تهذيب الأصول - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

تهذيب الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

المبحث الأول

امكان التعبّد بغير العلم

وهو مما يعترف به ذوو الفطرة السليمة والعقول المستقيمة ، والشبهات الواردة من قبيل الشبهة في مقابل البديهة ، كما هو معلوم لذوي البصيرة. وليس المراد به الإمكان الذاتي ، إذ ليس البحث عنه من شأن الاصولي ، وإنما هو من مباحث فن الحكمة ، مع أنه لم يدع أحد أن التعبّد بغير العلم عين اجتماع المثلين أو الضدين حتى يكون ممتنعا ذاتيا في مقابل الإمكان الذاتي.

كما أنه ليس المراد به الإمكان الاحتمالي أيضا ، لأنه بمعنى احتمال إمكان الشيء فى مقابل احتمال امتناعه ووجوبه ، فيجتمع مع الامتناع الذاتي أيضا.

بل المراد الإمكان الوقوعي ، أي ما لا يلزم من وقوعه في الخارج محذور عقلي ، كما يقال : المعراج والمعاد الجسمانيان ممكنان ، وحينئذ فيكون نفس الوقوع في الخارج من أقوى أدلة وقوعه وإثباته من دون احتياج إلى التماس دليل آخر ، وتكفي السيرة المستمرة العقلائية قديما وحديثا في الامور المعاشية والمعادية على ذلك ، ولا نحتاج إلى التمسك بأن الأصل في الأشياء هو الإمكان ، لأنه لا أصل له أصلا إن كان المراد به الإمكان الذاتي أو الوقوعي.

نعم احتمال الإمكان جار في كل شيء ، ولكنه من مجرد الاحتمال العقلي ولا ينفع لشيء أبدا ، وهذا معنى ما اشتهر أن : «كل ما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان ما لم يردك عنه قائم البرهان» يعني : أن كل ما سمعت من الغرائب والعجائب لا تبادر إلى الحكم بامتناعه ، بل احتمل إمكانه أيضا في مقابل احتمال

٦١

امتناعه واحتمال وقوعه خارجا.

ثم إنه قد استدل على امتناعه الوقوعي ، أي أن التعبّد بغير العلم مستلزم للمحذور بامور ، وبعضها من الشبهات المشهورة في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي :

الأول : أنه لو جاز ذلك في الإخبار عن المعصوم لجاز في الإخبار عن الله تعالى أيضا ، والتالي باطل فالمقدم مثله.

ويرد : بوضوح بطلان القياس ، لأن الإخبار عنه تعالى لا يصح عادة إلا بالنسبة إلى النفوس القدسية المتحلّية بالنبوة ، والإخبار عن المعصوم يصح بالنسبة إلى كل عامي.

نعم يعتبر في قبوله أن يكون ثقة ، فلا ريب في بطلان القياس.

الثاني : أنه نقض للغرض ، لأن الغرض من جعل التكاليف الواقعية كونها داعية للامتثال وباعثة لإتيانها ، والتعبّد بغير العلم ليس بدائم الإصابة ، بل قد يخطئ ، وحينئذ يحصل نقض الغرض.

ويرد .. أولا : بأن العلم أيضا ليس بدائم الإصابة ، فكل ما يقال في العلم يقال في غيره أيضا.

وثانيا : أن المناط كله في داعوية الامتثال ، الداعوية على نحو الاقتضاء والشأنية ، لا الإصابة الفعلية من كل جهة ، كما هو الشأن في داعوية العلم فضلا عن غيره من الطرق غير العلمية ، وإلّا لوجب على الشارع إيجاب الاحتياط مطلقا ، وهو خلاف سهولة الشريعة ، وخلاف الطريقة العقلانية المنزلة عليها الطرق الشرعية ، بل ولا طريق إلا الطرق العقلائية التي يكفي في اعتبارها شرعا عدم ثبوت الردع ، كما قلناه.

الثالث : من شروط تنجز العلم الإجمالي : أن لا يكون العلم التفصيلي الثالث : تفويت المصلحة إن أدى إلى غير الوجوب وكان في الواقع واجبا ، والإلقاء في المفسدة إن أدى إلى غير الحرمة وكان في الواقع حراما.

٦٢

وفيه .. أولا : ما مرّ من لزوم ذلك في العلم أيضا عند المخالفة مع الواقع ، وما هو الجواب فيه يكون جوابا في المقام أيضا.

وثانيا : كما أن الثواب والعقاب بالنسبة إلى الواقعيات يدوران مدار إحرازها وإطاعتها أو مخالفتها. فكذا المصالح والمفاسد أيضا ، فلا مصلحة ولا مفسدة فعليّة من كل جهة مع عدم الإحراز ، وإن كانت فهي من مجرد الاقتضاء الذي لا بأس بتفويت الاولى والإلقاء في الثانية ، لأن مجرد الاقتضائيات والاستعدادات المحضة لا يعتنى بها لدى العقلاء ما لم تبلغ مرتبة الفعلية ، ولا دليل على كون المصالح والمفاسد في التكاليف من قبيل لوازم الماهية غير القابلة للانفكاك عنها مطلقا ، إن لم يكن على عدمه ، بل لنا أن نقول :

إن المصالح والمفاسد في التكاليف ليست إلا الثواب والعقاب بعرضهما العريض الأعم من الدنيوي والاخروي ، كما يصح أن نقول : إن ذلك كله من حكم الجعل بنحو الاقتضاء ، لا علة المجعول على نحو العلة التامة المنحصرة الفعلية ، وهذا الاحتمال هو المتيقن وإثبات غيره يحتاج إلى دليل ، وهو مفقود كما هو معلوم.

وثالثا : بأن تفويت المصلحة أحيانا والإلقاء في المفسدة كذلك مع التدارك بما هو أهم وأعم لا قبح فيه ، لأنه من الشر القليل المتدارك بالخير الكثير ، بل يكون العكس قبيحا ، لأنه من قبيل ترك الخير الكثير للاحتراز عن الشر القليل ، والعقلاء لا يقدمون عليه عند الدوران ، والمصلحة الأهم الأعم في المقام هي ما تترتب على اعتبار غير العلم من التسهيل والتيسير النوعي الذي جبلت الطباع على الحكم بحسنه ، بل لزومه ، والشريعة المقدسة تهتم به أيضا كمال الاهتمام في جميع تكاليفها.

وبعبارة اخرى : فوت المصلحة أو الإلقاء إما دائمي أو أغلبي أو نادر ؛

٦٣

والأولان قبيحان بلا إشكال ، والأخير متدارك بالمصلحة ، بل قد يكون تركه قبيحا.

هذا بناء على كون الاعتبار من الطريقية المحضة ، وأما بناء على الموضوعية والسببية ، فإن كان المراد بها خلو الواقع رأسا عن الملاك والحكم ، بحيث كانت الأمارة موجدة للمصلحة واقعا بعد أن لم يكن في البين مصلحة أصلا ، أو منقلبة عما في الواقع إلى مفادها ، بحيث ينعدم الواقع بعد ما كانت ثابتة ، فكلاهما خلاف مرتكزات العقلاء في الأمارات الدائرة بينهم ، بل يستنكرونها بمقتضى فطرتهم ، فلا نحتاج في رده إلى التمسك بالإجماع ، ودعوى تواتر الأخبار على الخلاف ، ولا ريب أن الشارع لم يخترع طريقة مستقلة في التعبد بغير العلم في مقابل مرتكزات العقلاء.

نعم ، اعتبر امورا ، كالتعدد والعدالة في بعض الموارد ، وردع عن امور كالقياس والاستحسان ونحوهما ، وفي ما لم يثبت الردع ولم يعتبر شيء يكون المتبع هو الطريقة العقلائية ، فهذا المعنى من السببية لا وجه له لدى العقلاء ، بل مستنكر لديهم ، مضافا إلى دعوى الإجماع وتواتر الأخبار على خلافهما.

وإن كان المراد بها حدوث المصلحة في موردها في طول الواقع ـ مصلحة تفضلية تداركية للواقع مع اتفاق فوته ـ فلا بأس به ، بل هو حسن وواقع عند العرف والعقلاء ، ويقتضيه سماحة الشرع الأقدس ورأفته بامته. وحينئذ فإن وافقت الأمارة مع الواقع فنعم الوفاق ، وإن خالفت وكان في الواقع واجبا وأدت إلى خلافه ، فمصلحة الواقع وإن فاتت عن المكلف لكن يتفضل الشارع عليه بما يتداركها ، وإن كان في الواقع حراما وأدت إلى خلافه فقط ظفر المكلف بالمصلحة التفضلية.

وإنما الكلام في وقوعه في المفسدة الواقعية. والحق أنه لا يقع فيها لأنها إن كانت العقاب فلا عقاب في صورة الجهل ، وإن كانت شيئا آخر غيره فلا نسلم

٦٤

ثبوته في صورة الجهل أيضا ، وعلى فرض الثبوت فهي مغلوبة بالمصلحة التفضلية ، ولا أثر للمفسدة المغلوبة لدى العرف والعقلاء.

إن قلت : هل تحدث المفسدة في الأمارات القائمة على الحرمة بناء على السببية الصحيحة؟

قلت : نعم ، ولكن مفسدة طريقية ، فإن أصابت الواقع فهو المنجز ، وإن أخطأت فلا مفسدة على المكلف في الواقع ، ولكنه محكوم بها ظاهرا لغلبة إصابة الأمارات للواقع.

ثم إن غاية ما يمكن الالتزام به من حدوث المصلحة إنما هو في ما لم ينكشف الخلاف ، وأما معه فمقتضى الارتكازات عدمه ، كما لا يخفى.

وهنا احتمال آخر ، وهو إسقاط الشارع للواقع خطابا وملاكا لمصالح شتى ، كما في موارد التقية على ما احتمله جمع ، وموارد الضرر والاضطرار التي يعبّر عنها بالواقعية الثانوية ، فاستشكلوا في إجزاء الإتيان بالواقع في هذه الموارد ، فتكون موارد الاضطرار والاختيار ـ كالسفر والحضر بالنسبة إلى صوم شهر رمضان ـ من تبدل الموضوع الموجب لتبدل الحكم.

ومن ذلك كله ظهر أنه لا وجه لتوهم التخيير بين مورد الأمارات والواقع بناء على الموضوعية ووجود المصلحة فيه ، لأن التخيير إنما هو في ما إذا كانت المصلحة في كل واحد من الطرفين أو الأطراف واقعية دائمية ، والمقام ليس كذلك ، مع أنه إنما يتحقق فيما إذا كان الطرفان أو الأطراف عرضية لا طولية.

الرابع : مما استدل به على امتناع التعبّد بغير العلم : اجتماع المثلين إن كان مفادها مثل الواقع ، والضدين إن كان ضده.

وفيه : أنه لا وجه لهذا الإشكال بناء على جعل الطريقية المحضة ، إذ لا حكم حينئذ في مورد الأمارات ، بل هو منحصر بالواقع فقط ، فمع الإصابة يكون الحكم واحدا ، وهو الحكم الواقعي ، فلا موضوع لاجتماع المثلين مع الإصابة ،

٦٥

لأن موضوعه الاثنينية وهي مفقودة في البين ، وكذا مع الخطأ ، إذ لم يجعل الحكم في مورد الأمارة بناء على جعل الطريقية المحضة ، وما يستفاد من موردها في صورة الخطأ إنما هو توهم الحكم لا حقيقية ، ولا مضادة بين حقيقة شيء وتوهم الخلاف فيه مع الجهل بواقعه ، كما إذا كان لون شيء أسودا مثلا ، وتوهم الشخص أنه أبيض ، أو أخبر شخص أنه أبيض ، وليس لأحد أن يتوهم أن هذه الموارد من اجتماع الضدين ، هذا إذا لم يصدر حكم الضد عن المعصوم عليه‌السلام. وأما إذا صدر منه عليه‌السلام فإما أن يكون لأجل التقية أو لأجل مصلحة اخرى ، فلا ضدية في البين لاختلاف الموضوع ، لأن موضوع الحكم الواقعي إنما هو الواقع بما هو واقع ، وموضوع ما قاله المعصوم عليه‌السلام إنما هو ملاحظة المصالح الظاهرية ، وهما موضوعان متغايران فينتفي موضوع التضاد ، لاشتراط التضاد المحال بوحدة الموضوع كما برهن في محله ، وقد تقدم احتمال سقوط الواقع بتبدل الموضوع في هذه الموارد ، فلا اثنينية في البين حتى يتحقق اجتماع المثلين أو الضدين ، بل لا ريب في تغاير الحكم الواقعي والظاهري مطلقا تغايرا يكفي في دفع المحذور ، لأن الأول إنما هو فعل الشارع وقائم بذاته الأقدس ، وهو البعث بداعي الانبعاث والزجر بداعي الانزجار وإتمام الحجة من قبل الشارع. والثاني إنما هو التسهيل على الناس والتيسير عليهم ، وهما موضوعان متغايران يكفي تغايرهما في دفع المحذور على فرض جعل الحكم في مورد الأمارات ، هذا مع أن المثلين والضدين على ما عرّفا في محله : أمران وجوديان لا يجتمعان في محل واحد ، والأحكام اعتباريات عقلائية وليست من الموجودات الخارجية فلا وجه لاجتماع المثلين أو الضدين بالنسبة إليها أصلا ، فتكون مثليّتها اعتبارية بضم اعتبار خاص إلى آخر فيفيد التأكيد لا محالة.

كما لا وجه لاجتماع الضدين ، لأن موردهما الوجوديات لا الأمور الاعتبارية التي لا وجود لها.

٦٦

نعم ، إن رجعا إلى الإرادة والكراهة يكونا من الضدين حينئذ. ويجاب باختلاف الجهة ، كما تقدم.

إن قلت : لا إشكال في تضاد الأحكام عرفا.

قلت : نعم ، ولكن بالضدية الاعتبارية التي يكفي في رفعها مجرد تعدد الجهة ولو اعتبارا.

وجملة القول : أن في الأمارات المتعارفة لدى العقلاء إن صادفت الواقع فلا يرون في ذلك محذور اجتماع المثلين ، بل لا يخطر ذلك في خاطرهم أبدا ، بل يستهجنون هذا الاحتمال بفطرتهم إن تحقق الفحص عن المعارض والمنافي وحصل اليأس عن الظفر بهما ، ثم اتفقت المخالفة مع الواقع واقعا ولم ينكشف ذلك ، يحكم العقلاء كافة بالمعذورية ، وسقوط الواقع عن الفعلية عند اتفاق المخالفة ، ولا يتوهمون بمجعول في موردها سوى الواقع ، والشارع لم يخترع طريقة غير هذه ، بل ترك العقلاء ومرتكزاتهم ولم يردعهم عنها. وإن انكشف الخلاف والخطأ ظاهرا ، فالواقع باق على ثبوته إلّا أن يدل دليل على سقوطه.

ثم إنه قد يجاب عن الإشكال الرابع بوجوه :

الأول : أن المجعول في الواقعيات نفس الأحكام الواقعية ، وفي الأمارات نفس الحجية ، فيتعدد مورد الجعلين ، فلا يلزم اجتماع المثلين أو الضدين.

ويرد عليه : أن جعل الحجية إما بمعنى جعل نفسها من حيث هي ، أو بمعنى جعل العقاب ، أو بمعنى جعل المؤدي.

والأول : لغو لكفاية اعتبارها لدى العقلاء ، إلّا أن يراد به الأعم من التأسيسي وعدم الردع ، فيرجع إلى ما قلناه أولا ، ولا يكون وجها مستقلا.

والثاني : مستلزم للدور ، لأن تحقق العقاب متوقف على الحجية ، ولو توقفت عليه لدار ، إلا أن يراد أن جعل العقاب على المخالفة عين جعل الحجية

٦٧

لا أن يكونا متغايرين ، وهو دعوى بلا دليل.

والثالث : في مقابل جعل الحجية ، لا أن يكون عينها ، ولا يقول به أحد.

الثاني : أن الواقعيات إنشائيات محضة ، ومفاد الأمارات فعليات صرفة ، فتختلفان بالمرتبة ، فينتفي موضوع شبهة جمع المثلية والضدية.

ويرد عليه : أن الإنشاء إن كان بلا داع فهو قبيح بالنسبة إلى الشارع ، وإن كان بداع آخر غير الفعلية فلا يصير فعليا وإن وافقه مفاد الأمارة. وإن كان بداعي أن يصير فعليا ، فهو عين الفعلية ، فلا يتصور معنى معقول للإنشائية ، فلا يكون الحكم إلا فعليا من طرف الشارع ، وهو الجعل بداعي أن يصير فعليا عند تحقق الشرائط وفقد الموانع في المكلف. وإن أراد بالإنشائية الفعلية من طرف الشارع ، وبالفعلية : الفعلية من طرف المكلف فله وجه ، ولكنه خلاف ظاهر كلامه ، فراجع.

الثالث : أن المجعول في مورد الأمارات جعل في ظرف الجهل بالواقعيات ، فتتأخر رتبته عنها ، فتدفع الشبهة باختلاف الرتبة.

ويرد عليه : أن مفاد الأمارات وإن كان في ظرف الجهل بالواقع فيتأخر رتبة عنه ، لكن الواقعيات غير مقيدة بالعلم والجهل ، فتعم مورد مفاد الأمارات وغيرها ، فيجيء المحذور حينئذ.

الرابع : أن المجعول في مورد الأمارات عنوان الحكم المجعول بداعي الطريقية المحضة إلى الواقع ، لا أن يكون حكما حقيقيا في عرض الواقع بحيث يكون له موافقة ومخالفة مستقلة في مقابل الواقع.

ويرد عليه : أنه حسن ثبوتا ، ولكنه لا دليل عليه إثباتا مع إمكان دفع الإشكال بوجه أحسن آخر ، كما مرّ.

ومن ذلك كله يظهر الأمر في الاصول العملية ، إذ الاستصحاب ليس إلا متمم دلالة الدليل وإسراء حكم اليقين إلى ظرف الشك ، فلا استقلال فيه بوجه

٦٨

أصلا ، فمع الموافقة يكون المتيقن السابق منجزا ، ومع المخالفة وعدم انكشاف الخلاف يكون عذرا ، ومع انكشافه لا وجه للإجزاء أصلا إلا أن يدل دليل تعبّدي عليه.

وأما الاحتياط عقليا كان أو شرعيا فليس إلا من آثار منجزية نفس الواقع ، ولا اثنينية في البين حتى يتحقق موضوع اجتماع المثلين أو الضدين ، بل ولا جعل فيه أصلا غير الواقع المجعول ، ولو قيل بوجوب الاحتياط شرعا فهو وجوب طريقي إلى الواقع ، لا أن يكون وجوبا مستقلا في عرضه.

وأما البراءة ـ عقلية كانت أو شرعية ـ فليست إلا سقوط العقاب عن الواقع المجهول ، ويستلزم ذلك الترخيص والإباحة الظاهرية ، وهو غير جعل الحكم في عرض الواقع المجهول.

وكذا التخيير لا اثنينية فيه مع الواقع المجعول حتى يتحقق موضوع اجتماع المثلين أو الضدين ، إذ ليس مفاده إلا المعذورية في ما لو كان المختار غير الواقع.

٦٩

المبحث الثاني

أصالة عدم الاعتبار وعدم صحة الاعتذار

تقدم أن موردها في مقام الانتساب إلى الشرع لا مرحلة الاقتضاء ، إذ لا معنى لجريان الأصل في ما فيه الاقتضاء.

واستدل على عدم الحجية والاعتبار بالأدلة الأربعة ..

فمن الكتاب : بآية الافتراء وهي قوله تعالى : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ).

وفيه : أن الافتراء هو الكذب العظيم أو العجيب ، ومجرد ما لم يعلم أنه صدق أو كذب ليس افتراء ، ولكن الظاهر أنه لا بد في استناد شيء إلى الشارع من التصديق بالصدور ، ومع عدمه يكون افتراء بالنسبة إليه ، وحينئذ تتم دلالة الآية.

ومن السنة : بمرفوعة محمد بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «القضاة أربعة : ثلاثة في النار وواحد في الجنّة ـ إلى أن قال ـ ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنة».

وفيه : مضافا إلى قصور سنده ، أن التأمل في مساق الأخبار الواردة في القضاء يدل على أنه عليه‌السلام فى مقام بيان التفصيل بين قضاة الجور وقضاة العدل ، فقوله عليه‌السلام : «ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم ـ أي لا يعتقد بالحق ـ وقوله عليه‌السلام : رجل قضى بالحق وهو يعلم ـ أي يعتقد بالحقّ» ولا ربط له بالمقام.

ولكن قصور السند منجبر بالعمل ، وانطباقه على قضاة الجور من باب أحد المصاديق لا الخصوصية ، فلا قصور فيه دلالة ولا سندا.

٧٠

ومن الإجماع : بما عن الوحيد البهبهاني من أن حرمة العمل بما لا يعلم من البديهيات بين العوام فضلا عن الخواص.

وفيه : أنه على فرض تحقق الإجماع به فالظاهر عدم كونه إجماعا تعبديا بل هو حاصل عن مرتكزاتهم العقلائية الدائرة في ما بينهم.

ومن العقل : بما ارتكز في أذهان العقلاء من أن الاحتجاج بشيء واعتباره وصحة الاعتذار به وانتسابه إلى شخص لا بد وأن تكون بحجة معتبرة ؛ وأن الشك في الحجية والاعتذار يكفي في عدمها ، كما أن الشك في صحة الانتساب يكفي في عدمها لدى العقلاء ، فتكون أصالة عدم الحجية وأصالة عدم صحة الانتساب والاعتذار من الاصول العقلائية مطلقا ، ويكفي فيها عدم الردع من الشارع ، فكيف بما ورد من التقرير.

وبالجملة : أصالة عدم الحجية من الاصول المعتبرة النظامية الدائرة عندهم في جميع علومهم ، بل في امور معاشهم أيضا ، إذ لو كان بناؤهم على ترتيب الأثر على كل ما قيل أو يقال لاختل النظام ، فينبغي أن يستدل بها لا عليها ، ومع الإغماض عن ذلك نقول : إن نفس الحجية وترتب الأثر من الامور الحادثة ، فيستصحب عدمها ما لم يثبت الدليل عليها.

وما يتوهم : من أنه لا أثر للاستصحاب ، لكفاية نفس الشك في الحجية في عدم ترتيب أثرها.

مخدوش : بأن ما هو المعتبر في الاصول العملية من الأثر هو إمكانه لا فعليته من كل حيثية وجهة ، ولذا يجري استصحاب اشتغال الذمة في موارد جريان قاعدة الاشتغال أيضا. وفي المقام لو قيل بأن أصالة عدم الحجية ليست من الاصول المستقلة العقلائية فتمسك فيها باستصحابها.

وقد يقرر الأصل في المقام بوجوه اخرى :

الأول : أصالة إباحة العمل بغير العلم.

٧١

ويرد : بأنها إن اريد الاعتماد في تفريغ الذمة فلا وجه له ، لأن الشك في فراغ الذمة عما علم اشتغالها به ـ وإن اريد بها إباحة العمل بكل رطب ويابس وغث وسمين ـ فهو معلوم البطلان لدى العوام فضلا عن الأعلام.

الثاني : أن المقام من صغريات دوران الأمر بين المحذورين ، لدوران الأمر في غير العلم بين وجوب العمل به وحرمته ، والحكم فيه هو التخيير.

ويرد : بأن ما هو المرتكز في الأذهان من التثبت والتأمل في العمل بغير العلم إلا مع دليل يدل عليه ، يخرج المقام عن الدوران بينهما ، كما لا يخفى.

الثالث : أن المقام من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، لاحتمال تعين العمل بخصوص العلم ، أو التخيير بينه وبين العمل بغيره.

ويرد : بما مرّ من بطلان العمل بغير العلم مطلقا إلا مع دليل يدل عليه ، فكيف يمكن أن يجعل عدلا للعلم ويحكم بينهما بالتخيير ، مع أن مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير محل خلاف وإشكال ، فذهب جمع إلى التخيير ، كما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

وينبغي التنبيه على امور :

الأول : لا ريب في حرمة التشريع شرعا ، بل الظاهر كونه من المقبّحات العقلائية أيضا ، لكونه نحو تصرف في سلطان المولى ، لانتساب ما لم يعلم صدوره منه إليه ، وذلك نحو ظلم عليه ، ويدل عليه قوله تعالى : (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) فإن أجلى مصاديق الآية الكريمة التشريع ، فلا بد وأن تكون الإرادة التشريعية لإرادة الله عزوجل ، كتبعية الإرادة التكوينية لها ، وقوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) وغيرهما من الآيات الشريفة.

٧٢

ثم إن ما يضاف إلى الشارع ..

تارة : يعلم بصدوره منه.

واخرى : يعلم بعدم الصدور.

وثالثة : لا يعلم بالصدور ولا بعدمه ، وعلى كل منها ..

تارة : صدر منه في الواقع ما اضيف إليه.

واخرى : لم يصدر.

ولا ريب في عدم تحقق التشريع في القسمين الأولين ، لتقوّم موضوعه بعدم حجة معتبرة في البين والعلم بالصدور حجة معتبرة ، كما لا ريب في تحققه في الثالث ـ وهو ما علم بعدم الصدور ولم يصدر واقعا أيضا ـ بل وكذا يتحقق في الثلاثة الباقية أيضا ، لأن موضوعه عند الفقهاء قدس سرّهم ما إذا لم يكن الاستناد إلى الشارع عن حجة معتبرة في مقام الإثبات ، كما لا يخفى على من راجع الكلمات.

والتشريع قد يتحقق بمجرد القول بأن ينسب إلى الشارع قولا لم يقله ، وقد يتحقق بالعمل أيضا ، والمحرم منه هو الإتيان بما ليس من الدين بعنوان أنه دين ، عن قصد جزمي بذلك ، فما يؤتى به برجاء المطلوبية لدى الشارع ، أو يترك برجاء المبغوضية لديه ليس من التشريع في شيء.

الثاني : الظاهر حرمة الفعل المشرّع به ، لكونه مظهر التشريع ، بل لا معنى للتشريع عند العرف والعقلاء إلا ذلك ، كما لا يخفى.

الثالث : لا فرق بين البدعة والتشريع شرعا. وهما مساويان ، وكلاهما أعم من أن يفعل الشخص بنفسه ما ليس في الدين بعنوان أنه دين ، أو أن يتسبب لأن يفعل غيره ذلك بهذا العنوان.

الرابع : حجية شيء في الدين مساوقة لصحة انتسابها إلى الشارع ، وكذا العكس ، فما عن صاحب الكفاية من أن الظن الانسدادي ـ بناء على الحكومة ـ حجة مع عدم صحة انتسابه إلى الشارع.

٧٣

مردود .. أولا : بأن المراد بالحجية في المقام الأعم من التأسيس والتقرير الذي يكفي فيه عدم الردع فقط.

وثانيا : بأن البحث في المقام عن حجة تقع في طريق إثبات الحكم لا إسقاطه ، والظن الانسدادي من الثاني دون الأول ، فراجع وتأمل.

هذه نخبة الكلام في أصالة عدم الحجية وعدم صحة الاعتذار في ما شك في حجيته ، وقد خرج عن هذا الأصل امور :

٧٤

الأمر الأول

الظواهر

قد استقرت السيرة العقلائية على الاعتماد على الظواهر في المحاورات والمخاصمات والاحتجاجات ، ويستنكرون على من تخلف عن ذلك ، وهذا من أهم الاصول النظامية المحاورية بحيث يستدل به لا عليه ، وقد جرت عادة الشرائع الإلهية عليه أيضا ، فبها يكون تبليغ الأحكام ، وعليها يدور نظام المعاش والمعاد ، ولو اختل ذلك لاختل النظامان ، فحق عنوان البحث أن يكون هكذا : يمتنع عادة عدم اعتبار الظواهر ، فحجية الظواهر كحجية الخبر الموثوق به التي هي من الاصول العقلائية أيضا.

ثم إن البحث عن الظواهر ..

تارة : صغروي ، كالبحث عن موجبات الظهور ومناشئه ، وهي بحسب الأفراد غير محصورة لا تضبطها ضابطة كلية.

واخرى : كبروي ، كالبحث عن حجية أصل الظاهر. ولا ريب في أنه بقسميه من مباحث الاصول بناء على ما قدمناه من أنه ما يبحث فيه عما يصح أن يقع في طريق الاعتذار بلا واسطة أو معها.

أما الكلام في القسم الثاني :

فقد نسب إلى بعض الأخباريين عدم حجية ظواهر القرآن ، واستدل عليه ..

تارة : بما ورد من اختصاص فهم القرآن بمن خوطب به ، وهم المعصومون عليهم‌السلام فلا يفهمه غيرهم.

٧٥

ويرد .. أولا : بأن المراد بمن خوطب به أهل الحق ومطلق من يريد اتباعه في مقابل من يتبع الهوى ، فهذه الأخبار نظير قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).

وثانيا : أن المراد بها ما يختص بالمعصوم من القرآن ، كالبطون السبعة أو السبعين التي قصرت العقول عن دركها ، ولا بد فيه من تأييد إلهي ، لأن القرآن كمظهر للّوح المحفوظ وام الكتاب ، والكتاب المبين الذي قال الله تعالى فيه : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) والإحاطة بالقرآن من حيث كونه مظهرا لام الكتاب تختص بنفوس قدسية خاصة ، وليس ذلك من شأن كل أحد وإن بلغ من العلم ما بلغ ، وليس المراد به الظواهر التي يشترك في فهمها العالم والسوقي ، مثل قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، وقوله تعالى : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).

وثالثا : إنا نتمسك بظاهر القرآن بعد المراجعة إلى السنن المعصومية الواردة في بيانه وتفسيره ، فقد أخذنا الظاهر عمن خوطب به.

ورابعا : أنها معارضة بالآيات الكريمة الدالة على الترغيب في التدبر في القرآن والتفكّر فيه ، وبالأخبار الكثيرة الواردة بمضامين مختلفة في مقام التمسك بالقرآن ، والاحتجاج به على الخصام ، ومعرفة الأحكام منه ، وعرض الأخبار المتعارضة عليه ، وغير ذلك مما يستفاد منه استفادة قطعية أن حجية ظواهره كانت مسلّمة لدى الشرع الأقدس.

واخرى : بأن العلم الإجمالي بورود مخصصات ومقيدات عليه ، يمنع عن التمسك بظاهره.

ويرد : بأن من شرط التمسك بالظاهر هو الفحص واليأس عن الظفر بما يخالفه ، فينحل العلم الإجمالي قهرا بهذا التفحّص التام ويصير من الشك البدوي بلا كلام.

٧٦

وثالثة : بأنه من التفسير بالرأي المنهي عنه.

ويرد : بأن الأخذ بالظاهر ليس من التفسير ، وعلى فرض كونه منه فمن شرط الأخذ به عندنا هو الرجوع إلى السنن المعصومية واستفادة تفسيره منها ، فلا يكون من التفسير بالرأي حينئذ قطعا.

ورابعة : بأنه من المتشابه ، وقد نهي عن اتباعه كتابا ، مثل قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ). وسنة ذكرناها في التفسير.

ويرد : بأن النص والظاهر والأظهر والمتشابه من الامور العرفية المتعارفة ، ولا يطلق أحدها على الآخر لا عرفا ولا لغة ولا شرعا ، وقد مرّ أن حجية ظواهره كانت مسلّمة لدى الشرع في جميع الطبقات ، فراجع وتأمل. مع أنه لم يبق متشابه في القرآن بعد ما ورد من الشرع في بيان متشابهات القرآن.

ويمكن أن يحمل كلامهم على عدم حجية ظواهر القرآن قبل الفحص عن المعارض والمنافي واليأس عن الظفر به ، فلا نزاع في البين حينئذ لاتفاق الكل عليه.

لا بد من ذكر امور :

الأول : النص والظاهر والأظهر ، كالفصاحة والبلاغة من أوصاف اللفظ ، فكلما تحقق الظهور يتبع لدى العقلاء مطلقا ، بلا فرق بين المخاطب ومن قصد إفهامه وغيرهما ، كما أنه كلما تحققت الفصاحة والبلاغة يمدح الكلام بذلك من غير فرق بين المخاطب وغيره.

مع أن الألفاظ الظاهرة في الأحكام الكلية توجهت إلى جميع من يمكن

٧٧

أن ينطبق عليه الحكم ، ويكون الجميع مقصودين بالإفهام ، والموجود حين الخطاب مرآة للجميع ، لا أن يكون ملحوظا على نحو الموضوعية ، هذا في الأحكام الكلية ، فكيف بالأحكام الأبدية في الشريعة الختمية.

واحتمال وجود قرينة في البين أو جهة اختصاص مخصوصة بخصوص قوم دون آخر.

مدفوع بالأصل العقلائي ، وقد تقدّم بعض القول في العام والخاص ، فراجع.

الثاني : مقتضى المرتكزات العرفية أن حجية الظهور لا تدور مدار حصول الظن الشخصي ، بل هو حجة وإن كان الظن الشخصي على خلافه.

نعم ، لا يبعد أن يكون تحقق الاطمئنان النوعي في مورده حكمة الاعتبار ، لا أن يكون علة له يدور مدارها وجودا وعدما.

الثالث : للظهور مراتب متفاوتة في المحاورات العرفية ، فكل ما لا يصدق عليه المجمل يكون ظاهرا إلى أن يبلغ إلى مرتبة النصوصية ، وجميع تلك المراتب حجة لدى العقلاء ما دام يصدق عليها الظاهر عرفا.

الرابع : لا ريب في أن الاختلاف في قراءة آية مثل : (يَطْهُرْنَ) بالتخفيف والتشديد ، يوجب إجمالها وسقوط ظهورها وعدم جواز الاستدلال بها ، سواء ثبت تواتر القراءات السبع أو لا ـ كما هو الحق ـ لأن المنساق منها على فرض ثبوت التواتر إنما هو مجرد جواز القراءة لا الاستدلال بها على أحكام متضادة متناقضة ، وحينئذ فلا بد من الرجوع إلى أدلة اخرى.

نعم ، لو كان الترجيح عند التعارض موافقا للمرتكزات العقلائية وسيرتهم ، يصح إعمال المرجحات حينئذ ، لأن القراءات إما أن تكون من قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إن ثبت تواترها ، أو تكون من أهل الخبرة إن لم يثبت ، وتقدم في التعارض ما ينفع المقام.

٧٨

أما الكلام في القسم الأول ـ وهو مناشئ الظهور ـ فهي كثيرة جدا كما مرّ وهي بحسب الجزئيات لا تعد ولا تحصى ولا تضبطها ضابطة كلية.

نعم ، من كلياتها مقدمات الحكمة ، ووقوع الأمر بعد الحظر ، وقد مرّ ما يتعلّق بهما.

ومنها : قول اللغوي ، واستدل على اعتباره ..

تارة : بالإجماع.

ويرد : بأنه ليس من الإجماع التعبّدي في شيء مع تحقق الخلاف قديما وحديثا.

واخرى : بالسيرة العملية مع كونها من أهل الخبرة.

ويرد : بأن المتيقن منها ما إذا حصل الوثوق والاطمئنان من قوله ، ولا ريب في الاعتبار حينئذ إن لم يكن من باب الشهادة ، فيعتبر فيه العدد والعدالة.

وثالثة : بإجراء مقدمات الانسداد.

ويرد : بعدم تماميتها أصلا ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ورابعة : بأن ما يدل على حجية خبر الواحد يدل على حجية ما يتعلّق به بالملازمة من قول اللغوي والرجالي والمفسّر والهيوي ونحوهم مما له دخل في الأحكام في الجملة.

ويرد : بأن أدلة الخبر تدل على التصديق في الحس ، ولا تدل على التصديق في الحدس ، وقول اللغوي ونظائره مما له دخل في الأحكام من الثاني لا الأول ، هذا.

ولكن قد يحصل الاطمئنان العقلائي من كلماتهم فيصح الاعتماد عليه حينئذ من هذه الجهة.

والظاهر أن اعتبار أقوالهم إنما هو من جهة أنهم من أهل الخبرة ، لا الشهادة حتى يعتبر فيه التعدد والعدالة.

٧٩

ويمكن أن يجعل النزاع لفظيا ، فمن أثبت اعتبار قولهم ، أي بشرط حصول الاطمئنان ، ومن نفاه أي بشرط عدم حصوله.

ثم إنه قد شاع في المحاورات أصالة الحقيقة ، وأصالة عدم القرينة ، وأصالة الظهور ، والظاهر كون كل واحد منها أصلا مستقلا في مقابل الآخر ويتمسك به في المحاورات مع الغفلة عن غيره ، فلا وجه لإرجاع بعضها إلى بعض ، كما عن الشيخ قدس‌سره.

وكيف كان ، فهذه الاصول لا موضوعية لها بوجه ، بل طريق لإثبات الظهور ، مع أنه لا ثمرة عملية فيه ، لأن المدار كله على الظهور فقط ، أرجع البعض إلى البعض أو لا ، ويصح أن يكون كل واحد منها مما يعتمد عليه العقلاء في الاستناد الظهوري إذا كانت لظهور لفظ في معنى قرائن متعددة ، فيعتمد على الجميع وإن كان البعض كافيا فيه ، فالظاهر حجة ولو لم يكن من الحقيقة ، وما ليس بظاهر لا اعتبار به ولو كان حقيقة.

٨٠