تهذيب الأصول - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

تهذيب الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

الأمر الثاني

الاجماع

وهو إما محصل أو منقول بالخبر الواحد.

والبحث عن الثاني من فروع بحث حجية الخبر الواحد ، فلا بد وإن يذكر في تنبيهاته ، وأنه لا فرق فيه بين أن يكون مفاده قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، أو الإجماع القائم على شيء من ذلك.

ولعلهم أفردوه بالبحث مقدما على بحث حجية الخبر ، لأجل أن الإجماع أيضا من أدلة اعتبار الخبر في الجملة ، فأرادوا الإشارة إلى اعتباره إجمالا مقدمة لذلك.

والإجماع من الامور العرفية العقلائية في كل عصر وزمان ، ولا يختص بقوم دون آخرين ولا بملة دون اخرى ، ففي كل علم وصنعة اتفاق على امور واختلاف في اخرى من غير اختصاص بملة الإسلام وفقهاء المسلمين.

فهو عبارة : عن اتفاق آراء من يعتبر رأيه عند العقلاء على شيء في ما يعتبر رأيهم فيه.

ولكن لا موضوعية له في الفقه بما هو إجماع في مقابل الكتاب والسنّة بحيث يكون اعتباره في عرضهما ، بل الظاهر أن اعتبار الإجماع لدى العقلاء أيضا ليس لموضوعية فيه ، بل لأجل كشفه عن حجة وثيقة لديهم في الجملة.

كما أن دليل العقل في الأحكام لا موضوعية فيه ، ولا بد من إضافة اعتباره إلى الشرع ولو بنحو عدم الردع.

٨١

فمدرك الأحكام ـ كما مرّ ـ الكتاب المفسّر بالسنة المعصومية ، أو السنّة المفسرة للكتاب.

وعلى أي حال : لا بد في اعتبار الإجماع من كشفه عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره عليه‌السلام ، ولهم في طريق استكشاف ذلك أقوال :

الأول : دخول شخص المعصوم عليه‌السلام في جملة المجمعين.

وفيه : أنه في الإجماعات الحاصلة بعد الغيبة الكبرى التي يدور عليها مدار الإجماعات الفقهية! ممتنع عادة وإن أمكن ذاتا.

نعم ، لو تحقق إجماع من زمان ظهور المعصوم عليه‌السلام إلى ما بعد الغيبة الكبرى لكان له وجه.

ويمكن أن يكون من الإجماع الدخولي ، ولكن كلام الأعلام في المقام في غيره ، ولو تشرّف أحد بلقائه عليه‌السلام بعد الغيبة الكبرى وأخذ حكما منه عليه‌السلام ونقله بعنوان الإجماع ، فاعتبار قوله مع ما ورد من التشديد في تكذيب ذلك مشكل ، وعلى فرضه فكونه من الإجماع الاصطلاحي أشكل.

نعم ، يمكن أن يراد بدخول شخصه دخول رأيه المبارك ولو تقريرا ، ولا بأس به وهو صحيح ، كما أن ما دلّ على تكذيب مدعي الرؤية إنما هو فيما إذا ترتبت عليها المفسدة ، لا ما إذا كان المدعي ثقة من كل جهة ولم يكن في البين مفسدة.

الثاني : قاعدة اللطف. واللطف : عبارة عن عناية الله تعالى ولطفه بخلقه وتدبير موجبات كمالهم الذي أعده لهم في علمه الأزلي. وهو إما تكويني ، أو تشريعي ، والأول إيصال الممكنات إلى الغايات المعدّة لها ، والثاني إيصال خصوص الإنسان إلى كماله المعنوي ببعث الرسل وإنزال الكتب وإتمام الحجة عليه والوعد والوعيد ، وقد حصل ذلك منه تعالى بأكمل وجه وأتم طريق.

وقد يطلق اللطف على أنه يجب عليه تعالى تقريب العباد إلى الطاعة وتبعيدهم عن المعصية بما لا ينافي الاختيار ، فإذا حصل إجماع على ما لا

٨٢

يرتضيه الله ، يجب عليه تعالى صرفهم عنه ، أو إلهام ما هو الواقع إليهم.

وفيه : أن الواجب على الله تعالى إنما هو اللطف بما هو المتعارف بين الناس ، وقد حصل ببعث الرسل وإنزال الكتب ، ولا دليل على وجوب شيء زائد عنه عليه تعالى ، لا بدليل عقلي ولا نقلي. وحينئذ فيكون احتمال الخطأ في إجماع المجمعين كاحتماله في فتوى فقيه يكون مرجعا للتقليد.

الثالث : الحدس من آراء الرعايا والمرءوسين أن آراء الرئيس معهم.

واشكل عليه : بأن له وجها إن كان باب المراجعة والمشاورة مع الرئيس مفتوحا والرعية تشاوره وهو يراجعهم ، وأما إذا كان الباب مسدودا بالمرة وحالت بينهما أستار الغيبة ، فلا وجه لهذا الحدس أصلا ، ولا يعتبر لدى العرف والعقلاء رأسا.

ويرد عليه : بأنه إذا كان باب معظم الأحكام الصادرة منهم عليهم‌السلام مفتوحا وكان ذلك في متناولنا وجرت العادة إلى الرجوع إليها في زمان الحضور والغيبة ، يكون ذلك من انفتاح باب المراجعة إليهم عليهم‌السلام ، والعادة تقضي برضائهم بما اجتمع عليه علماء شيعتهم ورواة أحاديثهم.

وبالجملة : الملازمة العادية بين إجماع الإمامية ورضاء المعصوم عليه‌السلام بما أجمعوا عليه ثابتة ، وهذه الملازمة معتبرة عرفا ، وعلى هذا لا وجه للفرق بين إجماع القدماء وسائر الأعصار ، فلا بأس بهذا الوجه.

الرابع : تراكم الظنون من آراء الأعلام يوجب القطع بموافقة الإمام عليه‌السلام.

واشكل عليه : بأنه إحالة إلى المجهول مع اختلاف المسائل والآراء والأشخاص.

وفيه : أن المدار على حصول الاطمئنان النوعي وهو مختلف بحسب المراتب ، ويكفي حصول أول مرتبة منه كما في سائر الموارد ، وهذا الوجه أيضا لا بأس به.

الخامس : لأجل كشفه عن دليل معتبر وصل إليهم ولم يصل إلينا ، لأن بناء

٨٣

الأئمة عليهم‌السلام كان على إيداع جملة من الأحكام الواقعية عند خواص الأصحاب ، وهم أودعوها عند الطبقة اللاحقة لهم فوصلت إلى طبقة الغيبة الكبرى فصارت مجمعا عليها من دون ذكر نفس المدرك بالخصوص ، وهذا وجه حسن متين يصلح أن يكون مدركا لاعتبار الشهرة أيضا ، لكنه يختص بما إذا لم يكن في البين مدرك يصح الاستناد إليه ، وهو قليل جدا ، كما لا يخفى.

السادس : لأجل كونه كاشفا عن قاعدة معتبرة عقلائية أو شرعية ، قال صاحب الجواهر قدس‌سره في صلاة القضاء من كتابه : «والذي يقوى في ظني أن كثيرا من إجماعات القدماء بمعنى الاتفاق على القواعد الكلية التي تكون مدركا لبعض الأحكام الجزئية» ، وقال في كتاب الكفارات : «وإجماع السيدين كغيره من إجماعات القدماء ، لا وثوق بالمراد منها على وجه تريح النفس في الفتوى بها بالوجوب والحرمة ، وإن قلنا بحجية الإجماع المنقول لكن في الغالب ينقلونه على مقتضى العمومات ونحوها ...» وكلامه في المقامين حسن متين جدا ، كما لا يخفى على أهله.

السابع : أن يتفرد فقيه في عصر ولم يكن فقيه آخر في طبقته ولا الطبقة اللاحقة إلا أن يكون تلميذا له أو تلميذا لتلاميذه ، وحيث أن مثل هذا الفقيه لا يرى في الخارج رأيا إلا رأيه يصح له دعوى الإجماع ، وهذا كثير في دعوى الإجماع من مثل السيد المرتضى والشيخ قدس‌سرهما بل والعلامة ، ولا اعتبار بمثل هذا الإجماع.

الثامن : الإجماع القهري الانطباقي بعد استقرار رأي فقيه بين الناس ومن يتبعه قرنا أو أكثر ، يتحقق الإجماع قهرا لعدم ظهور الخلاف ، وينقل في القرون اللاحقة عين ما تحقق في القرن السابق ، وهذا أيضا كثير ، كما لا يخفى على الخبير ، ولا وجه لاعتباره أيضا.

ولو تردد إجماع بين ما هو معتبر وغير معتبر ، لا وجه للاعتماد عليه كما هو معلوم إلا إذا عينت القرائن ما هو المعتبر منه.

٨٤

ثم إنه قد يكون الإجماع تقليديا وتشبيها ، وذلك لأن الإجماع كان شائعا بين العامة ، وكانت الخاصة جامدين على نصوص الأئمة ، ولذا سموا بالمقلّدة لدى العامة في أوائل الغيبة الكبرى ، فادعى الإجماع أعلام تلك العصور حتى في المسائل التي تكون النصوص فيها كثيرة ، لمصلحة التشابه مع العامة ، وإزالة مثل هذه الأسماء عن أنفسهم ، وهذا الوجه كثير في الإجماعات التي ادعاها الشيخ رحمه‌الله.

ويمكن زيادة قسم آخر من الإجماع ، وهو (الإجماع الاحتفاظي) حيث أن العامة تشتت إلى مذاهب كثيرة بما تجاوز التسعين ، كما لا يخفى على من راجع التواريخ ، ثم استقرت مذاهبهم على الأربعة المعروفة بأمر من خليفة ذاك الوقت وكان أعلام فقهائنا قدس سرّهم متوجهين إلى هذه الجهات ، فادعوا الإجماع في كل المسائل مع وجود الدليل ، اهتماما ببقاء وحدة المذهب وعدم تشتته ، ثم لما رأوا أن هذا الأمر يضرّ بهم من جهة اخرى ، كما قال أبو عبد الله عليه‌السلام في خبر أبي خديجة : «أنا ألقيت الخلاف بينهم لئلا يعرفوا فيؤخذ برقابهم» ادعوا الإجماعات المعارضة لإلقاء الخلاف حفظا لدماء الشيعة ، وليسمّ الأول (الإجماع الاحتفاظي) ، والأخير (الإجماع الاختلافي) أي لأجل إيجاد الخلاف لمصالح شتى كما لا يخفى ، ويأتي في بحث الشهرة بعض ما ينفع المقام أيضا.

ثم إنه لو علم أحد الوجوه الماضية بالقرائن فهو ، وإلا فالظاهر تردده بين الخامس والسادس ، ولا بد في تعيين أحدهما من ملاحظة القرائن وهي مختلفة بحسب الموارد.

نقل الإجماع :

نقل الإجماع .. تارة : يكون من نقل السبب فقط ، كما إذا سرد أقوال الفقهاء تفصيلا أو نقلها إجمالا بألفاظ مختلفة.

٨٥

واخرى : يكون من نقل المسبب ـ وهو رأي المعصوم عليه‌السلام حدسا ـ كما هو الغالب في الإجماعات المنقولة ، أو حسا وهو النادر.

فإن كان من نقل السبب فيشمله دليل حجية الخبر إن كان ما نقله عند المنقول إليه سببا تاما للأثر ، وأما إذا لم يكن سببا تاما ففي الكفاية وغيرها اعتباره أيضا بمقدار دلالته لشمول دليل اعتبار الخبر لمطلق الأخبار عن حس بما كان منشأ لأثر شرعي ولو بنحو جزء السبب ، كما هو المنساق في ما ورد في السؤال عن حال الرواة وموضوعات الأحكام ، كالكر ، والصاع ، والسفر ونحوها مما هو كثير جدا ، مع أن هذا مقتضى حجية الأمارة في جميع لوازم مدلولها وملزوماته التضمنية والالتزامية ، فيتم المنقول إليه سببيته بالتفحص عن أقوال أخر ، فيتحقق لديه حينئذ الإجماع المعتبر.

ويمكن الإشكال عليه : بأن موضوعات الأحكام وما يتعلّق بحال الرواة دخيلة في ما يتعلّق بالحكم ، بخلاف أقوال الفقهاء فإنها أجنبية عن حكم الله تعالى حقيقة ، إلا أن يتمسك بذيل المسامحة العرفية ، ويقال بأنه إذا كان مجموع الأقوال من حيث المجموع منشأ لاستفادة حكم الله تعالى لا يعدّ البعض منها أجنبيا محضا ، كما لا يخفى ، فيشمله دليل الاعتبار بالملازمة العرفية.

وكذا إن كان من نقل السبب والمسبب معا عن حس لو فرض تحققه ، أو كان من نقل المسبب كذلك. وأما إذا كان عن حدس فلا تشمله أدلة اعتبار الخبر ، إذ المنساق منها عرفا هو تصديق المخبر في سمعه وبصره ، لا تصويبه في حدسه ونظره إلا بقرائن خارجية تدل على تصديق التصويب أيضا ، فيعتبر حينئذ من جهة القرائن لا من حيث الإخبار به ، كما هو مورد البحث في المقام ، وهي نادرة في الإجماعات المنقولة ، كما لا يخفى.

ولكن يمكن أن يقال : إن مناط الاعتبار مطلقا في نقل الحجج المعتبرة حصول الوثوق النوعي حسيا كان المخبر به أو حدسيا ، فمع تحقق هذا المناط يعتبر المخبر به مطلقا ، وقد استقرت السيرة على الاعتماد على تصديق الأطباء

٨٦

والمهندسين والخبراء الذين يخبرون عن حدسهم في جميع الفنون والصنائع والحرف ، وكون الغالب هو الحسيات لا يوجب التقييد لأجل المناط بعد تحققه.

فتلخّص من ذلك كله : أن الإجماع المنقول معتبر ، للملازمة العرفية بين اتفاق رواة أحاديث الأئمة على شيء بعد الفحص والتثبت والدقة وبين رضاء المعصوم عليه‌السلام به ، بلا فرق فيه بين عصر الحضور وعصر الغيبة وسائر الأعصار المتأخرة.

نعم ، يزيد القدماء على ذلك بإمكان وصولهم على حديث منهم عليهم‌السلام لم يصل ذلك إلينا. ويمكن الاستدلال على اعتباره بكل ما دلّ على اعتبار حكاية فعل المعصوم وقوله وتقريره.

هذا كله إذا كان الإجماع المنقول معتبرا لدى المنقول إليه بعين وجه اعتباره لدى الناقل.

أما لو لم يكن معتبرا لديه أو كان نظره في وجه الاعتبار مخالفا لنظر الناقل ، فلا يعتبر من حيث نقل المسبب حينئذ ، وإنما يعتبر من حيث نقل السبب بمقدار ما يكشف عنه لفظ الناقل بناء على شمول دليل اعتبار الخبر الواحد لمثله أيضا ، كما قلناه.

وينبغي التنبيه على أمور :

الأول : اعتبار الإجماع محصله ومنقوله منحصر بما إذا اطمأن المحصل له أو المنقول إليه أن ما كان معتبرا لدى المجمعين معتبر لديه أيضا ، ولو كان حصول الاطمئنان من القرائن الخارجة. وأما مع عدم حصول الاطمئنان بذلك فلا وجه للاعتبار مطلقا ، لأن حجية شيء عند طائفة لا يستلزم حجيته عند اخرى ، سواء كان منشأ عدم حصول الاطمئنان من القرائن الداخلية أو الخارجية أو جهات اخرى.

٨٧

الثاني : يعرض الإجماع المنقول بالخبر الواحد ما يعرض على الخبر الواحد من الأقسام ، كالصحيح ، والموثق ، والحسن ، والضعيف ونحوها ، كما يعرض عليه أحكامه من التعارض والترجيح ونحوهما مما مضى في محله ، لأنه حينئذ من أقسامه ، فيتصف بلوازمه وأحكامه.

الثالث : قد شاع في الكتب الفقهية ـ خصوصا في الجواهر ـ هذا التعبير (نقل الإجماع عليه مستفيض بل متواتر). وهذا التعبير إنما يخرجه عن نقل الإجماع بالخبر الواحد إذا كانت الاستفاضة أو التواتر في كل طبقته ، وكان حصولها عرضيا من أول حدوث الاستفاضة والتواتر. وأما إذا حصلا في الطبقات اللاحقة ، أو شك في ذلك فيكون من الإجماع المنقول بالخبر الواحد.

الرابع : لو شك في أن ناقل الإجماع استند فيه إلى الحس أو الحدس ، فلا تشمله الأدلة اللفظية الدالة على اعتبار الخبر الواحد ، كآية النبأ وهي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) ونحوها ، لأن المنساق منها عرفا تصديق المخبر الصادق في خبره لا تصويبه في نظره ، مع الشك أن يكون التمسك بها تمسكا بالعام في الشبهة الموضوعية ، إلا إذا قلنا بما تقدّم منا من أنها تشمل عند المتعارف تصويب النظر أيضا ، وهو وجه حسن لا بأس به ، فتشملها السيرة العقلائية له ، لعدم بناء منهم على التفحص في إخبار المخبر الصادق أنه حسي أو حدسي ، بل الظاهر جريان بنائهم في الجملة على تصويب الحدسي أيضا ، لكنه في ما لم يحرز الخلاف فلا يجري ذلك مع إثبات بطلان مبنى الحدس رأسا ، كما مرّ.

الخامس : الإجماع المحصل عبارة عن أن يطّلع الشخص .. على أقوال الفقهاء في المسألة بحيث يكشف منها رأي المعصوم عليه‌السلام ، ولا يعتبر فيه مباشرة الشخص بنفسه ، بل يكفي الاستنابة فيه ممن يثق به ، بل يكفي فيه أيضا أن يكون بعضه منقولا وبعضه الآخر محصّلا ، كما لا يخفى.

٨٨

السادس : قال صاحب الحدائق في كتاب الطهارة في أحكام النجاسات : «قد كان عندي رسالة لشيخنا الشهيد الثاني قد تصدّى فيها لنقل جملة من المسائل ، التي ناقض الشيخ فيها نفسه بدعوى الإجماع على الحكم في موضع ثم يدعيه على خلافه في آخر ، وفيها ما ينيف على سبعين مسألة» ، وقال في أحكام الأموات في حق الشيخ قدس‌سره : «وأي مسألة من مسائل الفقه من أوله إلى آخره لم تختلف أقواله فيها ولا فتاويه حتى يستغرب في هذا المقام ، كيف لا وأن الشهيد قد صنّف رسالة جمع فيها المسائل التي ادعى الشيخ فيها الإجماع في موضع وادعى الإجماع على عكسه في موضع آخر ، وهي تبلغ سبعين مسألة ، وكانت الرسالة عندي فتلفت في بعض الوقائع التي مرت بي» ، وقال قدس‌سره في كتاب النكاح عند البحث عن إسلام زوجة الكافر : «من يعرف حال الشيخ وطريقته في دعوى الإجماع واختلاف أقواله وفتاواه في كتبه ، لا يتعجب منه ، فإنه في بعض كتبه ، كالخلاف والمبسوط من رءوس المجتهدين ، وفي بعض آخر كالنهاية وكتابي الأخبار من رءوس الأخباريين وشتان ما بينهما».

أقول : فلا بد للفقيه في الاعتماد على مثل هذه الإجماعات من التثبت والفحص.

ختام :

الشياع ، والاستفاضة ، والتواتر. والأولان بمعنى واحد ، والأخير إما لفظي ، أو معنوي ، أو إجمالي ، والجميع معتبر لدى العرف والعقلاء من حيث حصول الاطمئنان بل العلم منها ، والظاهر كفاية النوعي منه وإن لم يحصل الشخصي ، كما أن الظاهر شمول دليل حجية الخبر الواحد لنقلها أيضا إن كان في البين أثر شرعي.

٨٩

الأمر الثالث

الشهرة

وهي إما في الرواية ، أو في العمل بها والاستناد إليها ، أو في مجرد الفتوى فقط.

والاولى عبارة عن اشتهار الرواية بين الرواة والمحدّثين والاهتمام بضبطها والاعتناء بها ، وتكون النسبة بينها وبين الشهرة العملية العموم من وجه ، إذ رب رواية مشهورة لم يعمل بها. ورب غير مشهورة عمل بها ، وهناك روايات كثيرة مشهورة معمول بها كما لا يخفى ، ولا أثر لهذه الشهرة ما لم يوجب الوثوق بالصدور ، فتكون من المرجحات في باب التعارض فقط ، وقد تقدم في بحث التعارض ما ينفع المقام ، فراجع.

والثانية عبارة عن عمل فقهاء المتقدمين من عصر الغيبة الصغرى وأوائل الكبرى برواية على وجه الاستناد إليها والاستدلال بها.

والمعروف بين الإمامية أن مثل هذه الشهرة جابرة لضعف السند ، كما أن ترك عملهم لخبر صحيح موهن له ، وقد استقرت سيرتهم على العمل بما عمل به المشهور وإن كان ضعيفا ، وترك العمل بما لم يعملوا به وإن كان صحيحا إذا لم يثبت خلافهم بدليل صحيح ، قال صاحب الجواهر قدس‌سره : «لو أراد الإنسان أن يلفق فقها من غير نظر إلى كلام الأصحاب بل من محض الأخبار ، يظهر له فقه خارج عن ربقة جميع المسلمين بل سائر المتدينين».

أقول : وهو حق كما هو معلوم على أهله.

٩٠

وقد اشكل على اعتبارها صغرى وكبرى. أما الأول : فلأن جميع هذه الشهرات منتهية إلى شخص واحد من علمائنا ، كعلم الهدى أو الشيخ الطوسي أو غيرهما فاعتمدوا على سند الرواية بحسب أنظارهم الشريفة واعتمدت عليهم الطبقة اللاحقة وثوقا بهم ، فحصلت الشهرة التقليدية في الطبقات اللاحقة ، والمعتبر من الشهرة ما لم تنته إلى شخص واحد. وفى العيان ما يغني عن البيان ، إذ نرى بالوجدان أنه كثيرا ما ينقل شخص واحد شيئا في مجلس مثلا ويصير ذلك مشهورا بعد أيام ويترتب عليه آثار وخصوصيات ، والشهرات الفقهية أيضا كذلك ، وقد نبّه على هذا الإشكال شيخنا الشهيد الثاني قدس‌سره.

ويرد عليه .. أولا : أن من راجع سيرة أصحاب الأئمة وفقهاء أوائل الغيبة ، يعلم أنهم كانوا مواظبين ومهتمين غاية الاهتمام على ضبط الروايات ، جامدين على الاحتفاظ بعين ما وصل إليهم من الإمام عليه‌السلام ، فكانت تلك الطبقات طبقة الضبط فقط والعمل بما ضبطوه ، فلا يعملون إلا بما يضبطون ولا يضبطون ولا يستندون إلا بما يعملون ، وكانت نسبة الأحاديث المضبوطة في تلك الأعصار نسبة الرسالة العملية في هذه الأعصار إذا كانت من مرجع منحصر واحد فقط ، ولذا عاب العامة عليهم وقالوا إنهم مقلدة ، وليسوا من أهل الاجتهاد في شيء ، ونسبوا فقه الإمامية إلى قلة الفروع ، قال ابن إدريس مشيرا إلى الخلاف والمبسوط : «وهذان الكتابان معظمهما فروع المخالفين» ، راجع حدّ المحارب من حدود الجواهر. ومن راجع الكتب المؤلفة في تلك الطبقات يجدها متون الأحاديث والروايات ، فراجع المقنع والمقنعة ، والمراسم والنهاية وغيرها ، بل قد ينسب المتفرع في الفقه إلى القياس والاستحسان ، لكثرة الجمود على متون الأحاديث ، وأول من فتح هذا السد القديمين قدس‌سرهما ـ وهما ابنا جنيد وأبي عقيل ـ ثم الشيخ الطوسي قدس‌سره ، فكل حديث كان معمولا به وكل عمل كان مستندا إلى حديث إلا في موارد ظهر الخلاف فيها ، فليست الشهرات العملية الاستنادية

٩١

منتهية إلى شخص واحد ، كعلم الهدى والشيخ قدس‌سرهما ، بل هما وغيرهما في العمل بالأحاديث والاستناد إليها على حدّ سواء ، فتحققت الشهرة العملية المعتبرة.

إن قلت : نعم ، ولكن لا تتحقق الشهرة العملية المعتبرة مع ذلك أيضا ، لأن في تلك الطبقة كان بعض ممن لا يعمل بالخبر الواحد ، فكيف تثبت الشهرة العملية الاستنادية.

قلت : لا يعمل بالخبر الواحد من حيث هو مع قطع النظر عن القرائن الموجبة للاطمئنان بالصدور ، وأما معها فليس فيها من لا يعمل به ، وقد كانت جل الأحاديث ، بل كلها في تلك الطبقات مقرونة بها ، كما لا يخفى ، والمفروض أنه لم ينقل خلاف أحد في الاستناد إليه من أهل تلك الطبقة.

وتلخّص مما ذكر : استقرار الشهرة العملية الاستنادية بجميع ما ضبطه المشهور من الأحاديث المتضمنة للأحكام إلا ما خرج بالدليل.

وثانيا : على فرض انتهاء الشهرات الفقهية إلى شخص واحد مثل الشيخ قدس‌سره فهي معتبرة أيضا إلا مع ظهور الخلاف ، لأن مثل الشيخ ومن تبعه من الثقات المتوجهين إلى خصوصيات الخبر ضعفا وصحة ، الملتفتين إلى القرائن مع توفرها في تلك الأعصار ، وإنه لم يكن لهم شغل إلا تمييز الصحيح عن السقيم ، فإذا عمل هؤلاء بحديث غير صحيح وتركوا العمل بحديث صحيح يوجب ذلك الوثوق بصدور الأول والخلل في الثاني ، وليست للشهرة موضوعية من حيث هي ، بل تكون طريقا إلى حصول الوثوق بالصدور أو الخلل في جهة من جهاته ، هذا بعض ما يتعلق بالإشكال في الصغرى.

والمظنون قويا أن أصل هذا الإشكال من العامة ، وتلقاه شيخنا الشهيد قدس‌سره من بيان بعض مشايخه من العامة ، وتبعه غيره في هذه الشبهة ، ومثل هذا كثير في الاصول والفقه ، كما لا يخفى على أهله.

وأما الإشكال في أصل الكبرى فهو أنه لا وجه لاعتبار الشهرة العملية

٩٢

أصلا ، لأصالة عدم الحجية.

وفيه : أن اعتبار الشهرة العملية الاستنادية الاحتجاجية توجب الاطمئنان بالواقع ، والظاهر من بناء العقلاء على الاعتماد عليها. وما ورد في المقبولة ، وقول الكاظم عليه‌السلام لأبي يوسف : «والأخبار المجمع عليها وهو الغاية المعروض عليها كل شبهة والمستنبط منها كل حادثة ـ الحديث ـ» تقرير للطريقة العقلائية. فيكون اعتبارها إنما هو لأجل كشفها عن ظفر الكل بما يوجب الوثوق بالصدور ، فيكون موجبا للوثوق النوعي العقلائي بالصدور قهرا ، بل قد يوجبه استناد مثل الشيخ قدس‌سره ومن تبعه ، كما مرّ.

فتلخّص أن الشهرة الاستنادية العملية من أقوى موجبات حصول الوثوق بالصدور ، وأن شهرة هجران العمل من أهم ما يوجب الوهن والخلل.

ويمكن أن يجعل هذا النزاع لفظيا ، فمن قال باعتبار الشهرة أي : في ظرف حصول الوثوق والاطمئنان بالصدور ، ومن قال بعدم الاعتبار أي : في ظرف عدم الحصول ، ومن ذلك يظهر إمكان القول باعتبار الشهرة بين المتأخرين من الفقهاء أيضا إن حصل منها الوثوق والاطمئنان بالصدور ، فيصير النزاع في اعتبارها أيضا لفظيا ، كما لا يخفى. هذا بعض الكلام في الشهرة العملية الاستنادية.

وأما الشهرة الفتوائية : فهي عبارة عن مجرد اشتهار الفتوى بين القدماء من دون الاستناد إلى دليل أصلا ، سواء كان في البين دليل أو لا.

وقد استدل على اعتبارها ..

تارة : بإطلاق قوله عليه‌السلام : «خذ بما اشتهر بين أصحابك» على نحو ما مر ، ولا بأس به.

واخرى : بأنه مما يوجب الوثوق بالحكم والاطمئنان ، وهو حجة ما لم يدلّ دليل على الخلاف ، ولا دليل عليه.

٩٣

وثالثة : بأن الظن الحاصل منها أقوى مما يحصل من الخبر الواحد فيشملها دليل اعتباره بالأولى.

ويرد : بأن اعتبار الخبر لا يدور مدار حصول الظن الشخصي.

نعم ، لا يبعد أن يكون حصول النوعي منه حكمة الاعتبار لا علة له بحيث يدور مداره.

ورابعة : بأن فتاوى القدماء عبارة عن متون الأخبار ، ليس فيها شيء وراءها ، فيشملها ما دلّ على اعتبار الشهرة العملية الاستنادية ، ففتاواهم توجب الوثوق والاطمئنان بوجود حجة معتبرة في البين ، وعن بعض المتتبعين : «ولقد عثرنا أثناء التتبع على مواضع كثيرة يستكشف من فتاوي الأصحاب وجود نص واصل إليهم ، مع أنه لا يكون من ذلك النص في المجامع والجوامع عين ولا أثر». وهذا بخلاف الطبقات المتأخرة فإنها كانت مثل زماننا هذا طبقة التفريع واستفراغ الوسع في ردّ الفروع إلى الاصول الواصلة إليهم من المعصومين عليهم‌السلام ، وإن شئت فقسّم الطبقات إلى ثلاث : طبقة الأخذ والتلقي ، وطبقة الضبط فقط ، وطبقة التفريع ، والأخير أوسع الطبقات أفرادا وزمانا. وقال صاحب الجواهر قدس‌سره في بحث غسل الآنية التي يشرب فيها الخمر : «إن المحقق قدس‌سره يروي غالبا عن اصول ليست عندنا منها إلا أسماؤها».

وكيف كان ، يمكن أن يتمسك لاعتبار الشهرة بأقسامها الثلاثة بقوله عليه‌السلام في المقبولة : «المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به ويترك الشاذ النادر الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإن المجمع عليه لا ريب فيه» ، وقوله عليه‌السلام : «خذ بما اشتهر بين أصحابك» : بدعوى أنه عليه‌السلام في مقام بيان القاعدة الكلية لاعتبار الشهرات الثلاث ، لكونها موجبة للوثوق بصدور الحكم عن المعصوم عليه‌السلام ، وتطبيقها على الشهرة الروائية من باب تطبيق القاعدة على موردها ، لا لأجل الاختصاص به.

٩٤

إن قلت : إن ظاهر السؤال يدل على الاختصاص ، فهو مثل ما إذا قيل : أي المسجدين أحب لك ، فقلت : ما كان الاجتماع فيه أكثر. وأي الرمانتين أحب إليك ، فقلت : ما كان أكبر ، فلا يستفاد من الأول محبوبية كل ما كان الاجتماع فيه أكثر ، مثل السوق والخان ونحوهما ، ولا يستفاد من الثاني كل ما كان أكبر مثل الحجارة ونحوها.

قلت : هذا وإن ذكره الشيخ قدس‌سره لكنه ليس بوارد ، للفرق بين المثال وما نحن فيه ، وذلك لأن اعتبار الشهرات الثلاث إنما هو لأجل كون كل واحدة منها منشأ للوثوق بالصدور ، وهي الجهة الجامعة القريبة بين الثلاثة ، فتوجب الانتقال من إحداها إلى الاخرى لهذه الجهة القريبة ، بخلاف المثالين ونحوهما ، إذ ليس بين كثرة الاجتماع في المسجد للعبادية وفي السوق لأمر آخر جامع قريب ، فلا ينتقل العرف من إحداها إلى الاخرى ، وكذا الأكبرية في الرمان لأجل كثرة الاستفادة بخلاف المثال ، فليس بين كثرة الاجتماع في المسجد وكثرة الاجتماع في السوق ونحوه جهة جامعة قريبة ، إذ الاجتماع في المسجد للعبادة وفي السوق لأمر آخر ، فلا ينتقل العرف من إحداها إلى الاخرى ، وكذا الأكبرية في الرمان لأجل كثرة الاستفادة بخلاف الأكبرية في غيره ، فقياس المقام بالمثالين باطل جدا.

وقد أورد شيخنا المحقق النائيني قدس‌سره على المقام بأن قوله عليه‌السلام : «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» ، يعني أن المشهور لا ريب فيه بالنسبة إلى الشاذ ، فيكون المقصود به عدم الريب بالإضافة ، لا عدم الريب الحقيقي ، ولو تعدينا عن الشهرة الروايتية إلى غيرها يلزم التعدي إلى اعتبار كل ما لا ريب فيه بالإضافة إلى غيره ، كما إذا كان قول المحققين والشهيدين قدس‌سره مما لا ريب فيه بالنسبة إلى أقوال سائر الفقهاء مثلا ، فيلزم حينئذ حجية قولهم في مقابل أقوال سائر الفقهاء وهو بمكان من الفساد.

٩٥

ويمكن الجواب عن ذلك : بأنه لا يلزم أن تكون كل علة أعم من المعلول خصوصا إذا لزم من التعميم المحذور ، وفي المقام تكون العلة مساوية مع المعلول ، فكأنه عليه‌السلام قال : «خذ بالشهرات الثلاث فإنها لا ريب فيها بالنسبة إلى الشاذ الذي يكون في مقابل كل واحدة منها».

ولنا أن ندعي السيرة العقلائية على اعتبارها ، لأن أهل كل علم وصنعة من العلماء والعقلاء يعتمدون على ما اشتهر بينهم بهذا المعنى ، ويستدلون بها لا عليها ، وحينئذ يكفي عدم ثبوت الردع ولا نحتاج إلى إثبات الحجية.

وبعبارة اخرى : الشهرة بهذا المعنى من أحد طرق الاطمئنانات المتعارفة العقلائية الدائرة بينهم التي يعتمدون عليها في امور معاشهم ومعادهم. وعليه فلا موضوعية للشهرة من حيث هي ، بل تكون طريقا للوثوق بالحجة المعتبرة ، كما أن شهرة الهجران توجب الاطمئنان بالخلل في الصدور.

والمراد بالاطمئنان والوثوق فيهما النوعي منهما ، كما في سائر ما هو معتبر شرعا أو عند العقلاء ، فيكون الاطمئنان والوثوق حكمة الاعتبار ، لا أن يكون علة يدور مداره وجودا وعدما. وتتصف الشهرة ـ كالإجماع ـ بالمحصلة ، والمحققة ، والمنقولة ، ويجري عليها ما يجري في الإجماع.

ختام فيه امور :

الأول : لا فرق في الشهرة بأقسامها الثلاثة بين أن تكون موردها نفس الأحكام أو ما يتعلّق بها من موضوعاتها وما يتعلّق بها ، لشمول الدليل للجميع.

الثاني : حيث أنه غلب على القدماء قدس سرّهم التعبير بمتن الخبر ، فلفظ الواجب في كلماتهم أعم من الوجوب الاصطلاحي ، كما في الأخبار. وكذا «لا ينبغي» أعم من الحرمة ، فلا بد من ملاحظة القرائن الخارجية والداخلية في استفادة

٩٦

الوجوب والحرمة من كلماتهم.

الثالث : إطلاق الشهرة القدمائية يقتضي أن تكون متصلة بزمان المعصوم عليه‌السلام ، إذ لو كانت حادثة بعده لعرف زمان حدوثها عادة.

الرابع : لا أثر للشهرة الاستنادية في غير الوجوب والحرمة وما يتعلّق بهما ، لأن المندوبات والمكروهات ونحوهما يشملهما دليل التسامح في أدلة السنن ، كانت في البين شهرة استنادية أم لم تكن.

نعم للشهرة الفتوائية أثر فيهما أيضا لبناء الفقهاء على اتباعهما بهما والفتوى بمفادها ، ولا يبعد شمول دليل التسامح لها أيضا بناء على أن فتوى القدماء متون الأخبار.

الخامس : لا اختصاص بشهرة الاستناد والإعراض بخصوص مسائل الفقه ، بل هي ثابتة في جميع العلوم والفنون ، بل والعرفيات أيضا ، وقد ارتكز في الأذهان متابعة المشهور وعدم متابعة ما أعرض عنه المشهور ، كما لا يخفى على من راجع العلوم والعرفيات.

السادس : قال صاحب الجواهر قدس‌سره في كتاب الصلاة في حكم القران بين السورتين ونعم ما قال : «إن القدماء إنما وقع ما وقع منهم في كثير من المقامات من المذاهب الفاسدة لعدم اجتماع تمام الاصول عند كل واحد منهم ، وعدم تأليف ما يتعلّق بكل باب منها على حدة ، فربما خفي على كل واحد منهم كثير من النصوص فيفتي بما عنده من غير علم بالباقي ، كما لا يخفى على الخبير الممارس المتصفح لما تضمنت تلك الآثار».

ويظهر من كلامه أن استنادهم على شيء يكشف عن حجة معتبرة لديهم ، وأن اختلافهم في شيء لعدم الظفر بالحجة المعتبرة ، لا لأجل الظفر والاختلاف في فهم المراد منهما ، كما هو الغالب بين المتأخرين ، ولا بد في تمييز ذلك من القرائن.

٩٧

السابع : قد شاع في الكتب الفقهية قول الفقهاء : «على الأشهر» وقولهم : «وعليه الأكثر» وقولهم : «وعليه المعظم» ، ولا تكون هذه التعبيرات من الشهرة المعتبرة في شيء أبدا ، فإن حصل للفقيه منها الاطمئنان بالحكم ولو بواسطة القرائن المحفوفة ، وإلا فلا يعتمد عليها ، والأشهر في مقابل غير الأشهر لا المشهور ، ولذا يقولون على الأشهر بل المشهور.

الثامن : طريق إحراز المشهور مراجعة كتب القدماء ، ويمكن استفادة الشهرة من «اللمعة» التي هي آخر ما كتبه الشهيد الأول قدس‌سره ، والتزم أن لا يذكر فيه إلا المشهور وإن خالف التزامه في موارد تعرض لها الشهيد الثاني قدس‌سره. وكذا يمكن استفادتها من «الشرائع» أيضا في الجملة مع مراجعة «الجواهر» ، ولو كان حكم مسكوتا عنه في كتب القدماء لا تستفاد الشهرة من مجرد السكوت ، كما هو واضح.

٩٨

الأمر الرابع

الخبر الواحد

البحث فيه من أهم المباحث ، لتوقف معرفة جلّ الأحكام لو لا كلها بين المسلمين على اعتباره ، بل هو من الاصول النظامية العقلائية المتوقف عليها نظام معاش البشر ومعاده.

تمهيد وفيه امور :

الأول : إثبات الحكم الشرعي مطلقا بالخبر الواحد يتوقف على الوثوق بصدوره ، وتحقق ظهوره ، والفراغ عن جهة صدوره ، وبتمامية هذه الجهات الثلاثة تتم الحجة على الحكم عقلا وعرفا. والمتكفل لإثبات الجهة الاولى هذا المبحث الذي يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى ، والمتكفل للجهة الثانية ما مرّ في بحث حجية الظواهر ، والمتكفل للجهة الثالثة الأصل العقلائي المحاوري المرتكز في الأذهان من أصالة صدور الكلام لبيان المراد الواقعي إلا إذا دلّ دليل على الخلاف.

الثاني : لم يكن لبحث حجية الخبر الواحد في عصر المعصومين عليهم‌السلام عين ولا أثر ، كجملة كثيرة من المباحث.

نعم ، كثرت الروايات في إرجاع الناس إلى ثقات الرواة ، والسؤال عنهم عن أن فلانا ثقة ـ حتى تؤخذ عنه معالم الدين ـ أو لا؟ فراجع أوائل كتاب القضاء

٩٩

من الوسائل ، ولو أنهم بنوا الأمر على ما كان عليه في عصر المعصوم عليه‌السلام لما احتاجوا إلى جملة كثيرة من التطويلات ، كما هو واضح.

وعلى أي حال فلزوم العمل بالأخبار التي بني فقه الإمامية عليها من ضروريات المذهب ، والنزاع بين من لا يعتبر الخبر الواحد وبين من يعتبره صغروي لا أن يكون كبرويا ، لأن الأول يقول بأن لزوم العمل بها لأجل كونها محفوفة بقرائن قطعية دالة على الصدور ، والثاني يقول إن نفس الوثوق بالصدور مطلقا يكفي في صحة الاعتماد عليها ، ولكن بعد ثبوت أن المراد بالقطع والعلم في اصطلاح الفقهاء ـ خصوصا القدماء كاصطلاح الكتاب والسنة ـ هو مطلق الوثوق والاطمئنان العقلائي ، يرتفع النزاع من البين رأسا ، كما هو واضح.

ثم إنه لا يخفى على أهله أنه يكفينا في فقهنا ـ معاشر الإمامية ـ ما وصل إلينا عن الإمامين الهمامين الباقرين الصادقين عليهما‌السلام ، وباعتباره تتم الحجة لفقهنا ، وهذا المقدار محفوف بالقرائن الخارجية أو الداخلية الموجبة للاطمئنان بالصدور ، فيصير البحث من هذه الجهة بلا طائل أيضا.

الثالث : هذا البحث من مسائل علم الاصول مطلقا بل من أهمها ، سواء قلنا بأنه ليس له موضوع أبدا ، أو أن موضوعه كل ما يصح أن يقع في طريق الاعتذار ، أو أن موضوعه ذوات الأدلة الأربعة ، أو بوصف الدليلية.

أما الأول : فواضح لا ريب فيه ، وكذا الثاني ، لأن الخبر الواحد من أهم ما يقع في طريق الاعتذار.

وأما الثالث : فاشكل عليه بأن الخبر الواحد حاك عن السنة لا أن يكون عينها ، فتكون عوارضه عرضا غريبا لها لا عرضا ذاتيا ، وقد مرّ أن مسائل العلم ما يكون البحث عنها بحثا عن العرض الذاتي لموضوع العلم ، فما يكون البحث فيه عن العرض الغريب له خارج عن المسائل.

ويرد عليه : بأن الخبر الواحد متحد مع السنّة عند المتشرعة ، فيكون

١٠٠