تهذيب الأصول - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

تهذيب الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

عوارض أحدهما عوارض الآخر عرفا إلا مع القرينة على الاختصاص ، مع أن مرجع هذا البحث عرفا إلى أن قول المعصوم عليه‌السلام وفعله وتقريره هل تختص حجيته بخصوص من سمعه ورآه ، أو تعم المنقول إليه أيضا ، فيصير البحث عن عوارض السنة على أي تقدير.

وأما الرابع : فأورد عليه ـ مضافا إلى ما مرّ في الثالث مع جوابه ـ بأنه إن كان الموضوع الأدلة الأربعة بوصف الحجية يكون إثبات الحجية ، له من إثبات أصل الموضوع ، فيصير البحث حينئذ من المبادئ لا المسائل.

ويرد : بأن من أخذها موضوعا بوصف الحجية أراد الحجية الاقتضائية لا الفعلية ، والمقصود بالإثبات في المقام الثانية لا الاولى ، فيصير من العوارض لا محالة.

الرابع : قد ادعي الإجماع على حجية ما في الكتب الأربعة من الأخبار ومعه يكون البحث عن حجية خبر الواحد من التطويل بلا طائل ، لكفاية ما فيها للأحكام الشرعية ، والمفروض اعتبارها.

واشكل عليه ..

تارة : بأنه معلوم المدرك.

واخرى : بوجود الاختلاف فيه ، لأن بعض المجمعين يرونها مقطوعة الصدور ، وبعضهم يعتبرونها من باب اعتبار مطلق الظن ، وبعضهم يعتمدون عليها لاحتفافها بالقرائن المعتبرة. ولا اعتبار بما علم مدركه من الإجماع ، فكيف بما اختلف فيه؟!.

وفيه : أنه يمكن إرجاع الجميع إلى ما يوجب الوثوق بالصدور ، كما تقدم ، فيكون الاختلاف في مجرد التعبير ، كما أن الإشكال بأنه معلوم المدرك لا وجه له ، لأن الظاهر من حال من يدعي الإجماع أنه يدعيه في مقابل سائر الأدلة ، لا أنه نفسها ، ولو فرض أنه معلوم المدرك لا بأس به لفرض تمامية المدرك ، كما يأتي

١٠١

في وجوب العمل به مطلقا.

وثالثة : بأن الكتب الأربعة مشتملة على الأخبار الضعيفة فكيف يصح دعوى هذا الإجماع؟!.

وفيه : أن المتيقن منه ما احتفت بقرائن دالة على اعتبارها.

ورابعة : بأن هذا الإجماع إنما صدر لأجل كمال العناية والاهتمام بالكتب الأربعة ، لا وجوب العمل بها.

وفيه : ما لا يخفى ، فالإجماع تام لا مناقشة فيه.

أدلة عدم اعتبار الخبر الواحد :

اعتبار الخبر الموثوق به مما يقوم به نظام المعاش والمعاد ، ولا اختصاص له بمذهب دون آخر ولا بملة دون اخرى ، بل استقرت سيرتهم على ترتيب الأثر عليه من سالف الأعصار ، وما كان كذلك يكفي في اعتباره شرعا عدم ثبوت الردع فقط ، ولا يحتاج إلى إقامة الدليل على الحجية.

ولكن قد يستدل على عدم اعتبار الخبر الواحد بالأدلة الأربعة. فمن الكتاب : بالآيات الناهية عن اتباع الظن وغير العلم ـ بألسنة شتى وهي كثيرة ـ مثل قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) ، وكذا قوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً).

وفيه .. أولا : أنها وردت في الاصول الاعتقادية ولا تشمل غيرها ، فلا ربط لها بالمقام.

وثانيا : أن المراد بالعلم في الكتاب والسنة ما يطمئن وتسكن إليه النفس لدى العقلاء ، كما أن المراد بغير العلم الأراجيف وما يخبر به الجهلة والهمج

١٠٢

الرعاع ، والخبر الموثوق به من الأول دون الثاني باتفاق العلماء.

وثالثا : أنها معارضة بالأدلة الأربعة الدالة على الاعتبار والترجيح معها ، كما لا يخفى.

ومن السنة المستفيضة ، بل المتواترة في الجملة ، التي جمعها في قضاء الوسائل المشتملة على تعبيرات مختلفة من أن ما خالف قول ربنا لم نقله ، وعدم قبول ما ليس موافقا للقرآن ، وما ليس عليه شاهد منه ونحو ذلك من التعبيرات ..

وفيه .. أولا : أنها معارضة مع المتواترة التي جمعها في قضاء الوسائل ، فراجع وتأمل فإن الترجيح معها من جهات.

وثانيا : أن الأخبار المفسّرة لكتاب الله تعالى إما بتقييد إطلاقه ، أو تخصيص عمومه ، أو بيان لفظه ومفهومه ، أو شرح مفاده وحدوده ، وهذه كلها ليست من المخالفة عند أبناء المحاورة أصلا ، بل لو لم يؤخذ بمثل هذه الأخبار لبقي كتاب الله تعالى معطلا في الأحكام ، وهو ما لا يرضى به أحد من الأنام فضلا عن الأعلام.

وثالثا : أن المنساق منها بعد ردّ بعضها إلى بعض أنها وردت لبيان علاج المعارضة وأن عند التعارض يؤخذ بالموافق للكتاب ، ويطرح المخالف له بالمخالفة العرفية ، بحيث يبقى العرف والعقلاء متحيرا في جمعه مع الكتاب ، فلا ربط لها بالمقام.

ومن الإجماع بما ادعاه بعض حتى جعل السيد قدس‌سره العمل به كالعمل بالقياس في وضوح البطلان.

وفيه .. أولا : أن تحقق الإجماع في مثل هذه المسألة العامة البلوى على عدم الاعتبار بعيد جدا.

وثانيا : أنه معارض بالأدلة الدالة على الاعتبار والترجيح معها ، كما يأتي.

١٠٣

وثالثا : على فرض تحققه ، المتيقن منه الأراجيف والأخبار غير الموثوق بها فلا ربط له بالمقام.

ورابعا : أنه يمكن أن يكون مورده اصول المعارف دون الفروع الفقهية ، مع أنه يمكن أن يكون المراد به الإجماع الاحتفاظي أي : احتفاظ كتب الشيعة عن التدخل فيها ، فالمراد به أنه لا بد وأن لا يتدخل في الكتب المعتبرة كل ما لا يعتبر ، لا أنه يعمل بما اعتبر منها ، لأنه خلاف ضرورة المذهب ، فكيف يصدر من مثل السيد؟!.

ومن العقل بما مر من امتناع التعبّد بغير العلم.

وقد مرّ جوابه مفصلا ، فراجع.

اعتبار الخبر الواحد بالأدلة الأربعة :

استدل على اعتباره من الكتاب بآيات منها : آية النبأ (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا).

فتارة : بمفهوم الشرط ، فإن ترتب وجوب التبيّن على خبر الفاسق يدل على الانتفاء عند الانتفاء ، فالمعنى حينئذ ـ بناء على ما هو المستفاد منها عرفا من كون وجوب التبيّن ـ غيريا وشرطا للعمل بخبر الفاسق ـ : أنه إن جاءكم فاسق بنبإ فلا تعملوا به إلّا بعد التبيّن وإذا جاءكم عادل به فاعملوا به بلا تبيين ، ولا معنى لحجية الخبر إلّا هذا.

وإن كان وجوب التبين نفسيا فتدل على الحجية أيضا ، لأنه بعد مجيء العادل بالخبر إما أن يجب التبيّن أيضا ، أو يجب الرد ، أو يجب القبول.

والأول مخالف لظاهر سياق الآية عرفا ، مع أنه خلاف مرتكزات العقلاء أيضا.

١٠٤

والثاني مقطوع بفساده.

والثالث هو المطلوب.

ولكن احتمال الوجوب النفسي للتبيّن ساقط أصلا ، فلا وجه لهذه المقدمة المطوية رأسا.

واخرى : بمفهوم الوصف ، فإن تعليق التبيّن على وصف الفسق يدل على الانتفاء عند الانتفاء ، وحينئذ يجري فيه عين ما مرّ آنفا في مفهوم الشرط ، من غير فرق بينهما أبدا بين كون وجوب التبين شرطيا أو نفسيا ، فكيفية الاستدلال بها متحدة فيهما.

وأشكل على الاستدلال بوجوه.

. الأول : أن الشرط في الآية الكريمة سيق لبيان الموضوع ، فانتفاء الحكم بانتفائه تكويني حينئذ. مثل : «إن رزقت ولدا فاختنه» فلا ربط له بالمفهوم أبدا ، كما مرّ في بحث المفاهيم. والوصف في المقام غير معتمد على الموصوف فلا يتحقق له مفهوم ـ على فرض أن يكون للوصف مفهوم ـ لاشتراطه بالاعتماد على الموصوف ، مع أنه قد مرّ عدم المفهوم له أصلا اعتمد عليه أو لا.

ويرد عليه : أن سياق الآية يدل على أنها في مقام بيان القاعدة الكلية ، وتقرير ما ارتكز في العقول من دوران الاعتماد على شيء مدار الوثوق والاطمئنان به ، وإن هذا هو العلة المنحصرة في ذلك ، فما يكون موثوقا به يعتمد عليه دون غيره ، ولا فرق في دلالتها على هذه الجهة بين كونها بنحو مفهوم الشرط أو الوصف ، ذكر الموصوف أو لم يذكر ، فإن نفس هذه الدلالة ظاهرة منها وهي معتبرة لدى العقلاء.

ودعوى : أنها سيقت لمجرد تحقق موضوع الحكم بلا شاهد ، بل ظاهر سياقها على خلاف هذه الدعوى شاهد ؛ ولعل نظر صاحب الكفاية قدس‌سره حيث قال : «إن مفاد الآية أن الخبر الذي جيء به إن كان الجائي به فاسقا فتبينوا ...» إلى

١٠٥

ما ذكرناه ، وإلا فهو خلاف ظاهر الآية ، كما لا يخفى.

الثاني : أن عموم العلة في ذيل الآية من قوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) يشمل خبر العادل والفاسق معا ، لأن الجهالة بمعنى عدم العلم ، وهو مشترك بينهما ، فلا دلالة لها على اعتبار خبر العادل ، لأن عموم العلة مقدم على ظهور القضية المعللة بها عند العرف والعقلاء ، فلا وجه للاستدلال بها على اعتبار خبر العادل ، لكونه مشتركا مع خبر الفاسق في الجهالة وعدم العلم.

وفيه .. أولا : أن الجهالة بمعنى : فعل ما لا ينبغي صدوره عن العاقل المتدين الملتفت إلى دينه وعقله ، كما في قوله تعالى : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) ، وقوله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) ـ الآية ـ فإن التوبة إنما تكون عن المعصية وهي متقوّمة بالعلم بالتكليف ثم المخالفة عن علم وعمد ، ولا ريب في أن ترتب الأثر على الخبر قبل التفحّص عن صدقه من فعل السفهاء ومن لا يهتم بعقله ودينه.

وثانيا : أن الجهالة بمعنى عدم العلم ، لكنه أعم من العلم الحقيقي ومطلق الوثوق والاطمئنان العرفي العقلائي ، ولا ريب في تحقق الأخيرين في خبر العادل دون الفاسق ولو حصلا منه لقلنا به مطلقا. فيكون خلاصة المعنى حينئذ : إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا حتى يحصل لكم الوثوق بصدقه ، ويكون ذكر الفاسق حينئذ مع اشتراكه مع خبر العادل عند حصول الوثوق منه للتنبيه على فسق مورد نزول الآية ، ولكون الفاسق مورد التبين غالبا.

الثالث : أن مورد الآية هو الإخبار بالارتداد الذي لا يثبت إلا بالبينة ، فلو عمل بالمفهوم يلزم خروج المورد وهو مستهجن.

وفيه .. أولا : أن مورد الآية هو منطوقها ، والاستدلال بها إنما يكون بمفهومها ، ولا ملازمة بين المنطوق والمفهوم من كل حيثية وجهة حتى في شأن النزول أيضا.

١٠٦

وثانيا : أن المراد بالعادل في المفهوم هو طبيعي العادل الشامل للواحد والمتعدد ، فلا يلزم خروج المورد المعتبر فيه التعدد لدليل خارجي.

ثم إن في المقام مناقشات اخرى لا تختص بالآية ، بل تعمها وغيرها مما استدل به على اعتبار الخبر الواحد.

منها : معارضتها مع ما دلّ على عدم اعتبار غير العلم من الآيات الشريفة.

ويرد .. أولا : بأن الآيات الناهية عن العمل بغير العلم في المعارف والاعتقاديات ، والمقصود في المقام اعتبار الخبر في غير الاعتقاديات ، فينتفي التعارض حينئذ لاختلاف الموضوع.

وثانيا : أن ما دلّ على اعتبار خبر الواحد مفسّر وشارح وحاكم على تلك الآيات ، ويبين أن المراد بالعلم فيها مطلق الاطمئنان والوثوق العقلائي ، ولا معارضة بين المفسّر (بالكسر) والمفسّر (بالفتح) ، كما هو واضح لمن تأمل.

ومنها : أنها تشمل الإجماع الذي أخبر به السيد قدس‌سره على عدم اعتبار خبر الواحد.

وفيه : مضافا إلى ما مرّ ـ من أن هذا الإجماع ساقط عن أصله ومعارض بالإجماع المدعي على اعتباره ـ أن الدليل لا يشمل ما ينافيه ويضاده ، وإلا لبطل جلّ الاستدلالات في العلوم ، بل لا بد من ملاحظة الترجيح بين الأدلة والأخذ بالراجح وطرح المرجوح ، ولا ريب في أن ما استدل به على عدم اعتبار خبر الواحد مرجوح بل ساقط رأسا.

ثم إنهم ذكروا في المقام إشكالات تختص بالإخبار مع الواسطة فقط.

الأول : أنها على فرض تماميتها تختص بالإخبار بلا واسطة ، ومنصرفة عن الإخبار مع الواسطة.

ويرد : بمنع الانصراف ، كما لا يخفى.

الثاني : أن الحكم المستفاد من أدلة الاعتبار هو وجوب تصديق العادل

١٠٧

ومن يوثق بقوله ، وموضوع هذا الحكم في الوسائط هو تصديق العادل ومن يوثق بقوله أيضا ، فكأنه قيل يجب على الشيخ تصديق المفيد في تصديق المفيد للصدوق مثلا قدس سرّهم ، وهكذا إلى أن ينتهي إلى الخبر بلا واسطة ، والمفروض أن هذا الموضوع بثبت بنفس هذا الحكم إذ لا أثر له قبله ، فيلزم إثبات الموضوع بالحكم ، لأن الموضوع لا بد وأن يكون محرزا إما بالوجدان أو بالتعبّد ، والأول منفي في الوسائط فيتعين الثاني ، فيلزم المحذور غير المعقول ، لأن الحكم عرض بالنسبة إلى الموضوع ، فلا يمكن أن يكون موجدا له.

الثالث : أن تصديق العدول من الوسائط ليس علميا وجدانيا ، بل هو تنزيل شرعي ، والتنزيلات الشرعية لا بد وأن تكون بلحاظ الأثر الشرعي ، وليس في البين أثر شرعي في الوسائط إلّا نفس وجوب تصديق العادل ، فيلزم أن يكون التنزيل بلحاظ نفسه ، وهو باطل.

نعم خبر أول الوسائط وجداني لا يحتاج إلى التنزيل ، كما أن إخبار آخر الوسائط المنتهى إلى المعصوم عليه‌السلام له أثر شرعي غير وجوب التصديق ، وهو حكم الإمام عليه‌السلام. ويمكن تقرير الإشكال بوجه آخر ، كما لا يخفى على من راجع كلمات العلماء.

والجواب عن الجميع :

أولا : أنه لا جعل من الشارع في البين رأسا ، والآيات والروايات الواردة في المقام إرشاد إلى مرتكزات العقلاء من اعتبار الخبر الموثوق به ، ولا يفرّق العقلاء بين الإخبار بلا واسطة أو معها مع وثوق الوسائط.

وثانيا : على فرض الجعل ليس المجعول هو الحكم التكليفي أي وجوب التصديق ، بل هو نفس الاعتبار والطريقية المحضة ، وهي شاملة لجميع الوسائط مطلقا ولو لم يكن لها بالفعل أثر شرعي.

نعم لا بد من انتهاء الجميع إلى الأثر الشرعي ولو بألف واسطة ، وهو

١٠٨

حاصل قطعا في الأخبار المنتهية إلى المعصوم عليه‌السلام بلا محذور أصلا في البين.

وثالثا : على فرض كون المجعول هو الحكم التكليفي أي وجوب التصديق ، ليس ذلك مجعولا بما أنه جزئي شخصي خارجي ، بل بما هو طبيعي وجوب التصديق القابل للانحلال إلى جميع ما أمكن انطباقه عليه عقلا ، فكأن الشارع جعل لكل واحد من الوسائط وجوب تصديق مستقل رأسا ، وحيث أن الجميع تنتهي إلى قول المعصوم عليه‌السلام يكفي ذلك في التنزيل الشرعي ، إذ لا يلزم فيه أن يكون كل واحد من الوسائط علة تامة لثبوت الأثر ، بل يكفي كونه من أجزاء العلة ولو بألف واسطة ، ولا يلزم أن يكون الحكم مثبتا لموضوع شخص نفسه ، بل الحكم في كل واحد من الوسائط من المعدات لثبوت الموضوع لحكم آخر ولا محذور فيه من عقل أو عرف ، كما هو واضح.

ورابعا : على فرض أن يكون المجعول حكما تكليفيا جزئيا شخصيا خارجيا لخصوص الخبر بلا واسطة ، نقطع قطعا وجدانيا بتحقق ملاك المجعول في الوسائط أيضا وإن قصر دليل الجعل عن شمولها ، ولكن هذا الفرض أي كون المجعول جزئيا مع أنه باطل في نفسه باطل أيضا في الشريعة المبنية على الدوام إلى يوم القيام ، كما فصّل القول فيه في غير المقام.

ومن الآيات التي استدل بها آية النفر : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ). بدعوى : أن الحذر واجب وهو عبارة عن ترتيب الأثر على قول المنذرين (بالكسر) ، ولا معنى لحجية الخبر إلا وجوب ترتيب الأثر.

وقيل في وجه وجوبه امور :

الأول : أنه مع تحقق المقتضي له واجب ، وإلا فهو لغو ، بل قد يكون قبيحا والله تبارك وتعالى منزه عن الترغيب إليه.

ويرد : بأن التحذر نحو من الاحتياط وهو حسن إن لم يكن مانع عنه ولا

١٠٩

دليل على وجوب كل ما كان حسنا.

الثاني : أنه غاية للإنذار الواجب وغاية الواجب واجبة وإلا ألغي الواجب.

ويرد : بأنه كذلك في الغاية المنحصرة لا المتعددة ، كما في المقام ، لأن الغاية الأولى إتمام الحجة من الله تعالى ، تحذر أحد بالإنذار أو لا ، والتحذّر أيضا غاية اخرى ، ومع عدم وجوب الأخير لا يلزم لغوية الإنذار لترتب إتمام الحجة عليه ، فلا بد في إثبات وجوبه من إقامة دليل آخر حينئذ.

وأما الإشكال عليه : بأنه واجب لو ثبت الإطلاق في الإنذار والتحذّر ، ولو لم يحصل العلم من قول المنذرين.

فمردود : بأن تقييد الإنذار والتحذّر بصورة تحقق العلم خلاف السيرة العقلائية في إنذاراتهم وتحذراتهم ، فيكتفون فيها بمطلق الوثوق والاطمئنان النوعي ـ كما لا يخفى ـ فيدخل الخبر الموثوق به الذي هو محل الكلام فيها.

الثالث : إنا لا نجد فائدة للإنذار إلا وجوب التحذر ، فلو لم يجب يصير لغوا.

ويرد عليه : ما ورد على سابقه.

ثم إن المراد بالإنذار الأعم مما كان نفس الكلام دالا عليه بالمطابقة أو بالتضمن أو بالالتزام ، فيشمل جميع أقوال الفقهاء والمبلغين مطلقا ، لثبوت الحذر في مخالفتهم ولو بالملازمة العرفية.

ومنها : آيتا الكتمان والسؤال : بدعوى : أن حرمة الكتمان ووجوب السؤال يستلزمان وجوب القبول ، وإلا يكونان لغوا.

ويرد عليه : بأنه كذلك مع انحصار الفائدة فيهما لا مع عدم الانحصار ـ كما مرّ ـ ومن أهم فوائدهما تمامية الحجة وظهور الحق ، فلا بد في إثبات وجوب القبول من إقامة دليل آخر.

ويمكن أن يقال بالملازمة العرفية بين وجوب الإنذار ووجوب السؤال

١١٠

وحرمة الكتمان ووجوب القبول ، فتتم دلالة الآيات الثلاث على اعتبار خبر الواحد.

وبعبارة اخرى : العرف وأهل المحاورة يفهمون من الآيات الثلاث لزوم ترتيب الأثر على الخبر في مواردها.

ومنها : آية الاذن حيث مدح الله تعالى نبيه على تصديق المؤمنين ، ولو لا حسنه لما مدحه.

ويرد عليه .. أولا : أنه ليس كل حسن واجبا ، كما هو المبحوث عنه في المقام.

وثانيا : أن التصديق لأجل تأليف القلوب ظاهرا أمر ، والتصديق بمعنى وجوب ترتيب الأثر أمر آخر ، والآية تبين الأول ومورد البحث هو الثاني ، فلا ربط لأحدهما بالآخر ، ويشهد لذلك اختلاف حرف التعدية في ذيل الآية : (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ).

الأخبار المتواترة إجمالا الدالة على اعتبار خبر الواحد :

قد صرح صاحب الوسائل في خاتمته بتواتر الأخبار في حجية خبر الثقة.

وهو حق لأن من راجع الباب السابع والثامن والتاسع من كتاب قضاء الوسائل يعلم بتواتر الأخبار إجمالا ، الدالة على اعتباره بطرق مختلفة وأنحاء شتى.

فتارة : بالإرجاع إلى الرواة والعلماء.

واخرى : بإرجاع بعض أصحابهم عليهم‌السلام إلى بعض آخر منهم.

وثالثة : بالإرجاع إلى كتب بني فضال.

ورابعة : بالأخذ بما وافق الكتاب.

وخامسة : علاج المتعارضين بالأخبار العلاجية.

١١١

وسادسة : بالترغيب إلى الحديث وضبطه إلى غير ذلك.

ومن مجموعها يستفاد استفادة قطعية أن اعتبار خبر الموثوق به كان مفروغا عنه لدى المعصومين عليهم‌السلام وأنهم يرغّبون الناس عليه ويقطع برضائهم بذلك ، بل يستفاد منها نهاية اهتمام الأئمة بنشر أحاديثهم بأي وجه اتفق ، ومن أي شخص كان بعد ثبوت أصل الوثوق بالصدق.

الإجماع والسيرة على اعتباره :

أما الأول فادعي القولي والعملي منه على اعتباره.

ويمكن الخدشة فيه : بأنه إما ناشئ عن مرتكزاتهم العقلائية ، فيرجع إلى السيرة ، أو مما وصل إلينا مما مرّ من طوائف الأخبار فيرجع إليها ، فلا يكون دليلا مستقلا في مقابلها.

ولكنها مدفوعة : بأن الإجماع إجماع حقيقي حصل إتماما للحجة وتأكيدا لها ، فلا وجه لهذه الخدشة.

وأما الأخيرة فلا ريب في ثبوتها من المسلمين بل العقلاء كافة في جميع الأعصار والأمصار والمذاهب والأديان ، فيعملون بأخبار الثقات في معادهم ومعاشهم فهي من الحجج العقلائية لدى الكل ، فالحجية عندهم قسمان : ذاتية ، كالقطع. وعقلائية ، كخبر الثقة ونحوه وكان ذلك بمرأى من المعصومين عليهم‌السلام ومسمع منهم ولم يثبت عنهم الردع ، بل لا يمكنهم ذلك لاختلال إبلاغ الأحكام خصوصا في الشريعة الباقية إلى يوم القيام ، فقد جبلت الطباع والعقول بتلقي خبر الموثوق به بالقبول ولو لم يكن مطلوبا لدى الشارع ، لوجب التنصيص بالردع في مثل هذا الأمر العام البلوى ، فيكفي عدم التنصيص بالردع في القبول ، فكيف بدلالة أخبار متواترة إجمالا عليه؟!

١١٢

فلا وجه لما يتوهم من كفاية الآيات الناهية عن اتباع غير العلم والعمل بالظن للرد كما مر سابقا ، لأن الحجج العقلائية علم عقلائي فلا تشمله الآيات ، مضافا إلى أنها وردت للنهي عن اتباع غير العلم في اصول الدين ، مع أن إثبات الردع بها مستلزم للدور ، لأن الردع بها متوقف على إطلاقها وشمولها لمورد هذه السيرة ، وهو متوقف على عدم تخصيصها بالسيرة ، وعدم التخصيص متوقف على كونها رادعة عن السيرة. وإلا لكانت مخصصة لها فيلزم توقف كونها رادعة على كونها رادعة ، وهو دور ظاهر.

إن قلت : ظهورها في الإطلاق والشمول مما لا ينكر فهي تامة الاقتضاء من هذه الجهة. وأما السيرة فاعتبارها معلقة على عدم الردع ، فتكون لا اقتضاء بالنسبة إلى الحجية والاعتبار.

وبعبارة اخرى : عموم الآيات فعلي منجز ، وحجية السيرة اقتضائية ومعلّقة ، ولا ريب في تقديم الفعلي المنجز على الاقتضائي المعلّق.

قلت : مدرك اعتبار الإطلاق والشمول ليس إلا بناء العقلاء ، ولا بناء منهم على الإطلاق والشمول في ما كانت سيرتهم على خلافهما ، هذا مع أن القياس ـ الذي ليس مثل السيرة مورد الابتلاء ـ ورد النهي عنه ، فلو كان خبر الموثوق به غير معتبر لدى الشارع ، لزم عليه أن يؤكد النهي عنه بالخصوص بطرق شتى ، لكونه من أهم موارد الابتلاء ، ولا يكفي فيه مجرد العموم والإطلاق الذي يشكل شمولها لها.

إن قلت : إن اعتبار خبر الثقة بالسيرة يكون دوريا أيضا لتوقّف اعتباره على اعتبار السيرة ، وهو موقوف على عدم الردع ، وهو موقوف على تخصيص العمومات الناهية عن العمل بغير العلم بالسيرة ، ولا تكون تلك العمومات رادعة عنها قطعا ، والتخصيص موقوف على عدم الردع ، فيكون بالآخرة عدم الردع موقوفا على عدم الردع.

١١٣

قلت : التوقف في المقام ليس بحسب مقام الواقع والثبوت ، بل في مقام الإثبات فقط ، لأن اعتبار خبر الثقة موقوف على السيرة ، واعتبارها موقوف على عدم إحراز وصول الردع بعد الفحص ، وقد احرز ذلك بالفحص اللازم ولم نطلع عليه.

ثم إنهم قد استدلوا على اعتبار خبر الواحد بوجوه عقلية يرجع بعضها إلى بعض ، وجميعها إلى دليل الانسداد الصغير الذي يكون الفرق بينه وبين الانسداد الكبير ـ الآتي ذكره ـ أن الأخير يستدل به لحجية مطلق الظن ، وبالنسبة إلى كلية أحكام الشريعة ، ويستدل به لحجية بعض ما يتعلّق بها ، كخبر الواحد ، وقول اللغوي ، أو المفسّر ، أو اعتبار الظن بالقبلة ونحو ذلك مما يتعلّق بالأحكام الشرعية في الجملة.

منها : إنا نعلم بصدور أخبار مشتملة على الأحكام الشرعية ، ابتلائية كانت أو غيرها ، بحيث يكون احتمال التكليف في غير تلك الأخبار من الاحتمال غير المنجز ، وحينئذ فمع عدم إمكان الاحتياط أو تعسره وبطلان الرجوع إلى الاصول ـ على ما سيأتي ـ وجب الأخذ بمظنون الصدور وهو الخبر الموثوق به.

ويرد : بأن وجوب العمل بشيء من جهة الاحتياط أمر ، وحجية الشيء بحيث يصلح للتخصيص والتقييد والاستناد إليه أمر آخر ، والمقام من الثاني ، والدليل يثبت الأول ولا ربط لأحدهما بالآخر. ويمكن تقرير هذا الوجه بنحو آخر ، لأن العلم بالأخبار من حيث هي لا موضوعية فيها ، بل تكون طريقا إلى العلم بالأحكام الشرعية ، فيرجع هذا الوجه إلى ما يأتي من الوجهين.

ومنها : أن بقاء التكليف إلى يوم القيام مما يعرفه الخاص والعام ، والفراغ منه لا يحصل إلا بالعمل بالأخبار ، ومع فقد العلم بالصدور وجب الأخذ بمظنونه.

ويرد عليه : ما ورد على الوجه السابق من أن الحجية شيء ، والأخذ من

١١٤

باب الاحتياط شيء آخر ، والمطلوب هو الأول ، والدليل على فرض تماميته يثبت الأخير.

ومنها : إنا مكلفون بالرجوع إلى السنة الباقية التي هي عبارة عن الأخبار الآحاد ، فمع عدم العلم بالصدور لا بد من الأخذ بمظنونه.

وفيه : أنه عين الوجه السابق ، إذ لا موضوعية للأخبار من حيث هي ، والمدار على الأحكام والأخبار طرق إليها ، فيرد عليه ما ورد عليه ، فترجع الوجوه الثلاثة إلى وجه واحد.

مع أنه مضافا إلى ما مرّ أنه بعد فقد العلم لا تصل النوبة إلى الأخذ بالمظنون دفعة ، بل لا بد من الأخذ بالمتيقن ، ومع عدم الكفاية ، فالمتيقن بالإضافة إلى أن تصل النوبة إلى الظن بالآخرة ، وربما يأتي ما ينفع المقام في بيان الانسداد الكبير ، والظاهر أن اعتبار خبر الثقة أوضح من أن يستدل عليه بمثل هذه الامور الواهية.

نتائج البحث :

الاولى : النزاع في اعتبار خبر الواحد الموثوق به صغروي لا أن يكون كبرويا ، إذ الوثوق والاطمئنان النوعي العقلائي معتبر لدى الكل ، والنزاع في أنه موجب لهما أو لا ، وأن أي قسم من أقسام الخبر موجب لهما؟! فالمحققون يقولون : إن مجرد الوثوق بالصدور من أي جهة حصل يكفي ، والحق معهم. وبعض القدماء يقول باعتبار العلم بالصدور ، فإن كان مرادهم به العلم العادي الذي يشمل مطلق الوثوق والاطمئنان أيضا ، فلا نزاع في البين أصلا. وإلا فلا دليل لهم على مدعاهم ، بل الدليل على الخلاف ، كما مرّ.

ومن ذلك يظهر أنه لا وجه لتقسيم الخبر إلى الأقسام الأربعة ـ الصحيح

١١٥

والموثق والحسن والضعيف ـ المعروفة.

ثم إن الظاهر اعتبار الخبر الموثوق به مطلقا ـ سواء كان مفاده الأحكام الفرعية أو غيرها من المعارف ، أو الأخلاقيات ، أو القصص والحكايات والتكوينيات ونحوها ـ لشمول الدليل للجميع بلا مانع في البين.

الثانية : العدالة المعتبرة في الراوي طريقية لإحراز صدقه في المقال ، لا أن تكون لها موضوعية خاصة ، كما في إمام الجماعة ، والقاضي ، والمفتي ونحوهم ، فالمناط كله فيه صدقه في المقال ، عادلا كان في سائر اموره أو لا ، إماميا كان أو لا ، ويشهد له مضافا إلى وضوحه ، قوله عليه‌السلام : «لحديث واحد تأخذه عن صادق خير من الدنيا وما حملت من ذهب وفضة».

الثالثة : للوثوق والاطمئنان مراتب متفاوتة ، كما أن للعلم أيضا كذلك ، ويكفي في الاعتبار حصول أول مرتبة منهما ، لعدم الدليل على اعتبار أزيد منه ، بل مقتضى سهولة الشريعة والإطلاقات والعمومات المرغبة إلى أخذ الأخبار عدم الاعتبار ، فأي إطلاق أوضح وأجلى من وصية الصادق عليه‌السلام لشيعته : «أيتها العصابة عليكم بآثار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنه من أخذ بذلك فقد اهتدى» ، وقوله عليه‌السلام : «تزاوروا فإن في زيارتكم إحياء لقلوبكم وذكرا لأحاديثنا» ، وقول الرضا عليه‌السلام : «إنما امروا بالحج لعلة الوفادة إلى الله .. إلى أن قال : ونقل أخبار الأئمة إلى كل صقع وناحية» إلى غير ذلك من الأخبار الظاهرة في كفاية أول مرتبة الوثوق والاطمئنان من أي وجه حصل ، لأن سنخ هذه الأخبار في مقام التوسعة والتسهيل وبث الأحاديث بكل وجه أمكن.

الرابعة : لا اعتبار على تضعيف من كان جامدا على الظواهر ، ولا بتضعيف الزاهد المتقشف لاعتقاده أن كل من ليس كنفسه فهو ضعيف ، ولا بمن سقط تضعيفه لكثرة اهتمامه به ، كتضعيفات ابن الغضائري الذي قالوا فيه : إنه لا يسلم أحد من قدحه ولا ثقة عن جرحه ، بل المناط فيه على تضعيف الفقيه الجامع

١١٦

للشرائط المعتدل الفهم المتتبع في الفقه ، المأنوس بمذاق الأئمة عليهم‌السلام وبكيفية معاشرتهم مع العامة ، وكثرة اهتمامهم بنشر الأحكام ولو بواسطة غير شيعتهم وترى بالوجدان أنه ربما يكون الفاسق أسرع في نشر الخبر من العادل المتعبد المشغول بتزكية نفسه. وقد وثّق ابن عقدة ، والمفيد ، وابن شهرآشوب والطبرسي أربعة آلاف رجل من أصحاب الصادق عليه‌السلام ، ومع توثيقهم لهؤلاء وهم من أعاظم المتتبعين في تلك الطبقة فكيف ينبغي أن يؤخذ بتضعيف كل أحد؟! خصوصا من كان في أول مراجعته وتدوينه للرجال ، وعن بعض المتتبعين دعوى أصالة الصدق في رواة الأحكام إلا ما خرج بالدليل ، كأصالة الصحة في أفعال الأنام كذلك.

ثم إن التضعيف والجرح لا بد وأن يرجعا إلى جهة الصدق فقط ، إذ لا موضوعية للعدالة في الراوي ، وإنما هي طريق لإحراز الصدق فقط ، والجرح والتضعيف من سائر الجهات إن رجعا إلى التكذيب بالملازمة العرفية أو الشرعية أو العقلية فهو ، وإلا فلا أثر لها ، ومن ذلك تنسدّ أبواب كثير من التضعيفات والجرح ، كما لا يخفى.

الخامسة : من تتبع أقوال علماء الرجال قدس سرّهم يرى أن اهتمامهم بالتضعيف أكثر من اهتمامهم بالتوثيق ، بل ربما يرى من بعضهم الحرص على ذلك ، ولعله لما ارتكز في أذهانهم من أصالة عدم الحجية ، ولم أر من الأئمة عليهم‌السلام ولا من خواص أصحابهم بل ولا من جميع أصحابهم هذا النحو من الاهتمام بالنسبة إلى نقل الحديث في ما تفحصت عاجلا ، بل مقتضى إطلاق قولهم عليهم‌السلام : «اعرفوا منازل الناس على قدر روايتهم عنا» ، وإطلاق قولهم عليهم‌السلام : «رحم الله امرءا أحيا أمرنا. قلت : وكيف يحيي أمركم؟ قال عليه‌السلام : يتعلّم علومنا ويعلمها الناس ، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لا تبعونا» ، وإطلاق موثق الحلال : «قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : الجل من أصحابنا يعطيني الكتاب ولا يقول : اروه عني

١١٧

يجوز لي أن أرويه عنه؟ فقال عليه‌السلام : إذا علمت أن الكتاب له فاروه عنه» ، وقول الصادق عليه‌السلام : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إذا حدثتم بحديث فأسندوه إلى الذي حدّثكم ، فإن كان حقا فلكم ، وإن كان كذبا فعليه». وقول أبي جعفر عليه‌السلام في صحيح الحذاء : «والله إن أحب أصحابي إليّ أورعهم وأفقههم ، وأكتمهم لحديثنا ، وإن أسوأهم عندي حالا وأمقتهم الذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا ويروى عنا فلم يقبله اشمأز منه وجحده وكفر من دان به ، وهو لا يدري لعل الحديث من عندنا خرج وإلينا اسند ، فيكون بذلك خارجا عن ولايتنا» ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المستفيض نقله بين الفريقين : «نضّر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها وحفظها ، وبلّغها من لم يسمعها ، فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» إلى غير ذلك مما لا يحصى. ومقتضى ذلك كله أن يكون الاهتمام بالتوثيق والعناية به أكثر بمراتب من التضعيف ، فيحكم بالضعف في خصوص ما لم يكن للوثوق طريق إليه أصلا ، فيكون مقتضى هذه الإطلاقات المتواترة إجمالا اعتبار كل خبر اسند إليهم عليهم‌السلام إلا ما ثبت كذبه.

وعن بعض دعوى أصالة الصدق في أصحاب المعصومين عليهم‌السلام نبيا كان أو إماما ، بل أصالة الصدق في أتباع الشخص مطلقا ، فالأصل العقلائي لجريان السيرة على استفادة آراء الشخص وآثاره وأقواله من أتباعه بلا شبهة فيه ولا ترديد مع ترتيب الأثر عليه.

السادسة : الوثوق والصدق من الامور المشككة التي لها مراتب متفاوتة. فأول مراتبها ظهور حال الراوي الذي يكون في مقام الاستناد مع التفاته ـ ولو ارتكازا ـ بأن قوله يصلح لأن يكون منشأ للأثر مع عدم أمارة على كذبه ، وبذلك يثبت أول مرتبة الصدق والوثوق ، فيشمله إطلاق ما دلّ على اعتبار خبر الصادق والموثق ، مضافا إلى السيرة العقلائية على الاعتبار أيضا ، إذ لم نر منهم التأمل في القبول بعد تحقق مثل هذا الظهور لهم.

١١٨

إن قلت : فعلى هذا تقبل رواية مجهول الحال ، فيرجع البحث إلى أن ظهور الكذب مانع عن القبول ، لا أن يكون الصدق والوثوق شرطا له ، مع أنه لا تشمله الإطلاقات ، لأنه من التمسك بالعام في الموضوع المشتبه ، والمتيقن من السيرة العقلائية خلافه.

قلت : إن كان المراد بالمجهول ـ كما اصطلحوا عليه ـ من لم يعرف عقيدته وإن كان موثوقا به ، فلا ريب في قبول خبره ، لقبول خبر الموثوق به وإن كان فاسد العقيدة فضلا عما إذا لم تعلم عقيدته. وإن كان المراد به الجهل بوثاقته وصدقه في مقاله من جهة شيوع القدح فيه ، فالظاهر سقوط ما مرّ من ظهور حال الراوي بالنسبة إليه ، فلا وجه للقبول ، وحينئذ فمقتضى إطلاق الأدلة اللفظية والسيرة ترتيب الأثر على خبر من أمكن تحقق أول مرتبة الوثوق بالنسبة إليه ، وهذا هو مقتضى سهولة الشريعة أيضا ، كما أن مقتضى الإطلاقات ترتيب آثار العدالة على من اتصف بأول مرتبتها ، ولا يعتبر الاتصاف بما زاد عليها ، كما هو أوضح من أن يخفى.

ثم إنه لو احرز الوثوق بالصدور من قرائن اخرى تأتي الإشارة إليها إن شاء الله تعالى ، يقبل خبر من عرف بالكذب فكيف بمجهول الحال.

ومن ذلك يظهر أن بعض مراتب الضعف لا تنافي بعض مراتب الوثوق والصدق ، فلا وجه لطرح كل ضعيف خصوصا بالنسبة إلى جملة كثيرة من التضعيفات ، كما هو معلوم على الخبير.

السابعة : عمدة ما نحتاج إلى التوثيق فيه إنما هو الواجب والحرام نفسيا كان أو غيريا ، لبناء العلماء في غيرهما على المسامحة في السند ، ودواعي الكذب فيهما قليلة جدا ، خصوصا مع بناء المعصومين عليهم‌السلام والثقات من الرواة على تفضيح من يشم منه رائحة الكذب فيها. وقد شاع من عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي زمان المعصومين عليهم‌السلام القول بوجود الكذابين ، ولنفس هذه الإشاعة أثر مهم في

١١٩

الاهتمام بالحديث نقلا وضبطا وناقلا ومنقولا عنه ومنقولا إليه ، وإظهارا لكذب المفترين والكاذبين مهما تيسر ذلك ، بحيث يصح أن يقال : إن الكذب في الاستناد كان ملازما لظهور الكذب وفضيحة الكاذب. ويمكن تأسيس أصل معتبر ، وهو أصالة عدم تعمد المسلم في الكذب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام ، ولا وجه لذكر السند في غير الواجبات والمحرمات بعد فرض الاعتماد على المتن وتسامح العلماء فيه. وأما الواجبات والمحرمات فهما محفوفتان بقرائن معتبرة ، يحصل منها الوثوق بالصدور خصوصا بين المتأخرين الذين بذلوا جهدهم في تهذيب الفقه عن الأخبار الضعيفة والروايات النادرة ، فلا ثمرة في تعيين طبقات الرجال بعد كون متن الحديث موثوقا به من سائر الجهات.

الثامنة : موجبات الوثوق بالصدور كثيرة جدا خصوصا في زمان ظهور المعصومين عليهم‌السلام وأوائل الغيبة الصغرى ، وليست منحصرة في الوثوق بالرواة فقط ، وقد جمع جملة منها شيخنا المحدث العاملي قدس‌سره في الفائدة الثانية من خاتمة الوسائل ، وهناك موجبات اخرى يستخرجها الفقيه المتتبع.

التاسعة : نسبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمعصومين عليهم‌السلام إلى من يروي عنهم نسبة المعلم إلى المتعلم ، وهكذا النسبة بين كل طبقة سابقة والطبقة اللاحقة الذين يتلقون الأحاديث عنهم ، ومقتضى العادة والسيرة أن المتعلم لا يكذب على المعلم فيما يتعلم منه وإن فعل ذلك لشاع وظهر ، كما أن مقتضى العادة أن لكل مذهب وملة أقواما مخصوصين في كل عصر وزمان يهتمون بحفظ ما يتعلّق بذلك المذهب ويدافعون عمن يريد الدس والافتراء فيه ، وهذه العادة جارية في مذهب الإمامية ، بل على نحو أشد وأمتن فإنهم المعروفون بالثقة والصلاح ولا يدخل فيهم من كان خارجا عنهم إلا ويظهر حاله في مدة قليلة ، كما لا يخفى على من راجع أحوال الرواة. هذا مع قطع النظر عن عناية الله تعالى بالشريعة الختمية والمذهب العدل ، فإن المقطوع به من عناياته الخاصة ، أنه تعالى يوفق

١٢٠