تهذيب الأصول - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

تهذيب الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

وعلى الثاني لا وجه له أيضا ، لأن المضادة والمعارضة والمنافاة إنما تحصل لأجل وجود ما فيه الاقتضاء ، وإلا فتكون الأطراف كالشبهات البدوية ، فتجري الاصول مطلقا بلا مانع عنها في البين.

الثالث : ما عن شيخنا الأنصاري قدس‌سره ، فإنه جعل المانع عن جريانها.

تارة : ثبوتيا من لزوم المخالفة العملية بلا فرق بين الاصول مطلقا حتى الاستصحاب.

واخرى : إثباتيا في خصوص الاستصحاب من مناقضة صدر دليله مع ذيله ، فإن قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» ، وقوله عليه‌السلام في بعض الأخبار : «ولكن تنقضه بيقين آخر» متناقضان ، لأن مقتضى الصدر صحة استصحاب الطهارة في كل واحد من الإناءين اللذين علم بنجاسة أحدهما إجمالا ، فيجوز الارتكاب ، ومقتضى الذيل وجوب نقض اليقين بالطهارة باليقين بالنجاسة فيجب الاجتناب ، وليس هذا إلا التناقض والتنافي في الدليل والعلم بكذب أحد الاستصحابين ، فلا يجري الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي لذلك.

واشكل عليه .. تارة : بأنه ليس تمام أدلة الاستصحاب مذيلا بهذا الذيل.

وفيه : أن هذا الذيل فطري ارتكازي فذكره في بعضها يغني عن تمامها ، فالمطلقات منزلة عليه بقرينة الفطرة والارتكاز ، بل ليس هذا إلا التنافي الثبوتي الذي يسري إلى مقام الإثبات أيضا.

واخرى : بأنه يظهر منه قدس‌سره في مسألة ما إذا توضأ بمائع مردد بين الماء والبول ، صحة استصحاب طهارة الأعضاء وبقاء الحدث مع العلم ببطلان أحدهما ، ولا فرق بينها وبين المقام.

وفيه : أنه لا ربط لها بالمقام ، لأنه في الوضوء من إناء واحد من الإناءين الذين علم ببولية أحدهما إذا توضأ بأحدهما فقط ، لا علم فيه بنقض الحالة السابقة حتى يلزم التناقض من إجراء الأصلين ، والظاهر أنه قدس‌سره لا يقول به. وأما

٢٠١

العلم ببطلان أحد الأصلين في الوضوء من الإناء الواحد المردد بين الماء والبول ، فهو مبني على عدم صحة التفكيك في لوازم الأحكام الظاهرية من كل حيثية وجهة ، وإثباته مشكل ، إذ يمكن أن يقال ببقاء الحدث للأصل ، وبقاء طهارة البدن للأصل أيضا.

وثالثة : بأن التناقض يلزم إن كان متعلّق اليقينين واحدا من كل جهة ، وفي مورد العلم الإجمالي ليس كذلك ، لأن العلم التفصيلي متعلّق بكل واحد من الأطراف ، والإجمالي تعلق بواحد لا بعينه ، فيختلف المتعلّق ويرتفع التناقض.

وفيه : أنه ليس المراد بالتناقض في المقام التناقض المنطقي ، بل التناقض العرفي الأعم من مطلق المنافرة والتضاد ، كما مرّ في بحث التعارض ، ولا إشكال في تحققه.

ورابعة : بأن قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» له أثر فيصح تعلق الجعل به ، وهو ترتب آثار المتيقن على المشكوك فيه شرعا. وأما قوله «ولكن تنقضه بيقين آخر» فلا أثر له ، لأن نقض اليقين باليقين وجداني ، واليقين مما لا يناله الجعل ، كما مرّ.

وفيه : أنه أيضا بلحاظ الحكم المترتب على اليقين وهو مجعول ، ويكفي هذا المقدار في صحة تعلّق الجعل.

فتلّخص مما تقدم صحة جعل المانع في عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي إثباتيا أيضا ، ولا محذور فيه. وليس كلام الشيخ قدس‌سره عند ذكره المانع الثبوتي في مقام الحصر حتى ينافي كلامه الآخر.

وقد يستدل على تنجز العلم الإجمالي بالاستصحاب.

وفيه : أنه إن اريد به الاستصحاب في طرف خاص وفرد مخصوص ، فليس له حالة سابقة. وإن اريد به إثبات المقدّمية لكل طرف بالنسبة إلى العلم الإجمالي ، فهو معلوم لا نحتاج في إثباته إليه ويكون من تحصيل الحاصل. وإن

٢٠٢

اريد به استصحاب الكلي لإثبات المقدّمية فهو تحصيل الحاصل أيضا. وأن اريد به إثبات الوجوب في طرف معين فهو مثبت. وإن اريد به استصحاب الفرد المردد فلا تحقق له لا خارجا ولا ذهنا ، فلا وجه لهذا الاستدلال بجميع شقوقه ، وتنجز العلم الإجمالي أظهر من الاستدلال بمثل هذه الاستدلالات ، فهو كالعلم التفصيلي في وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة كذلك إلّا في موارد خاصة تأتي الإشارة إليها.

موارد عدم وجوب الموافقة القطعية :

الأول : ما إذا دلّ دليل مخصوص على أن الشارع اكتفى بالامتثال الاحتمالي وأسقط وجوب الاحتياط ، ويدور ذلك مدار ورود الدليل ، كما في موارد قاعدة الفراغ والتجاوز ، وقاعدة «الوقت حائل». أو اكتفى بالامتثال التنزيلي ، كموارد حديث «لا تعاد الصلاة إلا من خمس» ، وقاعدة اعتبار الظن في الركعات ، وقاعدة أنه «لا شك لكثير الشك» إلى غير ذلك مما هو كثير. ويمكن تصوير ذلك في مورد العلم الإجمالي ، كما إذا علم إجمالا بأنه إما شك في الفاتحة بعد دخوله في السورة أو سها عن ذكر الركوع بعد رفع الرأس منه ، فتصح صلاته ، بل لو أحرز كل منهما في محله تفصيلا تصح صلاته ولا شيء عليه.

الثاني : ما إذا كان في بعض الأطراف تكليف فعلي ثابت بأمارة معتبرة ، أو أصل كذلك ، سواء كان من سنخ التكليف المعلوم بالإجمال أو من غيره ، فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض ويسقط العلم الإجمالي عن التنجز ، فلا تجب الموافقة القطعية حينئذ.

الثالث : ما إذا لم يصلح العلم الإجمالي للداعوية ، كما في دوران الأمر بين المحذورين على تفصيل تقدم في محله.

٢٠٣

الرابع : خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء ، لأن اعتبار القدرة في التكليف مما لا ريب فيه. وهي إما دقّية عقلية ، أو شرعية خاصة ، أو عادية عرفية.

والاولى ليست مناطا للتكاليف الشرعية ، لأنه يستلزم العسر والحرج والمشقة من كل جهة والأحكام الشرعية مبنية على التسهيلات النوعية ، وعدم لزوم العسر والحرج.

والثانية تحتاج إلى دليل خاص يدل على اعتبارها ـ وقد ورد في موارد خاصة ـ فيتبع لا محالة ، فيكون المناط في مطلق التكاليف القسم الأخير إلا إذا دلّ دليل على الخلاف. وهي متقوّمة بالابتلاء بالمكلف به عند العقلاء فيكون دليل اعتبار الابتلاء في التكليف عين دليل اعتبار القدرة فيه ، ودليل سقوطه عما خرج عن مورد الابتلاء عين دليل عدم صحة التكليف بغير المقدور ، مع أن التكليف المطلق لا بد وأن يصلح للداعوية المطلقة ، وما هو خارج عن مورد الابتلاء لا يكون كذلك ، بل يكون التكليف في حاق الواقع معلّقا على الابتلاء فيلزم من ذلك الخلف.

ثم إنه إن احرز الابتلاء أو عدمه ولو بالأصل فهو ، وإلا فهل يجب الاحتياط ، أو تجري البراءة؟ قولان : وجه الأول التمسك بعموم الخطاب وإطلاقه ، لكونه شكا في أصل التخصيص والتقييد ، وأن المستفاد من الأدلة الواردة في الأبواب المتفرقة والمتعارف في التكاليف العرفية ، توقّف سقوط التكليف على إحراز العجز وعدم كفاية الشك في القدرة في ذلك ، فيكون المقام نظير الرجوع إلى البراءة في الشبهات البدوية قبل الفحص الذي لا يجوز اتفاقا.

وفيه : أن التمسك بها في المقام تمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، لأن عمومات التكاليف وإطلاقاتها تخصصت بدليل اعتبار القدرة ، والمشكوك مردد بين دخوله في العمومات أو في دليل المخصص ، فلا يصح التمسك بكل منهما بالنسبة إليه.

٢٠٤

مع أنه إنما يصح التمسك بالإطلاق بعد الفراغ عن صحة الإطلاق بدون القيد لا في ما شك في اعتباره في صحته ـ كما في المقام ـ إذ لم يحرز فيه صحة الإطلاق الواقعي حتى يصح التمسك بالإطلاق اللفظي ، فيكون من الشك في أصل التشريع. ولا وجه للتمسك في مثله بالإطلاق اللفظي لتفرّعه على صحة الإطلاق الواقعي ، ومع عدم صحة التمسك بالإطلاقات يتعين الرجوع إلى البراءة إلّا أنه مما يهوّن الخطيب أن المتفاهم بحسب العرف من احرز عجزه ، فتكون كالقرينة المحفوفة بالكلام فالقول بالاحتياط أولى.

ثم إنه لو كان شيء مورد الابتلاء من جهة وخارجا عنه من اخرى ، كما إذا كان الشخص صائما وكان عنده إناءان ، أحدهما المعين مضاف والآخر مطلق طاهر ، ووقعت قطرة من البول في أحدهما ، ولم يعلم أنها وقعت في أيهما ، فهل العلم الإجمالي منجز من حيث أنه صائم يحرم عليه الشرب أو لا تنجز فيه ، إذ لا يحدث العلم الإجمالي تكليفا جديدا بالنسبة إلى حرمة الشرب إليه ، فهل يجوز الوضوء بالمطلق لعدم جوازه بالمضاف قطعا قبل حدوث العلم الإجمالي بالنسبة إلى الوضوء تكليفا حادثا على كل تقدير؟ وجهان.

الخامس : الاضطرار وهو إما إلى تمام الأطراف أو إلى بعضها.

والأول يوجب سقوط العلم التفصيلي عن التنجز ، فكيف بالعلم الإجمالي نصا وإجماعا ، إذ «ما من شيء حرّمه الله تعالى إلا وقد أحلّه لمن أضطر إليه».

والثاني إما إلى المعين ، أو إلى غيره ، وكل منهما إما يكون قبل تنجز العلم أو بعده.

وقال صاحب الكفاية بعدم تنجز العلم في جميع الصور الأربع ، لأن من شرط تنجزه عدم الاضطرار إلى الارتكاب ، وبفقد الشرط ينعدم المشروط ، غير أنه قيل إنه عدل عن هذا الإطلاق.

٢٠٥

إن قلت : هذا صحيح في ما إذا حصل الاضطرار قبل التنجز ، وأما إذا حصل بعده فقد أثّر العلم الإجمالي أثره ، فيستصحب التنجز في غير المضطر إليه.

قلت : التنجز في أطراف العلم الإجمالي إنما هو لأجل المقدمية لا النفسية المستقلة ، ومع سقوط التنجز عن بعض الأطراف للاضطرار تسقط المقدّمية لا محالة فيصير استصحاب التنجز بلا ملاك.

ويرد عليه : أن ملاك التنجز في الأطراف إنما هو لزوم تحصيل العلم بالامتثال ، وهذا متحقق في المقام ، لأنه لو ترك الطرف غير المضطر إليه يعلم بعدم ارتكاب الحرام في المعين ، إما لأجل الاضطرار إن كان في الطرف المضطر إليه ، وإما لأنه تركه واقعا إن كان في غيره.

إن قلت : هذا إذا كان الاضطرار إلى المعين ، وأما إذا كان إلى غير المعين فالترخيص المطلق ينافي استصحاب التنجز.

قلت : الترخيص فيه جهتيّ لا من كل جهة ، فله أن يرفع اضطراره بكل واحد منهما ، وليس له الترخيص في ارتكاب كليهما فيستصحب أصل التنجز في الجملة فيه أيضا.

فالحق أنه إن حصل الاضطرار بعد تنجز العلم يبقى الطرف الآخر على تنجزه ، سواء كان إلى المعين أو إلى غيره.

وعن بعض مشايخنا أن في الاضطرار إلى غير المعين يجب الاجتناب عن غير ما يدفع به الاضطرار مطلقا ، سواء كان قبل العلم الإجمالي أو بعده أو مقارنا له. وخلاصة ما أفاده في وجه ذلك أن الاضطرار إلى غير المعين لا ينافي إلزام الشارع ثبوتا بالاجتناب عن الحرام ، بأن يكلف المكلف بالاجتناب عما يختاره لو كان الحرام فيه ، ويلزمه برفع الاضطرار بغيره بخلاف الاضطرار إلى المعين ، فإنه لو كان الحرام فيه ليس للشارع إلزامه برفع اضطراره بغيره ، إذ

٢٠٦

المفروض أنه مضطر إلى خصوص المعين فقط ولا يمكنه رفع الاضطرار بغيره.

وفيه : أنه تصور حسن ثبوتا ، ولكن لا دليل على تحقق الالتزام إثباتا بعد جريان الأصل بلا معارض.

السادس : فقدان بعض الأطراف السادس : الظاهر أن حكم فقدان بعض الأطراف حكم الاضطرار في ما تقدّم من التفصيل ، لأن تنجز التكليف مطلقا مشروط بالقدرة على متعلّقه والفقدان يوجب فوت القدرة ، ولكن لو تنجز العلم ثم عرض الفقدان يستصحب بنحو ما مرّ.

السابع : الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة ، رأي المشهور فيه المناقشة فيه السابع : المشهور عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة ، لأصالة الطهارة فيه بلا معارض بلا دليل حاكم عليها. لأنه إن كان دليل خاص دلّ على الاجتناب عن الملاقي فهو مفقود ولم يدّعه أحد. وإن كان لأجل سراية النجس إليه ، فهو ممنوع إذ لا سراية إلا من النجس الواقعي. أو المتنجس كذلك لا مما حكم بالاجتناب عنه مقدمة لتحقق الاجتناب عن شيء والاجتناب عن ملاقيه ، فلا دليل عليها من عقل أو شرع أو عرف. وإن كان لأجل صيرورة الملاقي (بالكسر) طرفا للعلم الإجمالي كالملاقى (بالفتح) ، فهو من مجرد الدعوى يحتاج إثباتها إلى الدليل ، والأنظار العرفية لا تساعدها ، لأنهم يرون الفرق البيّن بين الملاقى (بالفتح) وملاقيه في الطرفية للعلم الإجمالي ، وإن الملاقي ليس كما إذا جعل أحد طرفي العلم الإجمالي في إناءين ـ مثلا ـ فإنهم يرون أن العلم الإجمالي حينئذ صار بين ثلاثة أطراف ، بخلاف ما إذ لاقى شيء طاهر بأحد أطرافه فلا يتغير أطرافه حينئذ كما كانت عليه ، وحيث لا يوجد الدليل على وجوب الاجتناب فتجري أصالة الطهارة لا محالة ، وقد وافق المحقق الأنصاري قدس‌سره المشهور إلا في صورة واحدة ، وهي ما إذا حصلت الملاقاة قبل العلم الإجمالي بالنجاسة وفقد الملاقى (بالفتح) ، ثم حصل العلم الإجمالي بنجاسة المفقود أو شيء آخر : فقال قدس‌سره بوجوب الاجتناب عن الملاقي

٢٠٧

(بالكسر) حينئذ ، لعدم جريان الأصل في ما فقد ، لكونه بلا موضوع فيجري في الملاقي والشيء الآخر ويسقط بالمعارضة فيؤثّر العلم الإجمالي أثره.

وفيه : أن جريان الأصل لا يدور مدار وجود الموضوع وعدمه ، بل يدور مدار ترتب الأثر الشرعي عليه ، فمعه يجري وإن فقد الموضوع ، ومع عدمه لا يجري وإن كان موجودا ، والأثر الشرعي في المقام طهارة الملاقي فتجري أصالة الطهارة في المفقود ويترتب عليه طهارة ملاقيه ، كما تجري في الطرف الآخر فتسقط بالمعارضة فيؤثّر العلم الإجمالي أثره ثم يجري أصالة الطهارة في الملاقي (بالكسر) بلا معارض.

إن قلت : إن هذا الأثر وجوده كعدمه ، إذ لا نحتاج إليه مع جريان أصالة الطهارة في نفس الملاقي ، فيكون إثبات الطهارة بواسطة الأصل الجاري في الملاقى (بالفتح) من التطويل بلا طائل.

قلت : المناط في جريان الأصل مطلق الأثر الشرعي أعم من كونه مؤكدا أو مؤسسا ، والمقام من الأول دون الثاني.

وذهب صاحب الكفاية إلى تثليث الأقسام ، فقال ..

تارة : بوجوب الاجتناب عن الملاقي والملاقى (بالفتح) والطرف في ما إذا حصل العلم الإجمالي والعلم بالملاقاة دفعة واحدة ، لصيرورة الجميع حينئذ طرفا للعلم الإجمالي فيؤثر أثره.

وفيه : أن المناط في تعارض الاصول وتساقطها وتنجز العلم الإجمالي بعد ذلك ، هو المعية الرتيبة وعدم الاختلاف فيها ، لا مجرد المعية الزمانية وإن اختلفت في الرتبة ، ولا ريب في أن الأصل الجاري في الملاقي (بالكسر) في رتبة متأخرة عن الأصل الجاري في الملاقى (بالفتح) ، لأن نجاسة الملاقي على فرض ثبوتها مستندة إلى الملاقاة فقط ومعلولة لوجوب الاجتناب عن الملاقى (بالفتح) ، لا لأجل كونه طرفا للعلم بالذات فمع سقوط الأصل في الملاقي

٢٠٨

وطرفه بالمعارضة تجري أصالة الطهارة في الملاقي بلا مزاحمة لاختلاف الرتبة.

واخرى : قال : بوجوب الاجتناب عن الملاقى (بالفتح) دون الملاقي (بالكسر) ، كما هو المشهور في ما إذا حصل العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى (بالفتح) والطرف ثم حصل بالملاقاة ، وقد مرّ وجهه.

وثالثة : بوجوب الاجتناب عن الملاقي (بالكسر) دون الملاقى (بالفتح) ، وذكر لذلك موردين :

أحدهما : ما إذا علم بالملاقاة ثم حدث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي (بالفتح) أو الطرف ، ولكن حال حدوث العلم الإجمالي كان الملاقي (بالكسر) مورد الابتلاء. والملاقى (بالفتح) خارجا عنه ثم عاد إلى مورد الابتلاء.

وفيه : أن المناط في تنجز العلم الإجمالي وتأثيره أثره ، هو كون شيء طرفا له بالذات لتسقط الاصول في رتبة واحدة بالمعارضة ، والملاقي (بالكسر) ـ على أي نحو فرض ـ يكون طرفا بالعرض لا بالذات ، وكل ذلك مغالطة واضحة ، مع أنه لا فرق بينه وبين ما تقدّم عن الشيخ الأنصاري قدس‌سره.

ثانيهما : ما إذا علم أولا بنجاسة الملاقي (بالكسر) أو الطرف بلا توجه إلى سبب نجاسة الملاقي ثم حدث العلم الإجمالي بالملاقاة ، والعلم الإجمالي بنجاسة الملاقى (بالفتح) أو الطرف ، مع اليقين بأنه ليس لنجاسة الملاقي (بالكسر) على فرض الثبوت سبب غير الملاقاة فقط ، وحيث حصل أولا علم إجمالي بنجاسة الملاقي (بالكسر) أو الطرف ، وأثّر أثره ثم حصل العلم الإجمالي الآخر ، وقد ثبت أن العلم الإجمالي العارض على علم إجمالي منجز ، لا أثر له إلا إذا كان أثره من غير سنخ الأول وليس المقام كذلك ، فيجب الاجتناب عن الملاقي (بالكسر) دون الملاقى.

وفيه : أنه بعد تسليم أن سبب نجاسة الملاقي (بالكسر) منحصر بالملاقاة

٢٠٩

فقط ولا سبب لها غير ذلك ، يكون العلم الإجمالي الأول لغوا وغير مؤثر ، وينحصر الأثر في العلم الإجمالي الثاني فقط ، فيسقط الأصل في الملاقى (بالفتح) والطرف بالمعارضة ، ويجري الأصل في الملاقي بلا مزاحمة. هذا كله ما إذا لم يحمل الملاقي عن الملاقى (بالفتح) شيئا وكان من مجرد الملاقاة فقط ، وإلا فالظاهر وجوب الاجتناب عنه أيضا خصوصا إن كان المحمول من الملاقى (بالفتح) معتدا به.

الثامن : عدم الفرق في تنجز العلم الإجمالي بين كون أفراده دفعية أو تدريجية الثامن : لا فرق في تنجز العلم الإجمالي بين كون أفراده دفعية عرضية ، أو تدريجية طولية. كما لا فرق في الثانية بين كون الزمان ظرفا للتكليف ، كما إذا علم المكلف بأن بعض معاملاته في الأسبوع أو الشهر تكون ربوية. أو قيدا له ، كما إذا علمت المرأة بأن حيضها ثلاثة أيام في جملة العشرة مثلا ، والوجه في ذلك كله فعلية التكليف في التدريجيات ، كفعليته في الدفعيات ، بلا فرق بينهما فتسقط الاصول في الأطراف بالمعارضة ويؤثر العلم بالتكليف أثره.

إن قلت : لا وجه لتعارضها ، لأن من شرط التعارض وحدة الزمان ، فإذا انتفى موضوع التعارض لا وجه لتأثير العلم الإجمالي ، مع أن في التدريجيات تكون الأفراد المتدرجة التي توجد بعد ذلك خارجة عن مورد الابتلاء فعلا ، فلا يكون العلم منجزا من هذه الجهة أيضا.

قلت : التعارض في اصطلاح الاصولي أعم من التناقض المنطقي ، فلا يعتبر فيه وحدة الزمان ، ولا إشكال في صدق كون الأفراد التدريجية مورد الابتلاء عرفا ، كصدقه في الدفعيات أيضا.

إن قلت : كيف يثبت التكليف مع أن التمسك بعموم دليله يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، لفرض تردد موضوعه بين أيام وأوقات وآنات.

قلت : نعم ولكن العلم بأصل وجوده في الجملة يكفي في قبح تفويته

٢١٠

عقلا ولا يلزم إثباته في وقت مخصوص ، حتى يكون ذلك من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، فأصل الخطاب بالتكليف في الجملة متحقق وقبح تفويته عقلا ثابت ، فيكون العلم الإجمالي منجزا لا محالة ، بلا فرق بين ما كان الزمان ظرفا أو قيدا ، فما يظهر من الشيخ قدس‌سره من صحة الرجوع إلى البراءة في الثاني مخدوش. هذا كله إذا صلح العلم الإجمالي للداعوية ، وأما إذا لم يكن كذلك ، كما إذا علم الكاسب أنه مبتلى بمعاملة ربوية في سنة أو ستة أشهر ـ مثلا ـ وكانت معاملاته كثيرة ، فالظاهر كونها من الشبهة غير المحصورة لا يتنجز العلم الإجمالي منه في ما إذا كان الأفراد دفعية عرضية ، فضلا عما إذا كانت تدريجية طولية :

التاسع : لو اعتقد تنجز العلم الإجمالي في الأطراف الدفعية أو التدريجية التاسع : لو اعتقد تنجز العلم الإجمالي في الأطراف الدفعية أو التدريجية ومع ذلك ارتكب بعضها ، فبان عدم تنجزه لفقد شرط من شروطه ، فهو من صغريات التجري.

العاشر : لا فرق في جميع ما تقدم بعد العلم بأصل التكليف بين أقسام الشبهة من الموضوعية التحريمية ، وقد تقدمت. أو المفهومية كذلك ، كما إذا تردد مفهوم الغناء بين مطلق الترجيع أو ما كان مع الطرب ، ففي مورد الافتراق وجب الاحتياط ، ويأتي ما يتعلّق بذلك أيضا. أو الموضوعية الوجوبية ، كتردد الواجب يوم الجمعة بين الظهر والجمعة. أو المفهومية كذلك ، كتردد الصلاة الوسطى من حيث المفهوم بين الظهر والعصر والصبح ، وسواء كان منشأ الشبهة فقد النص ، أو إجماله بعد العلم بأصل التكليف في الجملة. وأما حكم تعارض النصين ، فقد تقدّم في بحث التعارض ، فراجع.

٢١١

الشبهة غير المحصورة :

لا ريب في تقوّمها بالكثرة في الجملة ، لأن غير المحصورة من المفاهيم العرفية لا بد من مراجعة العرف فيها ، كما في سائر المفاهيم العرفية ، وليس من الموضوعات التعبّدية ، ولا المستنبطة حتى نحتاج إلى نظر الفقيه ، فليس منها مطلق ما خرج بعض أطرافها عن مورد الابتلاء ، أو سقط العلم فيه عن التنجز لجهة اخرى ، لأن ذلك يوجب سقوط العلم عن التنجز في المحصورة فضلا عن غيرها ، بلا فرق بينهما من هذه الجهة ، وإنما الفرق بينهما من جهة اخرى تأتي الإشارة إليها.

إنما الكلام في حدّ الكثرة التي تكون موجبا لعدّ الشبهة غير محصورة ، والحق عدم صحة تحديدها بحدّ خاص ، لاختلاف ذلك بحسب الموارد اختلافا واضحا ، فرب كثرة في مورد تكون بها الشبهة غير محصورة مع كون تلك الكثرة بعينها في مورد آخر محصورة. فالمناط كله أن تكون كثرة الأطراف بحيث لم يمكن عادة جمعها في استعمال واحد بحسب المتعارف ، وأن لا يرى العقلاء العلم الإجمالي فيها منجزا من كل حيثية وجهة ، بل يقدمون بمقتضى فطرتهم على ارتكاب بعض الأطراف بلا تردد منهم في ذلك ، وعدم صلاحية مثل هذا العلم للداعوية لإيجاب الموافقة القطعية وإيكال ذلك إلى الوجدان ، أولى من تكلف إقامة البرهان ، وبعد تحقق هذا الموضوع لا نحتاج في إثبات عدم وجوب الاجتناب في الشبهة غير المحصورة إلى دليل خارجي ، بل تكون من الموضوعات التي يكون حكمها ملازما لتحققها خارجا.

وما قيل : في تحديدها إن رجع إلى ما قلناه فهو ، وإلا فتكون ظاهر الخدشة ، كما أن الوجوه التي استدل بها على عدم تنجز العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة من الإجماع ، ولزوم العسر والحرج ، وشمول أدلة البراءة

٢١٢

لها ، وخروج الأطراف بها عن مورد الابتلاء.

مخدوشة : أما الإجماع فالإشكال فيه واضح ، وأما الثاني فمع العسر والحرج يرتكب ومع العدم يجتنب ، وأما الثالث فلكونه منافيا للعلم الموجود في البين ، وأما الأخير فلكونه خلف الفرض لما مرّ من أنه لا فرق في هذه الجهة بين المحصورة وغيرها ، ويمكن أن يكون مرجع جميع ذلك إلى ما قلناه ، فالمراد واحد وإن كانت العبارات مختلفة.

ثم إن القدر المتيقن من بناء العقلاء ومرتكزاتهم في سقوط العلم الإجمالي عن التنجز في الشبهة غير المحصورة إنما هو بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية ، وأما سقوطه بالنسبة إلى المخالفة القطعية أيضا ففيه إشكال في الشبهتين التحريمية والوجوبية ، والشك في التعميم للمخالفة القطعية يكفي في العدم. ولو شك في كون شبهة من المحصورة أو من غيرها ، فهو مثل الشك في أن الأطراف في الشبهة المحصورة تكون مورد الابتلاء أو لا ، وقد تقدّم حكمه فراجع. وهل يجري على الأطراف في الشبهة غير المحصورة حكم الشبهة البدوية من كل جهة أو لا؟ وجهان : أحوطهما الثاني.

دوران الأمر بين الأقل والأكثر :

وليعلم أولا أن الفرق بينه وبين الشك في المحصل ، أن الثاني إنما يتحقق في ما إذا علم التكليف بتمام حدوده وقيوده ، ولم تكن شبهة ولا إجمال فيه ثبوتا ولا إثباتا ، وكان معلوما ومبينا من كل جهة ، وانحصر الشك في الموضوع الخارجي في أنه مفرغ للذمة عما اشتغلت به أو لا ، كما إذا اغتسل أو توضأ وفي إصبعه خاتم وشك في وصول الماء إلى البشرة معه وعدمه ، وفي مثله يجب الاحتياط عقلا وشرعا ، بخلاف الأقل والأكثر ، فإن أصل تعلّق التكليف بالنسبة

٢١٣

إلى الأكثر مشكوك فيه ثبوتا وإثباتا ، فلا علم بالتكليف بالنسبة إليه حتى يكون من الشك في المحصل ، فلا ربط لأحدهما بالآخر أصلا.

ثم إن الشك في الأقل والأكثر إما استقلالي ـ أي لا ترتبط الأجزاء بعضها مع بعض في مقام الامتثال ـ فيكون لكل جزء امتثال مستقل إن أتى به ومخالفة كذلك إن ترك ، كما لو علم بأصل الدين وتردد مقداره بين الخمسة أو أكثر ، وظاهرهم الاتفاق على البراءة بالنسبة إلى الأكثر عقلا ونقلا إلا في الفائتة المرددة بينهما ، فنسب إلى المشهور وجوب الأكثر ، وقد تقدم أنه لا دليل لهم على ذلك من عقل أو نقل.

وإما ارتباطي ، وهو ما إذا كان لجميع الأجزاء امتثال واحد ومخالفة واحدة ، كأجزاء الصلاة وشرائطها مثلا وله موارد كثيرة ، لأن الشبهة إما وجوبية أو تحريمية ، وكل منهما إما بين الكل والجزء ، أو بين الجنس والنوع ، أو بين المشروط والشرط ، ومنشأ انتزاع الشرط إما جهة خارجية ، أو ذهنية ، أو اعتبارية.

والتحقيق ـ كما عليه أهله ـ هو البراءة عن الأكثر عقلا ونقلا في جميع ما يتصور من موارد الأقل والأكثر مطلقا ، لأدلة البراءة العقلية والنقلية. وذهب جمع إلى الاحتياط.

ولا يخفى أن النزاع صغروي ، فمن يقول بالبراءة يقول إن الشك بالنسبة إلى الأكثر شك في أصل التكليف ، والمرجع فيه البراءة اتفاقا ولو كان معلوما لوجب الاحتياط ، ومن يقول بالاحتياط يقول إن التكليف معلوم بالنسبة إليه فوجب الامتثال ، ولو كان مشكوكا فيه لصح الرجوع إلى البراءة ، فيرجع النزاع إلى أن التكليف شمل الأكثر أو لا ، والمرجع في التشخيص هو المتعارف بين العقلاء ، فإن حكموا بتمامية البيان والحجة بالنسبة إلى الأكثر فلا محيص إلا من الاحتياط ، وإن ترددوا فيها أو حكموا بالعدم فيتحقق موضوع البراءة قهرا.

وإذا راجعنا العقلاء نراهم يعترفون بأنه ليس قيام الحجة بالنسبة إلى الأكثر كقيامها بالنسبة إلى الأقل ، وليس ثبوت الأكثر على كاهل المكلف ، كثبوت الأقل

٢١٤

عليه ، وهذا الفرق وجداني لكل من قطع النظر عن الشبهات ورجع إلى فطرته.

وخلاصة الكلام على هيئة الشكل الأول : أن الحجة لم تتم بالنسبة إلى الأكثر ، وكلما لم تتم الحجة بالنسبة إليه يكون من مجاري البراءة ، فيكون الأكثر من مجاري البراءة.

وقد استدل على وجوب الاحتياط بامور ..

الأول : أن الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ كذلك.

وفيه : أن الاشتغال اليقيني بالنسبة إلى الأقل مسلّم ، وبالنسبة إلى الأكثر مشكوك فيرجع فيه إلى البراءة.

الثاني : أن الأقل والأكثر إن لوحظا بحدّ الأقلية والأكثرية يكونان من المتباينين ، وقد تقدّم وجوب الاحتياط فيهما.

وفيه : أنه لا وجه لملاحظتهما كذلك ، بل تكون خلاف المتعارف ، لأن الأقل بحسب الأنظار العرفية ملحوظ بعنوان اللابشرطية ، فيجتمع مع الأكثر ، لا أن يلحظ بحدّ الأقلية حتى يباينها ولا يجتمع معها.

الثالث : أن وجوب الأقل إما نفسي أو غيري ، والأول منفي بالأصل ، ولا وجه للثاني مع عدم وجوب الأكثر ، إذ لا معنى لوجوب المقدمة مع عدم وجوب ذي المقدمة.

وفيه : ما مرّ في بحث مقدمة الواجب من أن الأجزاء لا تتصف بالوجوب المقدمي ، إذ لا تعدد بينهما وبين الكل بحسب الوجود. لكونها عين الكل وجودا ، والكل عينها كذلك ، وإنما تتصف بالوجوب النفسي الانبساطي فيكون وجوب الكل عين وجوب الأجزاء بالأسر وبالعكس ، ويكون مرجع الشك في المقام إلى أن الوجوب هل انبسط على تسعة أجزاء مثلا ، أو على عشرة أجزاء ، فيؤخذ بالمعلوم ويرجع في المشكوك إلى البراءة. هذا في وجوب الأجزاء.

وأما الشرط والمشروط فلا ريب في أن وجوب الشرط تابع لأصل وجوب المشروط من دون تحديد بحدّ خاص ، وقد ثبت في المقام وجوب

٢١٥

الأقل دون الأكثر فيكون وجوب الشرط تابعا لوجوب الأقل لا محالة.

الرابع : أن الاقتصار على الأقل في مقام الامتثال امتثال إجمالي بخلاف إتيان الأكثر فإنه تفصيلي ، ولا تصل النوبة إلى الأول مهما أمكن الثاني.

وفيه : أن كيفية الامتثال تابعة لأصل الاشتغال وبعد أن لم يكن اشتغال إلا بالأقل ، فيدور الامتثال مداره أيضا.

نعم ، لا ريب في حسن الاحتياط بالنسبة إلى ما احتمل الاشتغال به وهو الأكثر.

ولباب القول : أن جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان بالنسبة إلى الأكثر وعمومات أدلة البراءة الشرعية مما لا محذور فيه بعد وجود المقتضي ـ وهو الشك في أصل التكليف ـ فيصح الاقتصار على الأقل ، كما استقر عليه رأي المحققين ، بلا فرق بين جميع موارد الأقل والأكثر حتى في الشبهات الموضوعية ، وجوبية كانت أو تحريمية ، نفسية كانت أو غيرية ، لانحلال الحكم بانحلال الموضوع فيتحقق الأقل والأكثر لا محالة ، فلو علم بوجوب إكرام العلماء ، وتردد شخص بين كونه عالما أو لا ، أو تردد كلام بين كونه من الغيبة المحرمة أو لا ، أو تردد صوت بين كونه من الغناء المحرم أو لا ، أو تردد ثوب بين كونه مما لا تصح الصلاة فيه أو لا. إما لأجل كونه مما لا يؤكل لحمه ، أو لجهة اخرى ، فالمرجع في الجميع هو البراءة.

وقد يتمسك لعدم وجوب الأكثر بأصالة عدم الوجوب بالعدم الأزلي ، بمعنى أن التكليف بأقله وأكثره لم يكن واجبا قبل البعثة ثم وجب ، ومقتضى هذا الأصل عدم وجوب الأكثر إلّا أن يدل دليل عليه ، ويصح التمسك باستصحاب عدم الوجوب قبل البلوغ أيضا ، ولكن ذلك كله مستغنى عنه بعد كفاية البراءة.

نعم ، يصح التمسك به للتأييد والتأكيد.

ثم إن الرجوع إلى البراءة لنفي الأكثر في الشبهة التحريمية إنما هو في

٢١٦

خصوص الشبهة الموضوعية منها. وأما المفهومية فالأكثر متيقن الحرمة ، والأقل هو المشكوك ، فيرجع فيه إلى البراءة ، فإذا تردد مفهوم البكاء الحرام في الصلاة بين كونه مع الصوت ، أو مجرد البكاء ولو بلا صوت ، فالمتيقن إنما هو ما كان مع الصوت ، وفي غيره يرجع إلى الأصل ، وله نظائر كثيرة في الفقه. وحيث ان الاصوليين تعرضوا لبعض أحكام الخلل في المقام مع أنها من الأحكام الفقهية فنشير إلى بعضها ، وقد ذكرنا التفصيل في كتاب (مهذب الأحكام).

بعض أحكام الخلل :

وهو إما عن عمد أو جهل أو إكراه واضطرار أو عن سهو ، والجميع إما بالنقصان وإما بالزيادة. ولا ريب في كون النقيصة العمدية موجبة للبطلان ، إذ لا معنى للوجوب إلّا أن التعمد. في تركه موجب للبطلان ، ما لم يكن دليل على الخلاف ، كما في بعض أفعال الحج حيث ان تركه العمدي لا يوجب بطلان أصل الحج ، بناء على أنه جزء للحج وليس من الواجب في الواجب.

إن قيل : كيف يعقل الصحة مع فرض الجزئية والترك العمدي ، فإن كان ذلك مع بقاء وجوب الجزء حينئذ فهو من التناقض ، وإن كان مع زواله حينئذ فهو خلف.

يقال : ببقاء الوجوب وبترتب العصيان والكفارة ، وبعد ذلك ينزّل الشارع العمل الناقص منزلة التمام تسهيلا على الأنام ، كما يمكن أن يقال بزواله ، وحيث أنه مستند إلى اختياره يعاقب عليه ثم ينزّل الشارع الناقص منزلة التام تسهيلا وامتنانا. وقد ادّعي الإجماع على أن الجاهل بالحكم كالعامد إلا ما خرج بالدليل ، وظاهرهم التسالم على أن النقص عن إكراه واضطرار يوجب البطلان أيضا إلا مع الدليل على الخلاف ، ولو لا ظهور التسالم لأمكن التمسك بحديث الرفع للصحة بعد شموله لجميع الآثار ، كما تقدم. ومحل تنقيح الفروع إنما هو في الفقه.

٢١٧

النقيصة السهوية :

والكلام فيها.

تارة : في تصوير التكليف بما عدا المنسيّ ثبوتا.

واخرى : في دلالة الأدلة الأولية عليه.

وثالثة : في الأدلة الثانوية.

أما الاولى فلا ريب في سقوط التكليف بالنسبة إلى خصوص المنسي ، لأن التكليف به مع فرض بقاء النسيان تكليف بما لا يطاق ، ومع زواله خلف الفرض. وأما بقاء التكليف بالنسبة إلى بقية الأجزاء.

فاشكل عليه : بأن الأمر بالمجموع قد ارتفع لأجل النسيان ، وقد ارتفع الأمر المتعلّق بالبقية بارتفاع الأمر بالمجموع ولا تكليف مستقلا بالنسبة إليها حتى يكون التكليف باقيا ، فينتفي التكليف بعد عروض النسيان مطلقا بالنسبة إلى المنسي وغيره من الأجزاء.

واجيب عنه بوجوه ..

منها : أنه مبني على كون وجوب الأجزاء وجوبا مقدميا لتحقق الكل ، وأما لو كان وجوبا نفسيا انبساطيا فلا وجه لزوال وجوب بقية الأجزاء لسقوط وجوب بعضها ، وتكون حكمة الانبساط هو الكل ، لا أن يكون ذلك العلة التامة المنحصرة.

ومنها : أن المأمور به في حق الجميع ناسيا كان أو غيره ما عدا الجزء المنسي ، وقد اختص الذاكر بخطاب خاص بما نسيه الناسي.

واشكل عليه : بأن المنسي ليس شيئا واحدا دائما ، بل يختلف بالنسبة إلى المكلف الواحد فكيف بعامة المكلفين ، فليفرض أنه صلّى الظهر مثلا جمع ، فنسى أحدهم الفاتحة ، والآخر السورة ، وثالث الأذكار الواجبة ، ورابع السجدة ،

٢١٨

وخامس التشهد وهكذا ، فما يكون الحدّ المشترك بين ذاكرهم وناسيهم ، وأي خطاب يختص بخصوص الذاكر منهم؟! فلا بد حينئذ من تصوير الجامع.

وفيه : أنه يمكن تصوير الجامع بنحو ما مرّ في تصويره في الصحيح والأعم ، فراجع.

ومنها : أن التكليف المتوجه إلى الناسي ليس بعنوان النسيان حتى يلزم المحذور ، بل بالعنوان الملازم له غالبا.

وفيه : أنه مع التفاته إلى الملازمة يلزم المحذور قهرا ، ومع عدم التفاته يصير ملتفتا لا محالة ، فإنه يسأل عن وجه اختصاصه بالخطاب فيلتفت فيعود المحذور أيضا.

فالحق أنه يمكن تصوير تكليف الناسي بما عدا المنسي ، كما مر. وبجعله من صغريات تصوير الجامع بين الصحيح والأعم ، كما عرفت. مع أن الجزئية والتكليف متقوّم في الواقع بالملاك ، والوجوب كاشف عنه ، وسقوط الوجوب لا يستلزم سقوط الملاك ، كما هو معلوم فيصح تكليفه بالبقية ثبوتا ، ويشهد لذلك العرف أيضا.

وأما الثانية ـ أي بحسب دلالة الأدلة الأولية ـ فهي منحصرة في الإطلاق الواقعي النفسي الأمري وتحقق الملاك في البقية المنكشف ، ذلك كله من كثرة اهتمام الشارع بمثل الصلاة ، ومن الأدلة الثانوية التسهيلية الواردة فيها.

واشكل عليه : بأنها ـ لبيا كانت أو لفظية ، وسواء كانت مثل «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» أو غيره ـ كاشفة عن دخل الجزء والشرط في قوام المركّب والمشروط ، ولا يراد منها شيء أزيد من ذلك ، ولا تدل بشيء من الدلالات على وجوب البقية عند عروض النسيان ، بل يكون مقتضاها ما تعارف وارتكز في الأذهان من أن المركّب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه ، والمشروط ينتفي بانتفاء شرطه ، لفرض كونها كاشفة عن الدخل في قوام الذات قيدا وتقيدا.

٢١٩

ولكنه باطل بما مرّ من أن استفادة وجوب البقية من سياق مجموع ما بأيدينا من الأدلة التي هي كدليل واحد على الوجوب ، فتكفي الإطلاقات الأولية في الإيجاب لاحتفافها بالقرينة عليه مع حكم العرف في المركبات الاعتبارية ، فإن سقوط بعض الأجزاء بالعذر لا يوجب سقوط البقية ، ويكشف ذلك عن كونه مفاد الأدلة الأولية أيضا.

الثالثة : بحسب الأدلة الثانوية الدالة على وجوب البقية وأما الثالثة ـ وهي ورود الأدلة الثانوية الدالة على وجوب البقية ـ فهي كثيرة متفرّقة في أبواب العبادات ، مذكورة في الفقه في الموارد المناسبة لها. ويمكن التمسك بحديث الرفع أيضا ، فإن إيجاب الإعادة أو القضاء مع النسيان مما لا يعلم فيكون مرفوعا ، بل يمكن التمسك بخصوص حديث رفع النسيان أيضا ، لأنه مقتض لوجوب التدارك إعادة أو قضاء فيكون ثابتا بثبوت المقتضي ثبوتا اقتضائيا ، وهذا النحو من الثبوت يصح تعلّق الرفع التشريعي به لا رفع النسيان حقيقة حتى يقال : إنه غير قابل للرفع ، ولا رفع العمل المنسي فيه عن صفحة العيان ، فيكون خلاف الامتنان ، إذ تجب الإعادة أو القضاء حينئذ. بل المراد ما قلناه.

ولباب الكلام : أنه يمكن إثبات الصحة في مورد النقيصة السهوية بالإطلاق المحفوف بالقرائن ، وبحديث الرفع ، وبأصالة عدم المانعية ، وبالأدلة الثانوية.

حكم الزيادة :

والبحث فيها ..

تارة : في تصويرها.

واخرى : في أقسامها.

٢٢٠