تهذيب الأصول - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

تهذيب الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

الحبالة فانقطع منه شيء فهو ميتة». وعن الكاهلي قال : «سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا عنده عن قطع أليات الغنم؟ فقال عليه‌السلام : لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح بها مالك ، ثم قال عليه‌السلام : إن في كتاب علي عليه‌السلام إن ما قطع منها ميت ، لا ينتفع به». وعنه عليه‌السلام أيضا «في أليات الضأن فقطع وهي أحياء ، أنها ميتة». وعن الحسن ابن علي : «سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام فقلت جعلت فداك : إن أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها ، قال عليه‌السلام : هي حرام. قلت : نستصبح بها؟ قال عليه‌السلام : أما علمت أنه يصيب اليد والثوب وهو حرام». وعن البزنطي عنه عليه‌السلام أيضا : «الرجل يكون له الغنم يقطع من ألياتها وهي أحياء ، أيصلح أن ينتفع بما قطع؟ قال عليه‌السلام : نعم ، يذيبها ويسرج بها ، ولا يأكلها ، ولا يبيعها».

وفيه : أن أهم آثار الميتة إنما هو حرمة الأكل ، فالتنزيل من هذه الجهة مسلّم. وأما من حيث النجاسة فهي مشكوك فيها ، يرجع فيها إلى الأصل. وأما قوله عليه‌السلام : «أما علمت أنه يصيب اليد والثوب وهو حرام» ، فلا بد من حمله على بعض المحامل ، لأن تنجيس اليد والثوب ليس بحرام قطعا ، ويحتمل الحرمة الغيرية بالنسبة إلى الصلاة وهي تكون بالنسبة إلى غير المذكى أيضا ، لقوله عليه‌السلام : «فإن كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره ، وبوله ، وشعره ، وروثه وألبانه وكل شيء منه جائز ، إذا علمت أنه ذكي ، وقد ذكاه». وفي خبر الصيقل : «كتبت إلى الرضا عليه‌السلام : أنه أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة تصيب ثيابي فأصلي فيها ، فكتب عليه‌السلام إليّ : اتخذ ثوبا لصلاتك». واستفادة النجاسة من هذه الرواية أيضا مشكلة لاحتمال تلطخ الثوب بأجزاء الميتة ، فلا تصح فيه الصلاة من هذه الجهة مع أن ثبوت النجاسة فيها لا تلازم نجاسة غير المذكى إلا بالدليل ، وقد مرّ ما فيه.

وما أبعد ما بين ما نسب إلى المشهور من نجاسة غير المذكى لأنه كالميتة ، وما يظهر من صاحب المدارك من عدم دليل على نجاسة الميتة أصلا فضلا عما

١٨١

يكون نازلا منزلتها.

الثاني : أن الحيوان بالنسبة إلى التذكية وعدمها على أقسام ..

فتارة : يكون مما لا أثر للتذكية بالنسبة إليه أصلا ، لا بالنسبة إلى الطهارة ولا الحلية ، فهو نجس وحرام مطلقا ذكّي أو لم يذكّ ، كالكلب والخنزير.

واخرى : يكون مما لا أثر للتذكية بالنسبة إليه أيضا من حيث الطهارة والحرمة ، كالحشرات فإنها طاهرة في حال الحياة والموت والتذكية ، وحرام كذلك أيضا.

وثالثة : مما يكون الأثر بالنسبة إلى الطهارة فقط دون الحلية ، كالسباع فإنها إن ماتت حتف الأنف تكون حراما ونجسة ، وإن ذكيت تكون حراما وطاهرة.

ورابعة : ما يكون لها الأثر بالنسبة إلى كل من الطهارة والحلية ، كالأنعام الثلاثة مثلا ، حيث أنها بالموت تتنجس وتحرم ، وبالتذكية تكون حلالا وطاهرة.

إذا تبين هذا نقول : إن الشك في التذكية.

تارة : في الشبهة الحكمية ، أي الحكم الكلي لنوع حيوان خاص ، كما إذا لم يعلم مثلا أن الحيوان المتولد بين الحيوانين الذي لا يتبعهما في الاسم والصفة قابل لها أو لا.

واخرى : في الشبهة الموضوعية الخارجية.

أما الاولى فلا وجه لأصالة عدم التذكية فيها أصلا ، لما عن صاحب الحدائق الإجماع على أن كل حيوان يقبل التذكية إلا ما خرج بالدليل ، وعن صاحب الجواهر : «مؤيدا بما يفهم من مجموع النصوص المتقدمة في لباس المصلي من قبول التذكية لكل حيوان طاهر العين حال الحياة ، وإن لم يكن مأكول اللحم ، ولكن لا يصلي فيه عدا ما استثني». وفي صحيح ابن يقطين : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام : عن لباس الفراء ، والسمور ، والفنك ، والثعالب وجميع الجلود؟ قال عليه‌السلام : لا بأس». فلا يبقى مجال لأصالة عدم التذكية فيها مع مثل هذه

١٨٢

الإطلاقات ، ودعوى الإجماع ، مع أنها من العرفيات التي يكفي فيها عدم الردع. مع أن عدم التذكية فيها إما لأجل توهم حرمتها النفسية ، أو لأجل الحرمة الغيرية ، كالاستعمال في ما يعتبر فيه الطهارة ، وقد مرّ أن الشك في الحرمة مطلقا من مجاري البراءة ، نفسية كانت أو غيرية ، فراجع.

وأما الثانية فخلاصة القول فيه ، أن التذكية إما عبارة عما يقوم بالمذكي (بالكسر) من التسمية والاستقبال ، وفري الأوداج ونحوها مع قابلية المحل ، وبعبارة اخرى تكون مركبة من امور خاصة. أو تكون بسيطة ومن التوليديات الحاصلة من هذه الامور ، نظير الطهارة التي يمكن أن تكون عبارة عن الغسلات والمسحات ، فتكون مركبة. أو الحالة النفسانية الحاصلة منها ، فتكون بسيطة. ولا ريب في أن الشك في حصول التوليديات إنما يكون من ناحية الشك في أسبابها ، وسيأتي أن الأصل الجاري في السبب يغني عن جريانه في المسبب ولو كان توليديا ، لمكان اتحاد التوليديات مع أسبابها عرفا يصح كونها مجرى الأصل ، بل يصح انتساب الأصل الجاري في أسبابها إليها أيضا ، فلا ثمرة عملية بل ولا علمية في تنقيح أنها مركبة أو بسيطة.

وحينئذ فنقول : إن كان الشك في ما عدا قابلية المحل من سائر الشرائط فلا ريب في كونها مسبوقة بالعدم ، فتجري أصالة عدم تحقق الشرط مع عدم وجود أمارة على الخلاف من يد مسلم أو سوقه أو أرضه أو نحوها ، فيثبت عدم التذكية الذي هو عبارة اخرى عن الميتة شرعا ، لكونهما متحدين في اصطلاح الشرع ، كما نسب إلى المشهور ، فتثبت النجاسة والحرمة ، وأما بناء على صحة التفكيك بينهما كما مرّ ، فتثبت حرمة الأكل دون النجاسة.

وإن كان الشك في قابلية المحل وعدمها ، فالأصل الجاري حينئذ منحصر بالأصل الجاري في العدم الأزلي ، ومفاد ليس التامة ، لأن كل حيوان حين تكوّنه إما أن يتكوّن قابلا لها أو غير قابل ، وهذه القابلية أو عدمها كلوازم الذات غير

١٨٣

المنفكة عنه ، فلا يتصور فيها جريان أصالة العدم بالعدم النعتي العارض على الموضوع ، بل ما هو المتصور منها إنما هو (أصالة عدم تحقق القابلية للتذكية) بالعدم الأزلي السابق على كل حادث ، لأن القابلية أيضا حادث من الحوادث مسبوق بالعدم الأزلي ، فيجري الأصل فيه حينئذ كجريانه في جميع الحوادث المسبوقة بالعدم ، سواء كانت من الذوات أو من لوازمها.

إن قلت : نعم ، ولكن المستصحب هو كلي عدم تحقق قابلية التذكية ، والمطلوب هو إثبات عدم قابلية هذا الموضوع الخارجي لها ، فيصير الاستصحاب مثبتا بالنسبة إليه.

قلت : هذا الإشكال جار في جميع استصحابات الأعدام الأزلية ، ولا اختصاص له بخصوص المورد ، والجواب أن الكلي والحصة متحدان مع الفرد الخارجي وإن كان بينهما فرق اعتباري عقلي ، فلا يكون الأصل مثبتا ، فهو كاستصحاب عدم العام لإثبات عدم الخاص المتحد معه.

هذا ، ولكن الاستصحاب في الأعدام الأزلية بعيد عن الأذهان العرفية المنزلة عليها الأدلة ، مع أنه معارض باستصحاب عدم الخصوصية المقتضية للحرمة ، وبعد المعارضة والسقوط تصل النوبة إلى الأصل الحكمي الذي هو أصالة الحلية والطهارة ، فيكون حلالا وطاهرا ، والتفكيك بينهما بالحرمة والطهارة بدعوى : أن المحللات محصورة وليس المورد منها ، فيكون حراما.

مردود : بدعوى العكس ، فيحل حينئذ لا محالة.

وكذا دعوى أن الحلية تعلقت بأمر وجودي وهو الطيبات ، فلا بد من إحراز الطيبية ، وإلا فتشمله أدلة الخبائث فيكون حراما.

مردودة : أيضا بالنقض بأن الحرمة تعلّقت بالأمر الوجودي الذي هو الخبائث ، فلا بد من إحرازه ، وإلا فيكون حراما ، مع أنه يمكن منع كون الطيب أمرا وجوديا ، بل هو عدمي أي ما لا يستقذره الطبع ، فراجع المطولات.

١٨٤

والحق أن يقال : إنه لا وجه لجريان أصالة عدم التذكية في مورد الشك في القابلية وعدمها ، لأن عدم القابلية لها مما لا يعلم إلا من طريق الوحي وينحصر العلم بها فيه ، فلو كان حيوان حراما واقعا ، وكانت فيه خصوصية الحرمة ، وجب على الشارع بيانها لانحصار طريق معرفتها ببيانه ، فعدم البيان في مثله يكفي في الحلية مع أن عمومات الحلية بيان ، مضافا إلى أن لنا أن نقلب الأصل ، ونقول مقتضى سهولة الشريعة المقدسة ، وإطلاقات الحلية ، أن الحرمة تتقوّم بخصوصية خاصة ، ومع الشك في تلك الخصوصية يجري الأصل الأزلي في عدمها ، فالحلية مرسلة مطلقة ، والحرمة مقيدة بالخصوصية.

وبالجملة : مقتضى عمومات الحلية وقاعدتها حلية كل حيوان ، وكذا مقتضى حصر ما لا تقع عليه التذكية في ما نص عليه بالخصوص ، ووقوع التذكية على كل حيوان إلا ما خرج بالدليل ، فلا موضوع لأصالة عدم التذكية من هذه الجهة.

نعم ، تجري في مثل الشك في الاستقبال ، والتسمية ما لم تكن أمارة على الخلاف.

ويشهد لذلك الأخبار التي يستفاد منها أصالة عدم التذكية ، فإن جلّها واردة في الشبهات الموضوعية ، ففي خبر أبي بصير : «فلما مضت الكلاب دخل فيها كلب غريب لا يعرفون له صاحبا فاشترك جميعا في الصيد ، فقال عليه‌السلام : لا يؤكل ، لأنك لا تدري أخذه معلم أو لا». وفي خبر آخر : «فإن يتردى في جب ، أو وهدة من الأرض ، فلا تأكله ولا تطعمه ، فإنك لا تدري التردي قتله أو الذبح» إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في الشبهات الموضوعية.

التنبيه الثاني : لا ريب في حسن الاحتياط غير المخلّ بالنظام نصا وإجماعا ، بل باتفاق العقلاء ، ولا إشكال فيه في التوصليات. بل يترتب عليه الثواب أيضا إن كان بعنوان الرجاء ، وكذا في العباديات مع دوران الأمر فيها بين الوجوب

١٨٥

والندب ، لثبوت الأمر الذي يتقوّم به العبادية ، فيتحقق موضوع حسن الاحتياط حينئذ.

وأما مع دوران الأمر بين الوجوب وغير الندب أو الندب وغير الوجوب ، فقد اشكل في جريانه فيها بعدم إحراز الأمر حينئذ ، والمفروض أن العبادية متقوّمة بذلك ، ومع عدم تحقق العبادية لا يتحقق موضوع حسن الاحتياط أيضا ، لأنه عبارة عن إتيان المتعلق بجميع ما اعتبر فيه جزء وشرطا بعنوان الاحتياط.

واجيب عن هذا الإشكال بوجوه :

منها : ما عن المحقق الأنصاري قدس‌سره من إنكار الاحتياط فيها رأسا ، فقال : (وفي جريان ذلك في العباديات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب وجهان : أقواهما العدم).

ويرد عليه : أنه مخالف مع ما في رسائله العملية وكتبه الاستدلالية الفقهية ، كما لا يخفى على من راجعها.

ومنها : أن من حسن الاحتياط عقلا يستكشف الأمر بقاعدة الملازمة شرعا.

وفيه .. أولا : أن الحسن يتعلّق بذات الاحتياط من حيث هو ، والأمر الذي يراد إثباته إنما هو بالنسبة إلى متعلّقه لا ذاته ، ولا ربط لأحدهما بالآخر.

وثانيا : أن مورد قاعدة الملازمة هو الحسن الذاتي الذي يكون وصفا بحال الذات ، وحسن الاحتياط طريقي محض لا ذاتية فيه بوجه ، فلا وجه لأن يكون مورد قاعدة الملازمة.

ومنها : أن من ترتب الثواب يستكشف الأمر ، لكون الثواب معلولا للامتثال وهو معلول الأمر.

وفيه : أن ترتب الثواب أعمّ من امتثال الأمر ، كما مرّ في بعض المباحث السابقة ، مع أن الكلام في أصل ثبوت الأمر واقعا لا في طريق استكشافه في

١٨٦

الظاهر ، وحينئذ فمعلول الشيء لا يعقل أن يكون من مبادئ ثبوته ، لأنه دور باطل.

ومنها : أن نفس الأوامر التي وردت في الاحتياط تكفي للداعوية ، فيقصد نفس الأمر الاحتياطي.

وفيه .. أولا : أنها ليست عبادية ، فمن أين يحصل الأمر العبادي في المتعلق.

وثانيا : أنها طريقية محضة ، لا بد وأن يكون الأمر العبادي ثابتا في المتعلق قبل عروض الأمر الاحتياطي حتى يتحقق الاحتياط في العبادة ، فهذا الوجه كالوجه الأول مغالطة بين نفس الاحتياط والعمل المحتاط فيه.

ومنها غير ذلك مما ذكر في المطولات مع ما فيه من ظهور الخدشة.

والحق أن يقال : إن كيفية الامتثال موكولة إلى العقلاء ، وهي لديهم إما علمية تفصيلية ، أو إجمالية ، أو احتمالية رجائية ، والامتثال برجاء المطلوبية نحو من الامتثال لديهم ، ولم يردع عنه الشارع بل قرره بالترغيب إلى الاحتياط. فكما أن الامتثال في موارد إحراز الأمر بالأمارات أو الاصول المعتبرة صحيح شرعا ، فكذا في موارد رجاء الأمر ، بل يكون الانقياد فيها أشد ، كما لا يخفى.

وقد يتمسك لإثبات الأمر في المقام بأخبار «من بلغ».

بدعوى : أن مفادها تحقق الأمر الشرعي في مورد احتمال ثبوت الأمر ، وقد يعبر عن ذلك ب «قاعدة التسامح في أدلة السنن».

والبحث فيها من جهات :

الجهة الاولى : في الأخبار الدالة على القاعدة ، منها قول أبي عبد الله عليه‌السلام : «من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل به ، كان له أجر ذلك وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله». وعنه عليه‌السلام أيضا : «من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله». وعنه عليه‌السلام : «من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان ذلك له

١٨٧

وإن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله». وعنه عليه‌السلام أيضا : «من سمع شيئا من الثواب ، فصنعه كان له وإن لم يكن على ما بلغه». وعن أبي جعفر عليه‌السلام : «من بلغه ثواب من الله تعالى على عمل ففعل ذلك العمل التماس ذلك الثواب ، أوتيه وإن لم يكن الحديث ، كما بلغه». ويقتضي ذلك في الجملة ما ورد في أخبار كثيرة «إن الله تعالى عند ظن عبده المؤمن» ، وعموم قوله تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً). وقوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) ، وقوله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) إلى غير ذلك من الآيات.

ولكن يمكن المناقشة فيها بأنها من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، لأن المراد من «أحسن عملا» ، و «ثواب الآخرة» وعمل الخير ما ثبت الأمر به شرعا ، لا ما لم يحرز الأمر به بعد.

ولكنها مدفوعة بأن المراد ما صدق عليه الخير والثواب عرفا ، فلا يكون من التمسك بالعام في الشبهة الموضوعية.

وكيف كان ، فإن أخبار المقام تحتمل وجوها :

الأول : أنها في مقام بيان الأخبار عن تفضل الله تعالى ، وأنه غير متوقف على شيء غير البلوغ إلى العباد ، فلا يتوقف على قصد الأمر ولا على غيره ، بل المناط فيه إتيان العمل الذي وعد فيه الثواب ، فتكون مثل الأخبار التي يستفاد منها عدم توقف الثواب على قصد الأمر.

وأورد عليه : أن توقف الثواب على إضافة العمل إلى الله تعالى غالبا من القرائن الحالية التي تمنع عن التمسك بهذا الإطلاق ، مع أن في بعض ما مرّ من الأخبار قرينة لفظية على لزوم الإضافة إلى الشارع ، وهو قوله عليه‌السلام : «ففعل ذلك طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقوله عليه‌السلام : «التماس ذلك الثواب».

وهو مدفوع .. أولا : بأنه أول الدعوى.

وثانيا : بأن الإتيان لأجل تفضّل الله تعالى عليه نحو إضافة إلى الله تعالى ، ولا نحتاج في ترتب الثواب أزيد من هذه الإضافة لو قلنا باعتبار الإضافة إلى الله

١٨٨

في ترتب الثواب.

الثاني : أنها في مقام بيان أن كمية الثواب وكيفيته بأي نحو بلغ إلى العبد ، يؤتى تلك الكمية والكيفية وإن لم تكن صادرة واقعا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعلى هذا يعتبر أن يكون المتعلّق أمرا عباديا بدليل معتبر شرعي.

نعم ، كمية الثواب وكيفيته يتسامح فيهما.

وفيه : أنه خلاف ظاهر تلك الأخبار ، حيث أنها في مقام بيان بلوغ أصل الثواب على نحو الطبيعة المهملة الصادقة على الذات والكمية.

الثالث : أن هذه الأخبار من الجملة الخبرية الواقعة موقع الإنشاء ، فيكون معنى (فعمل به) أي فليعمله.

ويرد عليه : أنه خلاف المنساق منها عرفا.

الرابع : أن يكون في مقام بيان أن نفس البلوغ من حيث هو بلوغ موجب لحدوث الملاك والأمر ، وتكون هذه الأخبار حاكمة على ما يدل على اعتبار الوثوق في الصدور ، فيعتبر الوثوق بالصدور في الروايات إلا في الروايات الدالة على السنن. وهذا الوجه قريب من فضل الله تعالى ، ومناسب لمذاق الشرع ، ولكنه بعيد عن صناعة الاستدلال ، كما لا يخفى.

وعلى أي حال فاستفادة الاستحباب الشرعي منها مشكل جدا.

نعم ، يصح ذلك إن كان برجاء الثواب والتماسه ، كما وقع التصريح به فيها. فما نسب إلى المشهور من إطلاق الفتوى بالاستحباب في موردها من غير تقييد بالإتيان برجاء المطلوبية ، لعله منزّل على مرتكزات نوع المتشرعة من أنهم يأتون بمعلوم الأمر برجاء الثواب ، فكيف بمحتمل الأمر.

الجهة الثانية : على فرض استفادة الاستحباب منها ـ إما مطلقا ، أو في ما إذا كان لأجل درك الثواب ـ هل تترتب عليه جميع آثار المطلوب الشرعي مطلقا أو لا؟ وجهان ، بل قولان : أحوطهما الثاني ، لعدم ورود الأدلة في مقام البيان من هذه الجهة ، فلو دلّ خبر ضعيف على غسل المسترسل من اللحية ، وقلنا

١٨٩

باستحبابه ، فالمتيقن ترتب الثواب عليه ، وأما أنه لو جفت بلة يده ولم يتمكن من المسح بها ، ففي جواز أخذها من محل الاسترسال والمسح بها إشكال ، لقصور الأدلة عن إثبات غير الثواب.

الجهة الثالثة : قد جرت سيرة العلماء على التسامح في المندوبات التوصلية ، وفي أدلة المكروهات ، والفضائل ، والمعاجز ، والأخلاقيات ، وما ورد لدفع الأوجاع والأمراض ، وما ورد لقضاء الحوائج من الصلوات والدعوات وغيرها ، وما ورد في الامور التي لها آثار وضعية دنيوية. مع أن أدلة المقام مشتملة على الثواب ـ كما مرّ ـ ولا يبعد أن يكون الوجه في ذلك أنهم قدس سرّهم حملوا الثواب على مجرد المثالية ، وأنه ذكر من باب الغالب والترغيب لا الخصوصية ، فيكون المعنى : أن من بلغه شيء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في غير الواجب والحرام ، يترتب أثر ذلك الشيء عليه وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله ؛ ويمكن أن يكون مدرك التسامح في غير الثواب الإجماع على التسامح فيه أيضا. ويمكن الاستدلال على التسامح في ذلك كله بقولهم عليهم‌السلام في جملة من الأخبار : «الحكمة ضالة المؤمن ، فحيث ما وجد أحدكم ضالته فليأخذها» ، إذ لا ريب في أن ذلك كله فيه من الحكمة ، وقد فسّرت بكل ما فيه خير وصلاح. فتأمل.

وكيف كان ، فهل تشمل قاعدة التسامح فتوى المشهور أو الفقيه الواحد باستحباب شيء مع عدم ذكر المدرك؟ وجهان ، بل قولان : من أنه لم ينسب إلى السنة أولا وبالذات فلا تشمل ، ومن انتهائهما إليها فتشمل ، ومقتضى التسامح في المندوبات هو الثاني.

التنبيه الثالث : قد مرّ الاتفاق على البراءة في الشبهات الوجوبية ، بلا فرق فيها بين العيني والكفائي وغيرهما من أقسام الوجوب ، لكن مع احتمال الإباحة أيضا ، وأما لو علم بالوجوب وتردد بين كونه تعيينيا أو تخييريا ، فهذه هي المسألة المعروفة في الفقه والاصول بدوران الأمر بين التعيين والتخيير ، والمشهور فيها هو الأول ، لكنه من موارد قاعدة الاشتغال ، ولما مرّ في مباحث

١٩٠

الألفاظ من أن مقتضى الإطلاق كون الوجوب عينيا تعيينيا نفسيا إلا إذا دلّ دليل على الخلاف ، فيطابق الأصل اللفظي والعملي على التعيينية.

وكذا الكلام بعينه في ما إذا علم بالوجوب وتردد بين كونه عينيا أو كفائيا ، هذا خلاصة ما قالوه في الأخذ بالوجوب التعييني عند الدوران بينه وبين التخييري ، ونسب ذلك إلى المشهور.

ويرد عليه : أن خصوصية التعيينية والعينية قيد زائد مشكوك فيه ، فيرجع فيه إلى البراءة ، كما في سائر القيود الزائدة المشكوكة فيها فالمقام من مجاري البراءة لا الاشتغال ، لعدم العلم بأصل التكليف بحدوده وقيوده ، وعدم تمحض الشك في الشك في الامتثال فقط.

نعم ، لو اكتفينا في وجوب الاحتياط بمجرد العلم بجنس التكليف من دون أن يعلم نوعه ، لوجب الاحتياط في المقام. ولكنه ممنوع ، بل التكليف المنجز ما إذا علم نوع التكليف بحسب الطرق والأمارات والاصول المعتبرة من جهة النوع.

وعن بعض مشايخنا قدس سرّهم عدم صحة البراءة هنا ، وخلاصة كلامه قدس‌سره : أنه يعتبر في مجرى البراءة أن يكون من الامور الوجودية لا العدمية ، والمقام من الأخيرة دون الاولى ، لأن التعيينية عبارة عن عدم العدل والبدل للواجب ، وذلك عدمي ، كما هو واضح ، ولا يتعلّق الجعل الشرعي بالعدم والعدمي.

وفيه .. أولا : أنه مخالف للعمومات والإطلاقات الواردة بالنسبة إلى البراءة والتوسعة والتسهيل مهما وجد للشارع إليه سبيل ، وهذه كلها تشمل الوجودي والعدمي مطلقا.

وثانيا : أنه منقوض بالاستصحاب والاصول العدمية المقررة شرعا ، سواء كانت تأسيسية أو إمضائية.

وثالثا : أن هذه كلها من إعدام الملكات ولها حظ من الوجود ، كما ثبت في محله.

١٩١

ورابعا : أنه لا وجه لكون مورد البراءة في المقام عدميا ، بل هو عبارة عن خصوصية خاصة في الواجب التعييني تقتضي إتيانه بذاته فقط. كما أن التمسك لتعيين التعييني ، بما مرّ في مباحث الألفاظ أن إطلاق الوجوب يقتضي كونه عينيا نفسيا تعيينيا باطل ، لأنه في مقام الإثبات ، وما نحن فيه في مقام الثبوت ، فلا وجه للخلط بينهما.

ثم إن الواجب التخييري ..

تارة : في ظاهر الخطاب الشرعي ، كخصال الكفارات مثلا.

واخرى : عقلي ، كما في المتزاحمين المتساويين خطابا وملاكا.

وثالثة : التخيير في المسألة الاصولية ـ أي التخيير في أخذ الحجة ـ والرجوع إلى البراءة إنما يصح في القسم الأول فقط. وأما الأخيرين فاحتمال التعيين في أحدهما مرجح يتعين الأخذ به ، فلا وجه للبراءة حينئذ.

فتلخّص من جميع ما مرّ : تعين الرجوع إلى البراءة في جميع موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، وهي أربعة :

الأول : الشك في أصل تشريع الوجوب ابتداء ، ثم الشك في أنه على فرض الثبوت تعييني أو تخييري ، فيكون في البين شكان طوليان ، ويرجع فيهما إلى البراءة عند الكل.

الثاني : العلم بأصل الوجوب ، والشك في أن هذا بالخصوص تعييني ، أو أنه أحد فردي الواجب التخييري ، وقد أثبتنا فيه الرجوع إلى البراءة أيضا.

الثالث : العلم بوجوب كل واحد من الطرفين ، والشك في أن هذا الوجوب من كل منهما تعييني أو تخييري ، والمرجع فيه البراءة أيضا ، لعين ما تقدم في سابقه.

الرابع : العلم بوجوب شيء والعمل بأن الشيء الآخر مسقط عنه ، سواء كان مباحا أو مندوبا ، والشك في أنه واجب تعييني أو لا ، والمرجع فيه البراءة أيضا ، لعين ما تقدم.

١٩٢

ومن ذلك يظهر الأمر في ما دار الأمر بين الواجب العيني والكفائي ، فإنه يجب الإتيان به سواء كان في الواقع عينيا أو كفائيا ، لوجوب قيام الكل بالإتيان بالواجب الكفائي ، ولكن لو أتى به أحد يشك في تعلّق الوجوب بالنسبة إليه للشك في العينية ، فيرجع فيه إلى البراءة.

ولكن مع ذلك كله ، فالأحوط ما هو المشهور ، لاحتمال كون العلم بجنس التكليف مع إمكان الاحتياط منجزا ، وإن لم يمكن إثباته بالدليل كما عرفت.

التنبيه الرابع : لا ريب في جريان البراءة في الشبهات الموضوعية ـ وجوبية كانت أو تحريمية بجميع أقسامهما ـ لعدم كفاية مجرد العلم بالتكليف فقط في تنجزه وصحة المؤاخذة عليه ، بل لا بد مع ذلك من إحراز متعلّقه وموضوعه. لأن إحرازهما من حدود إحراز الحكم وقيوده ، ومع عدم إحراز ذلك يجري دليل البراءة عقليا كان أو نقليا ـ كما مرّ ـ سواء كان تعلّق الحكم بالموضوع على نحو العام السرياني الانحلالي ، أو على نحو صرف الوجود ، أو على نحو العام المجموعي من حيث المجموع. ففي الشبهات الموضوعية في جميع ذلك يرجع إلى البراءة.

وتوهم : أنه لا مجرى لها في الأخير لمعلومية التكليف فيه بحدوده وقيوده ، فيكون من مورد الاشتغال لا البراءة.

مردود .. أولا : بأن المجموع ليس إلّا الأفراد ولا تحقق له في غيرها ، والشك في بعضها شك في أصل التكليف بالنسبة إليه ، ويكون من موارد الأقل والأكثر ، فتجري البراءة بالنسبة إلى الأكثر لوجود المقتضي وفقد المانع.

وثانيا : بأنه ليس في الشرعيات تكليف يكون كذلك بالنسبة إلى الأفراد ، فيكون من مجرد الفرض.

نعم ، يصح ذلك بالنسبة إلى أجزاء المركب الذي تعلّق به التكليف ، زمانا كانت تلك الأجزاء ـ كما في الصوم ـ أو غيره ـ كما في الصلاة مثلا ـ فإن صحة الصوم متوقفة على الإمساك في جميع أجزاء الزمان الصومي من حيث

١٩٣

المجموع ، فلو تخلّف في جزء من أوله ، أو وسطه ، أو آخره بطل الصوم. كما تتوقف صحة الصلاة على تحقق سائر شرائطها من أولها إلى آخرها ، فلو تخلّف بعضها في جزء من أجزائها بطلت ، وهكذا في جميع المركبات التي تعتبر فيها شروط خاصة ، ولكن ذلك كله ليس من العام المجموعي بالنسبة إلى الأفراد ، كما لا يخفى.

والحاصل أن مقتضى القاعدة جريان البراءة في الشبهات الموضوعية مطلقا وجوبية كانت أو غيرها ، ففي الدّين أو الفائتة المرددة بين الأقل والأكثر ، تجري البراءة عن الأكثر ، لكونه من الشك في أصل التكليف ، ولكن نسب إلى المشهور الاحتياط في خصوص الفائتة المرددة بين الأقل والأكثر مع ذهابهم إلى البراءة في نظائرها ، فإن كان ذلك لأجل القاعدة فهي تدلّ على البراءة ، كما مرّ. مع أن مقتضى قاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد الوقت عدم الوجوب أيضا ، واستصحاب عدم الإتيان محكوم بقاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد الوقت ، كما هو معلوم. وإن كان لأجل نص خاص بها فهو مفقود ، كما اعترف به جمع ، وإن كان لأجل أن كثرة اهتمام الشارع بالصلاة تقتضي ذلك فهو لا يقتضي إيجاب الاحتياط. وإن اقتضى حسنه واستحبابه ، كما لا وجه للتفرقة فيه بما عن بعض من أنه إن علم عدد الفوائت ثم عرض النسيان ، وتردد بين الأقل والأكثر ، وجب الاحتياط بإتيان الأكثر. وإن كان التردد من أول الأمر بلا سبق العلم فلا يجب ، وذلك لأن المسألة من صغريات الشك في أصل التكليف على كل تقدير ، كما لا يخفى. هذا كله لباب القول في دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب ، ودورانه بين الوجوب وغير الحرمة. وأما دوران الأمر بين الحرمة والوجوب ـ المعبر عنه بدوران الأمر بين المحذورين ـ فالكلام فيه يأتي في الفصل الآتي.

١٩٤

الفصل الثالث

أصالة التخيير

والبحث فيها من جهات :

الجهة الاولى : في بيان موضوعها : تقدم أن المشكوك إما أن يلحظ فيه الحالة السابقة ، فيكون مجرى الاستصحاب. أو لا يلحظ ذلك ، وحينئذ فإن لم يعلم التكليف أصلا. ولو بجنسه ـ فهو مجرى البراءة ، وإن علم به وأمكن الاحتياط ، فيكون مورد الاشتغال ، وإن لم يمكن ذلك فيكون مجرى التخيير. فمورد التخيير المبحوث عنه في المقام متقوّم بأمرين : العلم بجنس التكليف ، أي : الالزام في الجملة فعلا أو تركا ، وعدم إمكان الاحتياط رأسا.

الجهة الثانية : أقسام التخيير ومجرى كل واحد منها في التوصليات والتعبديات الجهة الثانية : أن العلم بجنس التكليف إما في التوصليات أو في غيرها. أما الأول ، كما إذا علم بأن السكوت في آن واحد إما واجب أو حرام عليه ، فليس فيه إلا التخيير الفطري التكويني ، لأنه بحسب إرادته الارتكازية إما فاعل أو تارك ، ولا يجري فيه التخيير العقلي ، لأنه فيما إذا كان في البين خطابان فعليان تاما الملاك من كل جهة ولفقد الترجيح ، وعدم تمكن المكلف من الجمع بينهما يحكم العقل حينئذ بالتخيير ، أو كان خطاب واحد فعلي معلوم بنوعه وله أفراد متساوية من كل جهة ، فالعقل حينئذ يحكم بالتخيير بين الأفراد ، والمفروض أنه ليس في المقام إلا خطاب واحد مردد بين الوجوب والحرمة ، فالتكليف ليس

١٩٥

معلوما بنوعه ، بل بجنسه المهمل فقط ، فيكون المقام خارجا عن التخيير العقلي بقسميه تخصصا.

نعم ، يحكم العقل بأنه إما فاعل أو تارك تكوينا ، وليس ذلك من التخيير العقلي المبحوث عنه في الاصول في شيء ، كما لا وجه لجريان التخيير الشرعي المولوي الواقعي فيه ، للعلم بعدم وجوب فردين أو أكثر للتكليف واقعا ، بل المعلوم وحدته من كل جهة ، مع أن الخطابات المولوية ـ تعينية كانت أو تخييرية ـ لا بد وأن تصلح للداعوية ومع كون المكلف بحسب إرادته الفطرية الارتكازية إما فاعل أو تارك ، لا يصلح الخطاب لها فيكون لغوا إلا أن يكون إرشادا محضا إلى ما عليه المكلف بحسب ذاته وتكوينه ، ولا كلام فيه ، إنما الكلام في الحكم المولوي ، ولا فرق فيه بين التخيير الواقعي ، كما في خصال الكفارات. أو الظاهري ، كما في التخيير الشرعي في الأمارات المتعارضة ، مع أنه في التخيير الشرعي الواقعي لا بد وأن يكون كل واحد من الطرفين أو الأطراف تام الملاك والخطاب ، وليس المقام كذلك ، لعدم الملاك إلا في الواحد.

وكذا لا وجه لجريان الحلية والبراءة الشرعية ، لأن جريانهما في خصوص الوجوب أو الحرمة ترجيح بلا مرجح ، وفيهما معا مخالفة للعلم بأصل الإلزام ، وبالنسبة إلى أصل العقاب في الجملة لا أثر لها للعلم بعدم العقاب ، إذ لا عقاب لدى العقلاء في مورد العلم بجنس التكليف ، لعدم كفايته في تنجزه بعد عدم إمكان المخالفة القطعية ، وإنما هو على مخالفة نوع التكليف بعد العلم به وتنجزه ، إلا أن يكون الجريان إرشادا إلى حكم العقل بعدم صحة العقاب.

ومن ذلك يظهر عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان أيضا ، لاختصاص جريانها بمورد الشك في العقاب ، فلا مجرى لها مع العلم بالعدم. هذا كله إذا كان المورد توصليا ولم يتصور فيه المخالفة القطعية ولا الموافقة القطعية.

١٩٦

وأما لو كان كل واحد منهما أو أحدهما المعين تعبّديا ، فيتصور فيه حينئذ المخالفة القطعية بترك قصد القربة ، فتحرم وإن لم تجب الموافقة لعدم إمكانها ، ولكن الظاهر أنه مع عدم ثبوت أحدهما بالخصوص يكون الحكم هو التخيير أيضا ، بدعوى أنه الأصل لدى العقلاء في كل ما تردد بين شيئين مثلا ولم يعلم بالخصوص.

نعم ، فرّق بين التخيير هنا وما مر في التوصلي ، فإنه فيه فطري تكويني وهنا عقلائي اختياري ولا بد من قصد القربة في ما يعتبر فيه ، سواء كان كل منهما أو أحدهما.

ثم إن ما تقدم إنما هو في ما إذا كان الطرفان ، أو الأطراف متساوية من جميع الجهات ، وأما لو كانت مزية في البين ، فيكون من موارد الدوران بين التعيين والتخيير ، وقد مرّ البحث فيه ، فراجع.

الجهة الثالثة : مقتضى بقاء مناط التخيير ـ وهو التّحير والجهل بالواقع وعدم الترجيح ـ كون التخيير استمراريا ، فلا موجب لزواله بعد الأخذ بأحدهما إلّا لزوم المخالفة القطعية ، ولكنها ليست بمانعة لحصول العلم بها بعد العمل ، وما هو الحرام إنما هو المخالفة عن علم وعمد عند الارتكاب ، بأن يكون حين العمل عالما ، وكان عاصيا ، هكذا قيل.

ولكنه مشكل ، فإنه يعلم بوقوعه في الحرام في صورة استمرار التخيير ، فيكون مثل العلم الإجمالي بالوقوع في الحرام في الأطراف التدريجية فلا يصح ، كما يأتي من عدم الفرق بين التدريجية منها والدفعية. ومقتضى مرتكزات المتشرعة عدم الفرق بينها أيضا ، وليس من شأن الفقيه الترخيص فيها. ومن هنا يصح أن يقال بأولوية الموافقة الاحتمالية في المقام عن الموافقة القطعية ، لاستلزام الأخيرة المخالفة القطعية أيضا.

١٩٧

الشك في المكلف به :

كلما كان الشك فيه في أصل التشريع وثبوته واقعا ، فهو شك في أصل التكليف ، ويكون مورد البراءة ، وتقدّم ما يتعلّق بها. وكلما علم بثبوت أصل التشريع فيه وشك في جهات اخرى ، فهو من الشك في المكلف به ، ويكون مورد الاحتياط والاشتغال. والجهات الاخرى التي تكون مورد الشك كثيرة.

فتارة : تكون في نوع التكليف بعد العلم بأصل جنسه ، كما إذا علم أصل الإلزام وتردد بين الوجوب والحرمة مع إمكان الاحتياط.

واخرى : تكون في المتعلّق ، كما إذا علم الوجوب تفصيلا وتردد متعلّقه بين الظهر والجمعة مثلا.

وثالثة : تكون في الموضوع الخارجي ، كما إذا ترددت القبلة بين جهتين أو جهات.

وكل ذلك ..

تارة : في الشبهة التحريمية.

واخرى : في الوجوبية.

وكل منهما ..

تارة : يكون من المتباينين ، وهو ما لم يكن معلوم التنجز في البين.

واخرى : من الأقل والأكثر وهو ما تحقق فيه معلوم التنجز ، وشك في الزائد.

فالكلام في مقامين :

الأول : في المتباينين.

والثاني : في الأقل والأكثر.

١٩٨

المقام الأول : في المتباينين

اعلم أن البحث إنما هو بناء على كون العلم الإجمالي مقتضيا للتنجز ، لا أن يكون علة تامة له ، وإلا فالبحث ساقط من أصله لحكم العقل بوجوب الاحتياط حينئذ.

ولباب البحث يرجع إلى أن الاصول تجري في أطراف العلم الإجمالي بناء على كونه مقتضيا للتنجز حتى يسقط عن الاقتضاء ، أو لا تجري فيكون حينئذ المقتضي للتنجز موجودا والمانع عنه مفقودا ، فيكون مثلما إذا كان علة تامة للتنجز ، والحق هو الثاني ، واستدل عليه بوجوه :

الأول : ـ وهو أسدّها وأخصرها ـ ما ارتكز في الأذهان من أن مورد الشك الذي تجري فيه الاصول لا بد وأن يكون لا اقتضاء بالنسبة إلى الحجية والتنجز من كل حيثية وجهة ، فلو كان فيه الاقتضاء لها فلا مورد للاصول حينئذ ، ولا أقل من الشك في ذلك ، فلا يمكن حينئذ التمسك بأدلتها اللفظية ، لأنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، ولا بأدلتها اللبية ، لأن المتيقن منها غير ذلك ، فلا محيص إلا من الاحتياط ، ولا ريب في ثبوت الاقتضاء في كل من أطراف العلم الإجمالي.

إن قلت : نعم ، ولكنه إذا لوحظت الأطراف بنحو الجمع والوحدة ، وأما إذا لوحظ كل طرف مستقلا مع قطع النظر عن الآخر ، فيكون لا اقتضاء من كل جهة فيجري الأصل ، وحيث لا يمكن الجمع يحكم بالتخيير ، كما في الأمارتين المتعارضتين.

قلت : لحاظ الوحدة والجمع إنما هو في متعلّق العلم التفصيلي وهو علة تامة للتنجز ، وإنما يثبت الاقتضاء بملاحظة كل طرف مع قطع النظر عن الآخر بنحو عدم الاعتبار لا اعتبار العدم ، إذ يلزم الخلف لأنه حينئذ مستلزم لعدم كونه طرفا للعلم الإجمالي مع أنه أحد طرفيه في الواقع.

١٩٩

مع أن التخيير إما عقلي أو شرعي ، والأول إنما هو في ما إذا ثبت فيه الملاك التام في كل طرف ، والثاني لا يثبت إلا بدليل خاص ، ولا ملاك في كل واحد منهما حتى يثبت التخيير العقلي ، فهو منفي ثبوتا ولم يرد دليل على التخيير الشرعي فهو منفي إثباتا ، فلا وجه له أصلا.

نعم ، لو قلنا بأن التخيير في المتعارضين عقلائي ، ولا يحتاج إلى ورود دليل بالخصوص يثبت التخيير العقلائي في المقام ، أيضا لو فرض جريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي وكان المانع منحصرا في لزوم المخالفة العملية من العمل بها مع ثبوت المقتضي للجريان من كل جهة ، ولكنه ممنوع لما مرّ من عدم المقتضي لجريانها في أطراف العلم الإجمالي أصلا.

الثاني : أن الاصول العملية بحسب ملاحظاتها مع أطراف العلم الإجمالي على أقسام ثلاثة :

الأول : ما يكون منافيا لنفس المعلوم بالإجمال ومضادا له ، كأصالة الإباحة في مورد دوران الأمر بين المحذورين ، فإن الإباحة تضاد الإلزام المعلوم في البين ، فلا يجري مثل هذا الأصل في أطراف مثل هذا العلم الإجمالي ، للمضادة.

الثاني : الاصول الإحرازية ـ وتسمى التنزيلية أيضا ـ كالاستصحاب ، وحيث إنها متكفلة للإحراز والتنزيل في الجملة عرفا ، وتنزيل أطراف المعلوم بالإجمال منزلة خلافه مضاد ومناف له ، فلا مجرى لها من هذه الجهة ، كاستصحاب الطهارة مثلا في أطراف ما علم إجمالا بوقوع النجاسة فيها.

الثالث : ما تجري وتسقط بالمعارضة ، كأصالة البراءة.

وفيه : أن هذا التفصيل إما مع فرض كون العلم الإجمالي مقتضيا للتنجز وأنه مانع عن جريان الاصول ، أو مع فرض عدمه ، فعلى الأول لا وجه لهذا التفصيل ، لأن وجود ما فيه الاقتضاء بنفسه مانع عن جريانها ، كما مرّ ولا تصل النوبة إلى الموانع الخارجية.

٢٠٠