تهذيب الأصول - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

تهذيب الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

التنبيه العاشر :

يجري الاستصحاب في الاعتقاديات ، كجريانه في الفرعيات لعموم أدلته وإطلاقاتها ، وتسميته بالأصل العملي باعتبار الغالب ، مع أنه أعم من العمل الجارحي والجانحي.

ثم إن الاعتقاديات على أقسام ..

فتارة : يكون المطلوب فيها مجرد الاعتقاد بالواقع على ما هو عليه من دون لزوم تحصيل العلم به.

واخرى : يلزم تحصيل العلم به ، وعلى كل منهما ..

تارة : يكون مورد الاستصحاب نفس الموضوع.

واخرى : هو الحكم. وعلى كل من هذه الأقسام الأربعة ..

تارة : يكون الحاكم به هو العقل ، واخرى : يكون هو الشرع. فهذه ثمانية أقسام ، ولا وجه لجريان الاستصحاب في الموضوع في جميع هذه الصور ؛ سواء كان مما يكفي فيه مجرد الاعتقاد ، أو لزم تحصيل العلم به ، لأن الاستصحاب متقوّم بالشك والتردد ، والاعتقاد متقوّم بالجزم أو العلم. وهما لا يجتمعان إلّا أن يدل دليل من الخارج على كفاية الجزم والعلم التعبدي في الاعتقاديات أيضا.

وأما الاستصحاب في الحكم فلا محذور فيه إن كان الحاكم هو الشرع ، بل وكذا إن كان هو العقل وقلنا بكفاية عدم الردع في الأثر الشرعي ، وإلا فيختص جريانه بما إذا كان الحاكم هو الشرع فقط ، بل يمكن أن يقال بعدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية مطلقا ، لأن اللازم في الاعتقاديات تحقق العجز عن تحصيلها ، فمع العجز لا وجه للاستصحاب. وكذا مع عدم إحراز العجز لوجوب تحصيلها إلى أن يظهر العجز أيضا ، فلا مورد للاستصحاب في

٢٨١

الاعتقاديات أصلا ، فظهر بطلان تمسك الكتابي بالاستصحاب لبقاء شريعته إلى أن يثبت الدليل على نسخه ، مع أن الدليل إما برهاني ، أو إلزامي ، أو إقناعي ؛ واستصحاب بقاء الشريعة لا يصلح لكل منها. إذ الأول عبارة عن اعتقاد الطرفين بصحة جميع المقدمات القريبة والبعيدة في البرهان ، وإلا فلا ينفع شيئا ، فلا بد وأن يعتقد الكتابي والمسلم بصحة الاستصحاب في الشريعتين ، مع الاعتقاد بصحة كل من الشريعتين مستقلا ، فإذا اعتقد الكتابي بصحة الشريعة الختمية وكونها دينا سماويا ناسخا لما سبقه من الأديان ، يصير مسلما ويزول موضوع الاستصحاب لا محالة. والثاني عبارة عن كون الدليل مشتملا على مقدمة مقبولة لدى الخصم فيرده بما هو مقبول لديه ، مثل أن يقول الكتابي للمسلم : أنت تعترف بصحة الاستصحاب ونبوة عيسى عليه‌السلام ، ونحن نستصحب نبوة عيسى إلى أن يثبت الدليل على عدمه. ولا يصح ذلك أيضا ، إذ المسلم لا يعترف بنبوة عيسى مطلقا ، بل نبوته من حيث أخبر بها خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونسخت نبوته بالشريعة الختمية ، ومع هذا الاعتقاد لا موضوع للاستصحاب رأسا. والثالث عبارة عما لا يفيد العلم ، بل يوجب رفع المخاصمة في الجملة ، وهو باطل في المقام أيضا ، لأن النبوة مما يعتبر فيه تحصيل العلم ، والدليل الإقناعي بمعزل عن ذلك.

التنبيه الحادي عشر :

لا ريب في تقدم الأمارات مطلقا ، والاصول اللفظية على الاصول العملية بلا خلاف من أحد ، ولكن قد يتردد بعض الموارد في أنه من موارد الرجوع إلى الدليل اللفظي أو الأصل العملي ، وعلى الأول هل هو العام أو الخاص لو كانا في البين؟ كما إذا ورد عام مثل (أوفوا بالعقود) وخاص مثل (المغبون له الخيار)

٢٨٢

وشك في أنه على الفور أو التراخي ، فهل المرجع هو العام ، أو الخاص ، أو استصحاب بقاء الخيار؟ فيه احتمالات ، بل أقوال :

ولا بد أولا من بيان أمر ، وهو أن الزمان ..

تارة : يلحظ بالنسبة إلى ما يقع فيه ـ حكما كان أو موضوعا ـ على نحو الظرفية الاستمرارية فقط ، كقول : أكرم العلماء دائما وأبدا ، أو نحو ذلك من التعبيرات الظاهرة في الاستمرار ، فلا يكون في البين إلّا شيء واحد مستمر ، لا أشياء متعددة بحسب تعدد أجزاء الزمان.

واخرى : تلحظ أجزاء الزمان المتكثرة كل واحد منها لحاظا مستقلا ، كقول : أكرم العلماء كل يوم ـ مثلا ـ واصطلح عليه بالعام المفرد ، فيحصل لما يقع فيه حينئذ أفراد طولية ، كما كان له أفراد عرضية.

والفرق بين القسمين : أن القسم الأخير يستقر ظهور الدليل في جميع الأفراد الطولية والعرضية. ولا يضرّ عروض التخصيص بالنسبة إلى بعض الأفراد باستقرار الظهور في سائرها ، فيصح التمسك بالدليل حينئذ في غير ما علم عروض التخصيص عليه ، بخلاف القسم الأول ، فإنه لم يكن في البين إلا لحاظ الاستمرار لوحدة الاتصالية الملحوظة ، وليس الدليل إلّا متكفلا لذلك فقط ، فإذا ورد عليه التخصيص وانقطع الاستمرار وانفصمت الوحدة الاتصالية ، ليس في البين ظهور للعموم بالنسبة إلى سائر الأفراد حتى يرجع إليه ، فلا بد من الرجوع إلى دليل آخر ، بلا فرق في ذلك بين أن يكون التخصيص حادثا بحدوث العام أو حدث بعده.

ويمكن أن يجعل القسمان متلازمين واقعا ، فالاستمرارية تلازم المفردية وبالعكس ، لأن الاستمرارية عبارة عن شمول الدليل للأفراد الطولية بلحاظ الاستمرار ، والمفردية عبارة عن شموله لها بلحاظ نفس تلك الأفراد مستقلا. والظاهر اشتمال كل منهما للمفردية وكونها ملحوظة في الجملة إلّا أنها في

٢٨٣

الاستمرارية ملحوظة إجمالا ، وفي المفرّدية تفصيلا ، فالاستمرارية تدل على التفريد بالالتزام العرفي وعلى الاستمرار بالمطابقة ، والمفردية تدل على التفريد بالمطابقة وعلى الاستمرار بالالتزام العرفي ، فلا ثمرة معتنى بها للفرق في البين من هذه الجهة بعد التلازم العرفي بينهما ، هذا إذا علم الاستمرارية أو التفريد بالقرينة المعتبرة.

وإن شك في أنه من أيهما ولم تكن قرينة على تعيين أحدهما ، فلا موضوع للثمرة حينئذ حتى بناء على عدم التلازم. ولا يبعد أن يقال إن الأصل في العموم الاستمرارية إلّا أن يدل دليل على التفريد ، لأن الأصل عدم ملاحظة الأفراد مستقلا.

ثم إن الأقسام أربعة : فإن العام إما أفرادي ، أو استمراري ، وعلى كل منهما يكون الخاص إما أفراديا أو استمراريا. فإن كان العام أفراديا فالمرجع عند الشك في التخصيص هو العام مطلقا ، سواء كان الخاص أفراديا أيضا أو استمراريا ، لكون الأفراد مورد شمول العام ، فالمقتضي للتمسك به موجود والمانع عنه مفقود ، ولا يصح التمسك بدليل الخاص لكونه من التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعية ، كما لا يصح الرجوع إلى الاستصحاب ، لكونه محكوما بدليل العام بلا كلام. هذا إذا كان شمول العام لتلك الأفراد معلوما ، وإن كان مشكوكا لجهة من الجهات فلا يصح التمسك به حينئذ أيضا ، بل يرجع إلى دليل أو أصل آخر.

وإن كان العام استمراريا فلا وجه للرجوع إليه لانقطاع استمراره بالخاص ، كما لا وجه للرجوع إلى الخاص أيضا مطلقا ـ استمراريا أو إفراديا ـ لفرض الشك في كون المورد مشمولا له أو لا ، فيكون الرجوع إليه من الرجوع إلى الدليل في الموضوع المشتبه ، وحينئذ فإن صح الرجوع إلى الاستصحاب يرجع إليه ، وإلا فلا بد من الرجوع إلى دليل أو أصل آخر. هذا بناء على عدم الملازمة بين الاستمرارية والتفريد ، وإلا فيصح الرجوع إلى العام في

٢٨٤

هذا القسم أيضا.

ثم إن الاستمرارية والتفريد لا بد وأن يستفاد من القرائن الداخلية أو الخارجية ، وليست في البين قرينة كلية دالة على احداهما بالخصوص. هذا بعض ما يتعلق بالمقام.

التنبيه الثاني عشر :

المراد بالشك في البقاء مطلق غير الحجة المعتبرة ، فيشمل الظن غير المعتبر ، كما يشمل الوهم أيضا ، لأن ظاهر قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك ولكن تنقضه بيقين آخر» هو جعل الشك في مقابل اليقين الذي يكون كناية عن مطلق الحجة المعتبرة ، فكأنه قال عليه‌السلام : لا تنقض الحجة بغيرها. وأما الاستدلال بالإجماع على أن الظن غير المعتبر كالشك فلا وجه له ، لعدم اعتبار مثل هذا الإجماع لكونه اجتهاديا لا تعبديا ، كما لا يخفى.

التنبيه الثالث عشر :

استصحاب الصحة عند الشك فيها إن كان بمعنى الصحة الفعلية من كل حيثية وجهة لا وجه له ، للشك في أصل حدوثها وثبوتها ما لم يفرغ عن العمل مستجمعا للشرائط فلا يقين بحدوثها كذلك في أثناء العمل حتى يستصحب بقاؤها. وإن كان المراد الصحة الاستعدادية الإمكانية التعليقية ، بمعنى أنه لو تحققت الأجزاء مستجمعة للشرائط وفاقدة عن الموانع لكانت صحيحة ، فهي مقطوعة البقاء ، ولا شك فيها أبدا. وإن كان المراد بها بقاء الهيئة الاعتبارية ، وعدم زوالها وعدم خروج المكلف عما كان متلبسا به سابقا ، فيصح هذا الاستصحاب لوجود المقتضي وفقد المانع.

٢٨٥

وأما استصحاب الوجوب عند تعذر بعض أجزاء المركب ، فإن اريد به الوجوب الغيري المحض فلا وجه له ، لكونه معلوم الارتفاع ، مضافا إلى ما تقدم من عدم الوجوب الغيري للأجزاء ، وكذا إن اريد به المردد بين الغيرية والنفسية ، لكونه مرددا بين ما هو معلوم الارتفاع ومشكوك الحدوث ، بل وكذا إن اريد بها النفسي المحض للعلم بزواله بتعذر بعض الأجزاء.

نعم ، لا بأس باستصحاب مقدار من الوجوب النفسي الانبساطي لا المقدمي ولا النفسي بتمام حدوده ، وحينئذ فإن دلّ على تنزيل الفاقد منزلة الواجد والاكتفاء بالميسور عن المعسور فهو ، ولا تصل النوبة معه إلى التمسك بالأصل ، وإلا فلا طريق لنا لإثبات البقية بالأصل ، وتقدم في بحث الاشتغال ما ينفع المقام.

التنبيه الرابع عشر :

يعتبر في الاستصحاب اتحاد القضية المشكوكة والمتيقنة ، إذ مع عدمه يكون من إثبات حكم ثابت في موضوع لموضوع آخر مغاير له ، وبطلانه غني عن البرهان وموافق للوجدان.

والاتحاد إما عقلي أو عرفي ، أو بحسب المنساق من ظاهر الدليل. ولا وجه لاحتمال الأول ، لعدم كون الأحكام الشرعية مبنية على الدقيات العقلية. والأخير يرجع إلى الثاني ، لفرض أن الأدلة منزلة على العرفيات إلّا ما ورد فيه التعبد بالخصوص ، فيرجع لباب المقال إلى أنه يعتبر اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة بنظر العرف المنزّل عليه الدليل ، وذلك كله مستغن عن البرهان والتعليل.

ثم إن العرف إنما يعتبر في المفاهيم المستفادة من الألفاظ المستعملة ، وما

٢٨٦

يتبادر منها من المعاني في المحاورة ، لأن الإفادة والاستفادة مبنيان على المحاورات والمتفاهمات العرفية ، والظهور الاستعمالي ـ ولو كان مجازا ـ مقدم على الوضعي ـ ولو كان حقيقة ـ وأما المصاديق الخارجية فانطباق مفاهيم الألفاظ عليها لا بد وأن يكون قهريا ، لأن نسبتها إلى المفاهيم نسبة الفرد إلى الكلي ، ولا يدور ذلك مدار الأنظار العرفية ، فمع الانطباق القهري تكون المصاديق من تلك المفاهيم ، حكم العرف بذلك أو لم يحكم ، ومع عدمه لا يكون منها ولو حكم العرف بذلك.

نعم ، قد يكون نظر العرف ـ كالبينة ونحوها ـ طريقا إلى صحة الانطباق القهري ، فيكون المدار عليه بالآخرة ، والباقي يكون طريقا لإحرازه.

تقدم الاستصحاب على سائر الاصول العملية :

لا ريب في تقوم الاستصحاب بلحاظ الحالة السابقة ، فيكون من إسراء الدليل السابق إلى حالة الشك في مفاده ومدلوله ، فيصير الدليل ـ علما كان أو أمارة ـ قسمين : حقيقيا وتنزيليا ، والثاني عبارة عن الاستصحاب. فكل حكم يكون للدليل الحقيقي يكون للتنزيلي أيضا ، إلا مع وجود قرينة معتبرة على الخلاف ، وحيث أن الدليل الحقيقي مقدم على الاصول مطلقا فكذا التنزيلي ، وما يكون من الحقيقي واردا على الاصول يكون في التنزيلي هكذا ، وما يكون حاكما في الحقيقي فكذلك في التنزيلي.

وبالجملة فإن الأدلة الاجتهادية بحقيقيتها وتنزيليتها مقدمة على الاصول مطلقا ، مع أنه لو بني على تقديم الاصول على الاستصحاب يكون اعتباره من اللغو الباطل ، مضافا إلى أنه من التخصيص بلا مخصص إلّا على وجه دائر ، مع أن المتعارف بفطرتهم لا يترددون في تقديمه عليها ، بل لا يلتفتون مع لحاظ الحالة السابقة إلى أصل من الاصول أصلا.

٢٨٧

تعارض الاستصحابين :

وهو على أقسام ..

الأول : أن يكون الشك في أحدهما سببا شرعيا للشك في الآخر ، كالشك في الكرّيّة ، الذي يكون سببا للشك في بقاء نجاسة الثوب المتنجس المغسول فيه. ولا ريب في تقديم الأصل الجاري في السبب على الجاري في المسبب ، استصحابا كان أو غيره ، وهو الذي تقتضيه المرتكزات العرفية في المحاورات الدائرة بينهم أيضا ، لأن بجريان الأصل في السبب يزول الشك في المسبب شرعا ، فيكون خروجه عن تحت عموم دليل الأصل بالتخصّص بخلاف العكس فإن خروجه عنه حينئذ يكون من التخصيص بلا مخصص ، كما لا يخفى.

وهل بكون هذا للورود ، أو الحكومة ، أو التخصيص؟ لكل وجه وقال بكل قائل. ولا ثمرة عملية بل ولا علمية في تحقيق ذلك فمن شاء العثور على التفصيل فليراجع المطولات.

ولا فرق في ذلك بين توافقهما في المؤدى أو تخالفهما فيه.

الثاني : أن يكون الشك في كل منهما مسببا عن الشك في الآخر ، وهو باطل للزوم الدور ، ولا فرض له في الشرعيات ، بل هو من مجرد الفرض الوهمي فقط.

الثالث : أن لا يكون في البين سببية أصلا ، ولكن لزم من جريانهما المخالفة العملية ، كالإناءين الطاهرين اللذين علم بحدوث نجاسة في أحدهما فيلزم من جريان الأصل فيهما المخالفة العملية. فلا يجريان معا من هذه الجهة ولا في أحدهما ، لأن جريانه في أحدهما المردد من حيث هو لا معنى له ، لعدم التحقق للمردد في الخارج. كما أن جريانه في أحدهما المعين ترجيح بلا مرجح ، فلا بد من السقوط بالتعارض ، وقد تقدّم أن العلم الإجمالي كالتفصيلي

٢٨٨

في التنجز.

الرابع : أن لا تكون في البين السببية أصلا ولا يلزم المخالفة العملية أيضا ، ولكن كان جريانهما مخالفا لما هو المعلوم في البين ، كما إذا علم تفصيلا بنجاسة الإناءين ، ثم علم بطهارة أحدهما ، فلا يلزم من استصحاب نجاستهما المخالفة العملية ، بل يكون مخالفا لما هو المعلوم في البين ، فلا يجريان من هذه الجهة.

الخامس : ما إذا لم يكن في البين سببية أصلا ولا المخالفة العملية ولا العلمية ، ولكن دلّ الدليل من الخارج على عدم جريانهما ، كما إذا كان ماء طاهر ينقص عن مقدار الكر بقدر خاص ، فتمم ذلك القدر بماء نجس في أحد أطرافه ، فلا مانع من جريان استصحاب طهارة الماء الأول ونجاسة الماء المتمم ، ويترتب أثر كل منهما ، فيكون الطرف الذي القي فيه النجس نجسا بخلاف باقي الأطراف ، ولكن ادعي الإجماع على أن الماء الواحد في المحل الواحد لا يختلف حكمه من حيث الطهارة والنجاسة.

وربما يتوهم بأن هذا القسم من القسم الأول ، لأن نجاسة المتمم سبب لنجاسة الماء ، فيجري الاستصحاب في السبب ولا يبقى موضوع بعد ذلك لجريان الأصل الآخر.

ولكنه مردود بأن منشأ حدوث السببية الإجماع المدعى على أن الماء الواحد في المحل الواحد لا يختلف حكمه ، راجع التفصيل في المياه من كتاب (مهذب الأحكام).

السادس : ما إذا لم يكن شيء مما سبق في البين أصلا ، كمن توضأ غفلة بمائع مردد بين البول والماء ثم التفت إليه ، فيجري استصحاب طهارة مواضع وضوئه واستصحاب بقاء حدثه ، بناء على صحة التفكيك في لوازم الاصول ، وإلّا يكون هذا القسم من القسم الرابع ، كما لا يخفى.

٢٨٩

فمقتضى الأصل في جميع أقسام تعارض الاستصحاب التساقط ، لأن الأخذ بأحدهما ترجيح بلا مرجح ، والمفروض عدم إمكان الجمع بينهما ، وعدم دليل على التخيير.

وقد يحتمل في جميع ما تقدم من الأقسام الأخذ بالراجح ومع فقده فالتخيير.

وفيه : أن الترجيح إن كان بالأمارة المعتبرة ، فمع وجودها لا تصل النوبة إلى الأصل حتى يتحقق التعارض ، إذ لا وجه لجريان الأصل مع وجود الأمارة المعتبرة ، موافقة كانت أو مخالفة. وإن كان بغير المعتبرة منها فقد تقدّم أن الظنون غير المعتبرة لا تصلح للترجيح. كما لا وجه للترجيح بالأصل موافقا كان أو مخالفا ، لأن الأصل عدم حصول الترجيح بشيء إلا بما دلّ الدليل عليه ، ولا دليل على حصوله بالظن غير المعتبر والأصل.

نعم ، لا بأس بكون الأصل مرجعا بعد سقوط المتعارضين عن الاعتبار.

ثم إنه قد استشكل على شيخنا الأنصاري قدس‌سره بأنه قد علل عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي في جملة من كلماته ـ فقها وأصولا ـ بلزوم المخالفة العملية ، مع أنه قدس‌سره علله في بعضها بلزوم المناقضة بين صدر دليل اعتبار الاستصحاب وذيله. وأورد عليه بوجوه ، وقد تقدم ما يتعلّق به في بحث الاحتياط ، فراجع.

٢٩٠

الخاتمة

قد جرت عادتهم على التعرض لبعض القواعد المتقدمة على الاستصحاب في المقام ، ولا بأس بالإشارة إليه ، ولا بد من تقديم مقدمة.

وهي : أنه لا ريب في عدم كون ما يعتذر به من الأمارات والاصول في عرض واحد ومرتبة واحدة ، بل بينها اختلاف الرتبة اتفاقا ، فتقدم الأمارات مطلقا على الاصول كذلك موضوعية كانت أو حكمية. كما لا ريب في تقدم الاصول الموضوعية على الحكمية ، فلا تصل النوبة إلى كل لا حق مع وجود السابق عليه ، وهذا مما جرت عليه السيرة في المحاورات والاحتجاجات والاعتذارات الدائرة بين العقلاء.

واستدل عليه مضافا إلى ذلك باستقرار إطلاق دليل اعتبار الأمارة في مورد الشك مطلقا ، سواء كان هناك أصل أو لم يكن. وأما دليل اعتبار الأصل فشموله لمورد وجود الأمارة مشكوك فيه بل معلوم العدم ، وإلا لبطل اعتبار الأمارات مطلقا ، إذ ما من أمارة إلا وفي موردها أصل من الاصول ، وحينئذ فإن قدم دليل اعتبار الأصل على دليل اعتبار الأمارة لدار ، لأن التقدم متوقف على اعتبار الأصل مع الأمارة ، واعتباره معها متوقف على تخصيص دليل الأمارة بدليل الأصل ، وهذا التخصيص متوقف على اعتبار الأصل مع الأمارة ، إذ لولاه لكان من التخصيص بلا مخصص ، وهذا هو الدور الواضح. هذا ما ذكروه.

ولكنه من تبعيد المسافة ، لأن تقدم الأمارة على الأصل أوضح من ذلك في المحاورات ، كما لا يخفى. كما أن بين نفس الاصول العملية تقدما وتاخرا ،

٢٩١

فالاستصحاب مقدم على جميع الاصول ومنشأ هذا التقدم ظهور الاتفاق ؛ والاستصحاب يكون برزخا بين الأصل المحض والأمارة المحضة ، فمن الجهة الاولى تقدم عليه جميع الأمارات ، ومن الجهة الثانية يقدم على جميع الاصول.

ثم إن التقدم في غير موارد التزاحم لا بد وأن يكون لأحد امور خمسة ، وهي مرتكزة في أذهان أهل المحاورة وإن لم يلتفتوا إليها تفصيلا : إما للتخصص ، أو الورود ، أو الحكومة ، أو التخصيص ، أو الجمع العرفي. وفي التزاحم لا بد وان يكون لأقوائية الملاك على ما تقدّم تفصيله في محله ، والظاهر أن هذه الخمسة من قبيل مانعة الخلو ، فيمكن اجتماع أكثر من واحد منها في مورد.

كما أن الظاهر أن تقدم الأمارات على الاصول للورود ، لأن الاصول مجعولة في ظرف الحيرة المحضة ، وهي منتفية مع وجود الأمارة ، وهذا معلوم ولا وجه للإطناب فيه ، مع أنه لا ثمرة عملية في البين ، سواء كان التقدم لأجل الورود أو الحكومة.

ثم إن التخصص عبارة عن الخروج الموضوعي تكوينا.

والورود عبارة عن الخروج الموضوعي بعناية التعبّد ، أو بناء العقلاء.

والحكومة عبارة عن كون دليل الحاكم مفسرا وشارحا لدليل المحكوم ، توسعة أو تضييقا ، أو هما معا من جهتين.

والتخصيص هو الخروج الحكمي عن دليل العام مع كونه من أفراده موضوعا ، ولعل الفرق بين التخصيص والحكومة بأن الثاني من شئون المعنى أولا وبالذات ، بخلاف الأول فإنه من شئون الألفاظ في المحاورات.

والجمع العرفي هو الجمع بين الدليلين بما يقتضيه الطبع السليم ويرتضيه الذوق المستقيم ، ولا تضبطه ضابطة كلية ، بل يختلف اختلافا فاحشا حسب اختلاف الموارد.

٢٩٢

قاعدتا التجاوز والفراغ :

القاعدة الفقهية عبارة عن حكم فرعي يتعلّق بالإنسان من حيث الحكم المجعول له شرعا ، ويكون تحتها مسائل كثيرة.

والفرق بينها وبين المسألة الفقهية بالعموم والخصوص وقد يتساويان. ولا مشاحة في الاصطلاح ، وتكون نسبة القاعدة الى المسائل الداخلة تحتها نسبة الكلي إلى الفرد ، وقد تعرضنا لذلك في أول الكتاب ، فراجع. والبحث فيهما من جهات :

الجهة الاولى : هل هما من القواعد التعبّدية المحضة ، أو العقلائية التي كشف عنها الشارع ، كما تكون جملة من القواعد كذلك؟ الحق هو الأخير ، كما لا يخفى على الخبير ، لكونهما من صغريات أصالة عدم السهو والخطأ والغفلة والبقاء على الإرادة الإجمالية الارتكازية الكامنة في النفس عند إرادة إتيان العمل المتدرج الوجود ، وذلك كله مما استقر عليه بناء العقلاء ، وما ورد من الشرع تقرير لذلك ، لا أن يكون تعبّدا محضا.

الجهة الثانية : هل هما قاعدتان مختلفتان ، أو من صغريات كبرى واحدة. وإنما الاختلاف بالحيثية ، أي حيثية لحاظ أثناء العمل ، فتكون قاعدة التجاوز ، أو بعد الفراغ فتكون قاعدة الفراغ؟ الحق هو الأخير. أما بناء على كونهما من أفراد أصالة عدم السهو والغفلة والخطأ فواضح ، وكذا بناء على كونهما تعبديا محضا ، لإطلاق قول أبي جعفر عليه‌السلام : «كل ما شك فيه مما قد مضى فامضه كما هو» ، وقول أبي عبد الله عليه‌السلام : «كل ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكرا فامضه ولا إعادة عليك». فإنهما يشملهما معا. وأما قوله عليه‌السلام : «إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره وشككت ، فشكك ليس بشيء» فإنما ورد لبيان جريان القاعدة في أثناء العمل أيضا ، كجريانها بعد الفراغ منه وليس في مقام بيان تشريع

٢٩٣

قاعدتين مختلفتين ، مع أن في اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز كلاما يأتي إن شاء الله تعالى.

وما يقال : من أنه لا جامع بينهما حتى تكونا مورد دليل واحد بذلك الجامع.

مردود : بأن الجامع هو الشك في الشيء ، سواء كان في أصل تحققه ، كما في قاعدة التجاوز ، أو في صحته ، كما في قاعدة الفراغ ، فلا فرق بين كون الشك في أصل وجود الصحيح أو صحة الموجود.

واورد على هذا الجامع ..

تارة : بأن مورد قاعدة التجاوز إنما هو الشك في أصل التحقق ، ومورد قاعدة الفراغ إنما هو الشك في صحة المتحقق ، وهما متباينان فلا جامع بينهما.

وفيه : أن الجامع هو الشك في انطباق المأتي به على المأمور به ، وهو جامع قريب عرفي.

واخرى : بأن مورد قاعدة التجاوز هو الجزء ، ومورد قاعدة الفراغ هو الكل. والأول ملحوظ تبعا ، والثاني استقلالا ، وهما متباينان لا يجتمعان في استعمال واحد.

وفيه : أن اللحاظ وسيع جدا يصحح اجتماع اللحاظ التبعي والاستقلالي فيه في استعمال واحد ، بل هو شائع جدا ، فإن في التكلم بكلام يجتمع اللحاظان ، لأن أجزاء الكلام ملحوظة تبعا ، وتمامه ملحوظ استقلالا ، وكذا في جميع الأعمال المتدرجة الوجود التي لها أجزاء ووحدة اعتبارية.

وثالثة : بأنه مستلزم للتناقض فإنه إذا شك في جزء ، وقد دخل في غيره ، فمقتضى قاعدة التجاوز الصحة ، ومقتضى قاعدة الفراغ عدمها ، لكونه في الأثناء لا بعد الفراغ.

وفيه : أنه لا خلاف من أحد في تغاير موردهما ، واختصاص قاعدة الفراغ

٢٩٤

بما بعد العمل ، والتجاوز بالاثناء ، فلا مجرى لقاعدة الفراغ في الأثناء حتى يلزم التناقض.

وقد اشكل على وحدتهما من حيث الكبرى بوجوه ضعيفة اخرى ، لا يخفى وهنها على من راجعها ، مع أن هذا النزاع ساقط من أصله ، إذ لا ثمرة عملية بل ولا علمية معتدا بها للوحدة والتعدد ، إلا دعوى أنه مع الوحدة لا بد وأن تجري قاعدة الفراغ في الأثناء في كل مورد تجري فيه قاعدة التجاوز ، وأن تجري قاعدة التجاوز في الوضوء أيضا ، مع أنه لا قائل بذلك.

وفيه : أنه بناء على الوحدة أيضا تكون لكل منهما خصوصية خاصة لدليل مخصوص دلّ عليه ، وذلك لا ينافي وحدة أصل الكبرى ، كما لا يخفى.

الجهة الثالثة : أنه على القول بكونهما من الأمارات تعتبر مثبتاتهما ، بخلاف القول بأنهما من الاصول ، والحق سقوط البحث عن هذه الجهة أصلا ، لما مرّ غير مرة من أن ما اشتهر من اعتبار مثبتات الأمارات دون الاصول لا أصل له بنحو الكلية ، بل يدور اعتبارها مدار الدلالة العرفية المعتبرة في المحاورات ، فمع وجودها تعتبر ولو في الاصول ، ومع العدم أو الشك فيها لا وجه للاعتبار ولو في الأمارات ، كما أن القواعد مقدمة على الاصول مطلقا ، سواء كانت من الاصول أو في الأمارات ، فلا ثمرة من هذه الجهة أيضا. فلا فرق بين كونهما من الأمارات أو الاصول.

وكيف كان ، لا ريب في تقديمهما على استصحاب عدم الإتيان بالمشكوك فيه ، وإلا لكان اعتبارهما لغوا مطلقا ، مع أن اعتبار الاستصحاب معهما لا يكون إلا على وجه الدور دون العكس ، كما تقدم ويأتي.

الجهة الرابعة : الفراغ ..

تارة : واقعي.

واخرى : إحرازي بوجه معتبر.

٢٩٥

وثالثة : بنائي ، بأن رأى المصلي نفسه فارغا عن الصلاة وكان بانيا عليه بحسب حاله ، ولا وجه لإرادة القسم الأول لمنافاته ، لتحقق الشك. وإرادة القسم الثاني يحتاج إلى دليل وهو مفقود ، مع أنه خلاف التسهيل والامتنان الذي تبتنى عليه مثل هذه القواعد ، فيتعين الأخير الموافق لسهولة الشريعة ، فكلما كان المصلي بانيا بحسب حاله على الفراغ عنها وشك في صحتها ، تجري القاعدة ، ولو كان منشأ الشك فيها الإتيان بالجزء الأخير ، وإن كان بانيا على أنه في هذه الصلاة تجري قاعدة التجاوز ، ولا تجري قاعدة الفراغ لعدم تحقق شرطها. وكذا لو شك في أنه بان على الفراغ أو لا ، لأنه حينئذ من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه ، بل تجري أصالة عدم فراغه عنها.

وأما الدخول في الغير فمقتضى الأصل والإطلاقات ، وظهور التسالم عدم اعتباره في مورد قاعدة الفراغ. وأما قول أبي عبد الله عليه‌السلام في الصحيح : «إذا قمت من الوضوء ، وفرغت عنه وقد صرت في حالة اخرى من صلاة أو غيرها ، فشككت في بعض ما سمي الله تعالى عليك مما أوجب الله عليه لا شيء عليك». فهو توضيح للفراغ وبيان له ، لأن من اللوازم التكوينية للفراغ عن الشيء الصيرورة في حالة اخرى غير ما كان مشغولا به أولا ، وليس عليه‌السلام في مقام بيان القيد الشرعي المعتبر في مورد القاعدة. ومن اعتبر الدخول في الغير في مورد قاعدة الفراغ ، فإن كان من جهة أنه من اللوازم التكوينية للفراغ عن الشيء ، فهو مسلم عند الكل. وإن أراد التعبد الشرعي ، فالأدلة قاصرة عن إثباته ، مع أن هذا النزاع ساقط من أصله بناء على كفاية مطلق الدخول إلى حالة اخرى عند من يعتبر الدخول في الغير فيها ، لأنه تكويني ـ اعتبر أو لم يعتبر ـ.

وأما قوله عليه‌السلام في صحيح ابن أبي يعفور : «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكك ليس بشيء ، إنما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه». فإن مرجع الضمير في (غيره) غير المشكوك فيه ، فيكون عبارة عن

٢٩٦

قاعدة التجاوز ، فهو غير معمول به لعدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء. وإن كان المرجع غير الوضوء من سائر الحالات حتى يكون من قاعدة الفراغ ، فالكلام فيه عين ما تقدم آنفا. هذا بعض الكلام في قاعدة الفراغ ، وقد تعرضنا لبعضه الآخر في كتاب (مهذب الأحكام).

وأما التجاوز : فلا ريب في أن المناط فيه التجاوز عن محل المشكوك فيه لا نفسه ، إذ مع الشك فيه كيف يعقل التجاوز عنه ، وحينئذ فإن كانت القاعدة من صغريات أصالة عدم السهو والغفلة ، وأصالة البقاء على الإرادة الإجمالية الارتكازية ، فلا وجه لاعتبار الدخول في الغير ، لأن في الامور التدريجية تكشف إرادة الدخول في الجزء اللاحق عن تحقق الجزء السابق عليه بأصالة عدم السهو المعتبر عند العقلاء. وإن كانت القاعدة تعبّدية محضة ، فيعتبر الدخول في الغير ، لظاهر الروايات ، ولكن لا بدّ وأن يبحث في أن لنفس الدخول في الغير من حيث هو موضوعية خاصة ، أو يكون طريقا وكاشفا عن مضي المحل. يمكن تقريب الأخير ، بأن مقتضى المرتكزات كفاية إرادة الدخول في الغير في الكشف عن تجاوز المحل.

وبعبارة اخرى : تارة : يكون بانيا ومريدا لإتيان الجزء اللاحق.

واخرى : يكون بانيا على العدم.

وثالثة : يتردد. ومتعارف الناس في الصورة الأولى لا يعتنون بالشك في إتيان الجزء السابق ، وقد وردت الأخبار على طبق ذلك أيضا ، وفي الصورتين الأخيرتين يعتنون بالشك ، وحيث أن نفس الإرادة الإجمالية للدخول في الغير غير ملتفت إليها تفصيلا بحسب الغالب ، وطريق إحرازها تحقق الدخول في الغير خارجا ، ذكر اعتبار الدخول في الغير في الروايات من هذه الجهة لا لموضوعية خاصة فيه ، فيكفي مجرد إرادة الدخول في الغير في الكشف عن تحقق المراد السابق عليه بحسب الارتكازات ، وعدم إحراز اعتبار الموضوعية المحضة في اعتبار الدخول في الغير يكفي في عدم الجزم باعتبار الموضوعية

٢٩٧

فيه ، مع ما مرّ من اكتفاء العرف في عدم الاعتناء بالشك السابق عند تحقق إرادة الدخول في الغير ولو لم يدخل فيه بعد ، فلا يبقى ظهور في الأدلة لإثبات الموضوعية المحضة.

ثم إنه بناء على اعتبار الموضوعية في الدخول في الغير ، هل المراد به الأجزاء المستقلة ، أو الأعم منها وأجزاء الأجزاء ، أو الأعم منها ومقدماتها؟ يشهد للأخير عموم لفظ الغير المتوغل في الإبهام من كل جهة ، فيشمل الجميع.

واشكل عليه .. تارة : بقول زرارة لأبي عبد الله عليه‌السلام : «رجل شك في الأذان وقد دخل في الإقامة ـ إلى أن قال ـ شك في الركوع وقد سجد. قال عليه‌السلام : يمضي في صلاته ، ثم قال : يا زرارة إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء». وحيث أن مورد السؤال الأجزاء المستقلة فيخصص عموم الجواب.

وفيه : أن الإمام عليه‌السلام في مقام بيان الضابطة الكلية الجارية في تمام الموارد ، وتخصيصها بخصوص مورد السؤال خلاف المحاورات العرفية.

واخرى : بقول أبي جعفر عليه‌السلام : «إن شك في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شك في السجود بعد ما قام فليمض كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه».

وفيه : مضافا إلى ما تقدّم في سابقه ، أن ذكر ذلك من باب المثال والغالب لا الخصوصية ، إذ لا وجه لها مع بيان الكلية.

وثالثة : بقوله عليه‌السلام أيضا : «وإن شك في السجود بعد ما قام ...» فإنه لو كان الدخول في مطلق الغير كافيا لم يكن وجه لذكر القيام ، لتحقق الدخول في النهوض له قبل القيام.

وفيه : أن للقيام عن السجود مراتب متفاوتة يصدق بعض مراتبه على أول مرتبة النهوض من السجود ، فيصح التمسك بإطلاق القيام ، لكفاية الدخول في بعض مراتبة أيضا ، بل الظاهر أنه لو رفع رأسه عن السجود وجلس يصح إطلاق : قام عن السجود ، كما يصح إطلاق قام عن النوم لمن استيقظ وجلس في فراشه ،

٢٩٨

ويشهد لكفاية الدخول في مطلق الغير صحيح عبد الرحمن «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل أهوى إلى السجود فلم يدر ركع أو لم يركع. قال عليه‌السلام : قد ركع». فإنه نص في كفاية الدخول في مقدمة الجزء أيضا. فالأقوى هو التعميم بالنسبة إلى أجزاء الأجزاء ومقدماتها أيضا ، بلا فرق في الأجزاء بين الواجبة والمندوبة ، وهذا هو الموافق لسهولة الشريعة المقدسة ومدافعة الشك الذي هو من أقوى وساوس الشيطان.

الجهة الخامسة : تجري قاعدة الفراغ في الشك في الشرط نصا وإجماعا. وأما قاعدة التجاوز فإن كان لتحصيل الشرط محل مخصوص شرعا ، كالطهارة التي لا بد وأن يحصّلها المصلي قبل الدخول في الصلاة ـ مثلا ـ فتجري فيه أيضا ، لأصالة عدم السهو والغفلة ، وإطلاق الأدلة ، وإن لم يكن كذلك ـ كالستر ، والاستقبال ـ فعن جمع عدم جريانها فيه.

واستدل عليه .. أولا : بأن الأمثلة المذكورة في الأدلة جميعها من الأجزاء فلا تشمل الشرائط.

وفيه : أنه من باب المثال لا الخصوصية.

وثانيا : بأنه ليس له محل حتى يصدق التجاوز عن المحل.

وفيه : أن تجاوزه باعتبار محل المشروط ، وذلك يكفي في صدق التجاوز بالنسبة إلى الشرط أيضا.

وثالثا : بأن مجرى قاعدة التجاوز ما كان موردا للإرادة التبعية ، كالأجزاء.

وأما الشرائط ، فتتعلّق بها الإرادة الاستقلالية لا التبعية.

وفيه : أنها أيضا متعلّق الإرادة التبعية بالنسبة إلى المشروط.

نعم ، بعض الشرائط يكون مورد الإرادة الاستقلالية أيضا ، كصلاة الظهر بالنسبة إلى صلاة العصر ، ولكن لا دخل لهذه الجهة بالمقام.

والحق أن يقال : إنه إن أمكن تحصيل الشرط في الأثناء بلا لزوم مانع في البين ، تجري القاعدة بالنسبة إلى الأجزاء السابقة ، فتصح كما تصح الأجزاء

٢٩٩

اللاحقة ، لتحقق الشرط فيها ، وإن لم يمكن إلا بتخلل مانع فلا يمكن تصحيح العمل حينئذ ، هذا كله في ما كان شرطا لتمام العمل ومجموعه ، كالطهارة والاستقبال مثلا. وأما ما كان شرطا للأجزاء شرعيا كان أو لا ، كالجهر والإخفات بالنسبة إلى أجزاء القراءة ، فتجري القاعدة بلا إشكال. لوجود المقتضي وفقد المانع.

الجهة السادسة : اختصاص جريان القاعدة بخصوص السهو والغفلة الجهة السادسة : تختص جريان القاعدتين بما احرز أصل التكليف في الجملة وكان الشك لأجل السهو والنسيان ، وأما إن كان لجهات اخرى من عروض دهشة ، أو اضطراب ، أو احتمال تعمد الترك ، أو لأجل الجهل بالحكم أو الموضوع ، أو لاحتمال قصور أو تقصير في الاجتهاد أو التقليد أو نحو ذلك فلا مجرى لهما ، بل لا بد من الرجوع إلى القواعد والاصول الأخر ، ولا تضبطها ضابطة كلية ، بل تختلف باختلاف الموارد والأشخاص.

الجهة السابعة : الظاهر أن البناء على الوقوع في موردهما ترخيص لا أن يكون عزيمة ، فيجوز الرجوع والإتيان ما لم يلزم محذور من زيادة ركن ونحوه. كما أن الظاهر أنه لا يعتبر الالتفات التفصيلي إلى العمل حين الإتيان فيكفي التوجه الإجمالي الارتكازي ، للأصل والإطلاق ، ولعل ذلك هو المراد ب (الأذكرية) الواردة في بعض الأخبار ، فراجع وتأمل.

الجهة الثامنة : بناء على كونهما من صغريات أصالة عدم السهو والنسيان لا تختصان بمورد دون آخر ، وتجريان في جميع العبادات والمعاملات. وأما بناء على التعبّد فيهما فالتعميم مبني على عدم كون المورد مخصصا ، وهو وإن كان كذلك بحسب المحاورات ولكن حيث إن الحكم مخالف لقاعدة الاشتغال فالاقتصار على المورد لعله أحوط ، بل يشكل التعميم في الأول أيضا لو لم يكن إجماع عليه في البين ، لأن مدرك اعتبار الأصل إنما هو السيرة ، والشك في تعميمها يكفي في عدم التمسك بها للعموم.

٣٠٠