تهذيب الأصول - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

تهذيب الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

حكم التجري :

التجري والانقياد من الموضوعات العرفية في جميع الأزمان والمذاهب والأديان ، فلا بد في الحكم بقبح الأول وكونه موجبا لاستحقاق الذم أو العقاب ، وحسن الثاني ، وكونه موجبا لاستحقاق المدح أو الثواب ، من الرجوع إلى المرتكزات العقلائية ، ولو ورد دليل من إجماع أو نص فهو إرشاد محض إلى المرتكزات ، لا أن يكون دليلا مستقلا في مقابلها.

نعم ، يمكن أن يلاحظ فيه جهة المولوية أيضا مضافا إلى الإرشاد.

فالتجري إما أن يوجب استحقاق العقاب أو لا ، وعلى الثاني إما أن يوجب القبح الفاعلي أو لا ، وقال بكل من هذه الاحتمالات قائل.

والحق أن التجري يوجب استحقاق العقاب ، لأن المناط في إيجاب المعصية الحقيقية لاستحقاق العقاب ليس إلا هتك المولى والمبارزة معه والظلم عليه ، ولا ريب في تحقق ذلك كله في مورد التجري لدى العقلاء كافة ، فيصح تشكيل القياس على نحو الشكل الأول ، فيقال : التجري هتك للمولى ، وكل هتك له يوجب استحقاق العقاب ، فالتجري يوجب استحقاق العقاب.

إن قلت : نعم ، ولكن لتفويت الغرض وتحقق المخالفة مدخلية أيضا.

قلت : تفويت الغرض في الرتبة المتأخرة عن الهتك والظلم على المولى ، وهما في الرتبة الاولى ، فيقال تجرأ على المولى ففوت غرضه.

إن قلت : إن ذلك موجب لتعلّق استحقاق العقاب بأمر غير ملتفت إليه ، بل غير اختياري ، وهو باطل ، لأن عنوان التجري ، كالناسي من حيث أن النسيان غير ملتفت إليه ، وكما أن الناسي لو التفت إلى نسيانه لزال نسيانه بلا إشكال فكذا التجري ، وإذا لم يكن ملتفتا إليه لم يكن اختياريا ، فيلزم ما ذكر.

قلت : مورد الاستحقاق هو حيثية الهتك والطغيان ، ولا ريب في كونهما

٢١

ملتفتا إليهما وكونهما اختياريين ، كما لا يخفى.

إن قلت : مع تحقق الاستحقاق في مورده إن بقي الواقع على ما كان عليه من عدم استحقاق العقوبة عليه فهو من اجتماع الضدين ، وإن انقلب عما كان عليه فلا موجب له ، لما يأتي من عدم تغير الفعل المتجري به بالتجري.

قلت : يبقى الواقع على ما كان عليه ولا يلزم اجتماع الضدين ، لاختلاف الجهتين ، فإن جهة الطغيان التي هي مورد الاستحقاق غير جهة واقع الفعل المتجرى به ، ولا ربط لإحداهما بالاخرى.

إن قلت : استحقاق العقاب على المخالفة الاعتقادية مستلزم لشمول الخطابات الأولية للمخالفة الواقعية والاعتقادية معا ، ولا جامع بينهما إلا الإرادة والاختيار والعلم ، والأولان غير اختياريين مع أنهما غير ملتفت إليهما حين الفعل ، والأخير طريقي إلى المخالفة الواقعية وموضوعي في الاعتقادية. وموضوعية العلم لشيء ـ خلاف الأصل ـ تحتاج إلى دليل بالخصوص ، وهو مفقود.

قلت : كل ذلك تطويل بلا طائل ، لأن الهتك والطغيان على المولى من المستقلات العقلية لاستحقاق العقوبة ، وهو الجامع للمخالفة الواقعية والاعتقادية ، وتشمل الأدلة الأولية لهما بهذا الجامع القريب.

إن قلت : ورد في جملة من الأخبار العفو عن قصد المعصية ، وإطلاقها يشمل المقام أيضا.

قلت : مع أنها معارضة بأكثر منها ، مما تدل على ثبوت الاستحقاق من الآيات الكريمة مثل قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ). والأخبار التي أشار إلى بعضها شيخنا الأنصاري قدس‌سره محمولة على التفضل ، فلا ينافي أصل الاستحقاق.

ويمكن الجمع بينهما. إما بحمل ما دلّ على الاستحقاق على ما إذا لم

٢٢

يمت مؤمنا بل مات كافرا والعياذ بالله ، وما دلّ على العفو على ما إذا مات مع الإيمان ، فيشمله التفضل حينئذ.

أو بحمل ما دلّ على العفو على ما إذا ارتدع بنفسه. وما دلّ على الثبوت على ما إذا منعه عن قصده مانع خارجي.

أو بحمل ما دلّ على الثبوت على بعض المراتب ، وما دلّ على العدم على بعض مراتب اخرى ، لأن للعقوبة والاستحقاق مراتبا متفاوتة جدا ، أدناها الحرمان عن الالتذاذ بالمناجاة مع الله تعالى ، وسلب التوفيق لصلاة الليل ـ مثلا ـ وأعلاها الخلود في النار ، وبينهما مراتب كثيرة شدة وضعفا.

ويمكن أن يحمل على الأشخاص ، فإن إرادة المعصية بالنسبة إلى الأولياء والعلماء العاملين تعدّ معصية لدى العرف أيضا ، بخلاف إرادتها بالنسبة إلى الجهّال ونحوهم من الغافلين.

وقد يستدل على استحقاق العقاب في التجري بأنه لو فرض أن شخصين قطع كل واحد منهما بخمرية ما في إنائه الخاص به وشرباه ، فصادف أحدهما الواقع ولم يصادف الآخر. فإما أن نقول باستحقاق كل منهما للعقاب ، أو بعدم استحقاقهما له ، أو باستحقاق المصادف للواقع دون غيره. والأخير مستلزم لتعلّق الاستحقاق بأمر غير اختياري ، والثاني مخالف للضرورة فيتعين الأول.

وفيه : أن العرف والوجدان شاهد بصحة الأخير لتطابقهما على أن من صادف قطعه الواقع ، شارب للخمر باختياره ، وأن غير المصادف لم يشرب الخمر ، بل لم يحصل منه إلا مجرد الجرأة والطغيان والهتك بالنسبة إلى المولى. وبالجملة يكفينا التأمل في مفهوم التجري والجرأة في الحكم باستحقاق العقاب بالنسبة إلى التجري.

ثم إنه قد تكرر في كلمات شيخنا الأنصاري قدس‌سره أن التجري كاشف عن سوء السريرة وخبثها وشقاوتها. وتبعه صاحب الكفاية على ذلك أيضا.

٢٣

ويردّ : بأن صدور المعصية الحقيقية أعم من خبث السريرة والشقاوة ، لأن السعيد أيضا قد يصدر منه الذنب والطغيان. لغلبة الجهالة والشهوة ، كما هو معلوم ، بل لا يترصد الشيطان إلّا للسعداء.

نعم ، الشقاوة والخبث الذاتي منشأ للطغيان وصدور المعاصي على نحو الاقتضاء ، لا العلية التامة ، وليس كل من تصدر منه المعصية شقيا وخبيثا ، كما أنه ليس كل من تصدر منه الطاعة سعيدا وطيبا ذاتا ، وقد ورد في جملة من الأخبار أن الله تعالى قد يحب العبد ويبغض عمله ، وقد يبغض العبد ويحب عمله ، وهذا موافق للأدلة العقلية أيضا.

وقد صرّح صاحب الكفاية قدس‌سره بأن استحقاق العقاب في التجرّي والثواب في الانقياد من تبعات البعد والقرب بالنسبة إلى الله تعالى ، ويرجعان بالآخرة إلى الاستعداد الذي يكون ذاتيا ، كذاتية الإنسانية للإنسان ، وذاتي الشيء ضروري الثبوت له ويكون غير معلل.

وهذا الكلام مخالف لما ثبت في محله من نفي الشقاوة والسعادة الذاتيّتين. بل للاختيار دخل فيهما. وعن بعض مشايخنا قدس سرّهم أنه : «كان بصدد حذف هذه الجملات من هنا وما كانت مثلها في الطلب والإرادة فلم يوفق له». هذا بالنسبة إلى نفس صفة التجرّي من حيث هو.

وأما الفعل المتجرّى به فيمكن القول بقبحه أيضا ، لكونه من مظاهر الطغيان والظلم على المولى عرفا ، ويكفي في ذلك قبحه لدى العقلاء من دون أن يستلزم الحرمة الشرعية ، لكونها بلا ملاك بعد القبح العقلائي ، ولو فرض وجود دليل شرعي عليها يكون إرشادا ، كما في الإطاعة والمعصية الحقيقية ، ولو لم يكن ما قلناه كافيا في قبحه فلا موجب له أصلا ، لأن القطع بالحسن والقبح لا يغير الواقع عما هو عليه ، بل هو باق على ما كان قبل التجري.

والحاصل : أن التجري الخارجي قائم عرفا بالفعل والفاعل معا ، فينطبق

٢٤

قبحه عليهما كذلك ، فإثبات الحرمة إما بالعقل أو بالعرف أو بالشرع ، والأولان أجنبيان عن إثبات الحرمة ، لأنه من شأن الشارع لا غيره ، مضافا إلى أنهما يشهدان بعدم الحرمة. وأما الأخير فلا دليل في البين إلا ما ادعي في بعض صغريات التجري ، كالإجماع المدعى على أنه مع خوف ضيق الوقت يأثم في تأخير الصلاة وإن بان السعة ، والإجماع المدعى على وجوب إتمام الصلاة على من خاف الضرر في سفره وإن بان الخلاف.

وفيه .. أولا : عدم الاعتماد على مثل هذه الإجماعات.

وثانيا : بأن للخوف موضوعية في أمثال المقام ، فيكون ذلك من المعصية الحقيقية ، فلا موضوع للتجرّي حينئذ أصلا ، كما مرّ من أن التجرّي إنما يتصور في ما هو طريقي فقط لا في ما له دخل في الموضوع ولو في الجملة.

وينبعي التنبيه على امور :

الأول : تظهر الثمرة في القبح الفعلي وعدمه في ما إذا كان عبادة ، فلا يصح التقرّب به مع قبحه ، كما إذا اعتقد غصبية المكان ومع ذلك صلّى فيه وحصل منه قصد القربة ثم بان الخلاف ، فإن قلنا بالقبح الفعلي لا تصح الصلاة ، لعدم صلاحية القبيح للتقرّب به ، وإن لم نقل به تصح الصلاة ولا شيء عليه. هذا إذا احرز أن القبح الفعلي العرفي لازم للقبح الشرعي أيضا وموجب لاستحقاق العقاب. وأما إذا لم يحرز ذلك فلا وجه للبطلان أصلا ، ولا طريق لنا لإثبات هذه الملازمة من عقل أو نقل على نحو الكلية.

الثاني : التجري طغيان وظلم على المولى ، وقبحهما من المسلّمات لدى العقلاء ، ولا يزول ذلك إلا بعروض عنوان حسن أرجح منه مع كونه ملتفتا إليه عمدا واختيارا.

٢٥

فما عن الفصول من أنه لو اشتبه عليه مؤمن ورع بكافر واجب القتل ، وقطع بأنه الكافر ومع ذلك تجرى ولم يقتله ، لا يستحق الذم على التجري لتدارك قبح تجرّيه بحسن حفظ النفس المحترمة.

مردود : بأن الطغيان صدر منه عن عمد واختيار ، بخلاف حفظ النفس المحترمة فإنه لم يكن ملتفتا إليه أصلا ، فلا يوجب الحسن واستحقاق المدح ، وما كان كذلك كيف يرجح على القبيح الصادر منه بالعمد والاختيار ، ولا فرق في ذلك بين كون قبح التجري ذاتيا أو بالوجوه والاعتبار ، إذ الترجيح مطلقا لا بد وأن يكون بما يصدر عن العمد والاختيار.

نعم ، ملاك الحسن موجود فيه ، ولكنه أيضا غير ملتفت إليه مع الالتفات إلى القبح وملاكه المتحقق في التجري.

الثالث : لا ريب في تباين التجري الاصطلاحي مع المعصية الحقيقية ، لاعتبار عدم المصادفة مع الواقع في الأول واعتبارها في الثاني.

فما عن صاحب الفصول من أنه مع مصادفة التجري للمعصية الحقيقية يتداخل عقابهما.

مخدوش .. أولا : بعدم تعقل مصادفة التجري الاصطلاحي للمعصية الحقيقية.

وثانيا : على فرض التعقل بأن يكون مراده رحمه‌الله إتيان الحرام لأجل مبغوضيته لدى المولى لا لغلبة الشهوة ونحوها ، فلا وجه حينئذ للتداخل مع كونه خلاف الأصل. إلّا أن يكون مراده بالتداخل اشتداد العقاب لا التداخل الاصطلاحي.

نعم ، لو شرب مائعا بقصد شرب جنس الحرام واعتقد أنه خمر ، فبان كونه مائعا نجسا ، يمكن أن يتحقق فيه الحرام والتجري من جهتين.

الرابع : للتجري مراتب متفاوتة جدا ..

٢٦

فتارة : يكون في مجرد القصد فقط.

وأخرى : يكون فيه مع ارتكاب بعض المقدمات.

وثالثة : مع الإتيان بما يعتقد كونه حراما.

ورابعة : يتحقق بمجرد عدم المبالاة في الدين.

وخامسة : في ارتكاب محتمل الحرمة برجاء إصابة الحرام.

وسادسة : في ارتكاب محتمل الحرمة برجاء عدم الإصابة.

ويجمع الجميع مفهوم التجري في الجملة مع الاختلاف في الضعف والشدة ، والمتيقن من استحقاق العقاب وقبح الفعل هو القسم الثالث.

ويمكن القول بالاستحقاق والقبح في باقي الأقسام أيضا مع اختلاف المراتب.

ثم إنه لا فرق في ما مرّ في التجري ـ من الأحكام والأقسام ـ بين القطع وغيره ، فتجري في الأمارات والاصول المعتبرة أيضا.

ولا يخفى أنه يجري جميع ما مرّ في التجري ـ من الأحكام والأقسام ـ في الانقياد أيضا ، لكن مع استحقاق الثواب وحسن الفعل المنقاد به بالأدلة الأربعة.

٢٧

الأمر الثالث

أقسام القطع وما يتعلّق بها

لا يخفى أن مقتضى طبع القطع أن يكون طريقا محضا إلى متعلّقه ـ كسائر الحجج والأمارات ـ فأخذه في الموضوع مطلقا يحتاج إلى دليل خاص يدل عليه ، ويكون فيه تابعا لمقدار دلالة الدليل فقط ..

فتارة : يؤخذ فيه على نحو يكون تمام الموضوع ، بأن يدور الحكم مدار القطع ، أخطأ أو أصاب.

وأخرى : يكون بنحو جزء الموضوع ، بأن يدور الحكم مدار القطع ومتعلقه معا بحيث ينتفي بانتفاء أحدهما.

وعلى كل منهما إما أن يؤخذ فيه من حيث أنه كاشف عن الواقع ، أو من حيث أنه صفة خاصة من صفات النفس في مقابل الظن والوهم وسائر الصفات النفسانية ، فهذه أربعة أقسام.

وعلى كل منها إما أن يؤخذ القطع بموضوع خارجي في متعلق حكم ، مثل أن يقال : إن قطعت بدخول الوقت وجب عليك الصلاة ، أو يؤخذ القطع بحكم في متعلّق حكم آخر ، مثل أن يقال : إن قطعت بوجوب الصلاة وجبت عليك الطهارة ، وهذه ثمانية أقسام ؛ وهى اصولها فى الجملة ويمكن تشعب أقسام أخر منها. وسيأتي إمكان أخذ القطع بحكم في موضوع نفسه أيضا ، فتكون الأقسام تسعة ، وبضميمة القطع الطريقي المحض تصير عشرة كاملة ، بل قد تكون أكثر.

٢٨

ولو شك في قطع أنه أخذ في الموضوع ـ بأي نحو كان ـ أو لم يؤخذ فيه ، فمقتضى الأصل عدم أخذه فيه ، لأن هذه خصوصية زائدة منفية بالأصل ، مضافا إلى أصالة الطريقية المحضة والكشف في القطع مطلقا إلا ما خرج بالدليل.

ثم إنه لا ريب في أن أهم آثار القطع صحة الاعتذار به والاستناد إليه ، وهذا هو الأثر الذي يكون ملتفتا إليه لدى العقلاء.

وأما الكشف عن الواقع وإن كان من لوازمه أيضا ، ولكنه مغفول عنه غالبا ، لأن القاطع لا يرى إلا الواقع ولا يلتفت إلى قطعه وجهة الكشف غالبا ، وحينئذ فكل ما صح به الاعتذار وجاز الاستناد إليه يقوم مقامه من هذه الجهة والحيثية بنفس دليل اعتباره ، سواء كان أمارة أو أصلا ، موضوعيا أو حكميا ، أي أصل كان ، إذ لا وجه لاعتباره إلا صحة الاعتذار به والاستناد إليه ، ولا نحتاج إلى ملاحظة جهة الكشف فيها أبدا ، لما مرّ من أنها في القطع ـ الذي هو ام الأمارات وأصلها ـ مغفول عنها فضلا عن غيره.

إن قلت : هذا صحيح في الأمارات التي يستند إليها ويعتذر بها ، وأما في الاصول العملية التي ليس فيها إلا العمل على طبقها ، فلا وجه لذلك.

قلت : المقصود الأصلي في الأمارات والاصول مطلقا هو العمل ، فلو لم يكن لها أثر عملي لما كان لاعتبارها وجه ، فلا فرق بينهما من هذه الجهة ، وتسمية الاصول بالعملية في مقابل الاصول اللفظية التي لها دخل في العمل بالواسطة ، لا في مقابل الأمارات ، بأن تكون الاصول العملية دخيلة في العمل بخلاف الأمارات ، فإن ذلك فاسد قطعا ، بل جميع مباحث الاصول لا بد وأن يكون لها ثمرة عملية ، كما تقدم ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب. وحينئذ فنقول الأمارات والاصول العملية والقواعد المعتبرة في حدّ أنفسها امور معتبرة يصح الاسناد إليها لدى العقلاء ، كشف عنها الشارع أو لم يردع عنها ، وكل ما كان كذلك يقوم مقام القطع ، إما في عرض إمكان تحصيله أو بعد تعذر حصوله ، إذ

٢٩

المناط كله صحة الاعتذار بها وجواز الاستناد إليها ، وهذه الجهة موجودة في الجميع.

ثم إن ما ذكرناه إنما هو بحسب أصل قيامها مقام القطع في الجملة ولا ينافي ذلك تقدّم بعضها على بعض في أنفسها ، كما سيأتي في محله من تقدّم الأمارات على الاصول مطلقا وتقدّم الاصول الموضوعية على الحكمية ، وفي الاصول الحكمية يقدّم الاستصحاب على الجميع.

وبالجملة : أن نفس أدلة اعتبار الأمارات والاصول متكفلة بتنزيلها منزلة القطع ، لتحقق حيثية الاعتبار والاعتذار فيها ، ويمكن التمسك لذلك بالسيرة العقلائية ، فإنهم لا يزالون يعتذرون بها مثل اعتذارهم بالقطع ، هذا في القيام مقام القطع الطريقي المحض.

وأما القيام مقام ما أخذ في الموضوع فالحق صحته أيضا فيما أخذ فيه من حيث الكشف والاعتذار ، لا من حيث صفة القطعية فقط ، لأنه في قوة أن يقال : إن القطع فقط دون غيره مأخوذ في الموضوع ، وحينئذ فلا وجه لقيام شيء مقامه بخلاف ما أخذ فيه من جهة الكشف والاعتذار ، لأن العلة التامة للدخل في الموضوع ، والمناط فيه كله ليس إلا صحة الاعتذار والاعتبار لدى العقلاء ، فإذا كان مناط الدخل فيه ذلك فكل ما كان فيه ، هذا المناط يقوم مقامه قطعا بنفس دليل الاعتبار ، لفرض تحقق المناط فيه ويكون الدخل في الموضوع بالملازمة العرفية العقلائية قهرا ، لأنه لا مناط للدخل فيه غير جهة الاعتبار والاعتذار.

ولكن اورد عليه بوجهين :

الأول : أنه مستلزم للجمع بين اللحاظ الاستقلالي والآلي في آن واحد في مورد واحد واستعمال واحد من متكلم واحد ، وهو باطل ، لأنه من الجمع بين الضدين ، لأن لحاظ الدخل في الموضوع يستلزم اللحاظ الاستقلالي ، ولحاظ الكشف عن الواقع يستلزم اللحاظ الآلي ، فيلزم المحذور.

٣٠

ويرد .. أولا : بأنه مبني على القول بجعل المؤدي ، فيتحقق حينئذ اللحاظ الاستقلالي بالنسبة إلى الدخل في الموضوع واللحاظ الآلي بالنسبة إلى المؤدي. وأما بناء على القول بجعل نفس العذرية والاعتبارية فليس في البين إلا لحاظ واحد استقلالي فقط ، وهو لحاظ الاعتبار الذي هو عين الدخل في الموضوع ، فلا موضوع للجمع بين اللحاظ الاستقلالي والآلي حينئذ.

وثانيا : أنه لا يلزم المحذور حتى بناء على القول بجعل المؤدي لعدم تعدد اللحاظ حتى يلزم المحذور وإنما هو واحد انبساطي على المؤدي وعلى ما نزل منزلة القطع وإن تفاوتا من جهتين ، نظير لحاظ وجوب الصلاة والحج المنبسط على الأجزاء المتفاوتة بالركنية وغيرها ، ولحاظ المركب ـ حقيقيا كان أو اعتباريا ـ المنبسط على الأجزاء مع كمال الاختلاف بينها.

وثالثا : بأن التنزيل إنما هو باعتبار الصحة الخاصة من المؤدي المقارنة مع ما قام عليه ، فلا اثنينية في اللحاظ حينئذ ، لأن لحاظ الحصة بما هي تلك الحصة عين لحاظ ما تحققت به ، فقد نزلت الحصة الخاصة من غير المقطوع منزلة الحصة الخاصة منه ، فاللحاظ متعلّق بالحصة وهو مستلزم للحاظ ما قام عليها ، أمارة كان أو أصلا.

الثاني : أنه مستلزم للدور ، إذ الموضوع مركب من جزءين ، المؤدي وما قام عليه ، وتنزيل المؤدي منزلة الواقع يتوقف على تنزيل ما قام عليه منزلة القطع ، وهو يتوقف على تنزيل المؤدي ، إذ لا أثر لكل واحد منهما منفردا عن الآخر ، لفرض تركب الموضوع وتقوّمه بجزءين ، وهذا هو الدور.

ويرده .. أولا : أنه مبني على القول بجعل المؤدي. وأما بناء على القول بجعل الاعتبار والاعتذار ، فلا يرد الدور أصلا.

وثانيا : أنه لا دور حتى على القول بجعل المؤدي ، لتقوّم الدور بالتعدد الوجودي في المتوقف ، والمتوقف عليه ، وليس المقام كذلك ، إذ لا تعدد

٣١

للتنزيل والمنزل حتى يتوقف أحدهما على الآخر ، بل ليس في البين إلا تنزيل واحد انبساطي على جزئي الموضوع في عرض واحد من دون تعدد وتوقف فيه أبدا ، نظير انبساط الوجوب العيني النفسي على أجزاء الصلاة في عرض واحد مع ترتب الأجزاء واختلافها واقعا ، وسيأتي مزيد بيان لدفع الدور إن شاء الله تعالى. هذا كله في القطع الطريقي ، سواء كان مأخوذا في الموضوع أو لا.

وأما ما أخذ فيه من حيث الصفتية الخاصة فلا وجه لتوهم قيام غيره مقامه ، لأنه مثل التصريح بأن القطع دون غيره مأخوذ في الموضوع ، فعدم قيام الغير مقامه لمانع في البين لا لقصور في دليل الاعتبار ، كما لا يخفى. ومن ذلك كله ظهرت الخدشة في ما ذكره في الكفاية ، فلاحظ وتأمل في عباراته المشكلة.

٣٢

الأمر الرابع

أخذ القطع بحكم في موضوع نفسه أو مثله أو ضده

المعروف أنه لا يمكن أخذ القطع بحكم في موضوع نفسه أو مثله أو ضده.

أما الأول : فللزوم الدور ، لأن الحكم متأخر عن الموضوع طبعا ، وهو متقدّم عليه كذلك ، فإن كان الموضوع نفس هذا الحكم بعينه يلزم تقدّم الشيء على نفسه ، وهو دور.

وفيه .. أولا : أن الدور المحال ما إذا تعدد المتوقف والمتوقف عليه وجودا وحقيقة ، وليس المقام كذلك ، إذ التعدد فيه اعتباري محض ، كما هو كذلك بين كل علم ومعلوم ، وقد ثبت في محله اتحاد العقل والعاقل والمعقول وجودا وبالأدلة القطعية ، فراجع وتأمل.

وثانيا : أنهما مختلفان جهة ، لأن متعلّق القطع ذات الحكم وماهيته ، لما ثبت في محله من تعلّق العلم بالذوات والماهيات ، وقد قال الحكيم السبزواري :

للشيء غير الكون في الأعيان

كون بنفسه لدى الأذهان

وأما الحكم فهو بوجوده العيني الخارجي يتوقف على القطع به ، فيختلف المتوقف والمتوقف عليه فلا دور ، هذا إن كان الأخذ على نحو التقييد الاصطلاحي.

وأما إذا كان على نحو نتيجة التقييد فلا محذور أصلا ، وذلك بأن يستفاد من القرائن الخارجية اختصاص الحكم بالعالم به ، كما أن نتيجة الإطلاق أن

٣٣

يستفاد منها شمول الحكم للعالم والجاهل به.

وأما الثاني والثالث : فللزوم اجتماع المثلين أو الضدين ، وهما باطلان.

وفيه : أن الضدين والمثلين أمران وجوديان لا يجتمعان في محل واحد ، والأحكام مطلقا ليست وجودية ولا من العوارض الخارجية ، بل هي اعتبارات عقلائية ، كسائر اعتباراتهم التي يقوم بها نظام معاشهم ومعادهم ، فلا موضوع لاجتماع المثلين والضدين في المقام حتى يمتنع ، هذا إذا كانت الأحكام عبارة عن نفس الاعتبارات.

وأما إذا كانت عبارة عن نفس الإرادة والكراهة فلا اجتماع للمثلين إن كانا من نوع واحد ، بل يكون من التأكيد والاشتداد ، ولا من اجتماع الضدين إن كانا من نوعين لاختلاف موضوعهما ، لأن أحدهما قائم باعتقاد القاطع والآخر بنفس الحاكم ، فلا يكون الموضوع واحدا حتى يلزم المحذور.

نعم ، الموضوع الخارجي مورد إضافتهما بالعرض ، وليس هذا مناط الاجتماع المحال.

إن قلت : نعم ، ولكن جعل حكم آخر من الشارع مثل ما قطع به المكلف يكون لغوا وهو قبيح عليه ، فيمتنع من هذه الجهة.

قلت : لا لغوية فيه ، بل يكون من تأكد الداعي وهو حسن ، بل قد يلزم.

فتلخّص : أنه يصح أخذ القطع بحكم في موضوع نفسه أو مثله أو ضده ، وكذا في الظن بلا فرق بينهما أبدا من هذه الجهة.

ثم إنه قد صرّح جمع بإمكان أخذ القطع بالحكم الإنشائي في موضوع آخر فعليّ مثلا كان أو ضدا ، لأن اختلاف المرتبة يرفع الغائلة.

وفيه : أن الإنشاء بلا داع أصلا محال على الشارع ، وإن كان بداع آخر من غير أن يصير فعليا فلا يكون فعليا عند تحقق الشرائط ، وهو خلف. وإن كان بداعي صيرورته فعليا عند تحققها فيعود المحذور بعد الفعلية.

٣٤

الأمر الخامس

الموافقة الالتزامية وبعض ما يتعلّق بها

لا ريب في وجوب الالتزام بما جاء به النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله بنحو الجملة والإجمال ، لأنه عبارة اخرى عن الاعتقاد بالنبوة ، كما لا ريب في وجوب الاعتقاد بالمعارف الحقة على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

وإنما الكلام في وجوب الالتزام بالتكاليف الفرعية بأن يكون بالنسبة إلى كل واجب وحرام ، كالصلاة والكذب مثلا تكليفين مستقلين لا ربط لأحدهما بالآخر ، أحدهما الالتزام بالوجوب أو الحرمة قلبا ، والآخر الإتيان بالوظيفة خارجا ، فيكون في البين موافقتان. التزامية وعملية ، ومخالفتان كذلك مع صحة التفكيك بينهما ، بأن يأتي به عملا ولا يلتزم به قلبا ، أو بالعكس ، وكما في مورد دوران الأمر بين المحذورين ، حيث لا يمكن المخالفة العملية مع إمكانها التزاما.

والمعروف عدم وجوب الموافقة الالتزامية بهذا المعنى ، وأنه ليس في البين إلا تكليف واحد متعلّق بالجوارح ، لا اثنان ويكون الآخر متعلّقا بالجوانح فلا تجب الموافقة الالتزامية ولا تحرم المخالفة الالتزامية أيضا ، للأصل بعد عدم الدليل عليهما من عقل أو نقل في هذا الأمر العام البلوى ، وعدم كونها من شئون ذات التكليف حتى تدلّ عليها أدلة التكليف الأولية ، لأن المناط فيها إنما هو الإتيان بها خارجا ، التزم بها أو لا ، وليس الالتزام ـ على فرض الوجوب ـ إلا طريقا للإتيان بها.

نعم ، لا ريب في حسنها ، لأنها نوع من الطاعة والانقياد ، ومن دواعي

٣٥

الصلاح والسداد خصوصا للعوام وأهل السواد.

ويمكن أن يكون مراد من قال بوجوبها ما مرّ من وجوب الالتزام على نحو الجملة والإجمال بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الحق المتعال ، ولا ريب في وجوب ذلك عند الكل فيصير النزاع لفظيا.

مع أنهم لم يستدلوا على الوجوب إلا بقاعدة الاشتغال. وهو مردود بأن المقام من الشك في أصل التكليف ، والمرجع فيه البراءة عقلا ونقلا ، ومورد قاعدة الاشتغال في ما إذا كان الشك في الخروج عن العهدة بعد العلم بأصل التكليف. وإن أريد شرطية الموافقة الالتزامية لصحة العمل الذي علم المكلف به ، فهو باطل أيضا ، لتطابق آراء المحققين إلى الرجوع إلى البراءة مع الشك في الشرطية.

ثم إنه بناء على وجوب الموافقة الالتزامية للتكاليف الفرعية لا بد من البحث فيه من جهات.

الاولى : أن وجوب الموافقة الالتزامية تابع لكيفية العلم بالتكليف تفصيلا أو إجمالا ، فإن علم تفصيلا فالالتزام به يكون تفصيليا ، وإن علم إجمالا ـ أو كان دائرا بين المحذورين ـ يكفي الالتزام بالواقع على ما هو عليه ، لأن الالتزام بالمعين تشريع مع أنه ترجيح بلا مرجح ، والتخيير في الملتزم به لا وجه له في التكليف العيني النفسي ، والتخيير في نفسي الالتزام من حيث هو تخيير بين الواجب وغيره ، فينحصر مورده بالالتزام بالواقع على ما هو عليه.

الثانية : لا تلازم بين وجوبها ووجوب الموافقة العملية ، إذ قد لا تمكن الثانية ، كما في موارد دوران الأمر بين المحذورين بخلاف الاولى ، لإمكان الالتزام ، بالواقع على ما هو عليه ، مع أنه يمكن العصيان بالنسبة إلى الثانية والإطاعة بالنسبة إلى الاولى وبالعكس.

الثالثة : لا تمانع بين وجوب الموافقة الالتزامية وجريان الاصول العملية

٣٦

لو كانت جارية بنفسها فلا يمنع أحدهما عن الآخر ، لاختلاف موردهما ، لأن مورد الالتزام هو العقد القلبي ومورد جريان الاصول بالنسبة إلى الآثار العملية ، ففي موارد جريان الاصول ـ الحكمية أو الموضوعية ـ يلتزم بالواقع على ما هو عليه ، ولا يمنع الالتزام به جريان الأصل ، كما لا يدفع بجريانه لزوم الالتزام به وإن أمكن أن يقال إنه على فرض وجوب الموافقة الالتزامية إنما هو في ما إذا لم يكن مؤمّن شرعي في البين ، والأصل مؤمّن فينتفي به موضوع وجوب الموافقة حتى في مورد دوران الأمر بين المحذورين.

إن قلت : لا وجه لجريان الأصل في موارد دوران الأمر بين المحذورين ، لأن العقل يستقل فيها بعدم الحرج في الفعل والترك ، فليس في البين أثر عملي يجري الأصل بالنسبة إليه.

قلت : ليس هذا مانعا عن جريانه لو لم يكن مانع آخر في البين ، لأن لزوم الأثر العملي من قبيل الحكمة لجريانه لا العلة التامة فيجري الأصل وتثبت الإباحة الظاهرية ، ويلتزم بالواقع على ما هو عليه ، بل ويصح الالتزام بالإباحة الظاهرية الثابتة بالأصل أيضا ، لعدم التنافي بينهما ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ثم إنه بناء على وجوب الموافقة الالتزامية وحرمة مخالفتها ، فلا إشكال في استحقاق العقاب على المخالفة ، إذ لا معنى للحرمة إلا ذلك ، وهل يصير العقاب فعليا مع الموافقة العملية أو لا؟ وجهان : يمكن القول بالثاني بناء على أن وجوب الموافقة الالتزامية نفسي طريقي لا موضوعية فيه.

نعم لو قيل بالموضوعية فالظاهر هو الأول ـ لو لم نقل بالسقوط من باب : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) ، ولو تركهما معا فمقتضى تعدد السبب تعدد العقاب أيضا إلا إذا قلنا بالطريقية المحضة فالعقاب واحد ، ولو أتى بهما معا فمقتضى سعة رحمة الله تعالى وفضله تعدد الثواب بناء على ترتب الثواب على الأعمال الجوانحية أيضا ، كما يظهر من بعض الآيات ، مثل قوله تعالى : (وَإِنْ

٣٧

تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) وقوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) ـ والروايات التي تعرضنا لها في تفسيرنا (مواهب الرحمن) ، هذا بناء على المشهور من أن الثواب يدور مدار قصد القربة. وأما بناء على أنه أعم من ذلك ، كما يظهر من بعض الأخبار واخترناه في كتابنا (مهذب الأحكام) ، فيمكن ترتب الثواب على الأعمال الجوانحية ولو لم يقصد القربة.

ولو ترك العمل وأتى بالموافقة الالتزامية ، فالظاهر ترتب الثواب بالنسبة إليها أيضا في الجملة.

ثم إنه كما أن الثواب في الموافقة العملية يدور مدار كون العمل قربيّا ، أو قصد القربة بالعمل وإن لم يكن كذلك ، فهكذا بالنسبة إلى الموافقة الالتزامية أيضا.

٣٨

الأمر السادس

القطع الحاصل من العقليات وقطع القطاع

لا خلاف بين الكل في أن القطع المأخوذ في الموضوع مطلقا تابع لمقدار دلالة دليل الأخذ فيه تعميما وتخصيصا بالنسبة إلى الأسباب الحاصل منها ، والأشخاص الحاصل لهم ، والموارد الحاصل فيها ، والمراتب الحاصلة ، فهو مما يناله الجعل من كل جهة. كما لا ريب ولا خلاف في أن غير القطع من الحجج المجعولة العقلائية أو الشرعية تأسيسا أو إمضاء هي أيضا مما يصح فيها التعميم من كل جهة ، كما يصح تخصيصها ببعض الأسباب دون بعض ، وببعض الأشخاص دون بعض ، وببعض المراتب دون البعض.

وأما القطع الطريقي المحض فقد قيل بعدم حصوله من الامور العقلية لعدم إحاطة العقول بالواقعيات.

وفيه : أنه خلاف الوجدان إن اريد به السالبة الكلية ، وإن أريد به أن الخطأ فيه أكثر مما يحصل من غيرها ، فهو من مجرد الدعوى ولا شاهد عليه.

وقد قيل : أيضا بعدم اعتباره ولو حصل منها ، لعدم وصول دليل من الشرع على تقريره ، وكثرة مخالفته للواقعيات.

وفيه : أنه خلاف الطريقة العقلائية من اتباع القطع مطلقا بلا نظر إلى منشأ حصوله أبدا ، وعدم ورود ردع من الشارع مثل ما ورد في الردع عن القياس والاستحسان ، ولا يستفاد منهما الكلية بالنسبة إلى غيرهما ، وما ورد في حصر أخذ الأحكام عن المعصوم عليه‌السلام أعم من التأسيسيات والإمضائيات ، ولا ريب في

٣٩

أنه مع عدم ورود الردع بالخصوص يستكشف الإمضاء في مثل هذا الأمر العام البلوى بين العقلاء.

وقد قيل أيضا بعدم اعتبار قطع القطاع ـ أي : كل من يحصل له القطع بأدنى شيء على خلاف المتعارف بين الناس في أسباب حصول القطع عندهم ـ وهو قول حسن ، لصحة دعوى عدم بناء من العقلاء على ترتب الأثر لهذا النحو من القطع ، بل يلومون هذا القاطع على ترتيبه الأثر على قطعه ، كالشكاك الذي يكون ملوما عند الناس.

نعم ، هو حين حصول قطعه مجبول على اتباعه ، ولكن لا بد له حين التفاته إلى حاله ـ ولو في الجملة ـ من الرجوع إلى العالم لتنبيهه على تكليفه إن كان عاميا ، أو الرجوع إلى الأدلة إن كان مجتهدا.

ثم إن القطاع في مقابل الوسواسي الذي لا يحصل له القطع بشيء من الأسباب المتعارفة لحصول القطع عند متعارف الناس ، وهو أيضا ملوم عندهم ، بل شرعا أيضا ، لما في صحيح ابن سنان من أنه من عمل الشيطان.

ثم إنه يمكن أن يوجه قول كل من قال بعدم اعتبار القطع في بعض الموارد بوجوه ..

منها : أن اعتبار القطع في الأحكام الشرعية تعليقي على عدم ثبوت الردع من الشارع ، وقد ورد الردع بمثل قولهم عليهم‌السلام : «شرّقوا أو غرّبوا لن تجدوا علما صحيحا إلّا ما خرج من عندنا أهل البيت» ، فكما أن نفس الحكم يكون تحت اختيار الشرع وضعا ورفعا ، فما يحصل منه القطع يكون كذلك أيضا.

ومنها : أن الأحكام الشرعية مقيدة ولو بنتيجة التقييد بما إذا حصل القطع بها من مباد خاصة دون مطلق ما يوجب حصوله ، وهذا الوجه مثل سابقه في الواقع.

ومنها : أن المراد بالقطع في كلماتهم مطلق الاطمئنان لا القطع الاصطلاحي.

٤٠