تهذيب الأصول - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

تهذيب الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

نعم ، لو كان العام أيضا نوعيا ، وكان ما بقي تحت العام أكثر مما خرج عنه من حيث النوع ، لا بأس به وإن كان الخاص الخارج أكثر أفرادا مما بقي تحت العام من الأنواع.

وفيه .. أولا : أن العام في المقام نوعي ، فإن متعلّق النفي نوع ضرر النفس ونوع ضرر العرض ونوع ضرر المال ، إلا نوع الضرر الحاصل من التكاليف المجعولة.

والقول : بأن النوع لا تحقق له في الخارج حتى يتعلّق به النفي.

مردود : بأنه ليس المراد به النوع المنطقي حتى لم يكن له تحقق خارجي ، بل الطبيعي منه الذي هو عين الأفراد الخارجية ، فيصح قول الشيخ رحمه‌الله ولا يرد عليه إشكال صاحب الكفاية.

وثانيا : لا وجه للفرق بين ما كان العام نوعيا أو فرديا بعد أن كان النوع طبيعيا وطريقا محضا إلى الأفراد الخارجية ، فلا أثر لما فصّله صاحب الكفاية قدس‌سره من هذه الجهة ، إذ المدار كله على الأفراد ، والنوع طريق محض إليه ، فترجع كثرة الخارج وقلة الباقي بالآخرة إلى الأفراد. فالحق ما ذكرناه من الجوابين.

وقد يستشكل بأن القاعدة لا بد وأن تكون نصا في مورد جعلها ولا أقل من ظهورها فيه ، وليس كذلك في المقام ، لأن النخلة كانت ملكا لسمرة بن جندب وهو يتصرف فيها لسلطنته عليها ، فإن الناس مسلطون على أموالهم ، فليس في تصرفه فيها ضرر حتى يكون موردا للقاعدة.

وفيه : من الوهن ما لا يخفى ، لأن أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله بقلع النخلة ورميها عند سمرة ليس لأجل تصرف سمرة فيها ، بل لأجل أنه كان غير مبال بعرض الأنصاري وكان في مقام هتك عرضه ، وهو إضرار وأي إضرار أشد منه ، وكان منشأ ذلك من النخلة فأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله بقلع منشأ الإضرار ، فتنطبق القاعدة على المورد بلا إشكال.

الخامسة : لا ريب في تقدم قاعدة الضرر على جميع الأدلة المتكفلة لبيان

٢٤١

الأحكام بعناوينها الأولية أو الثانوية ، كالنذر والعهد واليمين ، وأمر الوالدين ـ وجوبية كانت أو تحريمية ، وضعية أو تكليفية ـ بمعنى أنه يستكشف من القاعدة أنه لا جعل لتلك الأحكام مطلقا في مورد الضرر أبدا ، ومن شاء فليسم هذا جمعا عرفيا ، أو حكومة ، أو لفظا آخر ، إذ لا ثمرة عملية في هذه الاصطلاحات بل ولا علمية معتنى بها أصلا بعد أن اتفق العلماء بل العقلاء على تقديمها عليها ، وظاهرهم سقوط الأحكام في مورد الضرر خطابا وملاكا ، لا خطابا فقط حتى يكون من المتزاحمين اللذين يقدم أحدهما على الآخر مع تحقق الملاك فيهما ، فيكون تقديم قاعدة الضرر عليها من باب العزيمة لا الرخصة ، بخلاف قاعدة الحرج ، فعن جمع أن تقديمها عليها من باب الرخصة لا العزيمة ، فمن توضأ مع كون الوضوء ضرريا بالنسبة إليه يبطل وضوءه ، بخلاف ما إذا كان حرجيا فيصح ، وقد ذكرنا ما يتعلّق به في الفقه فراجع. ومن لطيف المصارعة والمعارضة أن الأحكام بناء على كونها ضررية تتقدم على قاعدة الضرر تخصصا ، وإن كانت تلك الأحكام مستلزمة للضرر زائدا على جعلها تقدم القاعدة عليها حكومة.

ثم إنه قد تخصص قاعدة الضرر التي تقدم على جميع الأحكام في موارد ..

منها : ما عن بعض الفقهاء إن من أجنب عمدا مع العلم بكون استعمال الماء مضرا ، وجب عليه الغسل وإن أضرّ به ، مستندا إلى خبر. وقد تعرضنا له في مباحث التيمم في الفقه ، فراجع.

ومنها : تقديم قاعدة السلطنة والحرج ، بل والضرر عليها في بعض الموارد ، كما يأتي.

السادسة : تعارض ضرر مع ضرر آخر.

تارة : يكون بالنسبة إلى شخص واحد ، كما إذا اكره شخص على الإضرار

٢٤٢

بزيد إما بهذا الضرر أو بذاك.

واخرى : لشخص واحد أيضا لكن من حيث التحمّل ، كما إذا دار الأمر بين تحمله بنفسه لهذا الضرر أو ذاك. والحكم فيهما هو التخيير مع التساوي لقبح الترجيح بلا مرجح ، واختيار الأقل ضررا مع التفاوت ، كما هو مقتضى سيرة المتشرعة بل العقلاء ، وفي رجوع الوجدان غنى عن إقامة البرهان.

وثالثة : الإكراه على الإضرار إما بزيد أو بعمرو ، فمع التساوي يتخير ومع التفاوت قد يقال بالتخيير أيضا ، لأن قاعدة نفي الضرر امتناني بالنسبة إلى الجميع ، وبعد جواز أصل ارتكابه لدليل الإكراه لا فرق بينه وبين القليل والكثير.

ولكن فيه إشكال ، فراجع مباحث الفقه ، هذا بناء على ما هو المتسالم نصا وإجماعا من عدم وجوب تحمل الضرر لدفع الضرر عن الغير ، بأن كان الضرر متوجها أولا وبالذات إلى الغير ، بأن اكره الشخص على الإضرار به مثلا وأما إذا كان متوجها إلى نفسه بأن أجبره الظالم على دفع مال من نفسه أو الأخذ من غيره فليس له الإضرار بالغير ، كما يأتي.

ورابعة : يدور الأمر بين الإضرار بنفسه أو غيره ، فإن كان الضرر متوجها إلى الغير ولكن تحمله لم يتوجه إليه ، ولا ريب عندهم في عدم وجوب تحمل الضرر ، بل عدم جوازه في بعض الصور.

وخامسة : يكون متوجها إليه ولو صرفه إلى غيره لم يتضرر ، ولا ريب عندهم أيضا في عدم جوازه.

وسادسة : يكون الضرر بالنسبة إليه وإلى غيره في عرض واحد ، كما أنه لو احتاج شخص إلى بالوعة في داره لو حفرها يتضرر الجار ولو لم يحفرها يتضرر بنفسه ، وقال الشيخ قدس‌سره : «الأوفق بالقواعد تقديم المالك ، لأن حجره عن التصرف في ماله ضرر يعارض ضرر الغير ، فيرجع إلى عموم قاعدة السلطنة ونفي الحرج ـ إلى أن قال قدس‌سره ـ والظاهر عدم الفرق بين كون ضرر المالك بترك

٢٤٣

التصرف أشد من ضرر الغير أو أقل».

وفيه : أن عموم السلطنة معارض لعموم سلطنة الغير على الدفع عن ورود الضرر على ماله. ولكن للمسألة فروع قد ذكرت في الفقه.

فرع :

لو أدخلت الدابة رأسها في القدر بغير تفريط من أحد المالكين ، المشهور أن القدر يكسر ويضمن قيمته صاحب الدابة ، لأن الكسر لمصلحته ، وهو مبني على ما هو المتعارف من أن كسر القدر أهون من قتل الدابة ، فراجع وتأمل.

السابعة : قد تتقدم قاعدة نفي الحرج على قاعدة نفي الضرر ، كما إذا كان المالك في حرج ومشقة من عدم البالوعة مثلا في داره وإن لم يكن متضررا بذلك ولكن يتضرر منها الجار ، فإنه يجوز للمالك حفرها فإن تحمّل الحرج لدفع الضرر عن الغير منفي بقاعدة نفي الحرج ، فتكون هذه القاعدة حاكمة على قاعدة نفي الضرر ، كحكومة قاعدة السلطنة عليها في الجملة.

تتميم :

لا إشكال في أن قاعدة نفي الحرج من القواعد المعتبرة ، ويدل عليها الكتاب مثل قوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) والسنة المستفيضة في الأبواب المتفرقة ، وإجماع الإمامية بل المسلمين ، ويصح أن تكون من القواعد العقلائية أيضا ، لأن العقلاء يقبّحون التكاليف الحرجية الصادرة من الموالي بالنسبة إلى العبيد ، وما ورد من التكاليف الشاقة في بني إسرائيل لم يعلم أنها كانت جعلا من الله تعالى أولا بالنسبة إليهم ، أو أنها كانت عقوبات دنيوية عن جزاء أعمالهم ، والأنس بفضل الله تعالى وسعة رحمته قديما وحديثا بالنسبة إلى

٢٤٤

عباده يقتضي الثاني فيعلم من ذلك أن قوله تعالى : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) ، وما ورد «أن بني إسرائيل كانوا إذا أصابتهم قطرة بول قرضوا لحمهم بالمقاريض». لم يعلم أن ذلك كان تكليفا أوّليا إلهيا ، أو كانت من العقوبات المستعجلة الدنيوية التي رفعت عن امة نبينا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله. مع أن الإصر عبارة عن الضيق ومطلق المشقة وهو أعم من الحرج وغيره ، مثلا وجوب إتيان الفرائض في المساجد ضيق وليس بحرج ، وكذا الفورية في قضاء الصلوات والصيام ونحو ذلك ، والمراد بقوله تعالى : (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) هذا النحو من الضيق لا الحرج المنفي في صدر الآية بقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ، وبقوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ). فيستفاد من إطلاقه أن دين الله تعالى لا حرج فيه خصوصا بقرينة قوله : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) ، وكذا إطلاق قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

ثم إنه كلما تقدم في فقه (لا ضرر ولا ضرار) يجري في (لا حرج في الدين) بلا فرق بينهما من هذه الجهة ، فتجري فيها الأقوال الأربعة المتقدمة. وقد تقدم أن مفادها ترخيصي امتناني لا أن يكون على نحو العزيمة ، فيصح العمل لو تحمل الحرج وأتى به.

إن قلت : بعد سقوط الأمر لأجل الحرج لا وجه لصحة العمل العبادي لتقومها بقصد الأمر.

قلت : سقوط الأمر لا يستلزم سقوط الملاك ، والكاشف عن بقائه مضافا إلى الإطلاقات استصحاب البقاء بعد كون السقوط ترخيصيا لا عزيمة. ولا يلزم من هذا التخيير بين الطهارة الترابية والمائية ـ مثلا ـ في ما إذا كانت الأخيرة مستلزمة للحرج ، لأنه لا ريب في الاختلاف الرتبي بينهما ثبوتا وإثباتا ، ومع ذلك كيف يثبت التخيير الذي لا بد فيه من التساوي من كل جهة.

٢٤٥

وظاهر الفقهاء التسالم على عدم حلّية المحرمات لأجل الحرج ، فمن كان في حرج من عدم الكذب أو عدم الاغتياب أو نحوهما لا تحل له ، كما أن ظاهرهم عدم الفرق بين الصغائر والكبائر ، ولا يبعد أن يكون الوجه في ذلك مضافا إلى ظهور الإجماع أن مفسدة الارتكاب أكثر بمراتب عن مصلحة الترخيص ما لم يكن في ترك الارتكاب ضرر أهم.

ثم إنه لا تجري قاعدة نفي الحرج في نفي التكاليف الأولية المجعولة ، وإن قيل بأن فيها حرجا ، لما تقدم في الجهة السادسة في قاعدة الضرر.

والحمد لله أولا وآخرا.

٢٤٦

الفصل الرابع

الاستصحاب

وهو من الاصول المعتبرة الجارية في تمام أبواب الفقه. وقد عرّف بتعاريف جميعها تشير إلى المعنى المعهود ، وليست بحدود حقيقية منطقية ، فلا وجه للإشكال عليها بالنقض والإبرام ، ولعل الأولى الإشارة إليه : بأنه «إسراء أثر ما يعتذر به سابقا إلى زمان الشك فيه».

ولا بد من تقديم امور :

الأول : قد تكرر في هذا الكتاب أن المسألة الاصولية الكبرى الكلية التي تستنتج منها الأحكام ، كقول : «كل أمر ظاهر في الوجوب» ، فإنه بضميمة أن «هذا أمر وكل أمر ظاهر في الوجوب» يستنتج منه الوجوب لا محالة. وكذا في سائر مسائله من أوله إلى آخره. والقاعدة الفقهية ما يبحث فيها عما يتعلّق بالإنسان من حيث الوظيفة الشرعية ، ولا يختص بباب دون باب ، كقاعدة نفي الحرج ، والضرر وغيرهما من القواعد العامة ، وقد تطلق القاعدة على ما يختص بباب خاص أيضا ، كقاعدة «لا تعاد الصلاة إلا من خمس» ، و «لا شك لكثير الشك» ونحوهما مما هو كثير ولا مشاحة في الاصطلاح.

والمسألة الفقهية ما يبحث فيها عمّا يتعلّق به وتختص بباب خاص ، كوجوب الصلاة مثلا ، وقد تطلق على ما لا يختص بباب ، كوجوب الوفاء بالعقود الجارية في جميع أبواب المعاملات مطلقا ، ووجوب أداء حقوق الناس الجارية في الزكاة والفطرة والخمس والمعاوضات والنفقات والديات وغيرها.

٢٤٧

ولا يبعد أن يقال إن القاعدة الفقهية ما لوحظت فيها جهة الكلية في الجملة وإن اختصت بباب ، والمسألة الفقهية ما لم يلحظ فيها ذلك وإن لم تختص بباب ، وحيث أن الاستصحاب فيه ملاك الأصل والأمارة والقاعدة الفقهية صار برزخا بين الجميع ، ويصح انطباق تعريف الجميع عليه ، فيصح جعله في كل بحث من مسائله ، كما في كثير من مسائل علم الاصول. حيث يكون فيها ملاك جملة من العلوم.

والظاهر أن الاستصحاب الجاري في الموضوعات من المسائل الفقهية ، وفي الأحكام يمكن أن يكون من المسائل الاصولية ، لصحة وقوعه في طريق الاعتذار ، وحينئذ يمكن أن يكون أمارة إذا لوحظ حصول الظن النوعي منه بنحو الحكمة لا العلة ، ويمكن أن يكون أصلا إذا قطع النظر عن ذلك ، فراجع المطولات لعلك تجمع بذلك بين شتات الكلمات ، فليس الاستصحاب إلا مثل جملة كثيرة من المسائل الاصولية التي يصح أن تكون مجمعا لعناوين كثيرة.

الثاني : لا ريب في اعتبار تحقق اليقين والشك في الاستصحاب ، وقاعدة المقتضي والمانع ، وقاعدة اليقين ـ المعبر عنها بالشك الساري أيضا ـ والأول معتبر بخلاف الأخيرين. وخلاصة الفرق بينها أن متعلّق اليقين والشك إما أن يتعدد وجودا أو لا ، وعلى الثاني إما أن يسري الشك إلى اليقين ويزيله أو لا.

والأول قاعدة المقتضي والمانع ، وتأتي الإشارة إلى أقسام المقتضي في الأمر اللاحق.

والثاني قاعدة الشك الساري.

والثالث الاستصحاب.

ويكفي في عدم اعتبار الأولين الأصل بعد عدم دليل عليه من السيرة والأخبار والإجماع ، لما يأتي من ظهور الأخبار في الاستصحاب دون غيره ، والشك في الشمول لغيره يكفي في عدم جواز التمسك بها ، لأنه حينئذ من

٢٤٨

التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه.

الثالث : للاستصحاب أقسام مختلفة.

منها : بحسب زمان اليقين والشك.

فتارة : يكون زمان اليقين والمتيقن سابقا ، وزمان الشك والمشكوك فيه لاحقا وهو الغالب في الاستصحابات المتداولة.

واخرى : يكون زمان حدوث اليقين والشك واحدا مع كون زمان المتيقن سابقا وزمان المشكوك لاحقا ، كما إذا علم فعلا بأن الماء كان كرا في الأمس وشك فعلا أيضا في كريته.

وثالثة : يكون زمان حدوث الشك سابقا وزمان حدوث اليقين لاحقا مع سبق زمان المتيقن على زمان حدوث الشك ، كما إذا شك فعلا في طهارة الماء ثم حصل له اليقين بأنه كان طاهرا قبل حدوث الشك.

والحق اعتبار الاستصحاب في هذين القسمين أيضا لوجود المقتضي وفقد المانع ، إذ المناط كله في اعتباره اختلاف زمان وجود المتيقن والمشكوك مع تقدم الأول على الثاني ، سواء اختلف زمان حصول اليقين والشك أم اتحد ، وعلى الأول سواء سبق زمان حصول الشك أو كان بالعكس.

ورابعة : يكون زمان المشكوك فيه سابقا وزمان المتيقن لاحقا ، ويعبّر عنه بالاستصحاب القهقرى ، ولا دليل على اعتباره لا من الشرع ولا من بناء العقلاء.

ومنها : تقسيمه من جهة منشأ الشك ، فإنه إما في المقتضي ، أو في الرافع ، أو في الغاية. والمقتضي عبارة عن مقدار قابلية الشيء للبقاء ، سواء كانت القابلية تكوينية أو تشريعية ، أي ملاك المجعول أو حكمة نفس الجعل ثبوتا ، المستكشف ذلك كله بالأدلة الشرعية أو الاستظهارات العرفية ، ولا ريب في شمول الشك في المقتضي للجميع. وما عن بعض من اختصاص اصطلاح الشك في المقتضي بخصوص المقتضي الإثباتي ـ أي : ما يستفاد في مقام

٢٤٩

الإثبات من الأدلة ـ لا وجه له ظاهرا ، وإن كان لا مشاحة في الاصطلاح.

وملخص القول في المقتضي : أنه على أقسام ثلاثة ..

الأول : مجرد الاقتضاء الواقعي من دون تحقق ما فيه الاقتضاء خارجا ، كما إذا أراد أن يتوضأ ـ مثلا ـ ثم بعد مدة شك في أنه حصل له مانع عن إرادته أو لا ، وهذا هو موضوع قاعدة المقتضي والمانع التي ذهب المشهور إلى عدم اعتبارها.

الثاني : ما إذا تحقق ما فيه الاقتضاء في الخارج وأحرز بدليل معتبر بقاء اقتضائه مدة خاصة ، وشك في أثناء تلك المدة في أنه هل حصل رافع عن استمرار وجوده الخارجي أو لا ، وهذا هو مورد الشك في الرافع بعد إحراز بقاء المقتضي.

الثالث : تحقق المقتضي في الخارج وعدم إحراز مقدار استعداد تحققه الخارجي ، ودار بين القليل والكثير بحسب ذاته ، وهذا هو الشك في المقتضي الذي ذهب شيخنا الأنصاري قدس‌سره إلى عدم جريان الاستصحاب فيه.

هذه خلاصة تطويلات القوم في المقام.

والرافع : عبارة عما يوجب انعدام الموضوع أو الحكم مع إحراز إرسالهما وعدم التحديد لهما بحدّ مخصوص ، وهو قد يشك في أصل وجوده ، فيعبّر عنه بالشك في الرافع ، وقد يشك في شيء أنه رافع أم لا ، ويعبّر عنه بالشك في رافعية الموجود ، والمانع أعم من الرافع ، فإنه يطلق ..

تارة : على ما يزاحم المقتضي عن أصل اقتضائه.

واخرى : على ما يرفعه بعد تحققه واقتضائه ، فيتحد مع الرافع حينئذ.

والغاية : عبارة عن تحديد الحكم أو الموضوع في ظاهر الدليل بحدّ خاص معين ، والشك في حصوله يكون من الشك في الغاية.

ثم إن الشك في المقتضي قد يكون من حيث الشبهة الموضوعية ، وقد

٢٥٠

يكون من الشبهة المفهومية أو الحكمية ، والظاهر تصادق الأخيرتين مع الشك في النسخ والغاية في الجملة.

ومنها : تقسيمه بحسب الدليل الدال على المستصحب فإنه.

تارة : يكون هو الكتاب.

واخرى : السنة.

وثالثة : الإجماع.

ورابعة : العقل.

ومنها : تقسيمه بحسب المستصحب ، فإنه إما وجودي أو عدمي ، أو كلي أو جزئي ، أو تكليفي أو وضعي إلى غير ذلك ، ويأتي إن شاء الله تعالى أن الحق اعتباره مطلقا فلا وجه للتطويلات مع أن جلّها لو لا كلها بلا طائل.

الرابع : إن كان الدليل على المستصحب هو العقل ، واستكشف حكم الشرع منه بقاعدة الملازمة ، قد يشكل حينئذ في صحة الاستصحاب ، لأن العقل لا يحكم بشيء إلا بعد الإحاطة بوجود جميع المقتضيات وفقد جميع الموانع ، فمع تحقق ذلك كله يحكم ومع العدم لا حكم له ، فلا يتصور الشك في حكمه والاستصحاب متقوّم بالشك ، فلا موضوع له حينئذ لا بالنسبة إلى نفس حكم العقل ولا بالنسبة إلى حكم الشرع المستفاد منه بقاعدة الملازمة ، لعدم تمامية الملازمة مع عدم حكم العقل.

هذه خلاصة دليل من منع عن استصحاب حكم العقل أو الشرع المستند إليه.

وفيه .. أولا : أن ما يتصور الشك فيه من حكم العقل إنما هو ما إذا كان دقيا حقيقيا من كل جهة ، وكانت جميع الخصوصيات الملحوظة مقوّمة لموضوعية الموضوع شرعا أيضا ، والظاهر أنه لا يوجد لذلك مثال في الأحكام الشرعية لابتناء جميعها على العرفيات المتعارفة بين الناس. وأما إذا كان المراد بحكم

٢٥١

العقل ما تطابقت عليه آراء العقلاء في معاشهم ومعادهم ، فلا ريب في تصور الشك فيه عندهم ، فيتحقق موضوع الاستصحاب حينئذ في حكم العقل. وكذا في حكم الشرع المستفاد منه.

وثانيا : لا ملازمة بين الشك في حكم العقل وعدم تصوره في حكم الشرع المستفاد منه ، لأن قاعدة الملازمة إنما تدل على تبعية حكم الشرع لحكم العقل ثبوتا في الجملة ، وأما كون موضوعه تابعا لموضوع حكم العقل من كل حيثية وجهة وبقاء أيضا ، فلا دليل عليه بل الظاهر خلافه ، لأن سهولة الشريعة المقدسة وسماحتها تقتضي التسهيل في موضوع حكمه وأوسعيته من موضوع حكم العقل.

الخامس : قد فصل في اعتبار الاستصحاب بين الشك في الرافع فيعتبر ، وبين الشك في المقتضي فلا يعتبر.

فإن كان هذا التفصيل لقصور الإطلاق والعموم عن شمولها ، فهو خلاف الظاهر. وإن كان لوجود مانع في البين فليس ما يصلح للمانعية ، ويأتي ما تعرض له الشيخ قدس‌سره من استظهار الاختصاص من مادة النقض ، ويأتي الجواب عنه إن شاء الله تعالى.

كما أن التفصيل بين العدميات والوجوديات ، فيعتبر في الاولى دون الثانية لا وجه له أيضا ، فإن الاتفاق على اعتبار جملة من الاصول العدمية ، كعدم القرينة والتخصيص ، والمزاحم ، والسهو والغفلة ونحوها مما اتفق عليها الكل لا ينافي شمول الإطلاق والعموم للوجودية أيضا ، فالمناط تنقيح أصل الكبرى الشاملة للجميع.

بل يجرى في الأعدام الأزلية أيضا ، لعموم ما سيأتي من الدليل وفقد المانع.

والعدم الأزلي عبارة عن العدم السابق على الأشياء مطلقا ، لأن كل موجود

٢٥٢

حادث يكون مسبوقا بالعدم وإلا لا يكون حادثا ، بل يتصف بالقدم.

والفرق بينه وبين العدم النعتي أن الثاني ملحوظ بالإضافة إلى الغير ووصفا له دون الأول ، فإذا لوحظت الملكية مثلا بالنسبة إلى موضوع خاص وشككنا في عروضها له ، يجرى عدم الملكية له ويسمى هذا بالعدم النعتي (الوصفي) ، وإذا أجرينا أصالة عدم تحقق الملكية مطلقا بحسب ذاتها يسمى هذا بالعدم الأزلي ، أي مفاد ليس التامة ، أو العدم الذاتي.

فينطبق على المورد أيضا انطباق الطبيعي على أفراده ، ولا إشكال فيه من عقل أو نقل.

ولكن أشكلوا عليه بأنه من الاصول المثبتة ، وهي غير معتبرة ، وهو ساقط ، لأن انطباق الطبيعي على الأفراد ذاتي لا واسطة فيه حتى يقال بالاثبات ، وكذا بالنسبة إلى مفاد كان التامة ، أي كان الشيء مسبوقا بالوجود ، فيجرى استصحابه وينطبق على المورد لا محالة بلا محذور في البين ، والتعرض بأكثر من ذلك إخراج للبحث عن موضوعه وإدخاله في موضوعات أخرى.

كما أن التفصيل بين الموضوعات ، فيعتبر فيها ، وبين الأحكام الكلية فلا يعتبر.

مردود أيضا ، إذ لا وجه للاختصاص إلا دعوى : أن الأحكام الكلية ليست إلا الصور الذهنية ، والأثر الشرعي مترتب على الخارج دون الذهن. أو دعوى أنها معارضة باستصحاب عدم الجعل.

ويرد الاولى : بأن الصور الذهنية ملحوظة طريقا إلى الخارج لا بقيد الذهن ، مع أن الأحكام الكلية اعتبارات صحيحة عرفية عقلائية ، لها نحو تحقق اعتباري في عالم الاعتبار ، وهذا النحو من الوجود منشأ للأثر وهو يكفي في الاستصحاب.

ويرد الثانية : بأن العلم الإجمالي بنقض استصحاب العدم في الأحكام

٢٥٣

الابتلائية يمنع عن جريانه فيها. فالحق اعتباره مطلقا من غير تخصيصه بمورد أبدا ، لوجود المقتضي وفقد المانع.

الأدلة على حجية الاستصحاب :

الأول : دعوى الإجماع ، ولكنه راجع إلى بناء العقلاء ، فليس دليلا مستقلا في مقابله ، وليس من الإجماع التعبدي لمعلومية المدرك ، مضافا إلى كثرة الخلاف.

الثاني : إن سبق الثبوت يوجب الظن بالبقاء.

وفيه : أنه ممنوع صغرى وكبرى.

الثالث : بناء العقلاء ، لأن الشك عندهم ..

تارة : بدوي ، والمرجع فيه بعد الفحص البراءة.

واخرى : من أطراف العلم الإجمالي ، وقد استقر بناؤهم على الاحتياط فيه ما لم يكن مانع عنه في البين.

وثالثة : مسبوق بالثبوت والتحقق ، واستقر بناؤهم فيه على الأخذ بالحالة السابقة ما لم تكن قرينة على الخلاف ، سواء حصل لهم الظن بالبقاء أو لم يحصل ، وفي مثل هذه السيرة العامة البلوى يكفي عدم ثبوت الردع ولا نحتاج إلى الإمضاء ، مع أنه قد ثبت أيضا بما يأتي من الأخبار.

وتوهم : إن ما ورد كتابا ـ كما مر ـ وسنة من النهي عن اتباع غير العلم رادع عنها.

مردود : لما تقدم غير مرة أن المراد بغير العلم في الكتاب والسنة ما لا يعتمد عليه العقلاء ، دون ما يعتمدون عليه في معاشهم ومعادهم. فما عن صاحب الكفاية من صلاحيته للردع في المقام مع ذهابه إلى العدم في الخبر

٢٥٤

الموثوق به تهافت ، كما هو واضح.

الرابع : جملة من الأخبار :

الأول : مضمر زرارة :

ولا يضرّه الإضمار ، لأن مثله لا يسأل إلا من المعصوم عليه‌السلام «قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال عليه‌السلام : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، فإذا نامت العين والاذن والقلب فقد وجب الوضوء. قلت : فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم. قال عليه‌السلام : لا حتى يستيقن أنه قد نام ، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن وإلا فإنه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك ولكن ينقضه بيقين آخر». وسوقه يشهد بأنه عليه‌السلام في مقام بيان قاعدة كلية وضابطة عامة تجري في جميع الأبواب بلا شبهة وارتياب.

واشكل عليه بوجوه ..

الأول : أن جواب الجملة الشرطية في قوله : «فإن حرّك» غير معلوم ، فهو مجمل ، لأنه إن كان كلمة «لا» ، أو جملة (فإنه على يقين) فهو خلاف مصطلحات الأدباء من لزوم كون الجزاء جملة فعلية. وإن كان جملة (ولا ينقض) فهو أيضا خلاف ما تسالموا عليه من عدم تصدر الجزاء بالواو.

وفيه .. أولا : أنه لا ملزم لمراعاة ما قاله الأدباء في كلمات سادات الفصحاء ، بل لا بد وأن يكون الأمر بالعكس.

وثانيا : أنه لا يضرّ بالاستدلال ، إذ الجواب معلوم على كل حال ، فإنه مستفاد من سياق الكلمات ، وهذا شائع في المحاورات ، فالجواب سياقي لا أن يكون لفظيا ، وهذا من أسرار البلاغة ، كما هو واضح ، مع أن الإشكال اللفظي لا

٢٥٥

موضوع له بعد معلومية المراد منه عرفا.

الثاني : أن الألف واللام في لفظ «اليقين» للعهد ، فلا يستفاد منه العموم بل يختص بخصوص مورده الذي هو الوضوء فقط.

ويرد عليه ..

أولا : أن ظهور مدخولها في الجنسية قرينة عرفية على كونها للجنس أو الاستغراق.

وثانيا : على فرض كونها للعهد ، فهو ظاهر في أنه من باب تطبيق القاعدة الكلية على المورد لا الاختصاص به ، فلا وجه لاستفادة الاختصاص أصلا.

الثالث : قد مرّ في مباحث الألفاظ أن المفرد المحلّى باللام يفيد العموم ، كلفظ «اليقين» في المقام ، وحيث أن النهي ورد عليه في قوله : «لا ينقض اليقين» يستفاد منه سلب العموم ، وهو في قوة المهملة ، كما ثبت في محله ، فلا يدل على الكلية. نعم لو كان من عموم السلب يدل على الكلية ، فتكون الأقسام ثلاثة : إحراز عموم السلب ، إحراز سلب العموم ، الشك في أنه من أيهما. وما يستفاد منه العموم هو الأول فقط دون الأخيرين.

وفيه : أن هذا التقسيم إنما يجري في ما إذا لم يعلم أن العام سيق مساق جعل القانون الكلي والقاعدة الكلية الأبدية. وإلا فلا وجه لتوهم احتمال سلب العموم فيه. وقد أحرزنا في المقام بقرائن خارجية أن الجملة وردت لجعل القانون الكلي في جميع الموارد ، ولا فرق في ذلك بين كون ما يستفاد منه العموم معنى اسميا أو حرفيا أو سياقيا ، كما هو واضح.

الثاني : مضمر زرارة الآخر :

«قلت : فإن ظننت أنه أصابه ولم أتيقن فنظرت فيه ولم أر شيئا فصلّيت فرأيت فيه. قال عليه‌السلام : تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت : لم ذلك؟! قال عليه‌السلام : لأنك

٢٥٦

كنت على يقين من طهارتك فشككت ، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا». واشكل عليها :

أولا : بأن المراد باليقين ما حصل بعد الفحص والنظر وعدم رؤية النجاسة ، ولا ريب في سراية الشك إليه وزواله ، فتكون دليلا على اعتبار قاعدة اليقين ـ أي الشك الساري ـ وهو خلاف المشهور.

وفيه : أنه لا قرينة فيها تدل على حصول اليقين بعد الفحص والنظر ، وعلى فرض حصوله لا قرينة على أنه المراد ، بل المتفاهم منها عرفا اليقين بالطهارة قبل ظن الإصابة ، فلا وجه لاستفادة قاعدة اليقين منه ، وعلى فرض الدلالة عليها تدل على اعتبار الاستصحاب بالفحوى.

وثانيا : بأنه مع رؤية النجاسة بعد الصلاة في الثوب يكون من نقض يقين الطهارة السابقة باليقين بالنجاسة لا بالشك ، فكيف يعلّل عدم وجوب الإعادة بأنه نقض لليقين بالشك ، بل الإعادة تكون نقضا لليقين بالطهارة السابقة باليقين بوقوع الصلاة في النجاسة لا بالشك بوقوعها فيها.

وفيه : أن الوجوه المحتملة في رؤية نجاسة الثوب بعد الصلاة خمسة :

الأول : العلم بأنها قد حدثت بعد الصلاة ، ولا ريب في صحة الصلاة وصحة الاستصحاب بالنسبة إلى اليقين والشك قبل الصلاة.

الثاني : قد شك في أثناء الصلاة ولم يعلم بها المصلي إلا بعد الفراغ منها وتصح الصلاة أيضا ، لأنه من صغريات الجهل ويصح الاستصحاب بالنسبة إلى ما قبل الصلاة ، كما مرّ في سابقه.

الثالث : التردد في أنها هي السابقة أو الحادثة بعد الصلاة أو في أثنائها وتصح الصلاة أيضا ، للاستصحاب ولا شيء عليه.

الرابع : العلم بأنها هي النجاسة السابقة مع الغفلة حين الصلاة والاعتماد على إحراز الطهارة بالاستصحاب تصح الصلاة ، لأن الطهارة الخبثية شرط

٢٥٧

إحرازي لا واقعي ، والمفروض أنه أحرز الشرط ، ويصح الاستصحاب أيضا بالنسبة إلى ما قبل الصلاة والعلم بأن النجاسة عين النجاسة لا يضر بصحة الصلاة والاستصحاب لفرض أن الشرط إحرازي لا واقعي.

الخامس : هذه الصورة مع التردد أو الالتفات إلى حالة حين الصلاة ، فإن جرى الاستصحاب قبل الصلاة تصح لإحراز الطهارة الخبثية حينئذ بالأصل وإن لم يجر لأجل عدم اليقين السابق أو التردد فيه لا تصح الصلاة ، لقاعدة الاشتغال.

إن قيل : نعم الطهارة الخبثية شرط إحرازي لا واقعي فليس فيها تبين الخلاف ، ولكن لا بد من إحرازها حين الدخول في الصلاة ، وفي بعض الصور المذكورة لا إحراز في البين.

يقال : المناط إمكان فرض وجود الإحراز بحسب الموازين الفقهية ، توجه إليه المكلف أو لا. ولا ريب في إمكان فرض وجود الإحراز ، كما مرّ.

وأما إدخال المقام في صغريات أن الأمر الظاهري يقتضي الإجزاء عند تبين الخلاف ، وكون قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» دليلا عليه ، وهذا يصح حتى بناء على كون الطهارة شرطا واقعيا ، لأنه تكون لنفس امتثال الأمر الظاهري حينئذ موضوعية خاصة طابق الواقع أو لا. فهو من مجرد الاحتمال الذي لا إشارة إليه في الصحيح بوجه.

الثالث : صحيح زرارة :

«إذا لم يدر في ثلاثة هو أو أربع وقد أحرز الثلاث ، قام فأضاف إليها ركعة اخرى ولا شيء عليه ، ولا ينقض اليقين بالشك ، ولا يدخل الشك في اليقين ، ولا يختلط أحدهما بالآخر».

واشكل عليه بأنه إن كان المراد بإضافة الركعة إتيانها موصولة فهو ينطبق

٢٥٨

على الاستصحاب ، ولكنه خلاف ما استقر عليه المذهب من لزوم إتيانها مفصولة. وإن كان المراد إتيانها مفصولة وكون اليقين عبارة عما جعله الشارع مبرئا للذمة ، فلا ربط له بالاستصحاب ، كما في قول أبي الحسن عليه‌السلام لإسحاق بن عمار : «إذا شككت فابن على اليقين».

وفيه : أن المراد هو اليقين بعدم إتيان الركعة فينطبق على الاستصحاب لا محالة ، ومقتضاه صحة إتيانها موصولة ، ولكن دلّ الدليل من الخارج على لزوم الإتيان بها مفصولة ، وذلك لا يضر بالاستصحاب أبدا.

الرابع : قول أمير المؤمنين عليه‌السلام :

«من كان على يقين فشك فليمض على يقينه ، فإن الشك لا ينقض اليقين».

واورد عليه : بظهور قوله عليه‌السلام في سبق زمان اليقين على الشك واختلافهما زمانا ، فينطبق على قاعدة اليقين دون الاستصحاب.

وفيه : أن ذلك أعم من قاعدة اليقين ، لاختلاف زمان اليقين والشك في الاستصحاب غالبا أيضا.

نعم ، يصح فيه اتحاد زمان حدوثهما أيضا. مع أنه يعتبر في قاعدة اليقين اتحاد متعلّق الشك واليقين ولا إشارة في الحديث إليه أبدا ، فكيف يكون دليلا عليها.

الخامس : المكاتبة :

«كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي شك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب : اليقين لا يدخله الشك ، صم للرؤية وافطر للرؤية» ، بناء على أن

٢٥٩

المراد باليقين اليقين بعدم دخول شهر رمضان إن كان الشك في أوله ، وعدم خروجه إن كان في آخره. وأما إن كان المراد اليقين بتحقق دخوله في مقابل الظن به فلا ربط لها بالمقام. ويشهد لذلك الأخبار الدالة على أن شهر رمضان لا يصام بالظن.

ثم إنه قد يدعى دلالة مثل قوله عليه‌السلام : «كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام» ، و «كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر» على الاستصحاب ، بدعوى : دلالة الحكم باستمرار ما ثبت إلى ظرف الشك.

وفيه : أنه من مجرد الاحتمال الذي لا يصلح للاستدلال ، كما يحتمل دلالته على الحكم الواقعي فقط ، أو هو والاستصحاب ، أو هما والحكم الظاهري ، ولكن الكل من مجرد الاحتمال ، والظاهر منه الأخير ، كما لا يخفى على الخبير.

هذه جملة من الأخبار التي استدل بها على الاستصحاب ، وفي بعضها كفاية لإمضاء السيرة العقلائية فضلا عن تمامها.

ولا بد بعد ذلك من التأمل في أن مورد السيرة عامة لجميع أقسام الاستصحاب أو تختص ببعضها دون بعض. مقتضى الوجدان هو الأول ، فيشمل الشك في المقتضي والرافع والغاية ، وهكذا إطلاق الأخبار شامل للجميع أيضا ، فإذا عمت السيرة ولم يردع عنها رادع شرعي يكفي في عموم اعتبار الاستصحاب ، فكيف بما إذا قررت بإطلاق أخبار الباب ، فلا وجه بعد ذلك لإثبات الاختصاص بخصوص الشك في الرافع استظهارا من مادة النقض الواردة في الأخبار باختصاصها بما احرز فيه المقتضى وشك في الرافع ، وأنها لا تشمل الشك في المقتضى ، لأن النقض يرد على ما فيه الاستحكام في الجملة وهو متحقق مع إحراز المقتضي ، وأما مع الشك فيه فلا استحكام في البين حتى يصح إطلاق النقض عليه.

٢٦٠