تهذيب الأصول - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

تهذيب الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

وكل هذه الوجوه يصلح لحمل كلماتهم عليها وإن كان بعضها خلاف ظاهرها في الجملة.

ومنها : أن مرادهم من عدم اعتبار القطع الحاصل من العقليات عدم اعتبار قاعدة الملازمة ، والرد عليها لا عدم ترتب الأثر على القطع المستند إلى المقدمات العقلية مطلقا. وقد استظهر هذا الوجه من مجموع الكلمات بعد رد بعضها إلى بعض ، فلا بد من بيان القاعدة أصلا وعكسا بنحو الأسد الأخصر ، حتى يتبين مورد صحتها وفسادها ، فنقول :

قد اشتهر أن كل ما حكم به العقل حكم به الشرع ، وكل ما حكم به الشرع حكم به العقل. والمراد بحكم العقل في القضيتين أصلا وعكسا ، جزمه بالشيء بعد الإحاطة بخصوصياته ، وليس المراد به البعث والزجر المولوي لتقومهما بالثواب والعقاب ، وهما مختصان بالشارع فقط وليسا من شأن العقل في شيء أبدا.

كما أن المراد بالعقل ليس العقول الجزئية التي تكون مناط التكليف ، ولا العقل الكلي ـ الذي أثبته الحكماء بأنه أول ما أفيض من المبدأ ، ويظهر من جملة من الأخبار التي جمعها الكليني قدس‌سره في باب العقل والجهل من كتابه الشريف ، كقولهم عليهم‌السلام : «العقل أول خلق من الروحانيين عن يمين العرش». لأن درك أحكامه وشئونه يختص بمن خلقه أو من علمه ، بل المراد حكم العقلاء الذي تطابقت عليه آراؤهم ، كحسن الإحسان وقبح الظلم ، ولزوم شكر المنعم ، ونحو ذلك مما لم يتخلّف فيه عاقل ، كما لا يحتمل الخلاف فيه من عاقل إلى الأبد.

فالمعنى حينئذ : أن ما تطابقت آراء العقلاء كافة على حسنه ، فالشارع بعث إليه في الجملة ، وما تطابقت آراؤهم على قبحه زجر عنه كذلك.

والظاهر أن هذا المعنى من البديهيات التي لا ينبغي الارتياب فيها من أحد ، بل من أهم مقاصد الشرائع الإلهية دعوة الناس إلى فطرتهم السليمة ومرتكزاتهم العقلائية الصحيحة المتفق عليها عند جميعهم ، وإثارة دفائن

٤١

عقولهم ، كما صرّح به علي عليه‌السلام.

وتنحصر كبريات مورد الملازمة بالمعنى الذي قلناه في الامور الثلاثة وإن كانت صغرياتها غير محصورة.

إن قلت : إن الملازمة ولو بالمعنى الذي ذكر مبنية على التحسين والتقبيح العقليين ، وقد أنكرهما الأشاعرة. أما في فعله تعالى ، فلعموم مثل قوله تعالى : (اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) ، ولأنه مالك ، وللمالك أن يفعل في ملكه ما شاء وأراد. فلو عاقب المطيع وأثاب العاصي لم يرتكب قبيحا. وأما في أفعال العباد فلكونها غير اختيارية ، والحسن والقبح من شئون الأفعال الاختيارية.

قلت : أما عدم الحسن والقبح في أفعال العباد وعدم اختياريتها فمخالف للوجدان ، وقد مرّ في بحث اتحاد الطلب والإرادة بعض ما يتعلق به.

وأما عدم القبح في أفعاله تعالى فهو مسلّم عند الكل ، ودلت عليه الأدلة العقلية المضبوطة في الكتب الحكمية والكلامية من عدم صدور القبيح منه تعالى ، بل عدم صحة تجويزه عليه جلّ وعلا.

وأما عدم اتصاف أفعاله بالحسن ، وأن له تعالى أن يرجح المرجوح على الراجح ، فهو أيضا باطل بإجماع الأنبياء والمعصومين عليهم‌السلام بل الموحدين كافة بل العقلاء ، إذ لا يرضى عاقل أن ينسب إلى الحكيم المطلق ما لا يكون حسنا ويكون لغوا ، والمراد بقوله تعالى : (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) أي على حسب المصالح الواقعية التي تعجز العقول عن دركها ، وللمالك أن يفعل في ملكه ما يشاء إذا لم يكن سفها وعبثا وإلا فالعقلاء يلومونه مطلقا.

إن قلت : تصح الملازمة بالمعنى الذي قلت ، ولكن الأخبار الدالة على أنه لا بد من الرجوع إلى الحجة تبطل هذه الملازمة.

قلت .. أولا : إن المراد بها أعم من الحجة الظاهرية والباطنية.

وثانيا : المفروض تحقق التقرير من الحجة الظاهرية ، وإلّا لردع عنها بالخصوص في مثل هذا الأمر العقلائي العام البلوى الثابت في كل عصر وزمان.

٤٢

إن قلت : نعم ، ولكن حكم الشرع في مورد حكم العقل يكون باطلا ، لأنه لإيجاد الداعي وهو حاصل من حكم العقل فلا احتياج إليه.

قلت : الاحتياج إليه لتأكيد الداعي وإتمام الحجة وتصحيح الثواب والعقاب ، فيصح أن يكون حكم الشارع في موارد حكم العقل مولويا لا إرشاديا.

ثم إنه يمكن أن يجعل النزاع في الملازمة لفظيا ، فمن قال بها أي بالمعنى الذي قلناه ، ومن قال بعدمها أي في حكم العقل الجزئي الذي لا يحيط بشيء ولا يصدقه سائر العقلاء ، هذا في أصل القضية.

وأما عكسها ـ وهو أن كل ما حكم به الشرع حكم به العقل ـ فان أريد به أن كل ما حكم به الشرع حكم العقلاء به كافة من حيث عقلهم على نحو الجملة والإجمال ، وأن حكم الشرع يكون عن مصلحة أو مفسدة تقتضيه ، فهو حق لا ريب فيه. وإن اريد به أن في كل مورد من موارد حكم الشرع يحكم العقل به أيضا بالخصوص مثله ، فهو ممنوع لعدم إحاطة العقول بمثل ذلك إلا من طريق الوحي والإلهام ، وهما مختصان بخاصة أولياء الله الذين لم تحجب العوائق والعلائق ذواتهم القدسية ونفوسهم النورية عن وصول الإفاضات الغيبية عليهم.

ويمكن أن يجعل هذا النزاع لفظيا أيضا ، فمن أثبت الملازمة أي بين حكم العقل بنحو الجملة والإجمال وحكم الشرع ، ومن نفاها أي بينهما بنحو التفصيل.

وما اشتهر من أن الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية ، فإن اريد منه ما ذكرناه فهو حق ، وإلا فإثبات كليته يحتاج إلى دليل وهو مفقود ، ويحتمل أن يكون المراد به معنى آخر لا ربط له بالمقام أصلا. وهو أن العبادات الواجبة شرعا توجب استعداد النفس لإفاضة المعارف الإلهية عليها التي هي الواجبات العقلية ، ويشير إليه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا).

٤٣

الأمر السابع

العلم الإجمالي وبعض ما يتعلق به

المقصود بالبحث عن العلم الإجمالي في المقام : أنه علة تامة للتنجز ، أو أنه مقتض له فقط ، وعلى الأخير هل يكون المانع عن الاقتضاء موجودا أو لا؟ فنقول :

لا فرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي في نفس العلم من حيث هو علم ، بل ولا في متعلّقه من حيث هو طرف إضافة العلم بالذات ، وإنما الفرق بينهما في المعلوم بالعرض المتحقق في الخارج ، من جهة سراية الجهل إليه في العلم الإجمالي دون التفصيلي ، فيكون محل البحث هو أن هذا الجهل الساري إلى الأطراف هل يصلح للمانعية أو لا؟ فعلى الأول يبقى العلم الإجمالي على مجرد الاقتضاء فقط مطلقا ، وعلى الثاني يكون علة تامة للتنجز ؛ كالتفصيلي كذلك من غير فرق بينهما أبدا.

والحق هو الأخير ، إذ المناط كله في كون العلم التفصيلي علة تامة للتنجز ليس إلا أن مخالفته عدم مبالاة بإلزام المولى وهتك بالنسبة إليه ، وأما تحقق المعصية الحقيقية ، فهو شيء قد يكون وقد لا يكون ، إذ لا يجب أن يكون كل علم تفضيلي مطابقا للواقع ، ولا ريب في تحقق هذا المناط في المخالفة لبعض أطراف العلم الإجمالي أيضا.

إن قلت : نعم ، ولكن بينهما فرقا شدة وضعفا ، ومن الممكن اختصاص العلية بالمرتبة الشديدة ، فتختص بالعلم التفصيلي حينئذ.

قلت : هتك المولى وعدم المبالاة بإلزاماته والتهاون بالنسبة إليها

٤٤

والاستخفاف بها ، قبيح بجميع المراتب ، لا سيما بالنسبة إلى الله جلّ شأنه ، فيشترط في جواز الارتكاب إحراز الترخيص ، وهو إما عقلي أو شرعي.

والأول منحصر بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ولا ريب في عدم انطباقها على مورد العلم لتمامية البيان ووصوله من طرف المولى ، وعدم خلل فيه من جهته ، وتردد الأطراف خارج عما هو وظيفته ، مع أن ارتكاب بعض الأطراف تساهل وتسامح في الدين وعدم مبالاة بإلزامات المولى وهو نحو هتك بالنسبة إليه ، وليس للعقل والعقلاء تجويز ذلك أبدا.

والثاني عبارة عن العمومات المثبتة للأحكام الظاهرية ، مثل «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» و «كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر» و «كل شيء حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه».

ويرد على مثل هذه العمومات ..

أولا : أن الشك في شمولها لمورد العلم الإجمالي كاف في عدم الشمول ، لما مرّ من عدم صحة التمسك بالعمومات في الشبهات المصداقية.

وثانيا : أن ارتكاب بعض الأطراف مع العلم بكونه طرفا للنهي الإلزامي ، أو ترك بعض أطرافه مع العلم بكونه طرفا للأمر الإلزامي ، عدم مبالاة بشأن المولى لدى المتشرعة ، بل العقلاء ، ولا ريب في قبح ذلك في الجملة ، وليس للشارع الحكيم أن يأذن في ذلك.

وبالجملة : أن المحتملات في مثل هذه الأخبار ثلاثة :

الأول : أن الشارع رفع اليد عن الحكم الواقعي في موارد العلم الإجمالي رأسا ، وهو خلف الفرض.

الثاني : أنه أذن في الترخيص في جميع الأطراف ، وهو ترخيص في المعصية قبيح بالنسبة إليه.

الثالث : أنه رخّص في بعض الأطراف دون بعض ، وهو ترخيص في عدم

٤٥

المبالاة في الدين ، وإذن في التجري في الجملة ، وهو أيضا قبيح للشارع مع اهتمامه بأحكامه والمحافظة عليها مهما أمكنه ذلك.

نعم ، لو ثبت رفعه للحكم في مورد العلم الإجمالي ، أو جعله بعض الأطراف بدلا عن الحكم الواقعي ، أو ثبت التخيير شرعا أو عقلا ، لجاز ارتكاب الكل في الأول وأحد الأطراف في البقية.

ولكن الجميع باطل.

أما الأول : فلما مرّ من أنه خلف الفرض ، ولا دليل على جعل البدل أو التخيير الشرعي ، كما لا وجه للتخيير العقلي ، لأنه إنما يتحقق في ما إذا كان المناط في الطرفين أو الأطراف واحدا ، وليس كذلك في المقام.

وثالثا : أنه مناف لقاعدة المقدمية المرتكزة في الأذهان ، وما أحسن قول صاحب الجواهر قدس‌سره حيث قال : «إنا لم نسمع أحدا تأمل في هذه القاعدة من أصحابنا ، بل يقررونها ويذكرون الأخبار الخاصة حيث تكون مؤيدة لها وإن وقع لهم كلام في كيفية تقريرها ، ولكنهم مشتركون في الإضراب عن هذه العمومات في الطهارة والحل والحرمة ، بل عن بعضهم الالتجاء إلى أخبار القرعة دونها مع كونها بمرأى منهم ومسمع ...» راجع كلامه عند قول المحقق : (ولو اشتبه الإناءان).

وقد طبق الإمام عليه‌السلام هذه الأخبار على الشبهة غير المحصورة ، فيعلم من ذلك عدم انطباقها على المحصورة ، فراجع وتأمل.

ورابعا : أن المحتملات في قوله عليه‌السلام : «إنه حرام بعينه» ثلاثة :

الأول : إرجاع الضمير إلى نفس الحرام من حيث هو حرام ، فكأنه قال عليه‌السلام : «كل شيء حلال حتى تعلم عين الحرمة» ، ولا ريب في العلم بالحرمة في مورد العلم الإجمالي ، بل لا تجري هذه العمومات والإطلاقات بناء على هذا الاحتمال في أطراف الشبهة غير المحصورة أيضا ، ويظهر من بعض الأخبار أن

٤٦

الإمام عليه‌السلام أجراها في الشبهة غير المحصورة ، فيعلم منه سقوط هذا الاحتمال فيها فقط.

الثاني : أن يرجع الضمير في «بعينه» إلى أن ما هو مورد ابتلاء المكلف حلال حتى يعلم الحرام بعين ما يكون مورد الابتلاء ، ولا ريب في تحققه أيضا في مورد العلم الإجمالي ، لفرض أن الأطراف مورد الابتلاء.

الثالث : أن يكون المراد بالعين ، الشخص الموجود في الخارج من حيث كونه قابلا للإشارة الحسية ، وبهذا المعنى لا يصح انطباقه على أطراف المعلوم بالإجمال ، لفرض عدم إمكان الإشارة الحسية إلى شخص الحرام فيها ، ولكن تعين هذا الاحتمال من بين المحتملات بلا معين.

والظاهر هو الثاني ، وإلا لقال عليه‌السلام : (شخص الحرام) لأن التشخّص ينافي التردد ، بخلاف العينية فإنها تشمل كل ما تحقق في الخارج ويكون مورد ابتلاء المكلف ، فإن التحقق الخارجي لا ينافي التردد عند المكلف ، مع أنه يوهن هذا الاحتمال أن تشخيص الموضوع خارجا ليس من وظيفة الشارع حتى يلزم عليه بيانه. وعلى فرض كون المراد به المعنى الثالث ، فقد مرّ قبح ترخيص الشارع فيه.

وخلاصة القول : أن الجهل الذي هو مورد تشريع الأحكام الظاهرية مطلقا ، ليس مطلق الجهل ، بل خصوص الجهل الذي ليس موردا لاحتمال انطباق تكليف فعلي منجز بالاحتمال العقلائي ، وما كان كذلك فهو خارج عنه تخصصا ، وكذا الشك الذي يكون موردا للأصول العملية مطلقا ، إنما هو الشك الثابت المستقر الذي لا يكون موردا لاحتمال انطباق تكليف فعلي منجز بالاحتمال العقلائي ، وإلا فهو خارج عنه تخصصا ، وهذا هو القول الأسد الأخصر الذي لا بد منه ، وسيأتي في مقدمات الانسداد عند بطلان الرجوع إلى الاصول ما ينفع المقام.

٤٧

شرائط تنجز العلم الإجمالي :

وهي شرائط عقلائية حاصلة من مرتكزاتهم التي هي المدار في تنجز التكاليف مطلقا في ما لم يرد فيه تحديد شرعي.

الأول : أن يحدث بالعلم الإجمالي تكليف فعلي غير مسبوق بالوجود على كل تقدير ، بأن يكون كل طرف من أطرافه من حيث الطرفية للعلم الإجمالي موردا للتكليف المعلوم في البين ، وبصحة انطباقه عليه حدث تكليف مسبوق بالعدم ، فلو كان بعض أطرافه المعين محكوما بحكم تفصيلي ، مثل الحكم المعلوم بالإجمال ، فحدث العلم الإجمالي بعد ذلك ، لا أثر لمثل هذا العلم الإجمالي في التنجز ، كما إذا كان هناك إناءان أحدهما المعين نجس ، ثم وقعت قطرة بول لا يدري أنها وقعت في أيهما ، فلا يحدث بالنسبة إلى الإناء المعلوم النجاسة تكليف زائد ، ويكون الشك في نجاسة الإناء غير المعلوم نجاسته من الشك البدوي ، فيرجع فيه إلى البراءة ، كما في جميع موارد الشكوك البدوية ، فإن تنجز التكليف سابقا في الطرف المعلوم بالتفصيل بجعل الطرف الآخر من الشك البدوي المحض ، بلا فرق في ذلك بين كون العلم الإجمالي علة تامة للتنجز ، أو مقتضيا لسقوط العلية وعدم تمامية الاقتضاء مع فقد الشرط ، فيشمله دليل البراءة العقلية والنقلية.

ثم إن العلم التفصيلي بالتكليف ..

تارة : يكون سابقا على حدوث العلم الإجمالي.

واخرى : يكون متأخرا عنه.

وثالثة : يكونان متقارنين. وكذا المعلوم بذلك العلم التفصيلي ، قد يكون متقدّما على المعلوم بالعلم الإجمالي ، وقد يكون متأخرا عنه ، وقد يكونان متقارنين.

٤٨

والمحصل من ضرب الثلاثة في مثلها يصير تسعة ، يكون العلم الإجمالي منجزا في ثلاثة منها ، وهي : ما إذا تقدم المعلوم بالإجمال وعلمه على المعلوم التفصيلي وعلمه ، وما إذا تقدّم المعلوم بالإجمال فقط على العلم التفصيلي ومعلومه وتأخر نفس العلم الإجمالي عنه ، وما إذا تقدّم المعلوم بالإجمال مع تقارن العلمين ، ولا تنجز له في ستة منها وهي :

١ ـ تقدّم المعلوم التفصيلي على المعلوم الإجمالي مع تقارن العلمين.

٢ ـ تقدّم العلم والمعلوم التفصيلي على المعلوم الإجمالي.

٣ ـ تقدّم المعلوم التفصيلي على المعلوم الإجمالي فقط.

٤ ـ تقارن المعلومين مع تقدّم العلم التفصيلي.

٥ ـ تقارن المعلومين مع العلم الإجمالي.

٦ ـ تقارن المعلومين مع تقارن العلمين ، وأمثلة الكل واضحة بعد التأمل. وفي جميع هذه الصور الست يكون غير المعلوم بالتفصيل من مجاري البراءة ، لكونه من الشبهات البدوية.

ثم إن الاصول الجارية في أطراف العلم الإجمالي ..

تارة : تكون مثبتة للتكليف.

واخرى : تكون الجميع نافية.

وثالثة : تكون بعضها مثبتة وبعضها نافية. ولا ريب في تنجز العلم في الأولين. وأما الأخير فلا يبعد سقوطه عن التنجز ، كما إذا علم إجمالا بأنه إما زاد في صلاته ركوعا أو نقص سجدة واحدة ، فتجري أصالة عدم زيادة الركوع ، وعدم الإتيان بالسجدة ، فتصح صلاته ويجب عليه قضاء سجدة واحدة.

الثاني : من شرائط تنجز العلم الإجمالي : أن يصلح للداعوية والبعث نحو التكليف في عرف العقلاء ، ومع عدم صلاحيته لذلك لا تنجز له ، إذ لا معنى للمنجزية عندهم إلا الصلوح لذلك ، وهذا مما يختلف اختلافا فاحشا بحسب

٤٩

الموارد والأشخاص ، فقد يكون مورد واحد صالحا للداعوية لبعض ، وغير صالح لها لآخر في محل واحد وزمان واحد. ويترتب على هذا الشرط خروج موارد ثلاثة عن تنجز العلم الإجمالي.

منها : ما إذا لم يكن بعض الأطراف مورد الابتلاء ، وبيانه أن للقدرة مراتب ثلاث ..

الاولى : القدرة العقلية المحضة ، بمعنى إمكان المقدور بالنسبة إلى القادر بالإمكان الذاتي ، ولا ريب في عدم كون هذه المرتبة منها شرطا في التكاليف الشرعية ، لكون جميعها مبنية على القدرة العرفية السمحة السهلة.

الثانية : القدرة العرفية العقلائية ، التي هي أخص من الاولى ، وتدخل فيها القدرة الشرعية أيضا.

الثالثة : قدرة خاصة هي أخصّ منهما ، وهي كون المقدور مورد عمل القادر عرفا مع وجود المقتضي وفقد المانع ، بحيث تكون القدرة بالنسبة إلى تمام الأطراف على حدّ سواء من حيث وجود المقتضي وفقد المانع ، فلو كان في أحد الأطراف مانع عن إعمال القدرة فهو خارج عن محل الابتلاء ، فلا تنجز للعلم الإجمالي المتعلّق به وبغيره.

والمانع إما عقلي ، كما إذا علم إجمالا إما بنجاسة هذا الإناء الموجود ، أو ما صار معدوما ، فلا أثر لهذا العلم الإجمالي أبدا.

أو شرعي ، كما إذا كان هناك إناءان أحدهما للغير والآخر للمكلف نفسه وعلم بنجاسة أحدهما ، وحيث أنه لا يجوز له التصرف في إناء الآخر فهو خارج عن مورد ابتلائه ، فليس هذا العلم الإجمالي منجزا أيضا ، لمانع شرعي.

أو عرفي ، كما إذا علم إجمالا بنجاسة إنائه أو إناء جاره الذي ليس بينهما تردد ، فإن العرف بمرتكزاتهم لا يرون مثل هذا العلم منجزا ، إذ المفروض أنه ليس إناء الجار مورد الحاجة والعمل عرفا.

٥٠

أو عادي شخصي ، كما إذا كان شخص لا يشرب الدخان ـ مثلا ـ مطلقا ، ثم علم إجمالا بأن الدكان الذي يشتري منه حوائجه إما دهنه مغصوب أو سجائره مثلا ، فيصح له شراء الدهن ، لخروج أحد طرفي العلم الإجمالي بالنسبة إلى هذا الشخص عن مورد الابتلاء ، فلا تنجز له ، ولهذا القسم أمثلة كثيرة ، كما لا يخفى.

ثم الظاهر أن الابتلاء وعدمه من الوجدانيات لمن يلتفت إليه في الجملة ، فلا وجه للشك فيه ، ومع ذلك لو شك ، فسيأتي حكمه في مباحث الاشتغال إن شاء الله تعالى.

ويترتب على ذلك ثمرات :

أولها : أنه لو اعتقد عدم كون بعض الأطراف مورد الابتلاء فارتكب بعضها وبان الخلاف ، فالظاهر تنجز العلم بالنسبة إلى ما بقي لكشف ظهور الخلاف عن كونه منجزا حين حدوثه ، غاية الأمر أنه كان معذورا في الارتكاب إن لم يكن عن تقصير ، والابتلاء من الشروط الواقعية لا الإحرازية.

ثانيها : لو كانت الأطراف مورد الابتلاء وأثّر العلم الإجمالي أثره ، فخرج بعض الأطرف عن مورد الابتلاء ، لا يضر ذلك بتنجز العلم الإجمالي وبقاء أثره في ما بقي تحت الابتلاء ، للأصل.

ثالثها : لو علم إجمالا بغصبية إناء مردد بين الإناءين ونجاسة إناء مردد بين إناءين أحدهما المعين ما كان طرفا للغصبية أيضا ، فإن كان المجمع خارجا عن مورد الابتلاء ، فلا أثر للعلمين الإجماليين ، وإن كان الطرف المختص بكل واحد من العلمين خارجا عنه ، لا أثر له بالخصوص ، وهذا مبني إما على عروض العلمين الإجماليين دفعة واحدة معا ، أو مترتبا. ولكن بناء على أن مجرد وجوب الاجتناب ـ ولو مقدمة في أحد الأطراف ـ لا يوجب سقوط العلم الإجمالي اللاحق عن التنجز ، وإلا فلا أثر للعلم الإجمالي اللاحق.

٥١

ومنها : موارد دوران الأمر بين المحذورين مع وحدة القضية من كل جهة زمانا ومكانا ، ومن سائر الجهات ، كما إذا علم إما بوجوب الحركة عليه في الآن الخاص أو بوجوب السكون فيه بعينه ، ومثل هذا العلم الإجمالي لا يصلح للداعوية ، فإنه لا يقدر المكلف على الجمع بينهما ولا يخلو تكوينا عن أحدهما ، فلا يقدر على الموافقة القطعية ولا على المخالفة كذلك ، وما كان هكذا لا يصلح للداعوية.

ثم إنه يعتبر في دوران الأمر بين المحذورين الذي لا يصلح العلم للداعوية فيه أمور ثلاثة :

الأول : كونهما توصّليين ، إذ لو كانا ـ أو أحدهما المعين ـ تعبديا ، يمكن المخالفة القطعية بترك قصد التعبد فيهما أو في المعين منهما.

الثاني : وحدة القضية من كل جهة ، إذ مع التعدد يمكن المخالفة القطعية ، كما إذا علم إما بوجوب القيام عليه في ساعة خاصة أو بوجوب القعود عليه فيها ، فإنه لو قام في نصف ساعة وقعد في نصفها تحققت المخالفة القطعية.

الثالث : عدم وجوب الالتزام بالأحكام الواقعية على ما هي عليها ، إذ لو وجب ذلك ولم يلتزم تحققت المخالفة القطعية بالنسبة إلى وجوب الالتزام ، ويأتي ما له نفع في المقام في محله إن شاء الله تعالى.

ومنها : الشبهة غير المحصورة التي هي أيضا من مصاديق خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء ، إذ لا موضوعية لعدم الحصر من حيث هو ، بل لا بد من انطباق عنوان عدم الابتلاء أو الحرج أو نحو ذلك عليها حتى يسقط العلم عن التنجز ، ولعل تعبيرهم بغير المحصورة لأجل أنه ملازم غالبا لعدم الابتلاء أو للحرج ، فعبر به اختصارا.

الثالث : من شرائط تنجز العلم الإجمالي : أن لا يكون العلم التفصيلي بخصوصه معتبرا في التكليف ، وإلا فلا موضوع لتنجز العلم الإجمالي.

الرابع : من شرائط تنجزه : أن لا يكون في البين ما يدل على رفع الحكم

٥٢

الواقعي وتبدّله في تمام أطراف العلم الإجمالي أو بعضها من اضطرار ، أو إكراه ، أو تقية ، أو حكم الحاكم الجامع للشرائط ، أو إقرار كذلك ، فإنه مع وجود أحد منها يسقط الواقع ويتبدل الحكم. وبعد تحقق هذه الشرائط يتنجز العلم الإجمالي ولا اختصاص لها به ، بل هي شرائط للتنجز مطلقا ، سواء كان في العلم التفصيلي أو الإجمالي ، أو سائر الحجج والأمارات.

نعم ، الشرط الثالث لا يجري في العلم التفصيلي ، كما لا يخفى.

وأما اشتراط أن تكون أطراف العلم الإجمالي متعلّقة بشخص العالم لا بشخصين ، فمرجعه إلى ما مرّ من شرطية الابتلاء ، فلا وجه لذكره مستقلا.

تنبيه :

قد ذكر المحقق الأنصاري قدس‌سره موارد ربما يوهم فيها الترخيص في مخالفة العلم التفصيلي.

منها : ما إذا حكم الحاكم بتنصيف عين تداعاها اثنان بحيث يعلم صدق أحدهما وكذب الآخر ، وحينئذ فإن اشتراها ثالث ، يعلم تفصيلا بعدم انتقال تمام المال إليه من مالكه الواقعي ، مع أنهم حكموا بجواز الشراء منهما تمام المال.

ومنها : ما إذا كان لأحد درهم ولآخر درهمان وكان المجموع عند الودعي فتلف عنده درهم ، فحكموا بأن لصاحب الاثنين درهما ونصف ولصاحب الواحد نصف درهم فقط ، وحينئذ فإن أخذ ثالث الدرهم المشترك بينهما ، يعلم تفصيلا بعدم انتقال تمامه إليه من مالكه الواقعي.

ويمكن الجواب عنهما بأن لازم حكم الشارع بالتنصيف فيهما ، وثبوت ولايته لقطع التخاصم على نحو العدل والإنصاف ، هو تبديل الموضوع بالنسبة إلى الثالث ، ولكنه يبقى بالنسبة إلى المحكوم له على ما هو عليه لو كان كاذبا ، ومع تبدل الموضوع بالنسبة إلى الثالث ينتقل جميع المال من المالك الشرعي إليه ، ولا محذور فيه حينئذ.

٥٣

الأمر الثامن

الامتثال الإجمالي

لا ريب في صحة الامتثال الإجمالي مع عدم التمكن من التفصيلي منه ، كما ارتكز في أذهان العقلاء. وأما مع التمكن فنسب إلى المشهور بين القدماء عدم جوازه. لأنه مناف للجزم بالنية.

ويرد : بأنه لم يدل دليل من عقل أو نقل على اعتبار الجزم في النية ، فمقتضى الأصل عدمه ، كما ثبت في محله.

ولأنه خلاف المتعارف. ويرد : بأنه ليس كل ما هو خلاف المتعارف خلاف المشروع.

ولأنه لعب وعبث بأمر المولى. ويرد : بأن اللعب والعبث قصدي اختياري. والمفروض عدمه ، وعلى فرض أن يكونا قهريين انطباقيين فلا يحكم العقلاء بانطباقه على كل تكرار. نعم ، لو انطبقا عليه لكان لغوا ، بل قد يكون قبيحا ، كما إذا كان موجبا للوسواس أو جهة اخرى مما يقبحه الناس.

مع ما هو المتسالم بين الكل أن العلم مطلقا طريق إلى إتيان الواقع ، وأن المناط كله إتيانه بأي وجه اتفق ، ولذا تصح عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد فالحق جواز الاكتفاء بالامتثال الإجمالي مع التمكن من التفصيلي منه ولو استلزم التكرار.

ثم إنه لا فرق في ما مرّ مما يتعلّق بالعلم الإجمالي بين أن يكون المعلوم عنوانا واحدا ، كما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين. أو مرددا بين عنوانين ، كما إذا

٥٤

علم إجمالا إما بنجاسة أحد الإناءين أو بغصبيته ، فيتنجز العلم مطلقا في كليهما.

نعم ، لو نسي وتوضأ بأحدهما يصح وضوءه ، لصحته من المغصوب مع النسيان ، وتكون النجاسة حينئذ من الشبهة البدوية ، فتجري فيها قاعدة الطهارة ، بخلاف القسم الأول فيبطل الوضوء منه حتى مع النسيان ، لأن طهارة الطهور شرط واقعي.

٥٥
٥٦

المقصد الثاني

ما يصح الاعتذار به

من

جهة الكشف

٥٧
٥٨

وفيه مباحث :

تمهيد :

للاطمئنان مراتب متفاوتة شدة وضعفا ، وأعلى مراتبه القطع الذي مضى بعض القول فيه. وأما سائر مراتبه ـ شخصيا كان أو نوعيا ـ فلا ريب في اقتضاء الاعتبار وصحة الاعتذار فيه لدى العقلاء كافة ، فلو لم يرد ردع شرعي كفى ذلك في اعتباره وصحة الاعتذار به ، لأنه من أهم الامور النظامية العقلائية ، ويكفي في اعتبارها عدم ثبوت الردع فقط ولا نحتاج إلى التقرير ، فاللازم في المقام هو البحث عن أنه هل ورد ردع من الشارع عن الاعتماد عليها أو لا؟ ولا نحتاج إلى تكلّف الاستدلال على الاعتبار وصحة الاعتذار ، لأنهما من المرتكزات العقلائية بعد عدم ثبوت الردع ، كما لا يخفى. إلّا أن متابعة المشهور أولى ، فنقول :

البحث في غير العلم من جهات ..

فتارة : يبحث عن إمكان التعبّد به.

واخرى : عن تأسيس الأصل في الاعتبار وعدمه.

وثالثة : عن الأمارات الخاصة.

ورابعة : عن مطلق الظن.

كما أن وجه الاعتبار يمكن أن يكون جعل الحجية ، أو جعل وجوب العمل على طبق ما اعتبر ، أو جعل المؤدى منزلة الواقع ، أو جعل الطريقية فقط ، أو جعل تتميم الكشف ـ إن قيل إنه في مقابل ما ذكر ـ وبين كل واحد منها

٥٩

والباقي ملازمة عرفية وإن اختلفت العبارات أو تعددت المفاهيم ، كما لا يخفى.

ثم إن أصالة عدم الحجية في ما هو معتبر من جهة الكشف لا يصح جريانها بالنسبة إلى مرتبة الاقتضاء ، لفرض اقتضاء الحجية فيها بوجدان كل عاقل ، وإنما تصح بالنسبة إلى التقرير لو اعتبرنا تقرير الاقتضاء في الحجية ، وبالنسبة إلى الانتساب إلى الشارع أو اكتفينا بعدم ثبوت الردع ، فلا يصح الانتساب إليه قبل استقرار عدم الردع ، ومع استقراره لا جعل ولا مجعول في البين رأسا حتى نحتاج إلى إبداء هذه الاحتمالات والأقوال ، لابتناء جميعها على أن ما ثبت من الشارع إنما هو أمر وجودي ، والمفروض كفاية الأمر العدمي وهو عدم ثبوت الردع ، فهذه التطويلات من التطويل بلا طائل تحتها ، وفرض في فرض ، إلّا أنه لا بد من سلوك ما سلكه القوم ، فنقول على طريق الشكل الأول البديهي الإنتاج : الظنون مطلقا فيها جهة الكشف. وكل ما كان فيه جهة الكشف يكون فيه اقتضاء الحجية ، فالظنون مطلقا فيها اقتضاء الحجية. ثم نقول : الظنون فيها اقتضاء الحجية ، وكل ما فيه اقتضاء الحجية تتم حجيته مع عدم ثبوت الردع ، فالظنون مطلقا تتم حجيتها مع عدم ثبوت الردع ، وسنثبت عدم ثبوت الردع إن شاء الله تعالى.

٦٠