تهذيب الأصول - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

تهذيب الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

القسم الثالث : النفسي والغيري

والأول ما امر به لا لأجل تكليف آخر ، بخلاف الثاني فإنه ما كان أمره لأجل التمكن من تكليف آخر ، ويكون ذلك التكليف كالعلة الغائية لإيجابه ، سواء كان الأمر به مستقلا أم لا ، وسواء كان متقدما عليه أم متأخرا أم مقارنا ، وسواء كانت فيه مصلحة نفسية أو لم تكن.

ثم إنه إن علم ـ ولو بالقرائن ـ خصوص النفسية أو الغيرية فهو ، وإلا فمقتضى أصالة الإطلاق عدم كون الإيجاب والبعث عن داع غيريّ ؛ بل لنفسه فيثبت الوجوب النفسي بالإطلاق ، هذا بحسب الأدلة اللفظية.

وأما بحسب الاصول العملية ، فإن علم بعدم وجوب ذي المقدمة ، أو لم يعلم به ، فمقتضى أصالة البراءة عدم فعلية الوجوب مطلقا ، وإن علم به وقلنا بأن العلم بجنس الوجوب يجزي في تنجزه ، كما هو مقتضى مرتكزات المتشرعة وجب الإتيان به. وإلا فلا لأصالة البراءة ، ولكن لا تصل النوبة إليها مع وجود الإطلاق في البين.

ثم إنه لا ريب في ترتب الثواب على امتثال الأوامر النفسية مع الشرائط المعتبرة. وأما الأوامر الغيرية فالمعروف أنه لا ثواب لامتثالها ، لعدم المصلحة فيها ، بل لا مصلحة لإيجابها إلا إتيان غاياتها.

ولكن يرد عليه .. أولا : أنها أعم من ذلك ، كما تقدم.

وثانيا : مقتضى إطلاق قوله تعالى : مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وقوله تعالى : فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وقوله تعالى : مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ وغيرها مما هو كثير كتابا وسنة ، ترتب الثواب على امتثالها أيضا بعد صدق الحسنة والخير والعمل الصالح عليها.

٨١

ولا وجه للقول بأن ذلك كله بواسطة ذي المقدمة لا في حد نفسها ، فلا وجه لانطباق أي عنوان عليها. لأنه يمكن أن تكون الإضافة إلى ذي المقدمة موجبة لتعنونها بعنوان الحسن ، وسببا لعروض ذلك عليها ، سواء تحقق ذو المقدمة في الخارج أم لم يتحقق. ويشهد له ما ورد في السعي في قضاء حاجة المؤمن : أن من سعى فيها فله كذا من الثواب ، قضيت الحاجة أو لا. وما ورد : من أن نية المؤمن خير من عمله. وتقتضيه كثرة تفضل الله تعالى على عباده وسعة رحمته.

ودعوى اختصاص مثل هذه الإطلاقات بخصوص الواجبات النفسية ، بلا شاهد بل هو على خلافهما ، مع إمكان القول بانبساط الثواب من ذي المقدمة إلى مقدماته ، حصل ذو المقدمة أم لا ، مضافا إلى صدق الانقياد الذي هو من موجبات الثواب عند العقلاء مطلقا.

ثم إنهم قالوا بانحصار الثواب في ما إذا قصد الأمر والقربة ، فلا ثواب في غيره. وهو أيضا بلا شاهد ، إن لم يكن على خلافه شاهد ، كما لا يخفى على من راجع الأحاديث الشريفة ، بل الثواب يدور مدار كون العمل محبوبا لدى الله عزوجل بأي مرتبة من مراتب الحب ولو كان الحب مقدميا انقياديا ، لأن لحبه تعالى مراتب متفاوتة ، كما أن لثوابه أيضا كذلك ، بل ربما يثيب الله تعالى على امور غير اختيارية ، فسقوط الأمر في العبادات وإن كان متوقفا على قصد الأمر ولكن الإثابة على المحبوبات لدى الله تعالى أعم من ذلك. كما أن فساد العباديات بالرياء لا ربط له بالمقام.

والحاصل : أنه لا مانع ثبوتا من الثواب على المقدمات ، لكونها محبوبة لله تعالى في الجملة ، ولا يكون الثواب متقوّما بقصد القربة ، هذا إذا كان المراد بالثواب الجزاء المجعول الشرعي ، وأما إذا كان المراد به استحقاق المدح الذي هو أمر عقلي ولا ربط له بالشرع ـ فلا ريب في تحققه أيضا ـ لانطباق عنوان

٨٢

الانقياد على إتيانه ، ولا إشكال في أن كل انقياد ممدوح عند العقل والعقلاء. فلا وجه للإشكال على الطهارة الحدثية بأن مطلوبيتها غيرية ، مع ما ورد من ترتب الثواب عليها لما تقدم ، مضافا إلى أنه يستفاد من جملة من الأخبار كونها مطلوبة نفسيا ، مع أنه يمكن انبساط ثواب الغايات عليها ، فيصح قصد أمرها النفسي ، كما يصح قصد أمرها الغيري.

وما يقال : من أنه يلزم حينئذ اجتماع الندب والوجوب في واحد ، وهو من اجتماع الضدين.

مدفوع : بأن الاجتماع المحال ما إذا كان الضدان من الموجودات الخارجية العينية ، لا من الاعتباريات ، والأحكام من الأخيرة دون الاولى ، مع أن الاجتماع ملاكي ، لا أن يكون فعليا ، ولو كان فعليا لأمكن الاختلاف بالحيثية.

وما يقال : من أن حيثية المقدّمية تعليلية ولا تفيد في دفع المحذور ، لأن ما يفيد فيه إنما هو الحيثية التقييدية فقط.

مردود : بإمكان فرضها في المقام تقييدية لدفع المحذور.

ثم إنه يمكن القول بصحة ترتب العقاب على ترك الواجب الغيري لانطباق عنوان هتك المولى والاستخفاف به ومخالفته عليه عرفا ، وذلك مما يوجب الاستحقاق ، مع أن ترك العلة مستلزم لترك المعلول.

نعم ، هناك عقاب واحد متبسط على ترك المعلول وعلته بجميع أجزائها ، لا أن يكون العقاب متعددا ، بخلاف الأجر والثواب فإنه يمكن التعدد فيه كما لا يخفى.

القسم الرابع : التعييني والتخييري

والأول ما لا يكون له عدل في عرضه بخلاف الثاني. ولا ريب في ووقوعهما عرفا وشرعا ، وإنما الكلام في تصوير الثاني ثبوتا.

٨٣

فقيل : إنه ما تعلّقت فيه الإرادة بالمبهم المردد.

واشكل عليه : بأنه لا تحقق للمبهم حتى تتعلّق به الإرادة.

ويمكن المناقشة فيه بأن المبهم إن كان مبهما من كل جهة فهو حق ، وأما إذا لم يكن كذلك ، بل كان بين طرفين أو أطراف محصورة ، فلا إشكال فيه ، لتعينه في الجملة وهو يكفي لتعلّق الإرادة.

وقيل : إنه ما تعلّقت الإرادة فيه بالجامع ، واشكل عليه بأنه من التخيير العقلي حينئذ ، والكلام في التخيير الشرعي.

وفيه : أن التخيير العقلي ما اخذ فيه الجامع القريب في ظاهر الخطاب دون ما إذا انتزع الجامع الاعتباري من الأطراف ، وقد ذكر ذلك الجامع العنواني الانتزاعي في ظاهر الدليل ، كما في قوله تعالى : فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ .. الآية ، وكما في بعض الأخبار أيضا ذكر الكفارة أولا ، ثم بيان أفرادها.

وقيل : إن الغرض الواحد مترتب على كل واحد من الأطراف.

واشكل عليه : بأنه مستلزم لصدور الواحد عن الكثير ، وهو ممنوع.

وفيه : أنه على فرض صحة المنع فهو في الواحد البسيط الحقيقي ، لا الواحد الاعتباري ، والمقام من الأخير دون الأول.

وقيل : بأن الواجب كل واحد من الأطراف في ظرف عدم الآخر ، ولا يلزم تحصيل الآخر مع حصول الأول.

واشكل عليه : بأنه يلزم عدم الوجوب في صورة إتيان تمام الأطراف ، وتعدد العقاب عند ترك جميعها.

ويرد عليه : بأن المراد انطباق الوجوب على أول وجود طرف من الأطراف ، فلا وجوب لغيره عند الاجتماع ، كما أنه لا وجه لتعدد العقاب عند ترك الجميع ، فإنه لا تكليف إلا بالواحد في الواقع. فلا محذور في جميع تلك الوجوه المتصورة في الواجب التخييري ثبوتا ولا إثباتا.

ثم إن التخيير إما بين المتباينين ، أو الأقل والأكثر.

٨٤

والأول مسلّم عند الكل ، وواقع في الشرعيات والعرفيات ، ولكن أشكل على الأخير تارة : بأن الأكثر إما لا مصلحة فيه ، أو تكون مصلحته عين مصلحة الأقل ، أو متباين معه. وفي الأولين لا وجه لإيجابه ، والأخير من المتباينين لا الأقل والأكثر ، فلا وجه لتصويره فضلا عن وقوعه.

واخرى : بأنه مع اشتمال الأكثر على الأقل ينطبق الوجوب على الأقل لا محالة ، فلا يبقى مورد للتكليف به.

ويجاب عن الأول : بأن الأكثر مشتمل على سنخ مصلحة الأقل زائدة عليها لازمة التحصيل مع عدم الاقتصار على الأقل.

وعن الثاني : بأن الأقل يلحظ حينئذ مستقلا وبشرط لا ، بلا فرق بين ما إذا تخلل العدم بين الأقل والأكثر وعدمه.

القسم الخامس : العيني والكفائي

عرّف الأول بأن له امتثالات متعددة حسب تعدد المكلفين ، ويتعدد الثواب والعقاب بتعدد المطيعين والعاصين ، ويتحقق فيه امتثال بعض ومخالفة آخرين.

وظاهرهم التسالم على ثبوت الأولين في الواجب الكفائي أيضا بخلاف الأخير ، فإنه بامتثال البعض يسقط عن الآخرين ، وهذا الفرق من ناحية المتعلّق ، وإلا فالوجوب فيهما على حد سواء.

وأما ما قيل : من أن الواجب الكفائي هو الواجب التخييري ، إلا أن التخيير في الأخير في المكلّف به ، وفي الأول في المكلّف.

فهو مضافا إلى أنه خلاف ظواهر أدلة الواجبات الكفائية ، مناف لما تسالموا عليه من عدم تعدد العقاب لو ترك تمام الأطراف في الواجب التخييري ، وتعدده في الواجب الكفائي لو اتفق الكل على تركه ، إلا أن يراد به التشبيه في الجملة لا من كل جهة.

٨٥

إن قيل : المصلحة في الواجب الكفائي إما واحدة ، أو متعددة ، لا وجه للأخير ، وعلى الأول لا وجه لتعدد الثواب والعقاب.

يقال : أما تعدد العقاب فلتحقق الاستخفاف بأمر المولى من كل واحد. وأما تعدد الثواب فيمكن القول بتعدد الأمر اهتماما واحتفاظا للمصلحة الواحدة ، وحينئذ مضافا إلى تحقق الانقياد يمكن تحقق الامتثال أيضا من حيث تعدد الأمر الانحلالي الاحتفاظي.

ولا وجه للتطويل بأكثر من ذلك بعد كونهما من المبينات عند متعارف الناس ، وبعد انتفاء الثمرة العملية والعلمية في هذا البحث.

القسم السادس : الموسّع والمضيّق

ولا ريب في كون الزمان ظرفا للواجب وغيره من أفعال المكلّف تكوينا ، فإن كان دخيلا في الواجب شرعا أيضا يسمى موقتا ، وإلا فغير موقّت.

والأوّل إما مضيق ، أو موسع. والموسع إما فوري ، أو لا ، والأخير له أفراد طولية وعرضية. ولا إشكال في وقوع الجميع.

ثم إن كان التقييد بالوقت على نحو وحدة المطلوب فلا يدل على ثبوت الواجب بعد الوقت ، فلا بد أن يكون القضاء بأمر جديد. وإن كان على نحو تعدد المطلوب فيكون الأمر باقيا بعد الوقت أيضا. وكذا لو شك في أنه من أيهما ، لأصالة الإطلاق في دليل المقيد. والمتفاهم من الموقتات عرفا هو الثاني إلا مع الدليل على الخلاف ، فيكفي الأمر الأول للقضاء خصوصا في مثل الصلاة ـ التي ثبت كثرة اهتمام الشارع بها ـ بحيث يقطع بأن التوقيت من باب تعدد المطلوب ، هذا بحسب الأصل اللفظي.

وأما بحسب الأصل العملي ، فلا إشكال في أن حدوث ذات الوجوب معلوم ، وتقييده بالوقت بحيث ينتفي بانتفائه مشكوك ، فيستصحب أصل الوجوب.

٨٦

ودعوى : أن المتيقن إنما هو الوجوب المقيد بالوقت ، وهو معلوم الارتفاع بعد الوقت ، والشك إنما هو في حدوث وجوب آخر ، فيكون من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي الذي ثبت بطلان الاستصحاب فيه.

مردودة : بأن المستصحب هو ذات التكليف من حيث هو ، لأن المفروض الشك في أن التوقيت كان من باب وحدة المطلوب أو تعدده ، فلا محذور في الاستصحاب. نعم ، لو ثبت أن التوقيت كان من باب وحدة المطلوب فهو من القسم الثالث بلا إشكال.

ويمكن التمسك بأصالة البراءة أيضا ، لأن التقييد بلحاظ بعض مراتب المطلوب معلوم يقينا. وأما بلحاظ تمام مراتبه أو كون القيد مقوما لأصل المطلوبية فهو مشكوك ، فيرجع فيه إلى الأصل فيبقى ذات الوجوب بعد الوقت أيضا.

ثم إنه إذا ثبت القضاء وشك بعد الوقت في الإتيان بالمأمور به في الوقت وعدمه ، فإن كان في البين دليل على عدم الاعتناء بالشك ـ كما ورد في الصلاة ـ فلا إشكال فيه. وإلا فلا يصح التمسك لوجوبه بإطلاق الدليل ، أما بناء على عدم تكفّله للقضاء فهو معلوم. وأما بناء عليه فلأنه من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه. ويصح التمسك بأصالة عدم الإتيان ، سواء كان موضوع القضاء مطلق عدم الإتيان ، أم الفوت لأنه عبارة اخرى عن عدم الإتيان عرفا ، فالترك والفوت وعدم الإتيان مساوق كل واحد مع الآخر عرفا ، وإن أمكن الفرق بينهما بالدقة العقلية ، ولكنها ليست مما تدور عليها الأحكام الشرعية.

القسم السابع : الأصلي والتبعي

والأصلي ما أنشأ عن إرادة استقلالية ، والتبعي ما أنشأ عن إرادة تبعية ، ولعل هذا هو مراد من عرّفهما : بالتفصيلية والإجمالية. وعند الشك فيهما تجري أصالة عدم الاستقلالية وعدم التبعية ، وتسقطان بالمعارضة ويصح التعريف

٨٧

سلبيا أيضا ، بأن يقال : الأصلي ما لم يكن عن إرادة تبعية ، والتبعي ما لم يكن عن إرادة استقلالية ، ولا يجري الأصل حينئذ ، لكونه مثبتا.

ويمكن تعريف الأول سلبيا والأخير إيجابيا ، لأن شرح اللفظ خفيف المئونة يصح بكل وجه أمكن ، وعند الشك تجري أصالة عدم الحدوث عن إرادة تبعية ، فتنتفي التبعية وتثبت الأصلية ، ولا تعارض أصالة عدم الأصلية لفرض أن الأصلي عدمي ، وتكون أصالة عدم الحدوث عن إرادة تبعية مفادا مطابقيا للأصلية ، كما أنه يمكن العكس بجعل الأول إيجابيا والأخير سلبيا ، فيجري الأصل في الأصلي ويكون مفادا مطابقيا للتبعي ، وكل هذه الوجوه ممكنة ثبوتا ، ولا يبعد مساعدة العرف على الثالث.

ومع عدم التعيين لا يجري الأصل لعدم إحراز الموضوع ، فتصل النوبة إلى الأصل الحكمي وهو أصالة الاشتغال مع فعلية خطاب المتبوع ، والبراءة مع عدمها. هذا كله في الاحتمالات الثبوتية.

وأما في مقام الإثبات ، فقيل : إن الواجب إن كان مفاد الدلالة الاستقلالية المعتبرة ومقصودا مستقلا بالإفادة فأصلي وإلا فتبعي ، وهو من مجرد الدعوى ولا شاهد عليها من عقل أو نقل ، إذ رب واجب تبعي يستفاد من الدلالة الاستقلالية ، ورب واجب أصلي يستفاد من غير الدلالات الاستقلالية ، كالمفاهيم ونحوها. ويمكن أن يكون كل من الواجب النفسي والغيري أصليا وتبعيا في مقام الإثبات كما لا يخفى. ثم إن الواجب النفسي ينطبق على الأصلي غالبا ، والغيري على التبعي كذلك.

٨٨

القسم الثاني

النواهي

ويبحث فيه عن أمرين :

الأمر الأول : لا ريب في تحقق الكراهة النفسانية عند النهي عن الشيء ، كتحقق الرغبة إليه عند الأمر به ، ولكن هل أن المبرز للكراهة النفسانية طلب الترك ، أو طلب كفّ المكلف نفسه عن الشيء ، أو ردع المكلف وزجره وإيقافه ، كما أن الأمر هو تحريضه وحمله عليه؟

والحق هو الأخير ، لأن الزجر عن المكروه إما خارجي ، أو اعتباري ، والأول إما حبس أو ضرب أو نحو ذلك ، ويعبّر عن الثاني بالنهي في متعارف الناس ، والأدلة الشرعية منزلة عليه بلا التباس ، ويمكن إرجاع الأولين إليه أيضا ، لأن من اللوازم العرفية للردع والإيقاف الاعتباري ، طلب الترك وطلب كف النفس.

وما يتوهم : من أن الطلب وجودي والترك عدمي ، فلا يصح تعلّقه به.

مردود : بأن الترك ليس من العدم المطلق ، بل هو من المضاف الذي يصح تعلق الطلب به ، بل هو عبارة اخرى عن الكف عرفا ، وإن كان بينهما فرق دقة.

ثم إن النهي متعلق بالطبيعة ، كالأوامر ، ومن اللوازم العرفية لتعلّق النهي بالطبيعة الفورية والاستمرار بالنسبة إلى الأفراد الدفعية والتدريجية ، لأن معنى الردع عن الطبيعة إعدامها بالمرة ، فتكون الفورية والاستمرار من المداليل

٨٩

السياقية للنهي ، بخلاف الأمر فإنه يدل على إيجاد الطبيعة وهو يتحقق بصرف الوجود ، وهو أعم من الفورية والاستمرار ، فلا بد في إثباتهما له من إقامة دليل من الخارج. فالفارق بينهما عرفي ، فلا وجه لدعوى أنه إن اخذت الطبيعة مهملة فلا فرق بينهما ، وكذا إن اخذت بعنوان السريان ، إذ العرف شاهد على الفرق بينهما ، كما هو معلوم.

الأمر الثاني : اجتماع الأمر والنهي في الواحد حكما

يصح تقرير هذا المبحث فقهيا ، بأن يقال : الصلاة في المحل المغصوب هل تصح أو لا؟ وتقريره اصوليا ، بأن يقال : إن تعدد العنوان في الواحد هل ينفع في دفع محذور التضاد بين الأمر والنهي أو لا؟ ويمكن أن يكون من المبادئ الأحكامية إن كان البحث في نفس الأمر والنهي من حيث حالاتهما الفردية والاجتماعية. ويمكن تقريره كلاميا إن كان البحث في أنه هل يصح من الحكيم تعالى الأمر بشيء واحد والنهي عنه أو لا؟ ففيه ملاك البحث عن جميع ذلك.

ولا بد من بيان امور :

أحدها : الفرق بين هذا البحث وما يأتي من بحث النهي في العبادات عرفي ، لاختلاف البحثين عند العرف وأهل المحاورة. وملاكي ، لأن ملاك البحث في المقام هو أن تعدد العنوان في الواحد هل يكفي في رفع محذور التضاد بين الأمر والنهي المتعلقين به؟ وملاك بحث النهي عن العبادة أنه لا يصح التقرب إلى المولى بما هو مبغوض لديه مع اختلافهما موردا أيضا ، لأن بين دليل الأمر والنهي في المقام عموم من وجه ، مثل : صلّ ، ولا تغصب ، وفي النهي في العبادة عموم مطلق مثل : صلّ ولا تصلّ في الحرير ، فلا ربط لأحد البحثين بالآخر موردا وملاكا وعرفا. وفي اجتماع الأمر والنهي ليس من ظاهر دليل النهي اشارة إلى المأمور به أبدا. نعم مورد النهي قد يكون شرطا للمأمور به ، بخلاف

٩٠

النهي في العبادة فإن النهي في ظاهر الدليل تعلّق بقيد المأموريّة.

وهناك مسألة اخرى لا بد أن لا تشتبه بالمقام أيضا وهي التصادق الموردي ، بأن تعلّق الأمر بشيء وتعلّق النهي بشيء آخر لا ربط له بالمأمور به أبدا ، لكن المكلف جمعهما باختياره في مورد واحد ، مثل ، صلّ ، ولا تنظر إلى الأجنبية ، أو لا تسمع الغناء. فصلّى المكلف في مكان مع النظر إلى الأجنبية ، أو استمع إلى الغناء ، أو هما معا.

فاجتماع الأمر والنهي في العبادة إنما يستفاد الفرق بينهما من ظاهر الدليل ، فإن كان ظاهره (لا تصل في المغصوب) مثلا فهو من النهي في العبادة ، وإن كان ظاهره (لا تغصب) فهو من الاجتماع.

ثانيها : اتفق العلماء على أنه لو كان تعدد الوجه والعنوان في الواحد كافيا في رفع محذور التضاد يصح الاجتماع ، كما اتفقوا على عدم الصحة مع عدم الكفاية ، فالنزاع في المقام صغروي بين الأعلام لا أن يكون كبرويا. كما لا نزاع عندهم أن الجهة التقييدية توجب التعدد ، والجهة التعليلية لا توجبه.

ثالثها : المراد بالواحد في عنوان البحث هو الواحد من حيث الوجود ، بأن يكون الذات الواحد المعنون بعنوانين موجودا بوجود واحد ، سواء كان الذات المعنون بعنوانين جنسا أم نوعا أم غيرهما ، فيصح البحث في أن اجتماع الأمر والنهي في الموجود الواحد من اجتماع الضدين ، أو أن تعنون الموجود الواحد بعنوانين يوجب رفع التضاد. وليس المراد الواحد من حيث المفهوم والجنس وإن تعدد الوجود كالسجود ـ كقوله : اسجد لله ، ولا تسجد لغيره تعالى ـ فإن السجود له تعالى ولغيره متحدان في المفهوم ومختلفان في الوجود ، ولا ريب في اجتماعهما في مفهوم السجدة وجنسها وإن لم يمكن جمعهما في الوجود ، لأن السجود إما لله تعالى أو لغيره.

ثم إن المراد بالعنوانين في المقام كل ما يصح أن يرتفع به محذور اجتماع

٩١

الضدين ، فيشمل مطلق تعدد الإضافة والحيثية القابلة للتعدد ـ ولو اعتبارا ـ.

رابعها : يشمل عنوان البحث جميع أقسام الأوامر نفسيا كان ، أو غيريا ، كفائيا ، أو عينيا ، أو تخييريا. وكذا النهى يشمل جميع أقسامه من النفسي والغيري.

والظاهر أنه لا وقوع للنهي الكفائي ، بل ولا النهي التخييري في الشرع ، كما أنه يشمل القول بأن متعلّق الأحكام الطبائع ، أو القول بأن متعلّقها الأفراد أيضا ، أما الأول فواضح ، وأما الثاني فلأنه ليس المراد بالفرد المشخص الخارجي من كل جهة ، بل المراد لحاظه في الجملة ، فيشمل ما كان قابلا لعروض عناوين متعددة أيضا.

خامسها : صريح جمع اعتبار قيد المندوحة ، وظاهر آخرين عدم اعتباره. ويمكن الجمع بين الكلمات بأن من قال بالاعتبار جعل مورد النزاع مرتبة فعلية التكليف وامتثاله ؛ لأنه مع عدم المندوحة يكون المكلف مضطرا إلى ارتكاب الحرام ، فكيف يعقل فعلية النهي حينئذ بالنسبة إليه حتى يتحقق موضوع اجتماع الأمر والنهي. ومن قال بعدم الاعتبار جعل مورده مرتبة أصل التشريع والجعل ، ويصح ذلك مع عدم المكلف أصلا فضلا عن عدم المندوحة. وحيث أن عمدة نظر الاصولي إلى مرتبة فعلية التكليف وتنجزه بالنسبة إلى المكلف فلا بد من اعتباره.

سادسها : المشهور أن المقام من موارد التزاحم ، فلا بد من وجود الملاك في كل منهما ثبوتا وتمامية الحجة عليهما إثباتا ، لا التعارض الذي لا ملاك فيه إلا لأحدهما وإن اجتمعت شرائط الحجية في الدليلين إثباتا ، ولذلك يقع التكاذب بينهما قهرا ، بخلاف التزاحم الذي لا تكاذب فيه أصلا ، وإنما المحذور عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما فعلا.

ويدل على المشهور امور :

٩٢

منها : التسالم على أن مسألة اجتماع الأمر والنهي إنما هي في ما إذا كان بين الدليلين عموم من وجه ، وذلك لا يتم إلا مع وجود الملاك في كل منهما.

ومنها : قولهم بصحة الصلاة في المكان المغصوب مع العذر من نسيان أو جهل أو نحوهما مع ذهابهم إلى الامتناع وتغليب جانب النهي ، فلو لم يكن الملاك موجودا واقعا لما كان وجه للصحة مع العذر.

ومنها : اعتبار قيد المندوحة ، فيظهر منه أنّ البحث في قدرة المكلف فقط فلا بد من كون الملاك تاما فيهما ، والحجة على كل من الحكمين تامة أيضا ، ولو كان من التعارض لا وجه لهذا القيد أصلا.

ولو شك في أنه من التزاحم أو التعارض فمقتضى إطلاق كل من الدليلين وتمامية الحجة لكل منهما إحراز الملاك في كل منهما أيضا ، إذ لا طريق لإحرازه إلا ذلك ، فيكون مورد الشك من التزاحم لا التعارض.

ثم إنه نسب إلى المشهور القول بالامتناع وتغليب النهي ملاكا وخطابا ، بحيث لا ملاك للأمر ولا خطاب له مع ذهابهم إلى صحة الصلاة في المحل المغصوب عند سقوط النهي عن الفعلية لعذر ، من نسيان ونحوه.

فاشكل عليهم بأنه بعد سقوط الأمر ملاكا وخطابا ، لا وجه للصحة حتى مع العذر.

واجيب عنه بوجوه أحسنها : أن سقوط ملاك الأمر وفعليته ما دامي لا دائمي ، يعني أنه مع فعلية النهي ، لا ملاك للأمر ولا فعلية له لوجود المانع. وأما مع سقوط النهي عن الفعلية فلا محذور للأمر ملاكا وخطابا ، ولا محذور في تغيير الحكم ملاكا وخطابا بتغير الحالات مع وجود الدليل عليه.

هذا كله بناء على الامتناع وتغليب النهي ، وأما بناء عليه وتغليب الأمر ، أو بناء على الجواز فلا ريب في الصحة مع العمد والاختيار ، فكيف مع العذر ، كما لا ريب في سقوط الأمر مطلقا بإتيان المجمع في غير العباديات ، سواء قيل

٩٣

بالامتناع أو بالجواز ـ عمدا كان أو لعذر ـ وإن أثم في الصورة الاولى.

ثم إنهم استدلوا على جواز الاجتماع بامور :

الأول : ما عن المحقق القمي رحمه‌الله من أنه لا فرض لاجتماع الأمر والنهي أصلا ، لأنهما متعلقان بالطبائع ، والفرد مقدمة لوجود الطبيعة ، ومقدمة الواجب ليست بواجبة ، فهذا البحث لا موضوع له أصلا ، وعلى فرض وجوب مقدمة الواجب لا مانع من اجتماع الوجوب الغيري مع النهي النفسي ، وإنما الممنوع هو اجتماع النفسي منهما.

ويرد عليه : أن الفرد عين الطبيعة ، كما ثبت في محله ، مع أنه تقدم عدم الفرق بين أقسام الأمر والنهي ، مضافا إلى أنه بناء على مقدمية الفرد للطبيعة لا فرق بين الأمر والنهي ، فكيف جعل رحمه‌الله الأمر مقدميا والنهي نفسيا.

الثاني : أن الامتناع لأجل التضاد وهو ثابت بين جميع الأحكام الخمسة ، ولا اختصاص له بخصوص الوجوب والحرمة ، وقد جمع الوجوب مع الاستحباب ، كالصلاة في المسجد ، وهو مع الكراهة ، كالصلاة في الأمكنة المكروهة ، والاستحباب مع الكراهة ، كصوم يوم عاشوراء ، والصلوات المبتدئة في الأوقات الخاصة ، فما يجاب به عن الاجتماع في هذه الموارد ، يجاب به عن اجتماع الوجوب والحرمة أيضا.

وفيه : أولا : أنه لا تضاد بين الوجوب والكراهة ، وبينه وبين الاستحباب ، وبين الكراهة والاستحباب بحسب الأنظار العرفية المنزّلة عليها الأدلة الشرعية. فيكون خروجها عن مورد البحث تخصصا لا أن يكون تخصيصا ، حتى يحتاج إلى دليل.

ويمكن المناقشة فيه : بأن التضاد أمر واقعي عقلي لا ربط لنظر العرف بالنسبة إليه ، مع أن الوجوب والندب ، والكراهة والاستحباب ، متضادان عرفا أيضا.

٩٤

وثانيا : أن الاستحباب في العبادات الواجبة إن كان بمعنى رجحان الفعل مع جواز الترك ، لا بد أن يحمل جواز الترك على جهة خارجة عن ذات الواجب ، مثل الخصوصية الخاصة التي تعلق بها الاستحباب ، كلبس العقيق في الصلاة مثلا. وإلا لخرج عن وجوبه ، إن تعلّق جواز الترك بذات الواجب ، وهو خلف. والكراهة فيها وفي العبادات ، لا بد أن تحمل على الجهة الخارجة عن الذات للزوم رجحان الذات في العبادة مطلقا ، ولا محذور فيه بعد ارتفاع غائلة اجتماع الضدين بتعدد الجهة ، كما يأتي.

وثالثا : الاستحباب في العبادات الواجبة بمعنى أكثر ثوابا ، والكراهة فيها وفي العبادات المندوبة بمعنى الأقل ثوابا ، وليس ذلك من التضاد في شيء.

لا يقال : أقلية الثواب إن لوحظت بالنسبة إلى أصل طبيعة العبادة يلزم خروج الواجب عن وجوبه ، لأن ثواب الطبيعة محدود بحد معين ، فمع الخروج عنه يلزم الانقلاب ، وإن لوحظ بالنسبة إلى الفرد ، يلزم في كل فرد يكون أقل ثوابا بالنسبة إلى الفرد الآخر ، أن يصير مكروها ، ولا يقول أحد بذلك.

فإنه يقال : يمكن اختيار الأول من دون لزوم المحذور ، لأن الطبيعة ، ليست محدودة بحد خاص من الثواب قلة وكثرة ، وهي لا اقتضائية بالنسبة إليه ، بل ليس الثواب في مرتبة الطبيعة أصلا ، وإنما هو معلول الامتثال القابل لزيادة الثواب وقلته بحسب الحالات والخصوصيات ، ويمكن اختيار الثاني أيضا ولا يلزم المحذور ، إذ ليس المدعى أن كل ما هو أقل ثوابا من غيره فهو مكروه ، بل المدعى أن ما دل عليه الدليل في عبادة أنها مكروهة ، يمكن أن تكون الكراهة فيها بمعنى أقلية الثواب بالنسبة إلى غيرها ، ولا محذور فيه أبدا.

ورابعا : أن الكراهة فيها اقتضائية لا فعلية ، فلا تنافي العبادية الفعلية ، فالمعنى أن في العبادات المكروهة اقتضاء الكراهة ولكن لا تصل إلى مرتبة الفعلية ، لغلبة رجحان العبادة عليها.

٩٥

الثالث : مما استدل به على الجواز : أن المتعارف يرون أن من يأتي بالصلاة في الدار المغصوبة ـ مثلا ـ مطيعا وعاصيا ، والأدلة الشرعية منزّلة على المتعارف.

ويرد عليه : بأنه صحيح لو لم يقم دليل على الامتناع.

الرابع : أن العبادة التي تعلق بها النهي التنزيهي على أقسام ثلاثة :

الأول : أن يتعلق النهي بالذات ولا بدل لها ، كصوم يوم عاشوراء ، والنوافل المبتدأة في أوقات خاصة.

الثاني : أن يتعلّق النهي بذات العبادة ولها بدل ، كالصلاة في الحمام مثلا.

الثالث : أن لا يتعلّق النهي بالذات بل لخصوصية محفوفة بها ، كالصلاة في مواضع التهمة.

أما الأول : فليس النهي لأجل مرجوحية في ذات العبادة حتى ينافي العبادية ، بل إنما هو لأجل مصلحة في نفس الترك من حيث هو ، فالفعل ذو مصلحة والترك كذلك أيضا ، وتكون مصلحة الترك أرجح ، كما في المندوبين المتزاحمين إذا كان أحدهما أرجح من الآخر إلا أنهما بين الفعلين ، والمقام بين الفعل والترك ، ولا محذور فيه من عقل أو نقل ، لعدم سراية المصلحة التركية إلى ذات العبادة حتى تصير مرجوحة ، بل هما ملحوظان مستقلان ، كما في المتزاحمين.

وأما الثاني : فمضافا إلى أنه يمكن أن يكون النهي للإرشاد إلى اختيار غيره مما هو أفضل ، يجري فيه عين ما تقدم في القسم الأول أيضا.

وأما الأخير : فمضافا إلى ما يجري فيه من الوجهين ، أنه يمكن أن يكون النهي فيه عن نفس الخصوصية المحفوفة بالعبادة من دون أن يسري إلى ذات العبادة أبدا.

وبالجملة المغالطة حصلت من التباس النهي في العبادة بالنهي المتعلّق

٩٦

بغيرها ، وقد ذكرت وجوه اخرى واضحة الفساد.

واستدل على الامتناع بوجوه :

منها : ما عن الكفاية ، وهي مركبة من مقدمات.

إحداها : تضاد الأحكام في مرتبة الفعلية ، فيكون من اجتماع الضدين في واحد شخصي خارجي ، وهو محال بنفسه ، لا أن يكون من التكليف بالمحال.

وفيه : أن اجتماع الضدين المحال منحصر بما إذا كان كل واحد من الضدين موجودا خارجيا ، والأحكام مطلقا من الامور الاعتبارية ، فليست هي من الموجودات الخارجية ، وعلى فرض تحقق الضدية في الاعتباريات ، يكفي في رفعها التغاير الاعتباري وهو ثابت قطعا ، فهذه المقدمة باطلة من أصلها.

ثانيها : أن متعلّق الأحكام ما يصدر عن المكلف خارجا ، وهو موجود شخصي خارجي ، فيلزم فيه اجتماع الضدين ، لا أن يكون اسمه وعنوانه الكلي حتى لا يلزم المحذور.

وفيه : أن المتعلق اعتبار فعل المكلف وفرضه بالفرض الصحيح العرفي ، وليس لمثل هذا الاعتبار وجود حقيقي خارجي ، بل هو قائم بالاعتبار وليس هو متحدا مع الخارجيات كاتحاد الطبيعي وأفراده ، بل يكون نظير ربط الإشارة بالمشار إليه ، فالأحكام اعتبارية وموضعها أيضا اعتباري ، ولا محذور في اجتماع مثل هذا القسم من الضدين ، لعدم الوجود الخارجي فيه ، ولا بأس بصدق الضدية والاعتبارية ، وتقدم أنه يكفي في رفعها التغاير الاعتباري ، فهذه المقدمة باطلة أيضا.

ثالثها : أن تعدد الوجه والعنوان لا يوجب تعدد المعنون ولا يضر بوحدته ، كما في الواجب تعالى ، فإنه مع كمال بساطته يصدق عليه جميع صفات الجلال والجمال.

وفيه : أن القياس مع الفارق جدا ، فإنه تعالى في كمال البساطة ـ وفوق ما

٩٧

يتعقل من معنى البساطة ـ وغيره تعالى مركب خصوصا مثل الصلاة ـ التي تكون من المركب الاعتباري ـ المتقومة من امور كثيرة ـ من النية ، والحركة ، والقول ، والسكون ونحوها ـ فالوحدة فيها اعتبارية ـ لا أن تكون حقيقية ـ فالمعنون يكون متعددا حقيقيا لا أن يكون واحدا كذلك ، وفي مثله يكون تعدد الوجه والعنوان كاشفا عن تعدد المعنون لا محالة. نعم ، لا ريب في أن له وحدة اعتبارية ، وتقدم أنه لا محذور في اجتماع الضدين الاعتباريين في الواحد الاعتباري ، فهذه المقدمة باطلة.

رابعها : أنه ليس للموجود الواحد إلا ماهية واحدة ، فالمجمع وإن كان مورد الأمر والنهي لكنه واحد وجودا وماهية ، وتقدم أن تعدد الوجه والعنوان لا يوجب تعدد المعنون ، فيكون من اجتماع الضدين المحال.

وفيه : أن الموجود الواحد له ماهية واحدة في الحقائق البسيطة لا المركبات الاعتبارية ، فيصح تقوّمها بماهيات كثيرة ، كما هو أوضح من أن يخفى.

المقام من الثاني دون الأول.

فظهر من ذلك كله عدم صحة جميع المقدمات التي ذكرها رحمه‌الله لإثبات الامتناع ، لأن التعدد الاعتباري يكفي في رفع التضاد بين الاعتباريات ، وإذا بطلت المقدمة تبطل النتيجة لا محالة.

كما لا وجه لدعوى أن جواز الاجتماع مستلزم لنقض الغرض ، لأن الأمر بالشيء لدرك المصلحة والتقرب بالمأمور به إلى الله تعالى ، وهو لا يجتمع مع النهي الفعلي. إذ فيه مضافا إلى أنه عين المدعي ، أنه لا محذور فيه بعد تعدد الجهة ، فيجلب المأمور المصلحة من جهة ويقع في المفسدة من جهة اخرى ، ولا محذور فيه من عقل أو نقل أو عرف ، بل هو واقع كثيرا ويتقرّب إلى الله تعالى من جهة ويقع في المفسدة من اخرى ، ولا يلزم التقرّب بعين ما هو مبعد ،

٩٨

لفرض تعدد الجهة ، بل يكون التقرّب إليه تعالى بشيء والتباعد عنه تعالى بشيء آخر وإن كانت لهما وحدة اعتبارية.

فتلخص : أن ما يقال في وجه الامتناع جميعها باطل ، وكفى بذلك دليلا على الجواز ، فيشك في بطلان الصلاة في المجمع ، فمقتضى البراءة عدم المانعية والبطلان بعد إمكان التفكيك بين المأمور به والنهي عنه عقلا ، وبعد شمول أدلة البراءة للحرمة الغيرية أيضا ، كما هو الحق. هذا كله بحسب الدقة العقلية.

وأما بحسب الأنظار العرفية المنزلة عليها الأدلة ، فالاجتماع ممتنع. فيمكن الجمع بين الكلمات ، فمن قال بالجواز أي بحسب الدقة العقلية ، ومن قال بالامتناع أي بحسب الأنظار العرفية المسامحية.

إن قلت : هذا في غير السجدة والقيام ، وأما فيهما فالمأمور به عين المنهي عنه ، إن كانت في المحل المغصوب حتى بالدقة العقلية.

قلت : يمكن تعدد الجهة فيهما أيضا ، لأن السجدة وضع الجبهة على الأرض ، والقيام وضع خاص ، وإباحة المحل خارجة عن حقيقتهما ، وإنما هي شرط خارج اعتبره الشارع.

٩٩

ختام فيه أمران ..

الأمر الأول :

ولم يكن ذلك بسوء اختياره ، يجب عليه الخروج مع الإمكان ، لوجوب تفريغ ملك الغير عن الكون فيه عقلا وشرعا ، ولا حرمة في التصرفات الخروجية ، لمكان الاضطرار بل تتصف بالوجوب فقط ، ولا يحرم بقاؤه فيه مع عدم التمكن من الخروج وتصح صلاته فيه مع استيعاب الاضطرار ، كل ذلك لقاعدة نفي الحرج ، وحديث الرفع ، بل الظاهر كونه من ضروريات المذهب إن لم تكن من الدين ، من دون فرق في ذلك كله بين القول بجواز اجتماع الأمر والنهي ، والقول بعدمه.

وأما إذا كان ذلك بسوء اختياره فالبحث ..

تارة : في حكم خروجه عنه عرفا.

واخرى : بحسب مسألة اجتماع الأمر والنهي بناء على الجواز.

وثالثة : بحسب تلك المسألة بناء على الامتناع.

أما الأول : فالظاهر عن حال الناس رضاؤهم بخروج الغاصب والظالم والسارق عن ملكهم ، لا سيما إذا كان بعد إظهار ندامته وتوبته ، وعدم حصول تضرر في مالهم ، والتضمين لو تحقق ضرر عليهم ، بل الظاهر أن متعارف الناس يستنكرون على المالك لو أظهر عدم رضائه بالخروج مع ما ذكرناه. فإذا رضي المالك بالخروج يجب بلا إشكال ، لوجود مقتضيه ، وبذلك تسقط جملة من الأقوال ، لبنائها على حرمة الخروج.

ويشهد لما قلناه عدم تعرضهم قدس سرّهم في ردّ المغصوب المنقول لاحتمال

١٠٠