تهذيب الأصول - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

تهذيب الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

في كل عصر ثقات يحفظونها رواية ونقلا واجتهادا وبحثا إلى غير ذلك مما له دخل في البقاء حتى يظهر الحق ، وهذا الأمر المتعارف يكون من طرق إحراز الوثوق ما لم تكن قرينة على الخلاف.

العاشرة : وثوق الراوي على قسمين :

الأول : أنه موثوق به في مقاله.

الثاني : أنه مضافا إلى ذلك لا ينقل إلا عن الثقة ، وهذا القسم كثير في رواياتنا. ولا يختص بخصوص الثمانية عشر نفرا الذين ادعي الإجماع على اعتبار مراسيلهم ، كما ذكرناهم في مهذب الأحكام مع أن في اعتبار مثل هذا الإجماع بحثا ، ويمكن أن يراد به اتفاق جمع من أهل الخبرة لا الإجماع المصطلح حتى يستشكل عليه.

الحادية عشرة : ما هو المعتبر في الوثوق إنما هو الوثوق من جهة ـ أي الصدق فقط ـ لا الوثوق من كل جهة ، فلو كان الراوي غير موثوق به في نقل القصص ـ مثلا ـ وموثوقا به في نقل الأحكام الفرعية يقبل قوله في ما كان موثوقا به فيه.

الثانية عشرة : فى والتضعيف يمكن أن تكون جملة كثيرة من التضعيفات من دسائس المعاندين ، كما يصرحون في كتبهم القديمة والحديثة من أن أحاديث الشيعة ضعيفة ومزورة. والتوجه إلى هذه الجهة يحتاج إلى فحص كامل في كتبهم. ومع ذلك توثيقنا لرجالنا لا ينفعهم كالعكس ، ويا ليت العلماء بذلوا جهدهم في تطبيق أخبارنا مع أخبارهم النبوية ، والأخذ بالمتفق عليه بيننا وبينهم وهو كثير جدا مع اختلاف في العبارة ، وبذلك ترتفع جملة من التفصيلات والخلافات.

ثم إن جملة كثيرة من عبارات التضعيف لا ينبغي صدورها من العلماء ، وقد كان المرجو منهم عدم التعرض لها إلا بعد الفحص والتثبت الأكيد.

١٢١

الأمر الخامس

الاجتهاد والتقليد

من الحجج المعتبرة بين العقلاء كافة الاجتهاد والتقليد ، ولا يختصان بفن دون فن ، ولا بملة دون اخرى ، بل يجريان في جميع الفنون والصنائع والملل ، وهما من المبادئ لجميع العلوم ، لأن كل علم يحتاج إلى الفكر والتأمل وهو إما اجتهادي أو تقليدي.

نعم لا يتصف علم الباري وما أفاضه تعالى إلى أوليائه بهما ، لأنه أجل من أن يتصف بالاجتهاد والتقليد ، أما علم الله تعالى فلأنه عين ذاته ولا تدخل للفكر فيه ، بل يستحيل ذلك عليه تعالى ، لأنه ملازم للجهل. وأما علم الإمام عليه‌السلام فلأنه إفاضي بلا ترتيب مقدمات الفكر ، وعمله عليه‌السلام صحيح وإن كان لا عن اجتهاد ولا تقليد ولا احتياط ، بخلاف عمل غيره عليه‌السلام فإنه لا بد وأن يكون عن واحد منها.

تعريف الاجتهاد والتقليد :

لم يرد لفظ الاجتهاد ـ بما هو المعروف في الاصول والفقه ـ في الكتاب الكريم ولا في نصوص المعصومين عليهم‌السلام ، بل ولا أثر له في كلمات القدماء قدس سرّهم وإنما حدث في الطبقات الأخيرة ، فلا وجه للنقض والإبرام على ما قيل في تعريفه. مع أنه من الشرح اللفظي فقط ، والإشكال على الشروح اللفظية ليس من دأب العلماء.

والمعروف أنه : استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم.

١٢٢

وفيه : أنه إن كان المراد به الغالب فله وجه ، وإلا فلا تنحصر الأحكام بخصوص المظنونات ، بل تشمل اليقينيات والمسلّمات.

كما أن تعريفه بأنه : استفراغ الوسع في تحصيل الحجة على الحكم.

مخدوش : أيضا ، إذ لا يشمل جميع موارد المعذورية في ترك الواقع ، إذ ليس فيها حكم إلا أن يعمم الحكم إليها أيضا.

ولا بد وأن يفسر أصل الاجتهاد بتفسير كلي يشمل جميع العلوم ، ويذكر فيه قيد خاص مختص بالعلم المطلوب فيه الاجتهاد ، كما هو الشأن في كل تعريف له صغريات كثيرة.

ولعل الأولى تعريفه : بأنه بذل الطاقة في تحصيل الوظائف الدينية من الأخبار الشارحة للكتاب.

ثم إنه قد نسب إلى بعض تحريم الاجتهاد ، فإن أراد به القياس والاستحسان والرأي في مقابل المعصوم عليهم‌السلام ، فلا يذهب أحد من الإمامية إلى جوازه ، وإن أراد تحريم بذل الطاقة البشرية في تحصيل الوظائف الدينية من الأخبار المعصومية الشارحة للكتاب الكريم ، فلا يتوهم أحد مرجوحيته فكيف بحرمته ، لأن الاستفادة من الظواهر وردّ متشابهات الأدلة الى محكماتها ، والجمع العرفي ـ المقبول لدى العقلاء بين مختلفاتها ـ من الفطريات البشرية غير المختصة بمذهب وملة.

ثم إن مقتضى الأصل عدم حجية الرأي ونفوذ الحكم إلا في ما دلّ عليه الدليل بالخصوص ، فيعتبر في الاجتهاد جميع ما يحتمل دخله فيه ، ولكن مقتضى إطلاق مثل قوله عليه‌السلام : «انظروا إلى رجل منكم نظر في حلالنا وحرامنا» ، وقوله عليه‌السلام : «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا» ، كفاية ما له دخل في فهم المراد من الكلام وفي الاستظهارات العرفية من الأدلة ، كاللغة والعلوم الأدبية في الجملة ، وما له دخل في حصول الوثوق بصدور الأخبار ، ولا

١٢٣

يعتبر فيها الاجتهاد ، بل يكفي حصول الاطمئنان من الرجوع إلى أقوال خبراء الفن ، كما استقرت عليه سيرة الفقهاء قديما وحديثا ، ولو اعتبر الاجتهاد في مباديه لتعذّر حصوله عادة في هذه الأعمار المتعارفة ، وقد جرت السيرة على الاهتمام بصناعة الاصول ، لأنه مجمع مبادئ الاجتهاد ومؤلف متفرقاتها ، وقد ذكرنا في الجزء الأول عند تعريفه أنه : بداية الاجتهاد ونهاية العلوم الدخيلة في الاستنباط وإن اشتملت على ما ليس فيه ثمرة عملية بل ولا علمية معتنى بها ، كجلّ مباحث الوضع والصحيح والأعم ، والمشتق ، واتحاد الطلب والإرادة ، وبحث الانسداد ونحوها مما هو كثير كما هو واضح على الخبير.

ويكفي في الاجتهاد من الاصول الإحاطة بالمسلّمات والمشهورات بين العقلاء والعلماء وما هو المعتبر لدى الأذهان المستقيمة ، ولا عبرة بالدقيات العقلية والاحتمالات البعيدة لعدم ابتناء الفقه عليها ، كما لا يعتبر إبداء الرأي المسبوق بالعدم في الاصول ، لأن الآراء محصورة بين النفي والإثبات ، بل يكفي الإذعان الاعتقادي عن تأمل واجتهاد بما هو المألوف بين أهل المحاورة في كيفية الاحتجاج والاستظهار ، وتأليفات الفقه الاستدلالي في هذه الأعصار وما قاربها تشتمل على القدر اللازم من الاصول ، ويمكن أن يعد الزائد عليه من الفضول. ومن أهم المبادئ الفضائل النفسانية والعمل بما يوجب التقرب إلى الحضرة الربوبية والتجنب عما يسخطه ، فإن جميع الإفاضات من حضرته وتمام العنايات من ناحيته ، قال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) ، هذا بعض الكلام في أصل الاجتهاد.

١٢٤

التقليد

التقليد هو جعل العامي وظائفه الدينية العملية في عنق المجتهد ليحتج على صحتها وفسادها ، أو جعل المجتهد الوظائف العملية المجتهد فيها في عنق العامي ليعمل بها ، أو هما معا ولا محذور في الجميع ، وبحسب النتيجة عبارة عن مطابقة العمل لرأي من يصح الاعتماد عليه. وما قيل : من أنه الالتزام بالعمل برأي المجتهد ، أو هو العمل برأيه ، كل ذلك من باب الغالب والمقدمية لمطابقة العمل مع رأي من يصح الاعتماد على رأيه ، لا أن يكون لما ذكر موضوعية خاصة.

ثم إن دليل وجوب التقليد على الجاهل السيرة العقلائية ، وإجماع الفقهاء ، والآيات مثل قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ، والأخبار كما تقدم ، وقد فصّلنا القول في ذلك في كتابنا (مهذب الأحكام) فراجع.

المطلق والمتجزّي :

وهما .. تارة : بالنسبة إلى الكيفية ، أي : الاشتداد والضعف في قوة الاجتهاد.

واخرى : بالنسبة إلى الكمية ، أي : الإحاطة بتمام أحكام الفقه كلها أو ببعضها. ولا اختصاص لهما بالفقه بل يجريان في جميع العلوم والصنائع مطلقا.

أما المطلق في الكيفية والكمية بحيث لم يمكن حصول قوة الاجتهاد فوقه كما وكيفية ، فالظاهر امتناعه عادة ، لعدم وقوف القوة والاستعداد على حدّ خاص بالنسبة إلى شخص واحد فكيف بأشخاص متعددة ، فكلما كثر بذل

١٢٥

الجهد والطاقة تزداد تلك القوة كمالا فيهما ، ولذا كثر الاختلاف في الفتوى حتى من فقيه واحد في مسألة واحدة ، لاختلاف القوة في الشدة والضعف والإحاطة وعدمها.

نعم ، لا ريب في وجود المطلق في الجملة في مقابل المتجزّي كذلك ، كما لا ريب في حجية رأيه ونفوذ حكمه وجواز تقليده ، لأنه القدر المتيقن من الأدلة ، سواء كان من القائلين بانسداد باب العلم ، أو قال بانفتاحه. أما على الأخير فواضح. وأما على الأول فلأن الانسداد لا ينافي صحة الاعتذار بالرأي والنظر ، وهي تجتمع مع الجهل بالواقع وسدّ باب العلم عليه ، كما في موارد الاصول العملية التي يصح الاعتذار بها شرعا وعقلا.

وأما المتجزّي : فالحق الموافق لوجدان كل عالم في كل علم إمكانه وتحققه خارجا ، ومقتضى الإطلاقات والسيرة في الجملة نفوذ حكمه وحجية رأيه وصحة تقليده إلا إذا كان بحيث تنصرف الأدلة اللفظية عنه ، ويشك في ثبوت السيرة فيه ، فمقتضى الأصل عدم الاعتبار رأيه ونفوذ حكمه حينئذ.

ما يعتبر في مرجع التقليد :

منها : العلم على تفصيل تقدم.

ومنها : الرجولية ، والحرية ، وطهارة المولد إجماعا.

ومنها : البلوغ والعقل ، للإجماع على اعتبارهما ، بل بناء العقلاء على اعتبار الثاني أيضا. ولو كان عاقلا فجنّ ، فمقتضى الاستصحاب ببعض تقريراته الآتي في تقليد الميت ، صحة البقاء على تقليده لو لا الإجماع على الخلاف ، وعن صاحب الجواهر إرسال اعتبار جميع الشرائط حدوثا وبقاء إرسال المسلّمات ، فراجع كتاب القضاء.

ومنها : الإيمان ، للقطع بعدم رضاء المعصومين عليهم‌السلام برجوع شيعتهم إلى

١٢٦

غير فقهاء مذهبهم.

نعم ، لو اجتهد في الفقه الجعفري في حال كونه مخالفا ثم استبصر ، يصح تقليده إن كان واجدا لسائر الشرائط ، وأما العكس فلا يجوز.

ومنها : العدالة إجماعا.

ومنها : مخالفة الهوى ، لمرتكزات المتشرعة ، وخبر الاحتجاج الدال عليها ، وهي أخص من العدالة ويمكن الاستشهاد له بقوله تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) لأن مقتضى المذهب عدم صدور الذنب منه ، فيكون المراد بعدم اتباع الهوى الأهوية المباحة غير اللائقة بهذا المنصب ، ولا ريب في سقوط مرتبة المتابع لها عن القلوب وعدم مناسبة متابعتها لمقام النبوة والإمامة وفروعهما التي منها مرجعية الحكم والفتوى.

ومنها : الحياة على ما يأتي تفصيله.

ومنها : حسن السليقة والعلم بمذاق الفقاهة على ما هو المتسالم عليه عند أهل الخبرة من الفقهاء ، وأما النسيان وعدم الضبط فهما مانعان عن صحة التقليد ، كما تعرضنا لجميع ذلك في مباحث الاجتهاد والتقليد وكتاب القضاء من (مهذب الأحكام) ، فراجع.

ثم إنّه لا يخفى أن أصل التقليد فطري وليس بتقليدي ، وكذا شرائط صحته ، فلو أفتى من فقد بعضها بعدم اعتبار ما فقده ، لا يصح تقليده للشك في حجية قوله ، ولا يجوز إثبات حجية قوله بقوله. بل لو أفتى الواجد بعدم الاعتبار يشكل اعتبار قوله إن شك العامي في الاعتبار ، لأن المتيقن من مورد سقوط شك العامي خصوص الفرعيات المحضة فقط.

وأما شرائط صحة التقليد التي هي كالأصل والأساس للفرعيات المحضة ، فمقتضى الأصل عدم اعتبار قوله فيه مع الشك والتردد.

نعم ، لو حصل اليقين من قوله بعدم الاعتبار يتبع لا محالة.

١٢٧

وبعبارة اخرى : هناك امور ثلاثة : الفرعيات المحضة ، والفطريات المحضة ، وما هو برزخ بينهما. ومورد التقليد هو الأول فقط ، وشرائط صحة التقليد من الثالث.

ثم إن شئون الفقيه الجامع للشرائط ليست منحصرة في حجية الفتوى ونفوذ الحكم ، بل له حجية وجودية أيضا ولو كان ساكتا ، لأنه يصح أن يحتج به الله تعالى يوم القيامة ، ويصح له أن يشتكي إلى الله تعالى من الجهال إن لم يرجعوا إليه في فهم الأحكام ، وقد ورد في الحديث : «ثلاثة يشكون إلى ربهم يوم القيامة عالم لا يسأل عنه ـ الحديث ـ». كما أن له الولاية الانتظامية أي نظم دنيا البشر وسياساتهم نظما إليها ، بشرط استيلائه على الكل في الكل وبسط يده على الحكم من كل حيثية وجهة. وقد ذكرنا القول في ذلك كله في المهذب.

التخطئة والتصويب :

لا ريب في أن بين المعلومات والواقعيات مطلقا عموما من وجه ، فرب معلوم مخالف للواقع ، ورب واقع غير معلوم ، وقد يتصادقان ولا اختصاص لذلك بعلم دون علم وفن دون آخر ، فيجري في الفقه وغيره. ولازم ذلك هو صحة القول بالتخطئة في جميع العلوم ـ فقها كان أو غيره ـ ولا ينكره أحد ، وإنما توهم التصويب في خصوص الأحكام الفقهية الظاهرية فقط ، بدعوى : أن الإجزاء وصحة الاعتذار بها يستلزمان التصويب ، وفساد هذه الدعوى أوضح من أن يخفى ، لأن الإجزاء وصحة الاعتذار تسهيلا على الامة أعم من إصابة الواقع ، كما في موارد جميع القواعد التسهيلية الامتنانية المجعولة في الشريعة ، كقاعدة الصحة ، والفراغ والتجاوز ، والطهارة ، والإباحة وجميع الاصول التسهيلية.

نعم نفس أحكام الشريعة ـ سواء كانت في الكتاب أو في السنة ـ هي

١٢٨

أحكام واقعية بلا شبهة ، ولكن الاجتهاد فيها أعم من إصابة الواقع ولو كان من الاجتهاد الصحيح ، فضلا عما إذا كان من قياس أو استحسان أو نحوهما.

أقسام التصويب :

إن التصويب على أقسام :

الأول : انقلاب الوظيفة الظاهرية إلى الأنظار الاجتهادية في مقام الفعلية فقط لا في مقام الإنشاء الواقعي النفسي الأمري ، فالوظيفة الفعلية الظاهرية كانت مطابقة للواقع لو تمت عليها الحجة ولم يكن الاجتهاد على خلافه ، وإلا فتكون في مورد الاجتهاد ولو كان على خلاف الواقع وتوجد حينئذ فيها المصلحة التداركية ، ولا دليل على فساد هذا القسم من عقل أو نقل إلا ما يأتي مع بيان الإشكال فيه.

الثاني : تعدد الواقع المنشأ حسب تعدد الآراء الاجتهادية المختلفة.

واشكل عليه .. أولا : بالإجماع على وحدة الحكم الواقعي الذي يشترك فيه العالم والجاهل وعدم تعدده.

وفيه : أن المتيقن منه الأحكام الكلية التي تدور عليها الشريعة ، مثل وجوب أصل الصلاة والزكاة والحج ونحوها في الجملة. وأما الجزئيات الاختلافية التي تختلف حسب اختلاف الآراء فلا دليل على وحدتها في الواقع ، بل مقتضى السيرة تعددها من مجتهد واحد في أوقات مختلفة ، فكيف بالمتعددين من أهل الاجتهاد ، فكل من هذه الآراء واقعيات اعتبارية في حدّ نفسها تشملها إطلاقات أدلة الحجج وعموماتها.

فالأحكام الواقعية ..

تارة : واقعيات أولية حقيقية بني عليها أصل الشريعة المقدسة.

واخرى : امتنانية تسهيلية ثانوية ، كالأحكام الاضطرارية التي يطلق عليها

١٢٩

الواقعيات الثانوية ، وهي مجعولة شرعا ، فهي من الأحكام الإلهية بالاتفاق ، فلتكن الاجتهاديات أيضا كذلك ، أي أنها أحكام إلهية اقتضاها التسهيل والامتنان على الامة والرأفة بهم ، وليس ذلك مختصا بالأحكام الشرعية فقط ، بل يجري في أنظار العلماء في جميع العلوم ، سواء كان متعلّقها من الاعتباريات أو من الماديات ، فكلما يقال فيها يقال في الاجتهاد في الأحكام أيضا.

وثانيا : بتواتر الأخبار على وحدة الحكم الواقعي.

وفيه : إنه لم يظفر على خبر أو خبرين من تلك الأخبار فضلا عن المتواتر منها ، وإن أريد بها أخبار الاحتياط فهي وإن كنت متواترة في الجملة لكنها أعم من المدعى ، كما لا يخفى.

الثالث : أنه لا واقع أصلا إلا ما يراه المجتهد ، فيكون رأيه موجبا لحدوث الواقع وتحققه مطلقا.

واورد عليه .. أولا : بما أورد على الثاني من الإجماع والأخبار المتواترة ، وتقدم الإشكال عليه.

وثانيا : بأنه لو لم يكن شيء موجود في الواقع لما صدق التفحص عنه والاجتهاد فيه ، والاستنباط متقوم بالتفحص في الأدلة للظفر على الواقع.

وفيه : أن الاجتهاد والتفحص في المباني لأجل إحداث الرأي ، كما في ذوي الرأي في جميع العلوم والفنون ، سواء كان الرأي تأسيسيا أو إمضائيا ، ولا محذور فيه.

ثم إن القول بالتصويب مخالف لما رواه البخاري في صحيحه في الجزء التاسع باب الاعتصام بالكتاب والسنة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وان اجتهد واخطأ فله أجر واحد» ، إذ لا فرق بين الحاكم والمفتي عندهم ، إلا أن يقال : إن الحديث مختص بخصوص الموضوعات التخاصمية دون الأحكام ، ولكنه تخصيص بلا وجه.

١٣٠

الأعلمية

حق العنوان أن يعنون بالأفقهية تبعا للنصوص ، كقول أبي عبد الله عليه‌السلام : «أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلماتنا» ، وقوله عليه‌السلام : «أفقههما في دين الله» إلى غير ذلك مما ورد فيه لفظ الأفقه ، فراجع قضاء الوسائل. كما أن الحق أن يعنون هكذا : (أن مخالفة فتوى العالم لفتوى الأعلم منه وللاحتياط هل تكون مانعة عن تقليده؟) ، إذ لا كلام لأحد في صحة التقليد في مورد التوافق في الفتوى أو الاختلاف مع كون فتوى العالم موافقة للاحتياط. وإنما الكلام في صورة واحدة وهي كون فتوى العالم مخالفة للاحتياط ومخالفة لفتوى الأعلم منه.

فنسب إلى جمع تعيين تقليد الأعلم حينئذ ، واستدل ..

تارة : بالإجماع المدعى عن المرتضى رحمه‌الله.

وفيه : أن مورده مسألة الخلافة العظمى دون التقليد والفتوى ، فراجع كتاب القضاء من (جواهر الكلام).

واخرى : بالسيرة على الرجوع إلى الأعلم.

وفيه : أن دعوى ثبوتها على نحو الكلية غير معلومة إن لم تكن معلومة العدم.

وثالثة : بقاعدة الاشتغال بعد كون المقام من التعيين والتخيير.

وفيه : أن التعيين كلفة زائدة يكون من الشك في أصل التكليف فيرجع فيه إلى البراءة ، لأن المسألة خلافية ، كما تقدم. ولكن الأحوط تعيين تقليد

١٣١

الأعلم إن لم يكن مخالفا للاحتياط من جهة اخرى ، كما أثبتناه في الفقه في كتاب (مهذب الأحكام).

وأما الاستدلال عليه : بأن رأي الأعلم أقرب إلى الواقع فهو من مجرد الدعوى ، كما أن ما ورد في الأخذ بالأفقه عند تعارض الحكمين إنما هو في مورد الرجوع إلى الحكمين ، فلا يشمل ما قبل الرجوع ، فكيف بالتقليد ، إلا أن يدعى العلم بعدم الفرق ، وإثباته مشكل ، مع أن المراد بالأفقه في تلك الأعصار المتأمل في الأحاديث في مقابل من يكتفي منها بمجرد الحفظ فقط ، وكون المراد بها الأعلمية الاصطلاحية محل إشكال. ولعله لذلك لم يعبر العلماء بها ، بل عبروا بالأعلمية.

وبعبارة اخرى : المراد بالأفقه فيها مطلق المجتهد ، والمراد بغيره مطلق الحافظ للأحاديث.

ثم إنه قد استدل على عدم اعتبار الأعلمية بوجوه مخدوشة ، منها :

الإطلاقات والعمومات الدالة على الرجوع إلى العالم.

وفيه : أنها ليست في مقام البيان من هذه الجهة.

ومنها : أن تشخيص الأعلم متعذر.

وفيه : أنه ليس بأصعب من تشخيص أصل الاجتهاد والعدالة المعتبرة في إمام الجماعة والشهود ونحو ذلك ، فكل ما يقال فيهما يقال في تشخيص الأعلم أيضا.

ومنها : جريان السيرة على الرجوع إلى العالم مع وجود الأعلم.

وفيه : أنه لم يحرز ذلك مع الاختلاف في الامور المهمة ، وأي أمر أهمّ من الدين.

ومنها : رجوع الشيعة إلى الرواة مع وجود الإمام عليه‌السلام.

وفيه : أنه لم يكن من الرجوع التقليدي ، بل كان مثل رجوع العوام إلى من

١٣٢

يعرف رسالة المجتهد مع وجود المجتهد بينهم. إلى غير ذلك من الوجوه التي هي ظاهرة الخدشة فراجع (مهذب الأحكام).

ويمكن جعل النزاع لفظيا ، فمن منع عن الرجوع إلى المفضول مع وجود الأفضل ، أي في صورة إحراز الاختلاف في الرأي مع عدم موافقة رأي المفضول للاحتياط ، ومن جوّز أراد غير هذه الصورة.

فوائد :

الاولى : المراد من الأعلم من كان أجود فهما في تطبيق الفروع على مداركها ، وأجود استنباطا للوظائف الشرعية عن مبانيها ، وليس المراد به الأعلمية المطلقة من كل جهة لانحصاره بالمعصوم عليه‌السلام ، بل المراد بها الأعلمية الإضافية.

الثانية : لا ريب في تحقق موضوع تقليد الأعلم مع العلم باختلاف الفتوى تفصيلا! وأما مع العلم الإجمالي فيجب الفحص ، لكونه منجزا ومع اليأس لا يتحقق موضوعه ، لأن موضوعه إحراز الاختلاف في ما هو مورد الابتلاء ، والمفروض عدم تحققه.

الثالثة : لو شك في الاختلاف ، فالظاهر صحة جريان أصالة عدم المخالفة ، فيتحقق موضوع صحة تقليد العالم ، لأن موضوعه عدم إحراز المخالفة ولو بالأصل ، ولا موضوع لوجوب تقليد الأعلم ، لأن موضوعه إحراز المخالفة وهو غير حاصل. وهنا فروع كثيرة تعرضنا لها في الفقه ، فراجع.

١٣٣

تبدل الرأي :

وهو إما بالقطع على الخلاف ، أو بغيره مما يكون معتبرا. وعلى كل منهما إما أن يكون الاجتهاد السابق قطعيا ، أو ظنيا ، أو بالاختلاف. وعلى الجميع إما أن يكون متعلّق الاجتهاد نفس الحكم ، أو موضوعه ، أو قيدا من قيوده. وعلى الجميع إما أن نقول بالطريقية المحضة ، أو السببية الانقلابية ، أو المصلحة السلوكية. ومقتضى الأصل في الجميع عدم الإجزاء إلا مع الدليل على الخلاف من إجماع أو غيره.

ويمكن أن يقال : إن من لوازم جعل اعتبار الاجتهاد ووجوب الرجوع إلى المجتهدين هو الإجزاء ، لأن اعتبار قول المجتهد والرجوع إليه جعل في مورد يلزمه التبدل غالبا بل دائما في الجملة ، مع أنه لم يشر إلى حكم هذه المسألة العامة البلوى في خبر من الأخبار مع كثرة الابتلاء بها في جميع الأزمنة ، ويقتضي الإجزاء سهولة الشريعة المقدسة أيضا.

تقليد الميت :

قد ادعي الإجماع على بطلان الابتدائي منه ، فإن تم وإلا فيشمله ما يدل على صحة البقاء عليه. وموضوع البحث في ما إذا خالفت فتوى الميت لفتوى الحي ، وفي مورد الموافقة لا ثمرة لهذا البحث أصلا ، لتحقق مطابقة عمل العامي لرأي من يصح الاعتماد على رأيه ويصح عمله لا محالة ، سواء قلنا بجواز تقليد الميت ابتداء وبقاء ، أو لم نقل به.

وخلاصة الكلام أنه لا بد وأن يبحث من وجهين :

الأول : من جهة وجود المقتضي لتقليد الميت.

١٣٤

والآخر : من جهة وجود المانع عنه.

أما الوجه الأول : فمقتضى الاصول الموضوعية ـ من أصالة حجية الرأي في حدّ نفسه ، وصحة الاعتذار به ، وأصالة بقاء الوظيفة الظاهرية التي استفادها من الأدلة ، وأصالة بقاء حكمة الاعتبار من غلبة الإصابة أو تسهيل الأمر على الأنام ـ صحة تقليد الميت ابتداء والبقاء عليه استمرارا ، مضافا إلى الإطلاقات والعمومات كما تقدم من الآيات والأخبار ، وتقتضيه السيرة في الجملة أيضا ، لاستقرارها على الرجوع إلى آراء الأموات ابتداء وبقاء في كل علم وفن وصنعة.

واشكل عليه .. تارة : بأصالة عدم الحجية في مشكوكها.

وفيه : أنها من الأصل الحكمي ، والأصل الموضوعي مقدّم عليه. كما ستعرف ، مع أنها محكومة بالسيرة والإطلاقات والعمومات.

واخرى : بزوال الرأي بالموت.

وفيه : أن الحياة منشأ حدوث الراي لا بقائه ، ولا يدور مدار بقاء الحياة أبدا ، لوجود آراء الأموات من العلماء عندنا خلفا عن سلف ويحتجون بها في جميع العلوم والفنون ، كوجود كلماتهم عندنا. فما الفرق بين حجية ظواهر كلماتهم وحجية آرائهم حتى تصح الاولى دون الثانية؟

وثالثة : باحتمال كشف الخلاف بالموت.

وفيه : مضافا إلى أنه من مجرد الاحتمال الذي لا يمنع عن جريان الأصل إن كشف الخلاف ، وإنما يضر إذا كان بالطرق المألوفة الاجتهادية لا بغيرها.

ورابعة : بأنه لا يقين بالحكم السابق حتى يستصحب.

وفيه : أنه لا يحتاج اليقين بالحكم في مجرى الاستصحاب ، بل يكفي اليقين بالوظيفة الظاهرية وصحة الاعتذار.

وأما الوجه الثاني ـ وهو وجود المانع ـ فالظاهر أنه منحصر بدعوى الإجماع ..

١٣٥

تارة : على عدم الجواز مطلقا.

واخرى : بأن الإجماع الدال على عدم الجواز لعروض الهرم والنسيان يدل على عدم الجواز لعروض الموت بالأولى.

وفيه : مضافا إلى أن هذه الإجماعات من الإجماعات الاجتهادية التي لا اعتبار لها أن المتيقن من الأول خصوص الابتدائي منه ، لكثرة الاختلاف في الاستمراري ، ولم تثبت الأولوية في الثاني لا عقلا ولا عرفا ولا شرعا ، فلا بد من الاقتصار على مورده هذا ، مع أن لنا أن نقول إنه حيث لا يجوز تقليد الميت ابتداء ولا بقاء إلا بالرجوع إلى الحي ، يكون هذا التقليد تقليدا للحي فلا يبقى موضوع للإشكال أصلا.

ثم إنه يجري في تقليد الميت جميع ما يجري في الحي من تعينه إن كان أعلم ، والتخيير بينه وبين غيره مع التساوي. وفي هذه المباحث فروع كثيرة تعرضنا لها في الفقه فراجع.

اعتبار مطلق الظن :

تقدم الكلام في الظنون الخاصة ، وأما مطلق الظن فقد استدلوا على اعتباره بأمور ..

أحدها : أن مخالفة الحكم الإلزامي المظنون مظنة للضرر ، ودفع الضرر المحتمل واجب فكيف بالمظنون ، فيكون العمل بالظن القائم على الحكم الإلزامي واجبا ، وهو المطلوب.

ويرد عليه : أن الكبرى ممنوعة ، لأنه إن اريد بالضرر فيه العقاب الاخروي ، فالضرر العقابي الذي يجب دفعه منحصر بما إذا كان في أطراف العلم الإجمالي أو في الشبهات البدوية قبل الفحص ، وفي غيرهما تجري قاعدة قبح

١٣٦

العقاب بلا بيان عقلا والبراءة شرعا ، وليس المقام منهما ، ومع فرض كونه من أحدهما فصحة النتيجة متوقفة على تمامية باقي مقدمات الانسداد ، لأنه حينئذ يصير من إحدى مقدماتها كما لا يخفى. ويأتي عدم تمامية دليل الانسداد.

وإن كان المراد به الضرر الدنيوي. فيرد عليه.

أولا : أن تبعية الأحكام مطلقا للمصالح والمفاسد الدنيوية تحتاج إلى دليل وهو مفقود على نحو الإطلاق والعموم ، وإن كان مما لا ينكر إجمالا.

وثانيا : كل ضرر دنيوي ليس بواجب الدفع مطلقا ، بل السيرة العقلانية على الخلاف ، فإن بناءهم على ملاحظة الجهات المرجحة ، فربما يتحمّلون الضرر لما يترتب عليه من المقاصد الصحيحة العقلائية التي يكون الضرر المتحمل بالنسبة إليها بحكم العدم.

نعم ، لو كان الضرر على نحو لا يغلبه شيء من الأغراض العقلائية ويكون غالبا على جميعها ، فلا ريب في وجوب دفعه حينئذ ، ولا دليل على كون المقام منها إن لم يكن على عدمه.

وثالثا : على فرض تحققه ، فما لم يدل دليل على أن الحكم الذي في مورده من الكبائر فهو مكفّر بالحسنات ، كما في الآيات مثل قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) والروايات ، وهذا يجري في ما إذا كان الضرر المحتمل عقابا أيضا ، فلا يبقى موضوع لقاعدة دفع الضرر المحتمل في المقام أصلا.

ثانيها : أنه من البديهي وجود أحكام إلزامية في الشريعة المقدسة ومع عدم العلم بها تفصيلا وجب الاحتياط ، ومع تعسّره وجب الأخذ بالمظنون.

ثالثها : إنه بعد لزوم الأخذ بها في الجملة لو لم يؤخذ بالمظنون ، لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وهو قبيح ، فوجب الأخذ بالمظنون.

ويرد عليهما : أن كل واحد منهما مقدمة من مقدمات الانسداد الآتية ، ولا

١٣٧

ينتج إلا بعد ضم سائر مقدماتها ، فلا وجه لذكرها مستقلة.

رابعها : دليل الانسداد.

وهو مركب من مقدمات أغلبها قابلة للمناقشة ، ولم يكن لهذا الدليل رسم في كتب المتقدمين وإنما حدث بين متأخر المتأخرين.

المقدمة الاولى : العلم بتشريع أحكام في الشريعة ، بل يكفي الاحتمال العقلائي لذلك.

المقدمة الثانية : انسداد باب العلم والعلمي فيها.

المقدمة الثالثة : عدم جواز إهمال الوقائع المثبتة للتكليف.

المقدمة الرابعة : بطلان العمل بوظيفة الجاهل من العمل بالاحتياط والاصول والأخذ بفتوى الغير.

المقدمة الخامسة : بطلان ترجيح المرجوح على الراجح.

ومع صحة جميع هذه المقدمات تنتج حجية مطلق الظن لا محالة.

ولكن يرد عليها .. أولا : بأن حق بيان المقدمة الاولى أن يكون هكذا : «نعلم بوجود أحكام في موارد الطرق المعتبرة تأسيسا أو إمضاء ، بحيث لو تفحّصنا وظفرنا بها ورجعنا في غيرها إلى الاصول المعتبرة ، لم يلزم محذور عقلي ولا شرعي أبدا ، وقد تفحّصنا وظفرنا بها فنرجع في غيرها إلى الاصول المعتبرة». ولا ريب في صحة هذه المقدمة ، كما لا ريب في تحققها خارجا ، ومعها لا تصل النوبة إلى سائر المقدمات أصلا ، فتكون عقيمة رأسا ، فلا وجه للبحث عن سائر المقدمات صحة وفسادا.

وثانيا : أنه لا ريب في فساد المقدمة الثانية ، لأن المراد بالعلم فيها إن كان مطلق ما يوجب الاطمئنان وسكون النفس ـ كما يكون المراد بالعلم في الكتاب والسنة ذلك ـ فلا ريب في انفتاح بابه في الأحكام ، كما لا يخفى على العوام فضلا عن الأعلام. وإن كان المراد به ما هو المصطلح لأهل المعقول أي : ما لا

١٣٨

يحتمل فيه الخلاف أصلا ، فهو وإن كان مسدودا في غير الضروريات ، والمتواترات ، والمسلّمات الفقهية ، وما استفاضت فيه الإخبار ، أو نقل الإجماع ، وموارد الإجماعات المتحققة. ولكن باب العلمي مفتوح في الأحكام إلى يوم القيامة بلا شبهة فيه ولا كلام هذا.

ولا ريب في صحة المقدمة الثالثة إما للقطع بأن إهمال التكاليف المعلومة بالإجمال مبغوض لدى الشارع ، أو للإجماع القطعي على عدم صحة الإهمال من الإمامية ، بل من المسلمين ، وإما لأن نفس العلم الإجمالي منجز عقلا ، فلا يصح الإهمال لدى العقلاء. وهذه وجوه ثلاثة لتمامية المقدمة الثالثة ، وقد ابتني عليها الكشف والحكومة ، فإن استند البطلان إلى أحد الأولين ، فالنتيجة هي الكشف لكونها تابعة لأخس المقدمات ، ولا ريب في كون كل واحد منهما شرعيا لا عقليا. وإن استند البطلان إلى الأخير تستنتج الحكومة ، لكون جميع المقدمات ـ على فرض تماميتها ـ عقلية. ولكن هذا الابتناء ممنوع ، لأنه بعد تحقق العلم الإجمالي وحكم العقل بعدم صحة الإهمال ، لقاعدة دفع ضرر العقاب المعلوم ، يكون حكم الشرع إرشادا إليه لا محالة ، سواء كان دليله الإجماع القطعي ، أو القطع بالمبغوضية لدى الشارع ، كما في سائر موارد حكم الشرع مع وجود حكم العقل البتي. ولو كان المدرك تمام الوجوه الثلاثة لتعين الحكومة أيضا ، لكفاية حكم العقل للمدركية ، وتكون البقية إرشادا إليه.

ولا ريب في صحة المقدمة الرابعة أيضا ، أما الرجوع إلى العالم فلفرض عدمه ، إذ المفروض انسداد باب العلم والعلمي ، والرجوع إليه يكون من العلمي ، هذا مع إباء نفوس المجتهدين عن الرجوع إلى غيرهم ، بل لا وجه له بالنسبة إليهم ، كما لا يخفى.

وأما الاحتياط فجملة القول فيه : أنه إما تام مخل للنظام ، أو موجب للعسر والحرج ، أو لا يوجب شيئا منهما. والأولان منفيان لدى العقلاء كافة في كيفية

١٣٩

الامتثالات ويرون ذلك منكرا ، بل يلومون من احتاط بما يوجب العسر والحرج فضلا عما أوجب اختلال النظام ، ويكفي في ذلك عدم بلوغ الردع في الشريعة فكيف بالأدلة الكثيرة الدالة على أنه لا حرج في الدين ، وإنه سمحة سهلة. وقد لاحظ الشارع الأقدس في جعله للأحكام قدرة الضعفة ، لا سيما الشريعة الختمية المبنية على بيان المعارف والأحكام ونشرها وتعليمها وتعلمها والتفقه فيها ، وقد جرت سيرة الرواة ومن بعدهم في كل طبقة على تبويبها وتفصيلها جزئية وكلية واهتموا بذلك نهاية الاهتمام في كل عصر ، وذلك كله يلازم سقوط الاحتياط الموجب للعسر في كيفية الامتثال فكيف بما إذا كان مخلا للنظام.

والحاصل : أن الامتثال الحرجي خلاف الطريقة العقلائية ، فيكون خلاف الطريقة الشرعية أيضا إلا مع التنصيص على الجواز ، فكيف بالتصريح بالمنع.

وقال صاحب الكفاية : «إن أدلة نفي الحرج إنما تنفي الجعل الحرجي» ، يعني لا يتعلّق جعل للشارع بالتكليف الحرجي ، ولا تشمل الحرج الحاصل من ناحية الامتثال ، لأنه لم يحصل من طرف الشارع.

ويرد عليه .. أولا : أنه لا حرج في الدين مطلقا ، سواء كان في جعل أصل التكليف ، أو في امتثاله لعموم دليل نفيه الشامل لهما معا ، ويدلّ عليه صحيح ابن سنان حيث جعل عليه‌السلام فيه الابتلاء بالوسوسة في الوضوء من الشيطان.

وثانيا : بأن الامتثال الحرجي ـ خلاف الطريقة العقلائية ـ يكفي عدم ثبوت الردع فيه شرعا ، فلا تصل النوبة إلى البحث عن أن دليل نفي الحرج هل له الحكومة بالنسبة إلى الامتثال الحرجي أيضا أو لا. هذا كله مضافا إلى ما يأتي من عدم تنجز هذا العلم الإجمالي أصلا.

هذه خلاصة الكلام في الاحتياط المخل للنظام ، أو الموجب للعسر والحرج على الأنام.

وأما ما لا يوجبهما : فجملة القول فيه أنه لا دليل على وجوبه أصلا ، لأن

١٤٠