تهذيب الأصول - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

تهذيب الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

وثالثة : في حكمها.

أما الاولى فقد يقال : بعدم تصويرها لأن المركب إن كان ملحوظا بشرط عدم الزيادة فمع الإتيان بها لم يأت بالمأمور به أصلا فكيف تتحقق الزيادة ، فترجع حينئذ إلى النقيصة. وإن كان ملحوظا لا بشرط بالنسبة إلى الزيادة وعدمها فلا تضر الزيادة ، فلا تتصور الزيادة حتى يبحث عنها.

وفيه .. أولا : أنه يصح تصويرها بحسب ظواهر الأدلة الشرعية ، الدالة على تعيينها في أجزاء خاصة يكون إتيان غيرها زائدا عليها بمقتضى هذه الأدلة ، ويشهد له ما ورد في سجدة العزيمة من «أنها زيادة في المكتوبة».

وثانيا : تتصور الزيادة بحسب الأنظار العرفية ، لأنه إذا عرضت الأجزاء المعهودة من المركب على العرف والمتشرعة يحكمون بأن كل ما زيد عليها يكون زائدا عرفا.

وثالثا : يصح تصويرها بالدقة العقلية أيضا ، بأن الأجزاء مأخوذة في المركّب على نحو صرف الوجود المنطبق على أول وجوداتها قهرا ، فيسقط أمرها لا محالة ، فيكون المأتي به ثانيا زائدا عليها حينئذ ، لا أن تكون مأخوذة بشرط عدم الزيادة ، أو بنحو لا بشرط حتى لا تتصور الزيادة.

وأما الثانية : فهي إما بقصد الجزئية ، أو بقصد عدمها ، أو تكون بلا قصد بالنسبة إليهما ، والظاهر تحقق الزيادة عرفا في الجميع ، ويشهد له ما ورد في الأخبار الناهية عن قراءة العزيمة في المكتوبة من أن السجود زيادة في المكتوبة ، ولكن مورد بحث الفقهاء قدس سرّهم في الزيادة المبطلة خصوص القسم الأول دون الأعم منه ومن الأخيرين ، كما يظهر من كلماتهم واستدلالهم على البطلان. كما أن الظاهر أن مورد بحث الاصولى أيضا ذلك ، لأنهم يستدلون أيضا بعين ما استدل به الفقهاء ويناقشون فيها ، فراجع وتأمل.

٢٢١

وأما الثالثة : فمقتضى أصالة عدم المانعية عدم البطلان بالزيادة مطلقا ـ عمدية كانت أو غيرها ، كانت بقصد الجزئية أو لا ـ إلا مع الدليل على الخلاف ، ويصح التمسك بالأصل الموضوعي أيضا ، وهو استصحاب تلبّس المكلف بما كان متلبسا به وعدم خروجه عما كان عليه ، فيجب عليه الإتمام ويحرم عليه القطع ، ويصح استصحاب بقاء الصورة الاعتبارية أيضا ، لأن لكل مركب ـ عرفيا كان أو شرعيا ـ وحدة صورية اعتبارية حاصلة من اعتبار المعتبر شارعا كان أو غيره ، فمن مثل قوله عليه‌السلام في الصلاة : «أولها تكبيرة وآخرها تسليمة» مع ملاحظة أدلة الأجزاء والشرائط والموانع والقواطع ، تحصل صورة اعتبارية لها ، وعند الشك في زوالها يستصحب بقاؤها فيجب الإتمام ولا يجب التدارك ، وليس بمثبت ، كما هو واضح.

نعم ، لو اريد من هذا الاستصحاب نفي مانعية الزيادة وعدم قاطعيتها يكون مثبتا إن قلنا بأن ترتب الأحكام الوضعية الشرعية على الاستصحاب لا يكفي ، بل لا بد من ترتب الحكم التكليفي عليه ، ولكنه ممنوع فإنه يكفي فيه ترتب مطلق الأثر الشرعي تكليفيا كان أو وضعيا.

ثم إنه لا وجه لاستصحاب الصحة التأهّلية للأجزاء السابقة للقطع ببقائها ، ولا استصحاب أثر المركّب للقطع بعدم تحققه بعد ، فإنه إنما يتحقق بعد تمامه وإتمامه من كل جهة ، ولا استصحاب الصحة الفعلية مطلقا ، لأنه من الشك في الموضوع مع تحقق الزيادة التي يحتمل البطلان معها. هذا.

ويمكن دعوى : أن المانعية تدور مدار إحراز ثبوت المنع ، ولا أثر لمشكوك المانعية أصلا ، فلا تصل النوبة حينئذ إلى الأصل ، ويمكن استفادة ذلك عن قول الصادق عليه‌السلام : «إن الشيطان ينفخ في دبر الانسان حتى يخيل أنه قد خرج منه ريح ، فلا ينقض الوضوء إلا ريح يسمع صوتها أو يجد ريحها». وإطلاق قوله عليه‌السلام : «لا تعوّدوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة» ، وهذا هو

٢٢٢

المناسب لسهولة الشريعة وسماحتها.

ثم إنه قد استدل على البطلان بالزيادة العمدية ..

تارة : بأنها إن كانت من القراءة والذكر فتكون من الكلام الآدمي المبطل ، وإن كانت من الأفعال فتخل بالموالاة.

وفيه : أن الكلام الآدمي المبطل لا يشمل القراءة والذكر ، والإخلال بالموالاة في مطلق الزيادة العمدية ممنوع ، وعلى فرضه فلا ربط له بالزيادة من حيث هي.

واخرى : بأنها من التشريع المبطل.

وفيه : أنه مبني على سراية القبح الفاعلي إلى الفعل الخارجي ، وهو أول الكلام ، مع أنه مبني على كون الزيادة عن اقتضاء عدم الجزئية. وهو غير معلوم ، إذ من الممكن أن تكون لا اقتضاء بالنسبة إليها في الواقع وإنما لم يؤمر بها تسهيلا. إلا أن يقال : إن العمل حينئذ من مظاهر التجري على المولى فلا يصلح للتقرب إليه تعالى ، ولكنه فاسد لأنه متوقف على ثبوت المبغوضية ، وهو أول الدعوى.

وثالثة : بإطلاق قوله عليه‌السلام : «من زاد في صلاته فعليه الإعادة».

وفيه : أنه مقيد بالركن ، أو الركعة ، لقوله عليه‌السلام : «لا تعاد الصلاة من سجدة وإنما تعاد من ركعة». فلا دليل يصح الاعتماد عليه على البطلان بالزيادة مطلقا ، ولكن البطلان بالعمدية منها من المسلّمات بين الأصحاب ، وادعي عليه الإجماع : والتفصيل يطلب من الكتب الفقهية ، فإن هذه المباحث فقهية لا أن تكون اصولية. وقد تعرضنا لها في كتاب (مهذب الأحكام) فراجع.

٢٢٣

ما يتعلّق بالجزء والشرط :

إذا ثبتت جزئية شيء أو شرطيته ، فهل يكون مقتضى القاعدة ثبوتهما مطلقا حتى يسقط التكليف بالكل والمركب عند تعذرهما ، أو يكون مقتضاها ثبوتهما في الجملة حتى يسقط تكليفهما فقط حينئذ دون التكليف بالكل والمشروط؟ كل محتمل ، ويأتي التفصيل.

قد يقال : إن هذه المسألة من فروع بحث الصحيح والأعم ، فعلى الأول يلغو البحث هنا ، لانتفاء الصحة بتعذر الجزء والشرط ، وعلى الثاني يكون له مجال.

وفيه : أن البحث عن الصحيح والأعم بلحاظ نفس المستعمل فيه مع قطع النظر عن الجهات الأخر ، والمقام بلحاظ الاستظهار من الأدلة ولو كان ذاك البحث بهذا اللحاظ أيضا ، لكان المقام من فروعه ، كما لا يخفى.

وقد يتوهم : اختصاص بحث المقام بما إذا لم يثبت الجزئية والشرطية بمثل «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» ، و «لا صلاة إلا بطهور». فإن هذه الجملة في نفي الحقيقة عند عدم الجزء والشرط مما لا ينكر.

وفيه : أن جميع هذه التراكيب سيقت لبيان الجزئية والشرطية ، فلا فرق من هذه الجهة بينها وبين غيرها.

نعم ، لا يبعد استفادة كثرة الاهتمام بما ذكر فيها من الجزء والشرط وتقديمها على غيرها عند الدوران.

وقد يتوهم أيضا : أن البحث في المقام مبني على ثبوت الأجزاء أو الشرائط بأوامر متعددة دون ما إذا كان بأمر واحد.

وفيه : أنه بعد ما ثبت من انحلال الأمر الواحد المتعلّق بالكل بانحلال القيود المعتبرة فيه وانبساطه على الجميع ، يصير ما كان بأمر واحد مثل ما كان بأوامر متعددة ، فلا فرق من هذه الجهة أيضا.

٢٢٤

أقسام دليل المقيد والقيد :

وهي أربعة : لأنهما إما مطلقان من كل جهة ، أو يكون الأول مهملا والأخير مطلقا ، أو بالعكس ، أو يكونان مهملين من جميع الجهات.

أما الأولان فلا إشكال في سقوط المأمور به بتعذر القيد ، لإطلاق دليله الشامل لصورة التعذر أيضا ، ولا أثر لإطلاق المقيد في القسم الأول ، لأن إطلاق دليل القيد من القرينة المتصلة به ، الكاشفة عن أنه لا تكليف بالمقيد مع تعذر القيد ، فلا وجه لإطلاقه حينئذ. وكذا القسم الأخير ، لعدم تمامية الحجة إلا في صورة وجود القيد.

وأما الثالث ـ وهو إهمال دليل القيد وإطلاق دليل المقيد ـ فلا إشكال في وجوب إتيان البقية بعد تعذر القيد ، لفرض إطلاق دليل المقيد الشامل لصورة التمكن من القيد وعدمه ، هذا بحسب مقام الثبوت.

وأما الإثبات فيستفاد من القرائن الخارجية التي منها الأدلة الثانوية الصورة الثالثة. وقد فصل ذلك في الفقه ، وقد جرت سيرة الفقهاء على التمسك بالإطلاقات عند تعذر القيد ، والتمسك بقاعدة الميسور على ما يأتي التعرض لها.

وأما الاصول العملية فلا أصل في البين إلا استصحاب وجوب الباقي عند تعذر القيد.

وأشكل عليه : بأنه مبني على جريانه في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي أو المسامحة العرفية في المستصحب ، وذلك يختلف باختلاف الموارد.

ويمكن دفع الإشكال بأنه مبني على كون وجوب الأجزاء غيريا ، وأما بناء على أن وجوبها عين وجوب الكل بنحو الانبساط. فيستصحب عين الوجوب

٢٢٥

الشخصي المنبسط على الأجزاء ، وليس ذلك من استصحاب الكلي ، كما لا يخفى.

وأما نفي القيدية وإثبات وجوب البقية بحديث الرفع ، فاشكل عليه بأنه من الامتنانيات التي يرفع به التكليف لا أن يثبت.

وفيه : أن الإثبات إنما يكون بالأدلة الأولية لا بحديث الرفع حتى يلزم الإشكال ، فحديث الرفع يرفع وجوب الإعادة أو القضاء عند ترك الجزء المقدور ، وأما وجوب البقية فبالأدلة الأولية.

واستدل أيضا بقاعدة الميسور ، وهي من القواعد الارتكازية في الجملة ولم يردع عنها الشرع بل قررها في الجملة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» الوارد في جواب السؤال عن الحج وأنه في كل عام أو في العمر مرة. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الميسور لا يسقط بالمعسور» ، وقوله عليه‌السلام : «ما لا يدرك كله لا يترك كله». وقد تسالم الأصحاب ـ قديما وحديثا ـ على نقلها والعمل بها ، وجرت السيرة على الاستدلال بها.

ولكن استشكل عليها .. تارة : بقصور السند.

ويرد : بالانجبار بالعمل والاهتمام بالنقل ، مضافا إلى ما تقدم من كون القاعدة عقلائية في الجملة يكفي فيها عدم الردع.

واخرى : بأن المراد بالشيء في الحديث الأول الكلي لا الكل.

ويرد : بأن الشيء أعم منهما ، كما لا يخفى ، فيشمل الكل وأجزاءه والكلي وأفراده.

وثالثة : بأن كلمة (من) بيانية ولفظ (ما) وقتية ، فيكون المعنى إذا أمرتكم بشيء فأتوا به وقت استطاعتكم ، فيكون من أدلة اعتبار القدرة في المأمور به ، ويكون إرشادا إلى حكم العقل.

وفيه : أن كلمة (من) ظاهرة في التبعيضية ، ولفظ (ما) في الموصولة إلا مع

٢٢٦

القرينة على الخلاف ، ولا قرينة كذلك.

واستشكل على الأخيرين أيضا : بأن المراد بالميسور هو الكلي ، وهو المراد بكلمة (ما) في «ما لا يدرك كله» أيضا.

وفيه : أن الظاهر هو التعميم للكل والكلي ولا وجه للتخصيص بالثاني.

ثم إن للميسور مراتب متفاوتة جدا فلا بد في التمسك بها من صدق الميسور إما بدليل شرعي يدل عليه ـ نصا كان أو إجماعا ـ وإما من صدقه في عرف المتشرعة ، ومع عدم ذلك كله لا وجه للتمسك بها. وأما الأدلة الامتنانية التسهيلية فهي كثيرة وردت في أبواب الخلل ، كقاعدة «لا تعاد الصلاة إلا من خمس» وغيرها.

فائدة :

لو دار الأمر بين كون شيء شرطا في العبادة أو مانعا ، مثل الجهر والإخفات في صلاة يوم الجمعة ، فالظاهر وجوب الاحتياط ، للعلم بأصل التكليف والشك في الفراغ بالاكتفاء بأحدهما.

٢٢٧

شروط الاصول

الاحتياط

لا يعتبر في الاحتياط شيء إلا حسنه ، فما دام يكون حسنا لدى العقلاء يصح ولو مع وجود الحجة المعتبرة على التكليف وجودا أو عدما ، وإذا حكموا بعدم حسنه يصير لغوا ، بل قد يكون قبيحا وحراما ، كما إذا كان مخلا بالنظام أو وصل إلى حدّ العسر والحرج أو الوسواس ، بلا فرق في ذلك كله بين العبادات والمعاملات ، ولا بين التمكن من الامتثال التفصيلي وعدمه ، ولا بين ما كان مستلزما للتكرار وغيره. كل ذلك للأصل وإطلاقات الأدلة وعموماتها من غير ما يصلح للتخصيص والتقييد إلا امور ظاهرة الخدشة.

منها : أن الاحتياط مخالف لاعتبار قصد الوجه والجزم بالنية.

وفيه .. أولا : أنه لا دليل من عقل أو نقل على اعتبارهما في العمل. بل مقتضى الأصل والإطلاقات عدم الاعتبار.

وثانيا : أنه على فرض الاعتبار يكفي قصد الوجه بالتكليف الواقعي الموجود في البين ، بل يصح قصد الوجه في كل واحد من المحتملات طريقا إلى الواقع لا بنحو الموضوعية فيه.

ومنها : أن مراتب الامتثال أربعة لا تصل النوبة إلى كل لا حق مع التمكن من سابقه ، وهي الامتثال العلمي التفصيلي ، والعلمي الاحتمالي ، والظني ، والاحتمالي.

وفيه : أن التقسيم صحيح ، ولكن الحكم بأنه لا تصل النوبة إلى كل لا حق

٢٢٨

مع التمكن من سابقه بلا دليل من نص أو إجماع ، وإن كان منشؤه ما مرّ من اعتبار قصد الوجه والجزم بالنية ، فقد مرّ ما فيه ولا وجه للتكرار.

ومنها : أن الاحتياط المستلزم للتكرار لهو وعبث بأمر المولى مع التمكن من الامتثال التفصيلي.

وفيه : أن اللهو والعبث إما قصدي أو انطباقي ، والأول مفروض الانتفاء ، والثاني أيضا مفروض العدم ، وعلى فرض الصدق ، فهل يكون هذا القسم من اللهو والعبث حراما نفسيا أو غيريا ، أو موجبا لفقد شرط أو جزء في المأمور به ، والأولان منفيان بالأصل ، والثاني مفروض العدم لفرض كون العمل واجدا لجميع الأجزاء والشرائط ، وعلى فرض كون هذا القسم من العبث حراما فهو في كيفية الامتثال لا في أصله حتى يوجب البطلان ، ولذا استقرت آراء المحققين على جواز التقليد مع التمكن من الاجتهاد وبالعكس ، وعلى جواز تركهما والعمل بالاحتياط.

ثم إنه يجزي في الاحتياط الإتيان بالاحتمالات المعتنى بها عند العقلاء والفقهاء ، ولا يجب الإتيان بجميع الاحتمالات ، وإلا فهو من الوسواس أو ينجر إليه.

الفحص في مورد الاصول العملية :

يعتبر الفحص في الأدلة في صحة جريان هذه الاصول الثلاثة ـ البراءة ، والتخيير ، والاستصحاب ـ والبحث فيه ..

تارة : عن وجوب أصل الفحص.

واخرى : عن مقداره.

وثالثة : عن حكم العمل قبل الفحص.

٢٢٩

أما أصل وجوبه فتدل عليه الأدلة الأربعة ..

فمن العقل : قاعدة دفع الضرر المحتمل الجارية في العمل لكل من الاصول اللفظية والعملية قبل الفحص في الأدلة ، فلا موضوع لاعتبارها مطلقا قبل الفحص ، لأن الشك في الاعتبار يكفي في عدمه ـ كما مر سابقا ـ بلا فرق بين الاصول اللفظية والعملية فلا موضوع لاعتبار أصالة الإطلاق والعموم والبراءة ، والتخيير ، والاستصحاب قبل الفحص في الأدلة.

ومن الكتاب : بآية النفر وهي قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ، والسؤال وهي قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

ومن السنة : بالأخبار المستفيضة الدالة على الحض والترغيب إلى طلب العلم والتوبيخ على تركه ، كما لا يخفى على من راجع الكافي والبحار.

ومن الإجماع : إجماع الإمامية بل المسلمين عليه ، بل يصح أن يقال إن موضوع الاصول مطلقا الشك المستقر ، ولا استقرار له قبل الفحص ، فهو خارج عن مورد الاعتبار تخصصا ، ومقتضى إطلاقها عدم الفرق في وجوبه بين الشبهات الحكمية والموضوعية ، إن كان لها المعرضية العرفية للوقوع في خلاف الواقع ، ولم يكن مطلق الجهل عذرا ولو مع التقصير.

واستدل على عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية ..

تارة : بالإجماع.

واخرى : بأن بيانها ليس من عهدة الشارع حتى يتفحص عنها في الأدلة.

ويرد الأول بعدم تحققه لذهاب جمع إلى وجوبه في جملة منها مع عدم دليل عليه بالخصوص.

والثاني بأنه لا يعتبر في الفحص أن يكون في الأدلة مطلقا ، وإنما يختص ذلك بخصوص الاصول الحكمية وأما في غيرها فإنه في كل ما يرتفع بالفحص

٢٣٠

فيه المعرضية العرفية للوقوع في خلاف الواقع.

نعم ، في مسألة الطهارة والنجاسة وغيرها مما علم من مذاق الشرع التسهيل والمسامحة فيها. لا وجه للفحص ، بل قد لا يجوز مع إثارة الوسواس ، ويمكن أن يكون مراد المجمعين ذلك أيضا ، فيرتفع النزاع من البين.

وأما مقدار وجوب الفحص فهو حصول اليأس المتعارف عن الظفر بالدليل في الشبهات الحكمية ، وخروج الشبهة عن المعرضية للوقوع في خلاف الواقع في الشبهات الموضوعية. وأما حكم العمل قبله فسيأتي إن شاء الله تعالى. وأما ما يجب فيه الفحص لأجل الاصول الحكمية فهو الأمارات ، والاصول الموضوعية ، والقواعد المعتبرة.

وينبغي التنبيه على امور :

الأول : تقدم أن وجوب التعلم لقاعدة دفع الضرر المحتمل في تركه ، وهل هو نفسي ، أو مقدمي أو طريقي محض. الحق هو الأخير ، لأن الأول يتوقف على ثبوت الملاك فيه في مقابل الواقع ولا دليل عليه ، بل مقتضى تسالم الكل على أنه طريق إلى الواقع ومطلوب لأجل العمل ، فيكون بطلانه كبطلان الثاني أيضا ، لأنه إما مقدمة الوجود وشرط الصحة ، وهو خلاف ما ثبت من صحة عمل الجاهل مطلقا إن طابق الواقع. أو شرط الوجوب ، وهو خلاف ما تسالموا عليه من اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل مطلقا ، فيتعين الأخير ، وحينئذ فيحمل ما يستفاد منه كونه مقدميا على الطريقية المحضة ، أو كون المقدمية حكمة للإيجاب لا قيدا في الوجوب ، وإنما ذهب إلى النفسية من ذهب لدفع شبهة وردت في المقام ، كما يأتي إن شاء الله تعالى ، فوجوب التعلم نظير وجوب الاحتياط ، فكما لا وجه لاحتمال النفسية والمقدمية فيه ، فكذلك في التعلم أيضا.

٢٣١

الثاني : ملاك وجوب التعلم التحفظ على الواقعيات والاهتمام بها وإمكان الوصول إليها ، وهذا من قبيل اللوازم الذاتية له ، لا يتغير ولا يتبدل بكونه بعد تنجز الواقع أو قبله ، فلو لم يدخل وقت التكليف وعلم المكلف أنه لو ترك التعلم قبل الوقت لفات عنه التكليف بعده ، لحكم العقل والعقلاء بوجوبه قبل الوقت بعين الملاك الذي يحكمون بالوجوب بعده ، وهذا من الوجدانيات لكل من رجع إلى وجدانه وفي مراجعة العرف والوجدان غنى عن إقامة البرهان ، فيندفع الإشكال المعروف الذي استصعبه القوم وأطيل الكلام في دفعه وذهبوا يمينا وشمالا : من أنه لو ترك المكلف التعلّم قبل الوقت ففات عنه التكليف في وقته لا وجه لعقابه ، لأنه إن كان على ترك نفس التكليف يكون من العقاب على غير المقدور ، لأن القدرة على الشيء متفرعة على العلم به وإن كان على ترك التعلم ، فلا وجه للعقاب عليه لأن وجوبه ليس بنفسي ، والعقاب لا بد وأن يكون على ترك الواجب النفسي ، كما مرّ في مباحث الألفاظ.

ويدفع أصل الإشكال بأن العقاب على ترك الواجب النفسي المنتهى بالآخرة إلى الاختيار ـ وهو ترك التعلم ـ ويصدق عليه عرفا أنه ترك الواجب بعمده واختياره فيصح عقابه عليه ، فلا تصل النوبة في دفعه إلى القول بالوجوب النفسي للتعلم ، أو القول بالواجب المعلق.

بدعوى : أن الوجوب للتكليف قبل الوقت فعليّ والواجب استقباليّ ، أو تصحيح ذلك بالشرط المتأخر ، إذ كل ذلك بعيد عن الأذهان العرفية ، وخلاف المشهور مع عدم الدليل عليها وعدم وجود ملزم للقول بها.

الثالث : تدور صحة العلم وبطلانه على المطابقة للوظيفة المقررة له وعدمها ، فكل عمل صدر من كل عامل ـ عالما كان أو جاهلا ، قاصرا كان أو مقصرا ، ملتفتا أو غيره ـ إن طابق الوظيفة المقررة شرعا للعمل صح ، وإلا فلا يصح.

٢٣٢

نعم ، لو كان لنفس العلم من حيث هو دخل في الصحة لاختصت بصورة العلم فقط ، وهو خارج عن محل البحث ، مع أنه نادر بل غير واقع في ما أعلم ، فيصح ما اشتهر من صحة عمل تارك الاحتياط والاجتهاد والتقليد إن طابق الواقع ، ولا معنى لكون التعلم طريقا محضا إلا هذا ، كما هو اوضح من أن يخفى.

الرابع : الصحة وسقوط العقاب متلازمان شرعا وعرفا ، بل وعقلا أيضا ، فكل مورد صح العمل لا وجه للعقاب بالنسبة إليه ، وكل مورد يعاقب على العمل لا وجه لصحته ، وقد خرج عن هذه الكلية الجهر في موضع الإخفات وبالعكس إن كان عن جهل ، والإتمام في موضع القصر كذلك ، فأفتوا فيهما بالصحة للنص ، وحكموا بتحقق الإثم أيضا مع التقصير وعدم وجوب الإعادة أو القضاء ، ولهما نظائر اخرى في الفقه ، كما لا يخفى على التخبير ، فيحصل إشكال ، أنه لا وجه للصحة مع تحقق الإثم لأنهما متنافيان.

وقد اجيب عن الإشكال بوجوه ..

منها : أن ما حكم فيها بالصحة والعقاب من باب تعدد المطلوب ، فقد تعلّق طلب بذات المأمور به وطلب آخر بالخصوصية ، فامتثل أحد الطلبين وفوت الآخر عن تقصير ، فيصح ما امتثله لوجود المقتضي وفقد المانع ، ويعاقب على ترك الآخر المنتهى إلى تقصيره.

وفيه : أنه خلاف ظاهر الأدلة الدالة على أن التكليف واحد مشتمل على أجزاء وشرائط ، فهذا الوجه حسن ثبوتا ، ولا دليل عليه إثباتا ، بل ظاهر الدليل خلافه.

ومنها : أن المأمور به إنما هو الذات ، والقيد واجب نفسي لا أن يكون قيدا لصحة العمل.

وفيه : أنه مثل السابق بلا فرق بينهما إلا في كيفية التعبير.

ومنها : أن المأتي به ليس بمأمور به وإنما هو شيء مسقط للواجب.

٢٣٣

وفيه : أنه خلاف ظواهر الأدلة وكلمات الأجلة.

ومنها : أن المقام من صغريات الترتب.

وفيه : أن مورده ما إذا كان في البين أمران فعليّان من كل جهة مع تمامية الملاك والمصلحة في كل منهما ، والمقام ليس كذلك.

ومنها : أن المأتي به واجد لمقدار من المصلحة لا تبلغ المصلحة التامة ، ولا يمكن درك المصلحة التامة مع الإتيان بما فيه المصلحة الناقصة ، فيصح لوجود المصلحة في الجملة ، ويأثم لتفويت المصلحة التامة التي لا يمكن تداركها. فتأمل.

هذا ، ويمكن المناقشة في أصل ثبوت العصيان إن لم يكن إجماع في البين ، فيرتفع أصل الإشكال ، ويمكن أن يقال إن العقاب إنما هو للتحفظ على عدم التقصير في المستقبل والاهتمام بتكاليفه.

ثم إنه قد ذكر الفاضل التوني قدس‌سره للبراءة شرطين آخرين ..

الأول : أن لا يكون إعمال الأصل موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة اخرى.

فإن كان مراده أن مثبتات أصالة البراءة ليست بمعتبرة ، فلا اختصاص له بالبراءة ، بل مثبتات الاصول مطلقا لا اعتبار لها ، كما يأتي إن شاء الله تعالى ، بل لا اعتبار بمثبتات الأمارات أيضا ما لم يدل على اعتبارها قرينة معتبرة عرفا.

وإن كان مراده بإجراء الأصل في أحد طرفي العلم الإجمالي لا يثبت الحكم المعلوم بالإجمال في الطرف الآخر. فهو أيضا حق ولا اختصاص له بالبراءة ، بل الاستصحاب أيضا كذلك ، مع أنه لا وجه لجريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي ، كما تقدم.

وإن كان مراده أن الأصل لا يثبت موضوع حكم شرعي فلا دليل عليه من عقل أو نقل ، إلّا إذا كان موضوع الحكم الآخر نفي الحكم واقعا وفي اللوح

٢٣٤

المحفوظ ، ولا ريب أن بالأصل لا يثبت ذلك ، ولكنه من مجرد الفرض ، كما لا يخفى إذ الفقه غالبه ، بل كله مبني على الأحكام الظاهرية التي تكون مؤديات الأمارات ومجاري الاصول. وإثبات حكم ظاهري في موضوع بجريان الأصل في موضوع آخر كثير شائع ، كمن بلغ ماله إلى حدّ الاستطاعة ، وشك في أن عليه دينا أو لا ، فبأصالة البراءة عن الدين يجب عليه الحج لوجود المقتضي وفقد المانع فتشمله الأدلة قهرا. وكمن شك أن عليه صوما واجبا أو لا ، فبأصالة البراءة عنه يثبت عدمه ، فيستحب له الصوم المندوب ويصح منه. وكمن كان عنده ماء وشك في حليته وحرمته وبأصالة الإباحة تثبت إباحته فيجب عليه الطهارة المائية دون الترابية ، إلى غير ذلك مما لا يحصى.

الشرط الثاني : ـ مما ذكره الفاضل التوني ـ أن لا يكون في إعمالها الضرر على النفس أو الغير ممن يكون محترما شرعا.

وهذا وإن كان حقا لا ريب فيه ولكن لا اختصاص له بأصالة البراءة ، بل لا مجرى للاصول العملية مع قاعدة من القواعد المعتبرة ، بلا فرق بين قاعدة الضرر وغيرها ، فإنها مقدمة على الأمارات المثبتة للأحكام فضلا عن الاصول العملية.

ثم إنه لا بأس بالإشارة إلى قاعدة : «لا ضرر ولا ضرار» إجمالا ، وفيها جهات من البحث ..

الاولى : أنها من القواعد العقلائية الدائرة بين الناس في جميع الملل والأديان ، إذ السلطنة على النفس والعرض والمال مما اتفقت عليه آراء العقلاء ، والتنقيص في كل واحد منها من المقبّحات لديهم ، ويؤاخذون من تصدى لذلك ويلومونه ويعاقبونه ، وعلى ذلك يدور نظام معاشهم. فهذه القاعدة من صغريات أصالة احترام النفس والعرض والمال التي هي من أهم الاصول النظامية العقلائية ، بل الضرر من الظلم المنفي بالأدلة الأربعة ، فلا وجه لإتعاب النفس في

٢٣٥

سند حديث نفي الضرر والضرار وفي وجه دلالته. هذا بالنسبة إلى الضرر على الغير.

وأما بالنسبة إلى إضرار الشخص على نفسه أو ماله فهو أيضا من القبائح العقلائية لو لم يكن غرض راجح في البين ، وهكذا بالنسبة إلى هتك الإنسان عرض نفسه ، فلا ريب في قبحه أيضا عند جميع العقلاء ، فيكفي في مثل هذه القاعدة العامة البلوى عدم وصول الردع من الشارع وكيف وقد ورد التقرير ، فادعى في الإيضاح في باب الرهن تواتر الأخبار على نفي الضرر ، وادعى صاحب الوسائل كثرة الأخبار الواردة ، وعن بعض محشي رسائل شيخنا الأنصاري ضبط عشرة منها وفيها الموثق وغيره ، مضافا إلى جريان السيرة المعصومين عليهم‌السلام ، وفقهاء الفريقين على التمسك بها ، فلا وجه للبحث من هذه الجهة للقطع بصدور هذه الجملة على اختلاف التعبيرات ، ففي بعضها «لا ضرر ولا ضرار» ، وفي بعضها بزيادة (في الإسلام) ، وفي بعضها بزيادة (على المؤمن). إذ بعد كون القاعدة من العقلائيات المقررة يكون ذكر الإسلام أو على المؤمن من باب المثال وذكر أفضل الأفراد ، وإلا فلا ضرر ولا ضرار بالنسبة إلى أهل الذمة أيضا.

نعم ، من أباح الشارع نفسه وعرضه وماله يكون خارجا عنها قهرا. فما لم تذكر فيه الجملتان أشير فيه إلى كون القاعدة عقلائية ، وما ذكرنا فيه أشير فيه إلى أن الإسلام والمؤمن أولى بأن يعمل فيه هذه القواعد ، لكون الإسلام الذي هو الأتم الأكمل وكون المؤمن أعزّ عند الله من كل شيء ، فلا بد وأن يهتم بعدم الإضرار به اهتماما زائدا على غيره. فليس المقام من دوران الأمر بين أصالة عدم الزيادة وعدم النقيصة حتى يقال بتقديم الاولى على الأخيرة في المحاورات ، لأنه في ما إذا لم يتعلّق غرض بكل واحد من الزيادة والنقيصة ، كما لا يخفى.

ثم إن المتفاهم من استعمالات مادة الضرر في المحاورات النقص ، سواء

٢٣٦

كان ماليا أو نفسيا أو عرضيا ، وتطلق في مقابل النفع وبينهما التضاد عرفا فيمكن ارتفاعهما ، كمن باع متاعه برأس المال مثلا فلا يصدق بالنسبة إليه النفع ولا الضرر. ومن فسّره بعدم النفع ، فإن أراد ما ذكرناه فهو وإلا يكون من التفسير بالأعم.

وأما الضرار فهو إما مصدر باب المفاعلة ، أو اسم مصدر بمعنى الضرر ، وعلى أي تقدير يكون ذكره لأجل التأكيد والاهتمام بنفيه. وأما احتمال أنه فعل الاثنين لما هو الأصل في باب المفاعلة فمردود لعدم مناسبته في مورد الأخبار أولا ، وعدم كون الأصل في المفاعلة من الطرفين ثانيا ، كما في الاستعمالات الصحيحة كقوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ) ، (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ) و (يُراؤُنَ النَّاسَ) و (وَأَنْفِقُوا) ، و (شَاقُّوا) ، و (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) إلى غير ذلك.

نعم ، الظاهر تقوّمها بتكرر صدور الفعل ، سواء كان من فاعل واحد ـ ولا يبعد إرادة ذلك منه في المقام ـ أو من فاعلين ، بخلاف باب التفاعل ، فإنه متقوّم بفاعلين ، ولذا يقال : تضارب زيد وعمرو ، وأما في المفاعلة فإنه يقال : ضارب زيد عمرا ، مع أنه لا ثمرة عملية بين كونه تأكيدا أو تأسيسا ، لأن طبيعي الضرر منفي ، سواء كان من الواحد أو من اثنين.

الثانية : الفرق بين الضرر والحرج مع كونهما قاعدتين معمولتين في جميع الأبواب ، أن الثاني أعم موردا من الأول ، لشموله للمشقة التي لا تتحمل عادة ولو لم يكن نقص فيها نفسا أو مالا أو عرضا.

وبعبارة اخرى : الامور إما دون الطاقة ، أو بقدرها ، أو فوقها. والأول مورد التكليف ، والثاني مورد الحرج ، والأخير مورد الضرر ، وقد ورد في جملة من الأخبار أن التكليف دون الطاقة فراجع.

ثم إن الظاهر كون المراد بالضرر في القاعدة الضرر الشخصي. سواء كان

٢٣٧

ضررا نوعا أيضا أو لا. كما أن الظاهر أن المراد به الواقعي دون الاعتقادي.

نعم ، لو كان اعتقاد الضرر مستلزما لحصول الخوف ، وكان تحقق الخوف موجبا لرفع الحكم شرعا ، يترتب رفع الحكم على الاعتقاد من هذه الجهة ، لأن الخوف أمر وجداني لا واقع له غير وجدانه لا أن يكون اعتقاد الضرر موجبا لرفع الحكم ، كما لا يخفى.

الثالثة : كلمة «لا» المذكورة في الحديث : «لا ضرار ولا ضرر في الإسلام» تامة وليست ناقصة ، لأصالة عدم الاحتياج إلى الخبر ، وهي لنفي الحقيقة ، لأنه المنساق من موارد استعمالاتها ، فتكون الجملة حينئذ إخبارا عن عدم تحقق الضرر ونفي حقيقته خارجا في الإسلام ، وهو كذب والشارع منزه عنه ، ولهم في دفع الإشكال أقوال :

الأول : الحذف والإضمار ، أي لا ضرر غير متدارك في الإسلام.

وفيه : أنه خلاف الأصل والظاهر ، مع أنه إن كان في مقام الإخبار فيعود المحذور ، وإن كان إنشاء لإيجاب التدارك فهو يحتاج إلى قرينة ، وهي مفقودة.

الثاني : أن النفي بمعنى النهي ، أي : يحرم الإضرار على النفس وعلى الغير في الإسلام ، كما في «لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج» ، و «لا رضاع بعد فطام» ، و «لا رباء في الإسلام» إلى غير ذلك مما هو كثير.

وفيه : أنه احتمال حسن ثبوتا ، ولكن لا دليل عليه إثباتا بعد إمكان دفع الإشكال بغيره.

الثالث : ما عن صاحب الكفاية من أن النفي حقيقي بالنسبة إلى الحكم ، وادعائي بالنسبة إلى الموضوع ، فيكون المعنى أن الموضوع الضرري لا حكم له. ويصير من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.

وبعبارة اخرى : يكون النفي بالنسبة إلى الحكم من الوصف بحال الذات ، وبالنسبة إلى الموضوع من الوصف بحال المتعلّق.

٢٣٨

وفيه : أنه خلاف الظاهر جدا ، لا يصار إليه إلا مع القرينة ، مع أنه تعقيد وخلاصته يرجع إلى التقدير والإضمار.

الرابع : ما عن شيخنا الأنصاري قدس‌سره وتبعه جمع من مشايخنا من نفي تشريع ما يوجب الضرر مطلقا ـ موضوعا كان أو حكما ، وضعيا كان أو تكليفيا ـ فيكون إخبارا عن نفيه في مقام التشريع لا في الخارج حتى يلزم الكذب ، كما في حديث الرفع حيث تقدم أن الرفع في مقام التشريع لا ينافي الوجود التكويني. ولا ريب أنه لا تشريع ، للضرر في الشريعة المقدسة الإسلامية مطلقا ، بل عند العقلاء ولو لا أن صاحب الكفاية صرح بتضعيف قول شيخه الأنصاري وظهور الثمرة بين القولين ، لأمكننا إرجاع قوله إلى قول شيخنا الأنصاري ، ولكنه أنتج على ما اختاره في المقدمة الرابعة بين القولين من الانسداد ، عدم حكومة دليل نفي الضرر والحرج على الاحتياط إن كان ضرريا أو حرجيا ، فإن لباب ما اختاره يرجع إلى أن الموضوع الضرري لا حكم له ، والأحكام الواقعية المجهولة لا ضرر في موضوعها أبدا ، وإنما الضرر يحصل من الجمع بين المحتملات في الامتثال ، فلا مورد لقاعدة الضرر بناء على مختاره حتى تجري ويرتفع بها الاحتياط ، بخلاف مختار الشيخ رحمه‌الله فإن لبابه يرجع إلى أنه لا تشريع لمنشا الضرر أبدا ، والاحتياط التام منشأ للضرر في الشريعة فيرتفع بالقاعدة ، والحق أن مختار الشيخ رحمه‌الله أحق أن يتبع ، كما عرفت.

الرابعة : لا ريب في أنها من القواعد العامة التي استقرت سيرة الفريقين على التمسك بها في مقابل العمومات المثبتة للأحكام بلا كلام. وقد اشكل على عمومها بكثرة ورود التخصيصات عليها من الأحكام الضررية المجعولة شرعا ، بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي فلا يصح التمسك بعمومها حينئذ ، مع أن القول بعمومها ابتداء من ورود هذه التخصيصات يكون من التخصيص المستهجن ، وهو قبيح في المحاورات العرفية.

٢٣٩

ويرد .. أولا : بأن أكثرية الخارج من مجرد الدعوى ، فإن الأحكام الضررية المجعولة بالنسبة إلى الأضرار التي يردها الناس بعضهم على بعض يكون بنسبة العشرة إلى المائة بل أقل.

وثانيا : ما يتوهم الضرر فيه الصدقات الواجبة ، والحج ، والجهاد ، والحدود ، والديات. والاولى ما يحتفظ به المال أو النفس أو كفارة لما فعل ، ولا يسمى ذلك ضررا عرفا ، وكذا الحدود والديات جزاء لما كان ارتكبه ، والحج نظير سائر الأسفار المتعارفة ، فمن سافر إلى بلد لغرض صحيح وانفق مالا في سفره ، لا يقال عرفا إنه تضرر. وأما الجهاد في سبيل الله فإنه من أجلّ المفاخر البشرية ، لا يرضى العاقل بأن يطلق على الشهيد بأنه تضرر ببذل مهجته في سبيل الله. ولا نتوقع مثل هذه الإشكالات مع الأنس بمذاق الشريعة ، وهل يكون من الإنصاف أن تعدّ القوانين الإلهية المتقنة ، التي وضعت لتكميل البشر شخصا ونوعا ، دنيا وآخرة ضررا؟!!

ثم إنه على فرض صدق الضرر عليها يكون المراد بالضرر المنفي ما لم يكن أصل جعله وتشريعه ضرريا لمصالح كثيرة دنيوية واخروية ، بل حصل الضرر بعد الجعل والتشريع لجهات خارجية ، فيكون خروجها حينئذ تخصصا لا تخصيصا حتى يلزم تخصيص الأكثر ، وعلى فرض أن يكون تخصيصا فليس ذلك من التخصيص الأكثر ، لأن المخصص عنوان واحد وهو التكاليف الضررية ، فيصير المحصل أنه «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام إلا التكاليف الضررية لمصالح تغلب على ضرريتها بمراتب كثيرة» ، كما عن شيخنا الأنصاري قدس‌سره.

وأشكل عليه صاحب الكفاية : بأن النوع الواحد طريق إلى الأفراد الخارجية ، فإذا كانت الأفراد الخارجة عن تحت العام أكثر مما بقي تحته يكون مستهجنا ، سواء كان ذلك بنوع واحد أو بإخراج نفس الأفراد متعددا.

٢٤٠