ، وما اختصر في مكان فقد يبسط في موضع آخر.

٦

فإن أعياك ذلك فعليك بالسّنة ... قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه». والسّنة أيضا تتنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن ، لا أنها تتلى كما يتلى. وقد قال تعالى في ذلك : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٤) [النجم : ٣ ، ٤]. وإذا لم نجد التفسير في القرآن أو السّنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة. فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن ، والأحوال التي اختصوا بها ، ولما لهم من الفهم التام ، والعلم الصحيح ، والعمل الصالح ، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين أمثال ابن مسعود وابن عباس. فإن لم يوجد ذلك في القرآن ولا في السّنة ولا في أقوال الصحابة فإن الرجوع ينبغي أن يكون إلى أقوال التابعين منهم إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة ، وإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم. ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السّنة ، أو عموم لغة العرب ، أو أقوال الصحابة في ذلك [الفتاوى : ١٣ / ٣٦٣ ـ ٣٧٠].

وتفسير القرآن بمجرد الرأي حرام. ورد فيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» ، و «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ».

وقد توعد الله أصحاب هذه الاتجاه في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٧) [لقمان : ٦ ، ٧].

وورد في ذلك أيضا قوله جل وعلا : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٧٥) [البقرة : ٧٥].

وعرّض بهم القرآن وكذبهم فيما جاؤوا به : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٧٨) [آل عمران : ٧٨].

ومع اتضاح سبيل كل مدرسة من المدرستين خشي العلماء من التجاوز أو الانحراف أن يحصل من الأولى نحو الثانية. وذلك عند فقدان الأساس الذي يبنى عليه التفسير بالرأي ، وعند عدم حصول ما يلزم من العلوم للمفسّر ، ليتمكن من البيان للناس ، وبحرصه على تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله ، ويكون التفسير لديه طريقا لتقرير المذهب الفاسد فيجعله تابعا له وصورة منه ، وهكذا التفسير بالاستحسان والهوى ، والتفسير مع القطع بأن الله ما أراد غير ذلك من قوله. وهذا منهي عنه شرعا لما يقترن به من غواية الشيطان. قال تعالى : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (١٦٩) [البقرة : ١٦٩]. فهذه من مثارات التفسير بالرأي المذموم. [السيوطي. الإتقان : ٢ / ٢١٦ ، ابن عاشور. التحرير والتنوير : المقدمة ٣ ، ١ / ٣٠ ـ ٣٣].

والواجب على العلماء واللغويين والفقهاء تجاه هذا المنهج المبتدع هو الكشف عن

٧

حقيقته ، وإبطال أقواله ، والردّ على ضلالاته ، وتحصين القراء منه ووقايتهم ، وخاصة الشباب ، من الوقوع في حبائله أو الاغتراء بما جاء به من تشويه للفكر العربي الإسلامي ، وصرف الناس عن الهدى والحق وتعاليم الدين.

ولعل ، من خير الوسائل في هذا ، العناية الفائقة بمصنفات الرعيل الأول من رجال مدرسة النبوءة ، الذين تميزوا بحكم ظروفهم التي عاشوها ، والأمانة التي تلقّوها بأن كانوا الأحقاء بأن يقولوا في التفسير مقالاتهم المختصرة والمحرّرة ، لما نشأوا عليه من لغة سليمة فصيحة ، كانوا هم أنفسهم الحجة والمرجع فيها ، ولما حملوه من الرسول وصحابته من كلام في آيات القرآن بعيد عن الضعف والوضع ، فيه كل ما يعتمد ويعتدّ به للسير على منهجهم ، وشرح الآي ولو شرحا مختصرا وبيان ما تناولته من حكم وأحكام ، هي سبيل الهداية وطريق الإيمان الكامل والمعرفة الصادقة.

وقد منّ الله على رواد التفسير بالمأثور بالوقوف على جملة من المصنفات من بينها تفاسير مجاهد بن جبر وسفيان الثوري وسعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط ، والطبري وابن المثنى. وبدأت حركة النشر تطل علينا من المشرق والمغرب. وكان بعض التفاسير معنيا بالأسانيد في الرواية عن الصحابة والتابعين ، بيانا للأصول ، وتوثيقا لما أوردته من أقوال وآراء ، والبعض الآخر منصبا التفسير فيه على الآي من الناحيتين الإفرادية والتركيبية للألفاظ ، ومن جهة الاستعمالات والتصرفات القولية.

واليوم يطلع علينا جزءهام من تفسير يحيى بن سلام بن أبي ثعلبة التيمي البصري ، ليس لأحد من المتقدمين عليه مثله. وهو اللغوي العالم بالكتاب والسّنة ، الذي روى عنه شيوخه من العلماء : أمثال مالك بن أنس ، والليث بن سعد ، وسعيد بن أبي عروبة.

وذكرت المصادر أنه قال : أحصيت بقلبي من لقيت من العلماء ، فعددت ثلاثمائة وثلاثة وستين عالما سوى التابعين وعددهم أربعة وعشرون ، وامرأة تحدث عن عائشة.

لقي التابعين وروى عنهم ، كما روى أكثر من لقيه منهم عنه.

ومن رواة تفسيره عن طريق ابنه محمد : ابن أبي زمنين ، وابن الفرضي ، وابن خير الإشبيلي الأندلسي ، وابن حجر ، والروداني وغيرهم.

ونقل عنه أكثر أهل العلم بالتفسير في كتبهم كما فعل الماوردي في النكت والعيون ، وابن الجوزي في زاد المسير ، والقرطبي في جامعه وفي التذكرة ، وابن حجر في الفتح وفي العجاب في بيان الأسباب ، والشوكاني في فتح القدير ، والألوسي في روح المعاني.

واختصر تفسيره ابن أبي زمنين وأبو المطرف عبد الرحمن بن هارون القنازعي القرطبي ، وهود بن محكم الهواري.

وكان بعضهم يحفظ تفسير يحيى بن سلام. ذكروا ذلك عن الفقيه أبي عبد الله محمد بن زرزور الحنفي ، الذي اشتهر بالحفظ الكثير ، وقال يوما : إني أحفظ تفسير ابن

٨

سلام كما أحفظ القرآن الكريم ، وأحفظ فقه أبي حنيفة ، وأحفظ موطأ مالك ، وأحفظ بعد ذلك كثيرا من دواوين العرب وأشعارها [القرشي. الجواهر المضية : ٣ / ١٥٢ ـ ١٥٦ ، الزركلي : ٨ / ١٤٨].

وقد كتب هذا التفسير في القرن الثاني للهجرة. يروي فيه ابن سلام الأحاديث بإسناده إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والآثار عن الصحابة والتابعين غير متحرّج عند اختلاف الروايات من إبداء رأيه فيها ونقدها والترجيح بينها ، كما ضم إلى تفسيره ذكر القراءات واللغات ، والمكي والمدني من الآيات ، والناسخ والمنسوخ منها ، وتكلم فيه على الأحكام الفقهية وغيرها.

ولهذه الأهمية البالغة المميزة له في بداية عصر رواية التفسير عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحابته وتابعيهم ، والتي جعلت منه حلقة مستقلة عن التفاسير السابقة كتفسير مجاهد وعن اللاحقة كتفسير ابن جرير الطبري ، قامت الأديبة والفقيهة الدكتورة هند شلبي أستاذة مادة علم التفسير والدراسات القرآنية بالجامعة الزيتونية بتحقيق جزء كبير من تفسير يحيى بن سلام.

وقد حظيت بما هيأه الله لها للقيام بهذا المهم بما جمعته من الاختصاصين : الأدب والدراسات الإسلامية. ولم يغلب عليها الاتجاه الأول الذي أثبتته في ممارساتها العلمية الجامعية بمشاركتها في وضع المعجم الفلسفي ، إذ وهبت نفسها للقرآن الكريم منذ نشأتها وبرعاية والدها المغفور له ، بإذن الله ، الشيخ العلامة الأستاذ أحمد شلبي أحد مدرسي جامع الزيتونة ، فحفظته حفظا كاملا برواية قالون عن نافع ، كما حصلت على الإجازة في أصول الدين ١٩٦٨ ، وانتسبت في الحلقة الثالثة إلى الاختصاص في القرآن ١٩٨١.

وأصدرت من الدراسات والكتب تحقيقا وتأليفا :

* كتاب التصاريف : تفسير القرآن مما اشتبهت أسماؤه وتصرّفت معانيه ليحيى بن سلّام. ١٩٧٩. وهو معجم للألفاظ المشتركة القرآنية.

* والقراءات بإفريقية من الفتح إلى منتصف القرن الخامس الهجري ، وهو موضوع رسالتها لدكتوراه الحلقة الثالثة ، ١٩٨٣.

* والتفسير العلمي للقرآن بين النظريات والتطبيق ١٩٨٥.

* وعنوان الدليل من رسوم خط التنزيل لابن البناء المراكشي ١٩٩٠ وهو تفصيل قواعد رسم المصحف.

وهذا الاتجاه المتميز القائم على دراسة الجوانب المختلفة من القضايا الأساسية والأصلية للقرآن الكريم لغة ورسما وتفسيرا قد هيأها لتحقيق هذا المصنف لأحد كبار المفسّرين في المرحلة الأولى من المدرسة النبوية. ولها في ذلك ثلاثة مقاصد :

٩

أولها : توفير العناية بكتاب الله وبما يتصل به من العلوم.

ثانيها : مرافقتها إماما مشرقيا ومغربيا هو من رجال القرن الثاني. فهي تعرض أقواله وآراءه في التفسير مع لفت النظر إلى طريقة تثبيت منهجه التفسيري الذي اعتمده وتأثّر به الإمام الطبري. وذكر الخصائص التي تميّزه عن غيره من مصنفات العصر الأول في التفسير. وكان الاعتماد في ذلك كله على أصول التحقيق العلمي من المقارنة بين النّسخ الخطية المعتمدة وبيان اختياراتها منها ، وضبط النص ضبطا كاملا مع الإشارات العديدة لمختلف رواياته. واعتدادها في تقديم ما ظفرت به من هذا التفسير المتكاملة أجزاؤه على نسخة العبدلية التي تعتبر ، كما أنبأتنا بذلك محققته ، أطول قطعة استرسلت فيها السور والآيات بانتظام. وأضافت إليها في هذا التحقيق ما أفادته بعد النقد والتمحيص من نسخة حسن حسني عبد الوهاب ونسخة القيروان.

وثالثها : شدّ القارىء المسلم إلى إيمانه الثابت وعقيدته الصحيحة وفهمه القويم ، وصرف عامة الناس عما يخالط كتاب الله من التفاسير السقيمة من أعمال المضلين من أوهام وتخيلات وافتراءات وتخرصات ، هو بعيد عنها ومصون منها. قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٩) [الحجر : ٩] ، ودعا عزوجل للإفادة منه بقوله : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٩) [ص : ٢٩] ، ووصف المنهج السوي الذي حمل عليه عباده المؤمنين بقوله : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (٢٨) [الكهف : ٢٨].

وما من شك في أن الاعتماد على تفسير أصحاب السليقة من الرعيل الأول من الصحابة والتابعين أقوى وأمتن لاستناده إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رواية التفسير عنه ، ولسلامة لغتهم وصحة فهمهم فيما أدلوا به في ذلك من عند أنفسهم. وتفسير هذه الجمهرة الأولى هو الصالح لأن يكون مطية ومقدمة للوقوف على ما جاء بعدها من التفاسير الواسعة الصحيحة المعروفة ، والمشهود لأصحابها بالثقة والعلم ، والمعتمدة لدى جمهور المسلمين في استجلاء حقائق التنزيل.

وفي هذا من النهوض بالدعوة إلى الحق وإلى سلوك سبيل المتقين في الانقياد لما جاء به الكتاب من توجيه وأدب وتشريع. نرجو للأستاذة المحققة مزيد التوفيق في أعمالها العلمية ، وحصول النفع بما دبجته وتكتبه في خدمة القرآن والإسلام.

الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة

جدّة ١ ربيع الأوّل ١٤٢٥

١٠