تهذيب الأصول - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

تهذيب الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

وفيه .. أولا : أن المتفاهم من قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» خصوصا بقرينة قوله عليه‌السلام : «ويتم على اليقين ويبني عليه ولا يعتد بالشك في حال من الحالات» هو ترتب أثر اليقين وتقديمه على الشك مطلقا ، وقوله عليه‌السلام : «ولا يعتد بالشك ...» كالمفسر لقوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» ، وظهور إطلاق المفسر (بالكسر) مقدم على احتمال الإجمال في المفسر (بالفتح).

وثانيا : أنه لا ينحصر أن يكون الاستحكام المناسب لإطلاق النقض في خصوص إحراز المقتضي فقط ، بل هناك شيء آخر يصح الإطلاق بلحاظه أيضا بل هو المتعين عرفا ، وهو استحكام نفس اليقين والحجة المعتبرة السابقة في مقابل الشك والتردد اللاحق ، فكأنه عليه‌السلام قال : اليقين والحجة المعتبرة مستحكم ، لا ينقض أثرهما بالشك والتردد. ولمكان الاتحاد الاعتباري بينهما وبين متعلّقهما يسري الاستحكام إليه أيضا ، سواء كان من الشك في المقتضي أو في الرافع ، والعرض على العرف أولى دليل لدفع هذه المناقشة ، ومقتضى الإطلاق الشمول للجميع من الشك في المقتضي والرافع ، والوجودي والعدمي ، والتكليفي والوضعي ، وأما وجه عدم شمولها لقاعدتي الشك الساري ، والمقتضي والمانع فقد تقدم سابقا ، فراجع.

ولا بد من التنبيه على امور :

التنبيه الأول :

لا ريب في انقسام الأحكام المجعولة ـ بالمعنى الأعم من التأسيس والإمضاء ـ إلى التكليفية والوضعية. والاولى ما يتعلّق بأفعال العباد بلا واسطة ، وتنحصر في الخمسة ـ الواجب والحرام والندب والكراهة والإباحة ـ المعروفة. والأخيرة بخلافها ، ولها نحو تعلق بالاولى في الجملة ، والمرجع في أقسامها

٢٦١

اصطلاح الفقهاء ، بل العقلاء.

ويمكن أن يقال : إن كل ما ليس بحكم تكليفي وله دخل فيه ، أو في متعلقة ، أو في موضوعه فهو حكم وضعي ، فاكتفاء بعض بذكر السببية ، والشرطية والمانعية ، أو بزيادة العلية ، والعلامية ، والرخصة والعزيمة ، أو زيادة الولاية والقضاوة أو نحوها ـ كما عن آخرين ـ ليس من جهة الحصر ، بل من باب ذكر الغالب.

ثم إن البعث نحو الفعل ـ المعبر عنه بالوجوب ـ أو الترك ـ المعبر عنه بالحرمة ـ أو البعث نحو الفعل مع الإذن في الترك المعبر عنه بالندب ، أو البعث نحو الترك كذلك المعبر عنه بالكراهة ، أو الترخيص المطلق نحو الفعل والترك والمعبر عنه بالإباحة ، ليست مما تختص بشريعة دون اخرى ، بل هي ثابتة في جميع الشرائع ، بل في أفعال العقلاء ولو لم يكن التزام بشريعة أصلا ، وتكون من الفطريات قررها الشرع.

نعم ، تختلف متعلّقاتها باختلاف الشرائع ، فرب شيء يكون واجبا في شريعة هو حرام في اخرى أو بالعكس ، فأصل الأحكام الخمسة التكليفية من الاعتباريات الفطرية العقلائية لم يردع عنها الشرع ، فكيف بالأحكام الوضعية ـ كالشرطية ، والسببية ، والمانعية ، والجزئية ، والعلية ، والعلامية ، والقضاوة والولاية وغيرها ـ مما كانت شائعة بين الناس ثم وردت الخطابات الشرعية مشتملة عليها ، فاستفيدت منها السببية الشرعية والمانعية ونحوها.

ثم إنهم قد اختلفوا في الوضعيات ، فمن قائل بأنها انتزاعيات محضة عن التكليفيات ، واختاره الشيخ الأنصاري قدس‌سره ونسبه إلى المشهور أيضا وادعى الوجدان في ذلك.

وفيه .. أولا : أنه لم تكن المسألة معنونة في كتب القدماء حتى يستظهر الشهرة فيه ، مع أنه لا وجه لاعتبار هذه الشهرة الاجتهادية.

٢٦٢

وثانيا : دعوى الوجدان في نفي الجعل مطلقا حتى إمضاء ، خلاف الوجدان ، بل في الكتاب والسنة تصريح بالجعل استقلالا في مثل الخلافة والإمامة والحجية ونحوها قال تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) ، وقال تعالى : (إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) وغيرهما من الآيات المباركة.

وأما دعوى : أنه لغو فلا وجه لها أيضا ، لصحة ترتب الأثر الشرعي عليها من جريان الاستصحاب فيها ونحو ذلك ، وقد أجرى نفسه قدس‌سره الاستصحاب في جملة من الوضعيات ، كما لا يخفى على من راجع كتبه الفقهية.

ومن قائل بأنه لا جعل إلا للوضعيات. والتكليفيات منتزعة منها ، ونسب ذلك إلى الفاضل التوني قدس‌سره ، وهو ظاهر الخدشة ، كما لا يخفى.

ومن قائل بالتفصيل بأن منها ما تكون مجعولة استقلالا بأسبابها الخاصة ولو إمضاء ، كالملكية ، والزوجية ، والقضاوة والولاية ، والصحة واللزوم ، والحجية والطريقية ونحوها ، ولا وجه للانتزاع فيها بعد صحة الجعل فيها ابتداء.

ومنها : ما تكون منتزعة بحسب المتفاهم العرفي ، كالشرطية والمانعية والجزئية للمكلف به ، لأنها مجعولة بنفس تشريع المكلف به وجعله ، فإذا جعلت الصلاة المشتملة على الأجزاء والشرائط والموانع ، يكون جعل الصلاة جعلا لها بالعرض ، بلا احتياج إلى جعل مستقل بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط ، كما أن التكليف النفسي المتعلق بالمركب انحلالي انبساطي بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط ، فكذا المقام.

ويرد عليه : أنه يمكن أن يكون الجعل الثانوي لها لغرض التأكيد والتبيين والاهتمام بها ، فلا يكون ذلك لغوا.

ومنها : ما لا تكون منتزعة عن التكليف ولا مجعولة ولو بالعرض ، كالسببية والشرطية لنفس التكليف. أما عدم صحة الانتزاع فلأن التكليف متأخر عنها لاقتضاء السببية والشرطية تقدمهما على المسبب والمشروط ، ولا يعقل

٢٦٣

انتزاعهما عن التكليف المتأخر عنهما ذاتا وحدوثا. وأما عدم صحة الجعل ـ ولو بالعرض ـ فلأن السببية أو الشرطية إنما هي لأجل خصوصية تكوينية تقتضي ذلك ومع وجود تلك الخصوصية لا أثر للجعل ، إذ لا يحصل الأمر التكويني بالجعل التشريعي ، ومع عدمها لا وجه للسببية أو الشرطية.

وفيه : أن الانتزاع عن المتأخر ليس من حيث وجود المتأخر بما هو متأخر ذاتا ، بل إنما هو من حيث كونه طرف إضافة المنتزع ، ولا ريب في أن المنتزع والمنتزع منه من الامور المتضايفة فيتحدان في الشأنية والفعلية ، فيصح الانتزاع من جهة شأنية المنتزع منه وكونه بالقوة بلا إشكال. وتقدم من هذا القائل نظير ذلك في مقدمة الواجب عند بيان الشرط المتأخر ، فراجع.

هذا ، وأما عدم الأثر للجعل ففيه أن نفس الخصوصية التكوينية من حيث هي لا تصلح للداعوية ما لم تتم بالجعل الشرعي ، لعدم إحاطة العقول بالخصوصيات ، ولا بد من الجعل الشرعي لتحقق الداعوية ؛ فهو لا بد منه من هذه الجهة لا محالة. هذا.

ويمكن أن يرتفع النزاع من البين وإن كان خلاف ظاهر الكلمات ، بأن يقال إن من ينفي الجعل عن الوضعيات يريد الاستقلالية والموضوعية المحضة ، ومن يثبته فيها يريد الأعم من التبعية والتقريرية ، لأن جعل أحد المتلازمين ملازم لجعل الآخر ولو بالتبع ، فيكون الجعل أعم من الإمضائي والتأسيسي والاستقلالي والتبعي ، ونتيجة ذلك صحة جريان الاستصحاب في الجميع ، ولو انحصر مورد جريان الاستصحاب بخصوص مورد الجعل الاستقلالي الشرعي لبطل جريانه في جملة من الموارد المسلم جريانه فيها عندهم ، فيكفي في مطلق الأثر الشرعي ولو بنحو الإمضاء ، مع ترتبه على المستصحب بلا واسطة.

ثم إن من الوضعيات الرخصة والعزيمة.

٢٦٤

والاولى التسهيل والترخيص في الفعل أو الترك ، وتطلق على مجرد المشروعية أيضا.

والثانية عبارة عن عدم المشروعية ، وتطلق على الترك اللزومي أيضا.

التنبيه الثاني :

يعتبر في الاستصحاب الشك الفعلي ، لأنه المتيقن من بناء العقلاء والمتفاهم من الأدلة اللفظية ، فلا يكفي التقديري منه ، فمن علم بالحدث وغفل عن حاله فصلّى وبعد الفراغ شك في أنه تطهر قبل الصلاة أو لا ، لا يجري استصحاب الحدث قبل الصلاة حتى يحكم بالبطلان ، لعدم فعلية الشك قبلها وإنما حدث بعد الفراغ منها ، بل إنما تجري قاعدة الفراغ وتصح الصلاة.

إن قلت : المناط في جريان الاستصحاب تحقق اليقين والشك ، وهو ثابت في المقام ، لأن اليقين بالحدث كان قبل الصلاة والشك فيه متحقق بعدها ، فيجري الاستصحاب وتبطل الصلاة.

قلت ـ أولا : أن أثر الشك في الاستصحاب لا بد وأن يكون بالنسبة إلى ما بعد حدوثه ، فلا يشمل ما قبله.

وتوهم : أنه يسري الشك إلى حين صدور الصلاة أيضا.

مدفوع : بأنه لا ينفع في جريان الاستصحاب قبل الصلاة لعدم فعلية الشك قبل الشروع فيها ، والمفروض اعتبارها.

وثانيا : أنها وإن جرت في الجملة ولكنها محكومة بقاعدة الفراغ.

نعم ، لو قلنا بعدم جريان القاعدة ، لأنه يعتبر في جريانها عدم العلم بالغفلة حين الشروع في العمل ، وجب إعادة الصلاة ، لقاعدة الاشتغال.

٢٦٥

التنبيه الثالث :

ليس المراد باليقين في الروايات والكلمات خصوص اليقين الوجداني المقابل لسائر الحجج المعتبرة ، بل هو كناية عن كل حجة معتبرة ، وكل ما يصح الاعتذار به ، وإنما ذكر مثالا لكل ما يصح الاعتذار به ، فكأنه قيل كل ما كنت تعتذر به في الحالة السابقة فابن عليه عند الشك في البقاء ، يقينا كان أو أمارة معتبرة ، أو أصلا موضوعيا أو حكميا ، فيجري الاستصحاب في مورد الأمارات والاصول مطلقا.

نعم ، جريانها في مورد الاصول من قبيل لزوم ما لا يلزم ، لكفاية نفس الشك في جريانها بنفسها ، فلا وجه بعد ذلك لملاحظة الحالة السابقة وإجراء الاستصحاب إلا إذا ترتب عليه أثر آخر غير ما يترتب على نفس الشك ، فلو كان المورد من موارد جريان أصل موضوعي ، أو أصل حكمي من الاشتغال ، أو البراءة ، أو التخيير ، يكفي نفس الشك في جريانها بنفسها من دون حاجة إلى عناية اخرى من ملاحظة الحالة السابقة ، إلا إذا كان لها أثر خاص لا يترتب على نفس الشك.

التنبيه الرابع :

لا ريب في شمول أدلة اعتبار الاستصحاب لما إذا كان المستصحب كليا ، كشمولها لما إذا كان جزئيا ، والمعروف أن استصحاب الكلي على أقسام ثلاثة ، يجري استصحاب الكلي والجزئي معا في أحدها ، ويجري استصحاب الكلي فقط في آخر ، ولا مجرى له أصلا في ثالث ، لا استصحاب الكلي ولا الجزئي ، على ما يأتي من التفصيل.

٢٦٦

الأول : ما إذا كان المستصحب جزئيا خارجيا ، موضوعيا كان أو حكميا ، فكما يصح استصحاب نفس الجزئي يصح استصحاب الكلي المتحد معه وجودا ، فمن بال ثم شك في أنه توضأ أو لا ، يصح استصحاب الحدث الجزئي الخارجي البولي ، كما يصح استصحاب كلي الحدث أيضا. لأن كلا منهما عين الآخر وجودا وإن اختلفا مفهوما.

الثاني : ما يجري فيه استصحاب الكلي دون استصحاب الفرد والجزئي ، وهو ما إذا لم يكن المستصحب متشخصا خارجا ، بل كان بحسب حدوثه مرددا بين فردين ولم يعلم أن ما حدث في الخارج أي منهما ، كالرطوبة الحادثة المرددة بين البول والمني ، وكما في موارد العلم الإجمالي عند ارتفاع أحد الطرفين ، فالاستصحاب في هذا القسم إن أجري في الشخص والجزئي الخارجي من حيث إنه كذلك ، فلا وجه له ، لعدم اليقين السابق بحدوث الجزئي متشخصا بالبولية أو المنوية ، وإن أجري في المردد بين الفردين من حيث الترديد فلا وجه له أيضا ، لأن المردد من حيث هو كذلك لا تحقق له خارجا بل ولا ذهنا أيضا ، وإنما هو من المفروض العقلية ، كفرض الممتنعات ، لأن التحقق مطلقا مساوق للتشخص ، ـ كما ثبت في محله ـ وما لا تحقق له أصلا كيف يتعلق اليقين به ، ولو فرض صحة تعلقه به ذهنا لا ينفع لجريان الاستصحاب أيضا ، لأنه لا بد فيه من تحقق موضوع الأثر الشرعي تحققا خارجيا ، ولا يكفي التحقق الفرضي ، فينحصر الاستصحاب الصحيح في استصحاب كلي الحدث ، للعلم بتحققه إما في ضمن الفرد الأصغر ، أو الأكبر ، فحدوث كلي الحدث معلوم بلا كلام وبعد الوضوء يشك في ارتفاعه فيستصحب بقاءه ، فيجب عليه الغسل أيضا ، فالمقتضي لجريان الاستصحاب في الكلي موجود والمانع عنه مفقود فتجري لا محالة.

إن قلت : لا مجرى لاستصحاب الكلي أيضا لعدم اليقين السابق ، بالنسبة

٢٦٧

إليه أيضا ، لأن الكلي عين الفرد ، وتقدم عدم اليقين بتحقق شخص خاص من الفرد ، وعدم الأثر لليقين بتحقق الفرد المردد في الذهن لو أمكن ذلك.

قلت : لا ريب في أن الكلي عين الفرد ، ولكن الفردية متقوّمة بشيئين : الذات المشتركة في جميع الأفراد المتحققة ، والخصوصية التي يتميّز بها كل فرد عن الآخر ، وما لا يقين به هو الثاني دون الأول ، فإن حدوث أصل الحدث في المقام معلوم بلا كلام.

إن قلت : نعم ، ولكن لا يجري الاستصحاب في الكلي من جهة عدم الشك اللاحق ولو تحقق اليقين السابق بالنسبة إليه ، لأن في الرطوبة المرددة بين البول والمني بعد أن توضأ ، يعلم حينئذ بارتفاع الحدث الأصغر ، ويشك في أصل حدوث الأكبر ، فتجري أصالة عدم حدوثه ، فيرتفع الشك في بقاء الكلي ، لأن الأصل الجاري في السبب مقدم على الأصل الجاري في المسبب ، كما يأتي ، فلا يبقى موضوع لجريان الأصل في الكلي.

قلت يرد عليه ..

أولا : عدم السببية والمسببية في المقام ، لتوقفهما على تحقق المغايرة الوجودية ، وليس بين الكلي والفرد تغاير وجودي أصلا ، بل هما واحد وجودا وإن اختلفا مفهوما في العقل.

وثانيا : الأصل السببي يقدم على المسببي إن كان الترتب بينهما شرعيا ، كما في الماء المشكوك الكرّيّة ، والثوب المتنجس المغسول فيه ، فإن باستصحاب كرية الماء ترتفع نجاسة الثوب شرعا ، والمقام ليس كذلك ، فإن وساطة تحقق الفرد لتحقق الكلي تكويني محض ولا دخل للشرع فيه أصلا.

وثالثا : أصالة عدم حدوث الحدث الأكبر معارضة بأصالة عدم حدوث الحدث الأصغر ، فتسقطان بالمعارضة.

إن قلت : لا كلية لاستصحاب الكلي ، فإن من آثار استصحاب كلي

٢٦٨

النجاسة انفعال الملاقي لها ، ولا يحكمون بترتب هذا الأثر في ما إذا علم إجمالا بنجاسة العباء مثلا ، وترددت بين كونها في الطرف الأعلى أو الأسفل ثم تطهر أحد الطرفين ، إذ لا ريب في صحة استصحاب كلي النجاسة بعد ذلك وأثر الاستصحاب نجاسة الملاقي للعباء مع الرطوبة المسرية مع أنهم لا يقولون بها ، لما تقدم من أن الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة لا يحكم عليه بالنجاسة ، فلا بد إما من القول بعدم صحة استصحاب كلي النجاسة أو القول بنجاسة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة ، وكل منهما خلاف المعروف بين الفقهاء ، وقد اشتهرت هذه الشبهة بالشبهة العبائية.

قلت : أثر استصحاب كلي النجاسة إنما هو عدم صحة الصلاة في العباء ، وأما انفعال الملاقي فليس أثرا لها ، لتوقف الانفعال على الملاقاة للنجس المتشخص الخارجي ، لما تقدّم في البحث عن الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة ، وباستصحاب كلي النجاسة لا تثبت النجاسة في محل خاص أو موضع مخصوص حتى ينفعل الملاقي له ، فالمقتضي لاستصحاب أصل النجاسة موجود والمانع عنه مفقود وأثرها عدم صحة الصلاة ، ولكن لا مقتضى لانفعال الملاقي لتوقفه على الملاقاة للنجاسة الشخصية الخارجية.

ثم إن في الرطوبة الخارجة المرددة بين البول والمني إما أن تكون الحالة السابقة على خروجها الطهارة ، أو لا يعلم بها أصلا ، أو تكون الحدث الأصغر. وفي الأولين يجب الاحتياط بالجمع بين الوضوء والغسل لاستصحاب كلي الحدث ، وفي الأخير يصح الاكتفاء بمجرد الوضوء ، لأصالة بقاء الحدث الأصغر وعدم حدوث الجنابة ، هذا كله إن ثبت الأثر للجهة المشتركة. وأما إذا كانت الأدلة ظاهرة في التنويع ، وإن أثر كل نوع غير أثر النوع الآخر بحيث يرجع إلى المتباينين أو الأقل والأكثر ثبوتا ، فيكون من القسم الثالث الذي يأتي عدم جريان الاستصحاب فيه ، ويمكن أن تكون الرطوبة المرددة بين البول والمني من هذا

٢٦٩

القبيل ، فإن الجهة المشتركة هي النجاسة فقط ، وأما الحدثية فأثرها من المتباينات ، كما لا يخفى.

الثالث من أقسام استصحاب الكلي : ما لا يجري فيه استصحاب الكلي ولا الفرد ، وهو ما إذا علم بحدوث الفرد وعلم بارتفاعه أيضا ولكن شك في حدوث فرد آخر قبل ارتفاعه أو مقارنا له ، أو شك في تبدله بعد الارتفاع إلى فرد آخر مخالف له من حيث المرتبة لا من حيث الذات ، كما إذا علم بحدوث الوجوب وارتفاعه وشك في تبدله إلى الندب وعدمه.

والحق عدم صحة استصحاب الكلي في الجميع لاختلاف القضية المتيقنة مع المشكوكة عرفا ، بل دقة أيضا ، إذ الكلي عين الفرد ، فما علم حدوثه علم بارتفاعه ، وغيره مشكوك الحدوث ، فلا وجه لجريان الاستصحاب في بقاء ما حدث للعلم بالارتفاع ، بل يجري في عدم حدوث ما هو مشكوك الحدوث.

وأما الصورة الأخيرة فالطلب الجامع بين الوجوب والندب ، وإن علم بحدوثه وشك في زواله ، فيصح جريان استصحاب أصل الطلب حينئذ.

لكن فيه .. أولا : أنه لم يثبت كون الوجوب مركبا من الطلب والمنع من الترك ، والندب مركبا منه والترخيص في الترك ، بل هما مرتبتان بسيطتان من الطلب متفاوتتان في الشدة والضعف ، فزوال الوجوب يوجب انعدام تلك المرتبة رأسا ، وتحقق الندب يوجب حدوث مرتبة اخرى.

وثانيا : لا ريب في تباينهما عرفا ، وأدلة الاستصحاب منزلة على العرف ، فتكون هذه الصورة أيضا كغيرها في اختلاف القضية المشكوكة مع المتيقنة.

نعم ، لو كان الوجوب والندب مركبين من الطلب والخصوصية ، وكانت تلك الخصوصية من الحالات العارضة يجري استصحاب أصل الطلب بلا كلام ، ولكنه لا دليل عليه ، كما ثبت في غير المقام.

٢٧٠

التنبيه الخامس :

يعتبر في الاستصحاب اتحاد موضوع الشك واليقين ليكون الحكم فيهما من الحكم على الموضوع الواحد ، وإذا تعدد يكون إجراء حكم اليقين إلى مورد الشك من إسراء حكم ثبت لموضوع إلى موضوع آخر ، ولا ريب في بطلانه ، فيشكل جريانه في ما لا قرار له ويكون حال اليقين غير حال الشك ، كالزمان والزمانيات ، والمتدرجات مطلقا مما لا ربط لكل جزء من سابقه بلا حقه ، ويكون كل جزء محفوفا بعدمين.

ولكن هذا الإشكال باطل من أصله ، لأنه مبني على كون الاتحاد بحسب الدقة العقلية ، وأما إذا كان بنظر العرف فلا إشكال ، لحكمه بأن لجميع السيالات والمتدرجات وحدة عرفية اعتبارية ، كاليوم ، والليلة ، والأسبوع ، والشهر ، والسنة ، بل القرن والدهر ونحوها. وكذا جريان الدم والماء ونحوها ، فيصح الاستصحاب في جميعها لتحقق الوحدة العرفية للمستصحب من حيث اليقين والشك المتعلقين به.

وأما ما اجيب به عن الإشكال ، بأن التعدد إنما هو في الحركة القطعية وهي كون الشيء في كل آن في محل ، وأما في التوسطية وهي كون الشيء بين المبدأ والمنتهى فلا تعدد ، بل هي واحدة. فإن أريد به ما ذكرناه فهو ، وإلا فلا وجه له ، لأن الحركة التوسطية لا وجود لها إلا في فرض الذهن ومورد الاستصحاب لا بد وأن يكون خارجيا ، ولا يخفى أنه يجري في الزمان والزماني الاستصحاب الشخصي والكلي أيضا بما تقدم له من الأقسام.

ثم إن الزمان إما قيد للتكليف ، أو للمكلف به ، وعلى كل منهما إما أن يكون على نحو وحدة المطلوب ، أو على نحو تعدد المطلوب ، أو يشك في أنه من أي النحوين. ولا إشكال في جريان الاستصحاب في الزمان إن شك في بقائه

٢٧١

في جميع الأقسام ، كما لا إشكال في أنه مع انقضاء الزمان ينقضي التكليف إن كان التقييد بنحو وحدة المطلوب ، لانتفاء المشروط بانتفاء شرطه. وأما إن كان بالنحوين الأخيرين فلا محذور في استصحاب نفس التكليف بعد انقضاء الزمان لعدم القطع بزواله فيستصحب.

وما يقال : من معارضته باستصحاب عدم جعل التكليف بالعدم الأزلي ، فلو شك ـ مثلا ـ في بقاء الطهارة بعد خروج المذي أو الرطوبة المرددة بينه وبين البول ، فكما تستصحب الطهارة يستصحب عدم جعل الوضوء مثلا موجبا للطهارة ، وكذا في نظائره.

مردود : بأنه بعد تشريع الوضوء وجعله موجبا للطهارة مع استجماع الشرائط وبعد حصر النواقض في التشريع ، لا وجه لمثل هذا الاستصحاب قطعا ، والعرف يأباه ويستنكره.

وأما الإشكال عليه : بأن المتيقن السابق هو العدم المطلق ، والمقصود إثباته في زمان الشك الحصة الخاصة منه ، فيكون مثبتا.

مردود : بإمكان أن يكون المستصحب نفس الحصة فلا يكون مثبتا ، لأنه وإن لم يكن تميز في العدم من حيث هو لكن من جهة إضافته إلى الوجودات يثبت التمييز فيه وتتحقق الحصة أيضا فتستصحب.

ثم إنه إن شك في تحقق أصل زمان خاص بمفاد كان التامة ، أو شك في انعدامه ، فيستصحب عدم حدوثه في الأول ، وبقائه في الثاني ، لوجود المقتضي وفقد المانع. وهل يثبت بذلك وقوع العمل في وقته الخاص به أيضا بدعوى عدم الواسطة عرفا ، أو خفائه. أو دعوى أن التوقيت عبارة عن وقوع العمل في وقته الخاص به ـ ولو بالأصل ـ أو بدعوى جريان الأصل في نفس بقاء الوقت من حيث هو؟ لا يبعد ذلك.

٢٧٢

التنبيه السادس :

مقتضى عموم أدلة الاستصحاب جريانه في ما هو معلّق على شيء ، كجريانه في ما لم يكن كذلك ، فلو ورد الدليل أن العنب إذا غلى يحرم ، ثم صار زبيبا وشك في بقاء هذا الحكم المعلّق على الغليان في حال الزبيبة أيضا ، يجري فيه الاستصحاب ، فيصير الزبيب المغلي ، كالعنب المغلي. وكذا إن قيل أكرم زيدا إن جاءك ، وبعد مدة شك في بقاء هذا الحكم لجهة من الجهات ، يصح الاستصحاب فيه.

واشكل عليه .. أولا : بتغاير الموضوع.

وفيه : مضافا إلى عدم اختصاصه بالمقام ، فيجري في كل استصحاب كان المشكوك مغايرا مع المتيقن ، أن الزبيبة من الحالات لا أن تكون متغايرة مع العنبية ، وتغاير الاسم أعمّ من تغاير الذات.

وثانيا : أنه لا تحقق للمتيقن في مورد الاستصحاب التعليقي ، لتعلّق الحرمة على الغليان ، والمفروض عدم غليان العنب في حال العنبية ، فلا وجه للاستصحاب.

وفيه : أن المستصحب الحرمة المعلّقة على الغليان ، لا الحرمة المنجزة الفعلية ، فيستصحب نفس الحكم المنشأ المعلّق ، ولا ريب في أن له نحو اعتبار بعد الجعل والإنشاء.

وثالثا : أنه معارض باستصحاب الحلية المطلقة ، فيسقط بالمعارضة.

وفيه : أن الحلية بغاية الغليان ، ومع إثبات الحرمة بالغليان ولو بالأصل لا وجه للحلية المغياة به ـ كما لا يخفى ـ فلا محذور في الاستصحاب التعليقي مطلقا ، والعرف بحسب ارتكازهم لا يفرّقون بين الاستصحاب التعليقي والتنجيزي ، فلا وجه للمناقشة من حيث عدم المتيقن السابق ، إذ يكفي فيه

٢٧٣

الوجود الاعتباري ، ولا ريب في أن المنشآت التعليقية لها وجودات اعتبارية عرفية وعقلائية بل وشرعية أيضا.

التنبيه السابع :

يجري الاستصحاب في ما إذا شك في نسخ ما ثبت في الشريعة ، سواء كان ذلك في شريعة واحدة أو في شريعتين ، لوجود المقتضي له وفقد المانع.

واحتمال تغاير الموضوع ، لأن أمة الشريعة السابقة غير اللاحقة.

مردود : بعدم دخالة الخصوصية الصنفية في تشريع الأحكام ما لم يدل عليه دليل بالخصوص ، لكونها مجعولة لكل من يستجمع شرائط التكليف مطلقا. كما أن احتمال عدم جريان الاستصحاب للعلم الإجمالي بالنسخ.

مردود أيضا : بانحلاله بالظفر بموارد النسخ بعد الفحص ، مع عدم تنجزه لخروج جملة من أطرافه عن مورد الابتلاء ، ولا فرق فيه بين كون النسخ قطعا لاستمرار الحكم ، أو إظهار أن مدة الحكم وأمده كان إلى حدّ مخصوص ولكنه أنشئ بصورة الدوام لمصلحة فيه ، لشمول أدلة اعتباره لكلتا الصورتين.

التنبيه الثامن :

لا ريب في اعتبار وجود الأثر الشرعي في مورد الأمارة والأصل مطلقا ، وهو ..

تارة : يترتب عليه بلا واسطة شيء أبدا ، أو بواسطة أمر شرعي ، ولا ريب في اعتبارهما حينئذ.

واخرى : مع وساطة أمر عقلي أو عادي ، ويعبر عن الأخيرين بالمثبت ، أي تثبت الأمارة أو الأصل أمرا غير شرعي ويترتب عليه الأثر الشرعي. وقد

٢٧٤

اشتهر اعتباره في الأمارات دون الاصول مطلقا.

وخلاصة ما قالوه في وجه الفرق بينهما : أن الأمارة تكون فيها جهة الكشف في الجملة وما يكشف عن شيء يكشف عن جميع ما يتعلّق به من اللوازم والملزومات مطلقا. وأما في الاصول فليس فيها جهة الكشف عن شيء أبدا ، بل المعتبر فيها هو العمل بالأثر الشرعي المترتب على مفادها فقط ، ولا يشمل دليل اعتبارها لغير ذلك.

وبعبارة اخرى : اعتبار المثبتات من سنخ الدلالات الالتزامية التي تتحقق فيما فيه الظهور والكشف دون غيره.

وفيه : أنه لا كلية في ذلك بل يدور الاعتبار مدار مقدار دلالة الدليل عليه لا محالة مطلقا ما لم تقم. حجة معتبرة عليه ، والمتيقن منها ما قلناه ، ولا فرق فيه بين الأمارة والأصل.

نعم ، لو قيل بعموم الحجية في مثبتات الأمارات مطلقا لكان بينهما فرق ، ولكن لا دليل على هذا التعميم ، بل لنا أن نتمسك في اللازم البيّن للاصول بنفس الأدلة الدالة على حجية الاصول ، فإنها من الأمارات ، والأمارة حجة في لازمها البيّن ، كما مرّ.

ولا بدّ أولا من بيان الأصل ، ثم بيان الحق الذي ينبغي أن يقال.

ولا ريب في أن مقتضى الأصل عدم حجية المثبت مطلقا لا في الأمارات ، ولا في الأصل ، لما اثبتناه من أصالة عدم الحجية في كل شيء إلا ما ثبت بالدليل المعتبر ، فإن تمّ الدليل على اعتباره فهو المتبع وإلا فيبقى على مقتضى الأصل. والدليل على الاعتبار منحصر بنفس الأمارة أو الأصل ، فإن استفيد ذلك الأمر العرفي من الأصل أو الأمارة بنحو من الدلالات المحاورية العرفية نقول بالاعتبار ، بلا فرق بين الأمارة والأصل ، وإن لم يكن في البين ما يصح الاعتماد عليه في هذه الدلالة فلا اعتبار به مطلقا بلا فرق بينهما أيضا ، ومورد الشك

٢٧٥

ملحق بهذه الصورة أيضا ، لأصالة عدم الاعتبار ، وإن وجد في الأمارة دون الأصل أو بالعكس فعليه المدار.

وبعبارة اخرى : اعتبار المثبتات من قبيل اعتبار المداليل الالتزامية المختلفة بحسب اختلاف الموارد والجهات ، بلا فرق بين الاصول والأمارات ، ولا كلية للنفي المطلق بالنسبة إلى الأولى ، ولا للإثبات المطلق بالنسبة إلى الأخيرة.

ولعل إلى ما ذكرناه يرجع ما عن المحقق الأنصاري قدس‌سره من اعتبار مثبتات الاستصحاب مع خفاء الواسطة ، وما عن المحقق الخراساني قدس‌سره من اعتبارها في ما إذا كانت من قبيل المتضايفين.

بقي امور لا بد من التنبيه عليها :

الأول : كل ما يصح انتسابه إلى الشارع فهو أثر شرعي ، سواء كان تكليفيا أو وضعيا ، تأسيسيا أو إمضائيا ، فاستصحاب البراءة من التكليف لا يكون مثبتا ، لأن نفي التكليف مجعول الشارع كوضعه ولو إمضاء ، فيصح نسبة الرفع والوضع إليه ، وذلك يكفي في عدم كون الأصل مثبتا. وكذا استصحاب وجود الجزء والشرط وفقد المانع ، لا يكون مثبتا لترتب الأثر الشرعي عليه وهو صحة العمل ، وكذا استصحاب عدمها لترتب الفساد بلا إشكال في ذلك ، بناء على كون الصحة والفساد مجعولين مستقلين شرعا ، بل وكذا بناء على انتزاع الصحة في أثناء العمل من وجوب الإتمام ، وانتزاع الفساد من وجوب الإعادة أو القضاء ، لما يأتي.

الثاني : لا وجه لتوهم الإثبات بين الكلي والفرد ، واللازم والملزوم ، سواء كان لازم الوجود ، أو لازم الماهية ، لمكان الاتحاد بينهما عرفا بل عقلا ،

٢٧٦

فاستصحاب الوجوب الكلي ، والملكية الكلية ، وتغير الكر بالنجاسة ، لا يكون مثبتا بالنسبة إلى الوجوب الشخصي والملكية الشخصية ونجاسة الماء الخارجي الجزئي.

الثالث : الأثر المترتب إما شرعي فقط ، أو غير شرعي فقط ، أو غير شرعي مترتب على الشرعي ، أو شرعي مترتب على غير الشرعي.

ولا ريب في اعتباره في الأول ، كما لا ريب في عدم الاعتبار في الثاني ، والثالث معتبر بلا إشكال ، لتحقق الموضوع ، فيترتب عليه الأثر غير الشرعي ، كترتب استحقاق العقاب على مخالفة الوجوب المستصحب ، وإجزاء امتثاله ، ونحو ذلك من الآثار غير الشرعية. والأخير هو الأصل المثبت المعهود ، فقد يكون معتبرا مع الاتحاد بنظر العرف ، وقد لا يكون معتبرا ، كما في مورد حكم العرف بالاختلاف والتباين.

الرابع : ربما يستظهر من المشهور ما يوهم ذهابهم إلى اعتبار الأصل المثبت.

منها : ما إذا اتفق الوارثان على إسلام أحدهما في أول اليوم والآخر في آخره ، واختلفا في موت المورث ، فقال أحدهما إنه مات في الظهر ـ مثلا ـ فلا يرث من أسلم في آخر اليوم ، وقال الآخر بل مات بعد الغروب ، فلا يختص الإرث بأحدهما. فحكم الفقهاء باشتراكهما في الإرث وعدم الاختصاص بأحدهما ، مع أن الإرث متوقف على كون الإسلام قبل الموت أو مقارنا له ، وإثبات ذلك بالأصل يكون مثبتا.

وفيه : أنه ليس من الأصل المثبت ، لأن المنساق من الأدلة كفاية الموت عن وارث مسلم ولو كان إحراز الإسلام بالأصل ، ولا دليل على لزوم تقدم إسلام الوارث على موت المورث ولا مقارنته معه حتى يكون ذلك من الأصل المثبت.

ومنها : حكمهم بالضمان في من استولى على مال الغير ، ثم شك في أنه

٢٧٧

كان بحق أو لا ، فإن كان الضمان لقاعدة اليد فهو من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه ، وإن كان لأصالة عدم الإذن فلا توجب الضمان إلّا بعد إثبات العدوان ، ولا يكون ذلك إلا بناء على الأصل المثبت.

وفيه : أنه يصح إثبات الضمان بقاعدة اليد مع عدم كونه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، لأن مطلق وضع اليد على مال الغير يوجب الضمان إلّا إذا احرز بوجه معتبر ثبوت الإذن والرضا فيه ، فوضع اليد على مال الغير متحقق وجدانا ، فتشمله القاعدة قهرا ، مع أن نفس عدم إحراز الإذن ولو بالأصل يكفي في الضمان ، ولا نحتاج إلى إثبات العدوان حتى يكون من الأصل المثبت.

ومنها : غير ذلك مما يذكر في الفقه مع إمكان دفع الشبهة بأدنى تأمل.

الخامس : لا إشكال في جريان الاستصحاب في مورد يكون فيه الأثر الشرعي حدوثا وبقاء ، كما لا ريب في جريانه في ما إذا كان الأثر للبقاء فقط. وأما إن كان بمجرد الحدوث فقط دون البقاء فلا مجرى له أصلا ، وهو أوضح من أن يخفى.

التنبيه التاسع :

الشك في حدوث كل حادث على أقسام خمسة :

الأول : أن يلحظ بالنسبة إلى ذاته فقط ، ويجري استصحاب عدمه مع تحقق أركانه.

الثاني : أن يعلم بأصل الحدوث في الجملة ويشك في زمانه ، فلا ريب في جريان استصحاب عدم الحدوث إلى زمان العلم به ، وأما إثبات أن زمان الحدوث كان في الأمس أو قبله ـ مثلا ـ فليس ذلك من شأن الاستصحاب ، لكونه مثبتا.

٢٧٨

نعم ، يمكن إثبات الحدوث في آخر أزمنة إمكانه بإدخاله في الموضوعات المركبة من الأصل والوجدان ، وهو احتمال حسن ثبوتا ، ولكن يحتاج إلى دليل إثباتا ، ومقتضى الأصل عدم حجية الموضوعات المركبة إلا مع دليل معتبر عليها من عرف أو شرع.

الثالث : أن يعلم بحدوث الحادثين في الجملة ، ويشك في السبق واللحوق بينهما ، ويكون الأثر الشرعي لنفس عدم أحدهما في ظرف الآخر واقعا من دون تقييد بينهما أبدا. ولا ريب في عدم صحة الاستناد إلى استصحاب عدم كل منهما ، إما لجريانهما والسقوط بالمعارضة ، كما عليه جمع منهم المحقق الانصاري قدس‌سره. أو لعدم إحراز اتصال زمان الشك باليقين ، كما عليه جمع آخر منهم المحقق الخراساني قدس‌سره ، كما إذا علم بحياة الوالد والولد يوم الخميس وبموتهما يوم الأحد ، وشك في أن موت الوالد كان في يوم الجمعة ، وموت الولد في يوم السبت ، أو بالعكس مع العلم بعدم التقارن ، فأصالة بقاء حياة الوالد إلى يوم الأحد يستلزم كون موت الولد يوم الجمعة ، وأصالة بقاء حياة الولد إلى يوم الأحد يستلزم كون موت الوالد يوم الجمعة ، فجريان الاستصحابين مستلزم لعدم إحراز اتصال زمان الشك باليقين في كل منهما ، وهو معتبر ، فلا يجري لعدم المقتضى لا لوجود المانع ، أي السقوط بالمعارضة ، فعدم صحة الاستناد إلى الاستصحاب مسلّم بين الجميع ، والنزاع بينهم علمي ولا يترتب عليه أثر عملي.

ولكن يمكن الخدشة في الوجه الثاني بأن إحراز انفصال المشكوك عن المتيقن بحجة معتبرة ، مانع عن جريان الاستصحاب ، لا أن يكون إحراز الاتصال شرطا ، إذ لا دليل عليه ، فيكفي عدم العلم بالانفصال بعد تحقق اليقين والشك ، وصدق عدم النقض عرفا بالنسبة إلى كل واحد من الاستصحابين في حدّ نفسه ، مضافا إلى تحقق الاتصال الزماني خارجا ، واتصال المشكوك

٢٧٩

بالمتيقن ذهنا ، ومقتضى الإطلاق وعموم السيرة عدم اعتبار أزيد من ذلك. هذا مع أن إثبات الانفصال بجريان الأصل مثبت لا اعتبار به.

الرابع : ما إذا علم بتاريخ أحدهما ، وشك في الآخر ، مع ترتب الأثر الشرعي على نفس عدم مجهول التاريخ في زمان الآخر ، فيجري الاستصحاب بالنسبة إلى المجهول دون المعلوم ، لليقين بزمان حدوثه.

نعم ، يشك في أنه قبل زمان حدوث مجهول التاريخ أو بعده ، ويأتي حكمه.

الخامس : أن يشك في التقدم والتأخر والتقارن ، وكان الأثر الشرعي مترتبا على ما اتصفت بهذه العناوين خارجا ، أي بمفاد كان الناقصة ، ولا ريب في عدم جريان الاستصحاب لعدم العلم بالحالة السابقة ، إذ المعلوم إنما هو نفس الحدوث في الجملة ، لا عنوان التقدم وضديه.

نعم ، لو كانت نفس هذه العناوين من حيث هي موردا للأثر الشرعي ، وقلنا بكونها من الاعتباريات العقلائية الممضاة شرعا ، يجري الاستصحاب فيها ويسقط بالمعارضة ، سواء كان الأثر الشرعي لكل واحد منها في مورد واحد ، أو كان لكل منها أثر شرعي خاص مبتلى به في مورد المعارضة ، ولا فرق في هذا القسم بين ما إذا جهل تاريخ الحادثين ، أو علم تاريخ حدوث أحدهما وجهل الآخر.

ثم إنه لا فرق في مجهولي التاريخ بين ما إذا أمكن الجمع بينهما ، كموت المورث وإسلام الوارث ، أو لم يمكن ، كالحدث والطهارة المتعاقبين ، وقد تشتت الأقوال في الأخير. والحق جريان الاستصحاب فيهما وسقوطهما بالمعارضة ، هذه خلاصة ما ينبغي أن يقال في المقام ؛ وقد ذكرنا بعض الكلام في كتاب (مهذب الأحكام) في مسألة توارد الحالتين من الحدث والطهارة.

٢٨٠