تهذيب الأصول - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

تهذيب الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

الخامس : الاصول الأربعة المعروفة من الارتكازيات العقلائية يكفي في اعتبارها شرعا عدم وصول الردع ، ولا نحتاج إلى إقامة الدليل على اعتبارها من الكتاب والسنة والإجماع وتطويل الكلام في ذلك ، فإن العقلاء بفطرتهم بعد الفحص عن الحجة واليأس عنها لا يرون أنفسهم ملزمين بشيء فعلا أو تركا ، وهذا هو البراءة المصطلحة ، وإنهم بفطرتهم يرون العلم الإجمالي منجزا في الجملة ، ويعبر عن ذلك في الاصطلاح بالاشتغال والاحتياط ، وعند الدوران بين المحذورين لا يرون أنفسهم ملزمين بشيء منهما بالخصوص ، ويعبر عنه بالتخيير ، ومع اليقين السابق والشك لا حقا تحكم فطرتهم باتباع اليقين السابق ، ويعبر عنه بالاستصحاب ، فيكفي عدم وصول الردع شرعا عن هذه المرتكزات في اعتبارها ولا نحتاج إلى التطويلات ، ولا ريب في تقديم الاستصحاب لديهم على باقي الاصول الثلاثة ، فراجع وتأمل.

السادس : النزاع بين الاصولي والأخباري في الشبهات التحريمية الحكمية صغروي لا أن يكون كبرويا ، لاتفاق الكل على قبح العقاب بلا بيان ، لكون هذه القاعدة من الفطريات العقلائية ، ولكن الأخباري يدعي أن أخبار الاحتياط تصلح للبيانية ، والاصولي يثبت عدم الصلاحية ، فالنزاع صغروي كما لا يخفى.

السابع : عن بعض مشايخنا قدس سرّهم تقسيم الاصول إلى مطلقة ، وتنزيلية ، وإحرازية. والأول كالبراءة ، والثاني كالاستصحاب ، والأخير كأصالة الصحة ـ مثلا ـ ولا بأس بهذا الاصطلاح ، ولكن ليست فيه ثمرة عملية ، لأن الاصول ـ كما يأتي ـ بعضها مقدّم على بعض ، سمّي بهذا الاصطلاح أو لا.

الثامن : مباحث الاصول العملية من علم الاصول ، لصحة وقوعها في طريق الاعتذار ، كما تقدم في أول الكتاب.

١٦١

الفصل الأول

البراءة

أدلة البراءة في الشبهات الحكمية مطلقا :

قد استدل عليها بالأدلة الأربعة ـ مع كونها من الفطريات العقلائية ـ لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فيكون الكتاب والسنة إرشادا إليها ، لا أن يكون ذلك كله أدلة مستقلة في مقابلها ، كما هو واضح.

الاستدلال بالكتاب :

استدل عليها من الكتاب بآيات ..

منها : قوله تعالى في سورة الطلاق : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها).

بدعوى : أن المراد بالموصول التكليف ، وبالإيتاء الوصول فيصير مفادها عدم التكليف بغير ما وصل ، وهو عبارة اخرى عن البراءة.

وفيه : أن محتملات الموصول والإيتاء ثلاثة :

الأول : ما مرّ.

الثاني : كون المراد بالموصول المال وبالإيتاء الإعطاء ، كما يقتضيه صدر الآية وذيلها ، فتصير من أدلة التمكن في وجوب النفقات الواجبة ،

١٦٢

ولا ربط لها بالمقام.

الثالث : كون المراد بالموصول العموم لكل شيء ـ حكما كان أو غيره ـ وبالإيتاء الإقدار ، فتصير من أدلة اعتبار القدرة في مورد التكليف مطلقا. ومع تعدد محتملاتها لا ظهور لها في المقام لو لم نقل بظهورها في الثاني بقرينة الصدر.

ولكن الظاهر صحة إرادة المعنى الثالث ، فيكون مفادها عدم التكليف بشيء أبدا حكما أو غيره إلا بما أقدره الله عليه ، وإعطاء المال وبيان التكليف نحو من الإقدار عرفا ، فيكون انطباقها على الصدر من باب تطبيق الكلي على بعض الأفراد ، كما تكون كذلك في قول مولانا الصادق عليه‌السلام حين سئل عن تكليف الناس بالمعرفة قال : «على الله البيان (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها)» ، فيتم الاستدلال بها للمقام أيضا ، لأنه من أحد أفراد المعنى العام.

ولكن يمكن المناقشة بأن مثل هذه الآيات في مقام بيان أنه لا تكليف قبل بعث الرسل وإنزال الكتب ، وتكون ساكتة عن حكم ما إذا تمت الشريعة وجهل حكم من أحكامها ، فلا بد فيه من الرجوع إلى دليل قبح العقاب بلا بيان ، وعلى فرض الدلالة تكون إرشادا إلى القاعدة ، كما مرّ.

ولكن الظاهر سقوط المناقشة من أصلها ، لظهور العموم في قبل البعثة وبعدها.

ومنها : قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).

بدعوى : أن مفادها ملازمة العذاب لتمامية الحجية وتحقق المخالفة ، ومع عدم تماميتها لا موضوع للعذاب ، كما أنه مع تماميتها وعدم المخالفة لا موضوع له أيضا ، فتكون الآية عبارة اخرى عما ارتكز في العقول من قبح العقاب بلا بيان ، فيصح الاستدلال بها للمقام.

واشكل عليه .. أولا : بأن الآية الكريمة في مقام الإخبار عن جريان عادة

١٦٣

الله جلّ جلاله في القرون الخالية والأمم الماضية بالنسبة إلى التعذيبات الدنيوية ، وليست في مقام بيان نفي العقاب الاخروي الذي هو محل البحث في المقام.

وفيه : أنها مطلقة تشملهما معا ، وهو المناسب لرأفته تعالى على عباده لا سيما بالنسبة إلى أمة خاتم أنبيائه.

وثانيا : بأن المنساق منها عرفا نفي فعلية العذاب ، لا نفي أصل الاستحقاق ، والثاني هو المفيد للمقام دون الأول.

وفيه : أن دعوى الملازمة العرفية بين نفي الفعلية ونفي الاستحقاق قريبة جدا ، خصوصا بالنسبة إلى عنايات الله غير المتناهية ، سيما قبل تمامية البيان والحجة ، لأن الملازمة حينئذ متحققة ، وخروج الظهار عن هذه الملازمة ـ على فرض التسليم ـ إنما هو لدليل خاص لا يضر بدعوى الملازمة ما لم يدل دليل على الخلاف ، وقد ورد الدليل على عدم الفعلية في مورد الشفاعة ومورد تكفير السيئات بالحسنات وبقي الباقي ، مع أن هذه الموارد خارجة تخصصا عن المقام لتمامية الحجة فيها على الحرمة ، فلا وجه للقياس ، فتتم دلالة الآية على البراءة ، ومع ذلك لا تكون دليلا تعبّديا ، بل تكون إرشادا إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان كما لا يخفى.

ثم إنه قد استدل بها الأخباريون على عدم الملازمة بين حكم العقل والشرع ، إذ لا ريب في ثبوت حكم العقل بحسن الإحسان وقبح الظلم قبل بعث الرسل ، فإن تمت الملازمة بين الحكمين يلزم ثبوت العقاب قبل البعثة أيضا ، لقاعدة الملازمة ، مع أن الآية تنفي العقاب فتبطل الملازمة بالآية.

وفيه : أن مورد الملازمة ـ كما مرّ ـ ما تطابقت عليه آراء العقلاء كافة ، كحسن الإحسان ، وقبح الظلم. ولا دليل على عدم العقاب في الظلم قبل البعثة مع استقلال عقل مرتكبه بقبح فعله ، والآية في مقام نفي العقاب قبل بعث الرسل كما ينبغي أن يؤخذ منهم ، لا نفي العقاب قبل البعثة مطلقا حتى في ما استقلت

١٦٤

آراء العقلاء كافة بقبحه.

وقد يستدل بآيات اخرى على البراءة قاصرة الدلالة ، وعلى فرض تماميتها تكون إرشادا إلى حكم العقل من قبح العقاب بلا بيان ، وقد ذكرها شيخنا الأنصاري قدس‌سره وبين قصور دلالتها بما لا مزيد عليه ، فراجع فلا وجه للتعرض لها.

الاستدلال بالسنة على البراءة :

منها : ما استفاض منه صلى‌الله‌عليه‌وآله بين الفريقين : «رفع عن أمتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، والطيرة ، والحسد ، والوسوسة في الخلق» ، واستفاضة نقله تغني عن البحث في سنده ، مع أن الصدوق نقله في الخصال بسند صحيح ، وأن متنه يشهد بصحة سنده.

والمنساق من الرفع عرفا ولغة خلاف الوضع ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم ـ الحديث ـ». فالمعنى أنه لم يوضع الإلزام في هذه الموارد ، سواء كان ذلك لعدم المقتضي له أصلا ، أو لوجود المانع ، وتجوز إرادة الدفع من الرفع أيضا لإطلاق كل منهما على الآخر في المحاورات ، وعلى أي تقدير يدل على أن الإلزام المجهول غير معاقب عليه فيثبت المطلوب.

وما يقال : أنه مناف لما اشتهر من اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ؛ وعدم الاختصاص بالأول.

باطل : لأن الاشتراك في ما إذا ثبت حكم بالدليل لا في ما إذا لم يكن على ثبوته دليل ، فلا موضوع لقاعدة الاشتراك هنا.

ثم إن البحث عن حديث الرفع يقع ضمن امور :

١٦٥

الأول : حيث أن الحديث ورد في مقام القاعدة الكلية والامتنان على الامة ، فمقتضى عمومه وإطلاقه تعميم متعلّق الرفع لكل ما أمكن رفعه في الشريعة وكان فيه التسهيل والامتنان على الامة ، سواء كان من التكليفيات. نفسيا كان التكليف أو غيريا ، حكميا كانت الشبهة أو موضوعية.

كما تعمّ الوضعيات أيضا تأسيسية كانت أو إمضائية ، أو كان من تنزيل الموجود منزلة المعدوم ، أو العكس. فيرفع الإلزام ، والصحة ، والجزئية ، والشرطية ، والسببية والمسببية ، والقضاء والإعادة ، وكل أثر شرعي إلا ما خرج بالدليل. واختصاص الإكراه والاضطرار بالموضوعات لقرينة خارجية لا يوجب الاختصاص في البقية ، كما هو واضح.

وليس المراد من الرفع التكويني منه حتى ينافي التحقق الخارجي ، بل المراد التشريعي التنزيلي ، كما في قوله عليه‌السلام : «لا شك في النافلة ، ولا شك لكثير الشك». فيكون بلحاظ الآثار الشرعية ، أو بلحاظ العقاب الذي هو أهم الآثار ، فيكون رفع غيره بالأولى ، أو بلحاظ التكليف فيتضمن رفع الجميع قهرا.

وهذه الاحتمالات وإن كانت مختلفة اعتبارا ، لكنها متلازمة عرفا ، كما لا يخفى فلا وجه للتفصيل. ويجري الحديث في جميع أبواب الفقه وتمام مسائله ، كما جرت سيرة الفقهاء قدس سرّهم على التمسك به كذلك.

وما يقال : أنه لا وجه لرفع المؤاخذة ، لأنها حكم العقل باستحقاق العقوبة ، وهي عقلية لا شرعية مع كونها مترتبة على المخالفة العمدية للتكليف المعلوم ولا موضوع لها في المقام قطعا.

مدفوع .. أولا : بكفاية الجعل الإمضائي في تعلّق الرفع به وهو متحقق.

[الثاني : كيفية ترتب الأثر الشرعي على الشيء] وثانيا : بأن المؤاخذة معلولة للإرادة التشريعية ، فما اشتهر من أنها من الامور العقلية لا وجه له.

نعم أصل استحقاق العقاب لدى المخالفة حكم عقلي وهو غير

١٦٦

المؤاخذة ، كما لا يخفى.

وثالثا : المرفوع هو إيجاب الاحتياط الذي لا ريب في كونه تحت اختيار الشارع وضعا ورفعا ، ولا يلزم من ذلك كون العقاب على نفس الاحتياط من حيث هو ، وهو باطل ، لأن الاحتياط مطلقا ملحوظ طريقا إلى الواقع ، فثواب فعله ثواب الواقع ، والعقاب على تركه عقاب على الواقع.

الثاني : الأثر الشرعي المترتب على الشيء.

تارة : يترتب عليه لا بشرط عن صفتي العلم والجهل.

واخرى : مترتب عليه بقيد العلم به.

وثالثة : بقيد الجهل به.

ومورد التمسك بالحديث خصوص القسم الأول فقط ، لأن في الثاني ينتفي الأثر بعروض الجهل لانتفاء الموضوع ، لفرض أخذ العلم فيه ، وفي الثالث لا وجه لرفع الأثر لفرض أن موضوعه الجهل ، وقد تحقق فكيف يرفع مع تحقق موضوعه ، وأمثلة الكل كثيرة في الفقه ، كما لا يخفى.

الثالث : حديث الرفع كسائر القواعد التسهيلية الامتنانية في طول الأحكام الواقعية ومقدمة عليها عند الكل ، بمعنى كونها مانعة عن وصولها إلى مرتبة الفعلية لمصالح شتى وأغراض صحيحة عقلائية لا تحصى ؛ لأن الواقعيات اقتضائيات محضة ووصولها إلى مرتبة الفعلية يحتاج إلى وجود الشرائط وفقد الموانع ، فالأدلة الامتنانية التسهيلية ، بل الثانوية مطلقا مبينات إما لفقد شرط عن فعلية الأحكام الواقعية أو وجود مانع عنها ، فلا محالة تتقدم عليها ، بلا فرق بين أن يسمى هذا التقدم تخصيصا أو حكومة أو ورودا ، إذ لا ثمرة عملية بينهما ، بل ولا علمية معتنى بها ، كما يأتي إن شاء الله تعالى.

ولا يلزم من هذا التقدم النسخ ، أو التصويب ، أو الصرف. لأن الأول عبارة عن زوال مدة التشريع ، ومثل حديث الرفع يبين قيد الحكم المشروع في مرتبة

١٦٧

الفعلية لا زوال مدته ، فلا ربط له بالنسخ.

والثاني عبارة عن حدوث الحكم والمصلحة بتمام مراتبه بالعلم به ، وهو غلط في المقام لفرض تحقق الواقع اقتضاء ومصلحة ، ومثل الجهل يمنع الفعلية وسقوط آثارها من المؤاخذة وغيرها.

والثالث عبارة عن صرف الواقع وتغييره بواسطة مثل حديث الرفع إلى خصوص صورة العلم مثلا ، وهو باطل أيضا إن اريد به الصرف حتى بالمرتبة الاقتضائية ، وإن اريد الصرف في المرتبة الفعلية فلا مشاحة في الاصطلاح ، وتقدم الأدلة التسهيلية الامتنانية على القوانين الأولية من المرتكزات العقلائية في قوانينهم المجعولة في كل مذهب وملة ، فلاحظ وتأمل وليس ذلك مختصا بالشريعة الإسلامية فضلا عن فن الاصول.

الرابع : مما تناله يد الجعل ـ ولو إمضاء ـ السببية والمسببية ، والشرطية ، والجزئية ، والمانعية ، والقاطعية ونحوها ، فيصح في المعاملات الإكراهية رفع السبب ، كما يصح رفع المسبب ، بل يصح رفعهما معا أيضا ، وفي موارد نسيان الجزء أو الشرط أو المانع أو القاطع يصح رفع نفس هذه العناوين أولا وبالذات ، كما يصح رفع وجوب التدارك من الإعادة أو القضاء مما يكون من الامور الشرعية ، لفرض أن الكل مما تناله يد الجعل ولو إمضاء.

نعم ، مع إمكان جريان الأصل في رفع الموضوع لا وجه لجريانه في رفع الحكم ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، كما أنه مع كثرة الأدلة الثانوية الواردة في نسيان الجزء والشرط خصوصا في الصلاة لا نحتاج إلى حديث الرفع.

إن قلت : أن الحديث ورد مورد التسهيل والامتنان والتكليف في مورد الجهل والخطأ والنسيان قبيح عند العقلاء فكيف يثبت تسهيل وامتنان في ما يكون قبيحا عندهم ، ولو لا حكم الشرع بالرفع أيضا فالتكليف مرفوع في هذه الموارد عقلا ، فلا تصل النوبة إلى الرفع الشرعي أصلا حتى يتحقق فيه التسهيل

١٦٨

والامتنان. وكذا الكلام في «ما لا يطيقون» بل ويشكل من ذلك في قوله تعالى : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) لأنه بعد أن كان التكليف بما لا يطاق قبيحا عقلا لا وجه لهذا الدعاء.

قلت : ما هو قبيح في الموارد الثلاثة هو التكليف بقيد الجهل والخطأ والنسيان. وأما وجوب الاحتياط والتحفظ حتى لا تتحقق هذه الامور مهما أمكن ، أو وجوب التدارك بعد زوالها فلا قبح فيه أصلا ، فرفع ذلك يكون لتسهيل الشرع وامتنانه.

وأما الآية الكريمة فلما لا يطاق مراتب متفاوتة.

الأولى : ما لا يطاق عقلا.

الثانية : ما يكون خلاف المتعارف.

الثالثة : ما يكون خلاف السهولة ، كوجوب الصوم في كل سنة شهرين أو أربعين يوما ـ مثلا ـ لا يكون مما لا يطاق عقلا ولا عرفا ، ولكنه خلاف السهولة ، وهكذا بالنسبة إلى جميع التكاليف ، فالدعاء ورد بالنسبة إلى القسم الأخير فقط.

الخامس : قد ذكر في الحديث : الطيرة ، والحسد ، والتفكر في الوسوسة في الخلق. ولها مراتب متفاوتة جدا.

منها : ما تترتب عليها الآثار الخارجية المحرّمة ، ولا ريب في حرمتها.

ومنها : ما تكون ثابتة في النفس وتوجب اضطرابها دائما من دون أن تترتب عليها الآثار المحرمة ، ولا ريب في أنها من الصفات الذميمة النفسانية ، ويمكن أن يكون معنى رفعها رفع حرمتها ، أو رفع مطلق الآثار عنها ببركة الإسلام وتفضل نبوة خير الأنام.

ومنها : ما تكون من مجرد الخطور النفسي مع عدم بقاء له في النفس أصلا ، فكيف بالأثر الخارجي ، وهذه المراتب مختلفة بالنسبة إلى النفوس ، ولا يبعد أن يكون قول الصادق عليه‌السلام : «ثلاثة لا يخلو منها نبي وما دونه : الطيرة ،

١٦٩

والحسد ، والتفكر في الوسوسة في الخلق ـ الحديث ـ» إشارة إلى القسم الأخير بالنسبة إلى النبي ، فبمجرد أن يخطر منها شيء على قلبه الأقدس يتداركه الله تعالى بتأييد غيبي ، كما في قوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) وهذا لا ينافي العصمة في شيء أبدا ، ولكنه مع ذلك تجاسر بالنسبة إلى مقاماتهم الشريفة خصوصا خاتم الأنبياء وأوصيائه عليهم‌السلام ، فلا بد وأن يراد بالنسبة إلى النبي من الوصف بحال المتعلّق لا الذات ، كما ذكره الصدوق قدس‌سره من أنه يتطير بالنبي ، لقوله تعالى : (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) ، ويحسد عليه ، لقوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ). ويكون من يفكر في الوسوسة في الخلق في أطرافه من المنافقين ، لقوله تعالى : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ). فراجع وتأمل.

السادس : المعروف عدم اعتبار مثبتات الاصول العملية ، فلو كان مجرى البراءة أولا وبالذات أمرا عرفيا أو عقليا ، ويترتب عليه أثر شرعي لا اعتبار بها ، كما أن المعروف اعتبار مثبتات الأمارات ؛ فإنها إن جرت في مورد الأمر العرفي أو العقلي ويترتب عليه أثر شرعي ، تعتبر وتكون حجة ، وحينئذ ففي كل مورد يكون جريان الأصل مثبتا ، لنا أن نتمسك بنفس حديث الرفع الذي هو من الأمارات المعتبرة ويحكم بالأثر الشرعي ولو كان بواسطة أمر عقلي أو عرفي ، ويأتي إن شاء الله تعالى في الاستصحاب ما ينفع المقام. هذا بعض ما يتعلق بحديث الرفع.

ومنها : مرسل الصدوق : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي». والمناقشة فيه بالإرسال مع اعتماد الفقهاء عليه واعتضاده بروايات مختلفة في أبواب متفرقة ، وسهولة الشريعة المقدسة مما لا وجه لها.

نعم يحتمل فيه وجوه :

الأول : أن يراد بالشيء ما يكون بعنوانه الأوّلي من حيث هو ، وبالورود

١٧٠

أصل التشريع ، فيكون دليلا لبحث الحظر والإباحة ، لا البراءة لمجهول الحكم بعد تمامية التشريع من كل جهة إلا أن يشملها بالملازمة العرفية ، وفيه تأمل.

الثاني : أن يراد به مجهول الحكم ، وبالورود مطلق التشريع ، فتكون أدلة الاحتياط في الشبهة التحريمية الحكمية حينئذ مقدمة عليه ، لكفايتها في تشريع الاحتياط ، فيصير المرسل بناء عليه من أدلة الأخباريين.

الثالث : أن يراد بالشيء مطلق مجهول الحكم ، وبالورود الحكم الثابت من كل جهة الغير القابل للمناقشة العرفية الصحيحة أصلا ، فيصير دليلا للبراءة حينئذ لما يأتي من المناقشة في أدلة الاحتياط ، وكونه ظاهرا في خصوص الأخير مشكل.

ومنها : قوله عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم».

وفيه : أن ما يتعلّمه الناس ..

تارة : يكون مما رغب فيه الشرع.

واخرى : مما لم يرغب فيه ولم ينه عنه.

وثالثة : يكون مما نهى عنه لكون مفسدة تعلمه أكثر من مصلحته لقصور أفهام الناس عن الإحاطة به على ما هو عليه ، والمنساق من الحديث هو الأخير فلا ربط له بالمقام ، فيكون مثل الأحاديث الناهية عن عدم الغور في القضاء والقدر ونحوهما من أسرار التكوين.

ومنها : صحيح ابن الحجاج عن الكاظم عليه‌السلام : «عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة ، أهي لا تحل له أبدا؟ فقال عليه‌السلام : أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها ، فقد يعذر الناس بما هو أعظم من ذلك. قلت : بأي الجهالتين أعذر ، بجهالة أن ذلك محرم عليه أم بجهالة أنها في العدة؟ قال عليه‌السلام : إحدى الجهالتين أهون من الأخرى ، الجهالة بأن الله تعالى حرم عليه ذلك ، وذلك لأنه لا يقدر معه على الاحتياط. قلت : فهو في الأخرى معذور. قال عليه‌السلام :

١٧١

نعم إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوجها».

وفيه : أنه قضية في واقعة خاصة يعترف بها الكل من الأخباري والاصولى ، كسائر الموارد الخاصة التي ورد فيها الدليل الخاص على عذرية الجهل ، كالجهر في موضع الإخفات وبالعكس ، والتمام في مورد القصر جهلا ، مع أن في مورد الصحيح ـ مقتضى أصالة بقاء العدة إن كانت الشبهة موضوعية ، وأصالة عدم ترتب الأثر على العقد إن كانت حكمية ـ عدم جواز الاقتحام بخلاف المقام الذي يعتبر فيه أن لا يكون أصل موضوعي في البين أصلا.

نعم قوله عليه‌السلام : «فقد يعذر الناس بما هو أعظم من ذلك» لا يخلو عن تأييد للمقام.

ثم إنه قد استشكل عليه : بأنه إن كان المراد بالجهالة في الحكم أو الموضوع الغفلة وعدم الالتفات أصلا ، فلا يقدر على الاحتياط حينئذ فيهما معا ، فلا وجه للتفرقة بينهما.

وإن كان المراد عدم العلم مع الالتفات إليه فيقدر على الاحتياط فيهما معا ، فلا وجه للتفرقة على أي تقدير. وكون المراد بالجهالة في الحكم الغفلة ، وفي الموضوع عدم العلم مع الالتفات إليه خلاف الظاهر.

واجيب : باختيار القسم الأخير ، وذلك لأن عدم العلم مع الالتفات إليه بالنسبة إلى نفس الحكم في هذا الأمر العام البلوى مما لا ينبغي بالنسبة إلى المسلم. وأما الغفلة عنه فلا بأس به ولا منقصة فيه على أحد ، فكأنه عليه‌السلام أشار إلى أن المسلم في هذه الامور الابتلائية لا بد وأن يكون عالما بها ، وإن حصل منه جهل فهو غفلة لا أن يكون من عدم العلم ، ويمكن استعمال الجهالة فيه في المعنى الأعم من الغفلة وغيره ، فيكون إرادة خصوص الغفلة بالنسبة إلى الحكم من باب تعدد الدال والمدلول.

ومنها : قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو حلال حتى تعرف

١٧٢

الحرام منه بعينه». أو «كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه».

وفيه : أن المنساق منهما عرفا الشبهات الموضوعية واستفادة الحكمية منها تكلف ، كما لا يخفى. ومع الشك يكون من التمسك بالعام في الشبهة الموضوعية. مع أن في غيرهما غنى وكفاية.

واستدل بالإجماع أيضا على البراءة في الشبهة التحريمية الحكمية.

ويرد : بأنه غير متحقق ، لكثرة الخلاف والمخالف ، وعلى فرض تحققه فهو معلوم المدرك.

وأما دليل العقل فلا ريب في استقرار بناء العقلاء في كل عصر وزمان على الحكم بقبح العقاب بلا بيان حتى عدّ ذلك من القواعد العقلائية ، والأدلة السابقة بعد تماميتها تكون إرشادا إليها ، وبعد عدم تمامية ما يأتي من أدلة الاحتياط تتم القاعدة من كل جهة.

ثم إنه قد يستدل بأصالة البراءة قبل التكليف أو قبل البعثة ولا بأس به.

والإشكال عليه بأنه من التطويل بلا طائل لكفاية مجرد الشك في البراءة بلا احتياج إلى لحاظ الحالة السابقة.

مدفوع : بالفرق بين مجرد عدم البيان ، والبيان على العدم ، والاستصحاب من الثاني فيكون آكد لا محالة.

١٧٣

الفصل الثاني

ما يتعلق بالاحتياط

أدلة القول بوجوب الاحتياط شرعا في الشبهات الحكمية التحريمية والجواب عنها :

استدل عليه بالأدلة الثلاثة.

فمن الكتاب : بما دل على النهي عن القول بغير العلم كقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) والنهي عن الإلقاء في التهلكة مثل قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ، وبما دلّ على الأمر بالتقوى نصا أو ظاهرا ، أو بالفحوى التي تقرب من مائتي آية.

والجواب عن الكل : إن القول بالبراءة مستندا إلى الحجة المعتبرة ، خصوصا القاعدة العقلائية المتفق عليها بين الكل ، وهي قبح العقاب بلا بيان ليس قولا بغير العلم ولا من الإلقاء في التهلكة ولا مخالفا للتقوى ، كما هو أوضح من أن يخفى لأن التقوى هي إتيان الواجبات وترك المحرمات ، فلا بد أولا من إثباتهما ثم الامتثال حتى تتحقق التقوى ، وإثبات أصل الحكم بأدلة التقوى من الدور الواضح. وكذا آية التهلكة لا بد فيها أولا من إثبات التهلكة ثم النهي عن الإلقاء فيها وإثباتها بنفس النهي دور باطل.

ومن السنة : بما يظهر منه لزوم الاحتياط والتوقف في الشبهات وأنه خير من الاقتحام في المهلكة ، الوارد بألسنة مختلفة ، راجع الباب الثاني عشر من كتاب قضاء الوسائل فقد جمع فيه واحدا وسبعين حديثا. مع كون بعضها غير

١٧٤

مربوط بالمقام إلا بالمناسبات البعيدة ، ولو اريد أن يجمع مثلها لأمكن أن يجمع أكثر منها ، كما لا يخفى على الخبير ، وفيها الأمر بالاحتياط بطرق شتى ، كما هو ظاهر للبصير. ولكن محتملات وجوبه أربعة :

الأول : الوجوب النفسي المولوي ، كوجوب الصلاة والزكاة ونحوهما.

وفيه : أنه خلاف المنساق من الاحتياط لدى المتشرعة ، بل أهل المحاورة ، فإن المتبادر منه عندهم الطريقية المحضة ، كما في جميع الطرق والأمارات ، والاجتهاد والتقليد لا النفسية من كل حيثية وجهة ، مع أن في تلك الروايات قرائن تدل على خلافه. وهي واضحة بأدنى مراجعة ، كقوله : «ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيها».

الثاني : الغيري المقدمي.

وفيه .. أولا : أنه يتوقف على ثبوت وجوب ذي المقدمة ، وهو منحصر بأطراف العلم الإجمالي ، أو الشبهات البدوية قبل الفحص ، والمقام ليس منهما في شيء.

وثانيا : بما مرّ من أن وجوب المقدمة عقلي وليس بشرعي ، فيكون حينئذ إرشادا إلى حكم العقل بوجوبه في الموردين ، فيصير أجنبيا عما نحن فيه ، ولكن ذكرنا ان وجوب المقدمة شرعي فراجع.

الثالث : النفسي الطريقي المحض.

ويرد : بما مرّ من عدم ملاك النفسية فيه بوجه ، فكيف يحتمل النفسية في مثل قوله عليه‌السلام : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» ، وهل يصح التمسك به في ما ليس فيه الهلكة أبدا لقيام الدليل العقلي على قبحها.

الرابع : الإرشاد المحض إلى حسن الاحتياط عقلا ، الذي قد يصل إلى حدّ الوجوب ، كما في أطراف العلم الإجمالي وما قبل الفحص في الشبهات البدوية ، وقد يبقى على مجرد حسنه فقط ، كما في المقام ، وهذا الوجه هو المنساق عرفا

١٧٥

مما ورد في الاحتياط عن الشارع.

وبالجملة : الاحتياط بحسب المرتكزات طريقي محض ولا يزيد في الطريقية على الأمارات المعتبرة ، فكما أنها منجزة في ظرف تنجز الواقع يكون الاحتياط أيضا كذلك ، وهو منحصر بأطراف العلم الإجمالي وما قبل الفحص ، وفي غيرهما لا تنجز للواقع ، فلا وجه لتنجز الاحتياط الممحض في الطريقية ، وجميع ما ورد في الاحتياط والتوقف في الشبهات إنما هو في مقام بيان كثرة الاهتمام بالواجبات والمحرمات ، وأنهما بمثابة من الأهمية ينبغي أن يحتاط في مشتبه الوجوب فعلا ومشتبه الحرمة تركا ، وليس هذا إلا معنى حسن الاحتياط عقلا.

هذا مع أن بعض ما استدلوا به لا ربط له بالمقام ، كصحيح ابن الحجاج الوارد في الصيد : «إذا أصبتم بمثل هذا ولم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه وتعلموا». فإنه في الشبهات البدوية قبل الفحص التي اتفق الكل على عدم صحة البراءة فيها. وكموثق ابن وضاح الوارد في دخول وقت المغرب : «أرى لك أن تأخذ بالحائطة لدينك». فإنه إن كان في الشبهة الموضوعية فمقتضى الاستصحاب عدم دخول وقت المغرب وفي مثله لا يقول أحد بالبراءة ، وإن كان في الشبهة الحكمية فاتفق الكل على دخوله بذهاب الحمرة ، فلا وجه للاحتياط على كلا التقديرين.

إن قلت : ما وجه أمره عليه‌السلام بالاحتياط ، ولم لا يبين الحكم الواقعي مع أنه عليه‌السلام عالم به ، وليس من شأنه عليه‌السلام الأمر بالاحتياط الذي يستلزم الجهل بالواقع والمعصوم منزه عنه؟

قلت : لعله لعدم قدرته عليه‌السلام على إظهار الواقع لقصور فهم المخاطب ، أو لجهة اخرى ، فليس منشأ الأمر بالاحتياط منحصرا في الجهل بالواقع ، بل له مناشئ مختلفة كما لا يخفى.

١٧٦

الدليل العقلي على وجوب الاحتياط :

وذلك من وجوه :

الأول : أن المقام من صغريات الشك في الفراغ ، ومقتضى حكم العقل فيه الاشتغال للعلم الإجمالي بوجود المحرمات في الشريعة فيحكم العقل بالاحتياط في تمام الشبهات تحصيلا للعلم بالفراغ ، فإدخال المقام في الشبهات في أصل التكليف مغالطة.

وفيه .. أولا : النقض بالشبهات الوجوبية التي اتفق الأخباري ـ كالاصولي ـ على البراءة فيها مع جريان هذا الدليل في الوجوبية والتحريمية معا من غير فرق بينهما.

وثانيا : بأن العلم الإجمالي ليس مطلقا من كل جهة ، بل الحق في بيانه أن يقال : إنا نعلم إجمالا بوجود المحرمات في ما بأيدينا من الطرق والاصول المعتبرة بحيث لو تفحصنا لظفرنا بها ، وقد تفحصنا وظفرنا بها ـ والحمد لله ـ فلم يبق علم إجمالي منجز في البين أصلا.

وثالثا : أنه لو كان مطلقا فلنا علمان إجماليان ..

أحدهما : بالمحرمات.

وثانيهما : بطرق معتبرة عليها.

وهذان العلمان متقارنان حدوثا ، وفي مثله لا تنجز للعلم الإجمالي بالمحرمات في غير موارد الطرق والأمارات ، فإن قيام الحجة المعتبرة في مورد العلم الإجمالي ..

تارة : مقدم على حدوثه.

واخرى : مقارن معه.

وثالثة : متأخر عنه بعنوان الكشف عنه ، أو بعنوان اكتفاء الشارع بامتثال

١٧٧

موارد الحجة عن امتثال جميع أطراف العلم الإجمالي. وفي جميع هذه الصور لا أثر للعلم الإجمالي في غير موارد الحجة عند العقلاء ، سواء سمي هذا الانحلال حقيقيا أو حكميا ، إذ لا ثمرة عملية بين التعبيرين ، بل ولا علمية معتدا بها ، كما لا يخفى على أهله.

الثاني : أن الأصل في الأفعال غير الضرورية التي تقوّم بها نظام العباد والبلاد هو الحظر ، لأنه تصرف في سلطان المولى بدون إذنه وهو قبيح عقلا ، فلا يجوز الاقتحام فيها إلا مع الترخيص الشرعي.

ويرد .. أولا : بأن هذه المسألة خلافية غير مسلّمة ، فلا وجه لجعلها دليلا للمقام.

وثانيا : بأنها بحث عن حكم الأشياء قبل البعثة وظهور الشريعة ، وما نحن فيه بحث عن حكمها بعد تكميل الشريعة وعدم ظهور دليل لنا على حكم من الأحكام ، فلا ربط لإحداهما بالاخرى.

الثالث : قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل ، فإن اقتحام محتمل الحرمة مظنة للضرر ، والعقل حينئذ يحكم بعدم جوازه دفعا للضرر.

ويرد .. أولا : بالنقض بالشبهات الوجوبية.

وثانيا : بأنه إن اريد بالضرر العقاب فلا عقاب في البين ، لقاعدة قبح العقاب بلا بيان. وإن اريد به الضرر الدنيوي فهو ممنوع صغرى وكبرى ، كما مرّ في بعض أدلة حجية مطلق الظن.

فتلخص : أن أدلة القول بوجوب الاحتياط في ما لا نص فيه من الشبهات البدوية التكليفية ، قاصرة عن إيجابه فيها تحريمية كانت أو وجوبية.

وكذا الكلام بعينه في مورد إجمال النص أو تعارضه ، لعدم تمامية البيان الواصل إلى المكلف فيهما أيضا ، فتجري فيهما أدلة البراءة ، كما تجري في ما لا نص فيه ، إذ لا اعتبار بالمجمل ولا بما هو معارض بمثله لدى العرف والعقلاء ،

١٧٨

فلا وجه لتوهم البيان في الأول ، كما لا وجه لتوهم وجوب الاحتياط في الثاني بمرفوعة زرارة الدالة على الاحتياط في تعارض النصين ، لقصورها عن إثبات إيجاب الاحتياط فيه ، كما مرّ في مباحث التعارض ، هذا مع اتفاق الأخباريين إلى الرجوع إلى البراءة في الشبهات الوجوبية أيضا كالاصوليين.

ثم إنه لا فرق في الحرمة المشكوك فيها بين كونها نفسية أو غيرية ، كما لا فرق في الوجوب المشكوك فيه بين كونه نفسيا أو غيريا ، عينيا أو كفائيا ، لشمول أدلة البراءة لجميع ذلك ، كما هو واضح. هذا كله في الشبهة الحكمية تحريمية كانت أو وجوبية بجميع الأقسام المتصورة فيهما.

وأما الموضوعية فاتفق العلماء من اصولييهم وأخبارييهم على البراءة فيها ، ويدل عليها مضافا إلى الإجماع المحقق ، جميع ما مرّ من أدلة البراءة من الكتاب ، والسنة ، والعقل ، لأن المراد بالبيان الذي لا تجري معه قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ولا أدلة البراءة ، هو تبين الحكم بقيوده المعتبرة فيه لا مجرد صدوره من الشارع بأي وجه اتفق ، ولا ريب أن تبين الموضوع من حدود الحكم وقيوده ، ومع عدمه لا تتم الحجة والبيان ، كما هو أوضح من أن يخفى.

وينبغي التنبيه على امور :

الأول : قد تسالم العلماء ، بل ارتكز في النفوس أن الأمارات مقدمة على الاصول الموضوعية التي هي عبارة عما يرتفع بها موضوع أصل آخر وهو الشك ، وهي مقدمة على الاصول الحكمية ، فلا يجري الأصل الموضوعي مع وجود الأمارة ، كما لا يجري الأصل الحكمي مع وجود الأصل الموضوعي ، وهذا من الامور المسلّمة الجارية في تمام أبواب الفقه ، فلا تجري أصالة البراءة مطلقا مع وجود أصل موضوعي في موردها ، كأصالة عدم التذكية ، وأصالة احترام النفس والعرض والمال ، وأصالة الحرية ونحوها من الاصول المعتبرة

١٧٩

التي تجري في بعض الموارد ، فيزول بها الشك فينتفي موضوع جريان البراءة قهرا.

وقد جرت العادة بذكر بعض ما يتعلّق بأصالة عدم التذكية في المقام ، لمناسبة أنها من الاصول الموضوعية التي تمنع عن جريان أصل البراءة والإباحة الذي هو أصل حكمي ، ولباب القول فيها يقتضي التعرض لأمرين :

الأول : أنه نسب إلى المشهور أن غير المذكى في اصطلاح الكتاب والسنة عبارة اخرى عن الميتة ، فهما وإن اختلفا مفهوما لكنهما متحدان شرعا ، ويترتب عليه أنه بجريان أصالة عدم التذكية يحكم بالنجاسة وحرمة الأكل ، لفرض أن غير المذكى ميتة شرعا ، فلا يكون الأصل مثبتا. لأنه مع وحدة الموضوع يثبت حكم كل منهما للآخر طبعا.

ولكن يمكن المناقشة فيه : بأنه من مجرد الدعوى بلا شاهد عليه ، بعد الاعتراف بكونهما مختلفين لغة وعرفا ، المستلزم لاختلاف الحكم. والأخبار الواردة على قسمين :

الأول : وهي كثيرا ما تشتمل على لفظ «لا تأكل» عند فقد بعض الشرائط ، ولفظ «كل» عند تحققها ، كقول الباقر عليه‌السلام : «لا تأكل من ذبيحة ما لم يذكر اسم الله عليها». وعن الصادق عليه‌السلام بعد أن سئل عن ذبيحة ذبحت لغير القبلة ، فقال عليه‌السلام : «كل ولا بأس ما لم يتعمده». وظهور مثل هذه الأخبار في حرمة الأكل مما لا ينكر ، وأما النجاسة فلا يستفاد منها بوجه من الوجوه ، مع أنها واردة في مقام البيان ومحل الحاجة ، ولا بد وأن يبين النجاسة أيضا ، بل هي أهم لاستلزامها حرمة الأكل أيضا بخلاف العكس.

الثاني : جملة من الأخبار الواردة في ما قطعت من الحيوان ، كقول علي عليه‌السلام : «ما أخذت الحبالة من صيد فقطعت منه يدا أو رجلا فذره ، فإنه ميت ، وكلوا مما أدركتم حيا وذكر اسم الله عليه». وقول الصادق عليه‌السلام : «ما أخذت

١٨٠