تهذيب الأصول - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

تهذيب الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين

والصلاة والسّلام على خير خلقه

محمّد وآله الطّيّبين الطّاهرين

وبعد فيقول المفتقر إلى الله جلّ جلاله عبد الأعلى الموسوي خلف المرحوم العلامة الجليل السيد علي رضا : هذه خلاصة ما حققناه وحقّقه مهرة مشايخنا ـ «قدس الله أسرارهم» ـ المبتكرين في هذه الصناعة بعد طول الجهد وتحمّل المتاعب ، أبرزتها في أسهل العبارات وأيسر الجملات ، خالية عن جميع الزوائد ، مشتملة على كثير من الفوائد ، وسميتها ب (تهذيب الاصول) عن الزوائد والفضول ، راجيا أن يهذبنا الله تعالى عن كل ما لا يرضيه ، ويحلّينا بكل ما يرتضيه ، وأن يجعله كافيا لصحة الاعتذار في أحكامه المقدسة إلى يوم القيامة.

ومنهجنا في هذا الكتاب يخالف ما هو المتبع في سائر الكتب ، فهو مؤلف من مقدمة ومقاصد ثلاثة :

١ ـ المقدمة : وفيها امور عامة.

٢ ـ المقصد الأوّل : في مباحث الألفاظ ، ومنها المشتق ، ومبحث التعارض.

ولكن لما لم تكن لمبحث المشتق فائدة مهمة فقهية جعلناه في المقدمة تبعا للاصوليين.

٥

٣ ـ المقصد الثاني : في الملازمات العقلية بقسميها ـ المستقلة وغير المستقلة ـ كمقدمة الواجب ، ومسألة الضد ، ومسألة النهي في العبادة.

٤ ـ المقصد الثالث : في ما يصح الاعتذار به ، كمباحث القطع ، والأمارات ، والاصول العملية ، والاجتهاد والتقليد.

وجميع مباحث الألفاظ ترجع إلى تشخيص صغريات أصالة حجية الظهور ، التي هي من أهم الاصول النظامية العقلائية. وحيث أن أساس الفقه مبني على الكتاب والسنّة ، وهما بمعزل عن الملازمات العقلية ؛ جعلوا بحث الملازمات العقلية في طي مباحث الألفاظ ، إلا أننا عقدنا لها بابا مستقلا ، وهو المقصد الثاني.

وخالفناهم في مبحث التعارض فجعلناه من مباحث الألفاظ ، وفي بحث الاجتهاد والتقليد فجعلناه من مباحث ما يصح الاعتذار به.

ولا يخفى أن الاصول مقدمة وآلة للتعرّف على الفقه ؛ وليس هو مطلوبا بالذات ، فلا بد أن يكون البحث فيه بقدر الاحتياج إليه في ذي المقدمة ، لا زائدا عليه ، وأن تكون كيفية الاستدلال فيه مثلها في الفقه في مراعاة السهولة ، وما هو أقرب إلى الأذهان العرفية ، لابتناء الكتاب والسنّة اللذين هما أساس الفقه على ذلك ، فالاصول من شئون الفقه لا بد أن يلحظ فيه خصوصياته من كل جهة.

٦

مقدّمة

وفيها امور عامة

الأمر الأول : تعريف الاصول ، وفضله وغايته ، ومرتبته

أما تعريفه : فحيث أن علم الفقه ما يبحث فيه عن وظيفة الإنسان من حيث الشريعة.

ثم إن وظائف العباد إما أن تكون متقوّمة بقصد القربة أو لا. والثانية إما أن تكون بين اثنين أو لا. والثالثة إما أن تتوقف على الإنشاء أو لا.

فالاولى العبادات ، والثانية العقود ، والثالثة الإيقاعات ، والرابعة الأحكام.

وهذا الحصر عقلي.

هذه هي كبرى الأقسام في الفقه ، وإن كان عندهم نزاع صغروي في بعض الأقسام.

فالاصول ما يبحث فيه عن تعيين كيفية تلك الوظيفة ، وحقيقته أنها قواعد معتبرة تستعمل في استفادة الأحكام الإلهية ، ولا اختصاص له بالمسلمين ، بل كل ملة لها وظائف دينية يكون لها فقه واصول.

ونزاع الأخباري والأصولي إنما هو نزاع صغروي في بعض مسائل

٧

الاصول ، لا أن يمنع الأخباري عن لزوم إعمال القواعد المعتبرة المحاورية في استفادة الأحكام الإلهية عن الكتاب والسنّة.

ويكفي في فضله أنه في الجملة من شئون الفقه الذي هو من أفضل العلوم بعد التوحيد ، بل به يستكمل التوحيد ، وحيث أنه نفسه مقدمة للفقه يكون فضله فضلا ترشحيا منه.

وأما غايته : فلا ريب في أنه من أفضل الغايات وأعظمها ، لأنها الاقتدار على تشخيص الأحكام الربوبية ، وتعيين الوظائف الإلهية لعباده ، وهذا من فروع النبوة والخلافة الإلهية.

وأما مرتبته : فهي فوق جميع العلوم الدخيلة في الفقه ، فالاصول من حيث المرتبة بداية الاجتهاد ونهاية العلوم الدخيلة في الاستنباط.

الأمر الثاني : المعروف أن كل علم متقوم بالمسائل ، والموضوع ، والمبادئ.

وهو بالنسبة إلى الأول مسلّم ، لانتفاء العلم بانتفاء مسائله ـ انتفاء الكل بانتفاء أجزائه ـ وأما بالنسبة إلى الأخيرين ، فلا دليل عليه من عقل أو نقل.

نعم ، لو اريد به التقوّم العادي الاعتباري الاصطلاحي ، لا الحقيقي ، لكان له وجه. وأما القوام الواقعي فليس موضوع العلم ولا مبادئه كذلك ، بحيث لو انتفيا لانتفى أصل ذلك العلم ، فليس بوجودهما الواقعي ، ولا بوجودهما العلمي دخيلا في علميّة العلم.

نعم ، الجامع الواقعي بين موضوعات مسائل العالم موجود بلا إشكال ، سواء علم به أم لا ، فهو أمر تكويني ـ كتحقق الجنس في أنواعه ـ ولا ربط له

٨

بالموضوع المصطلح عليه.

إن قيل : نعم ، ولكن وحدة كل علم في حد نفسه وتميزه عن غيره يدور مدار وحدة الموضوع ووجوده ، فلا بد له من هذه الجهة.

فإنه يقال : لا ريب في أن الوحدة لا تنحصر بوحدة الموضوع ، ويمكن اعتبار الوحدة فيه بأي وجه أمكن ذلك ، كما في الوحدات الاعتبارية الملحوظة في سائر المركبات المختلفة الأجزاء.

وكذا يمكن تمييزه بالغرض ونحوه مما يصلح لاستناد التمييز الاعتباري إليه.

ثم إن المبادئ إما تصورية ، وهي تصور الاصطلاحات الشائعة في العلم قبل الشروع فيه. أو تصديقية ، وهي التصديق بثبوت المحمولات المسلّمة الثبوت لموضوعاتها الدائرة في العلم قبل الشروع فيه ، ويزيد في علم الاصول مبادئ اخرى اصطلحوا عليها بالمبادئ الأحكامية ، وهي عبارة عن الأحكام المنسوبة إلى الشارع ـ تكليفية كانت أو وضعية ـ وترجع إما إلى المبادئ التصورية ، أو التصديقية ، وليست خارجة عنهما ، كما هو واضح.

الأمر الثالث :

المسألة الاصولية : ما تقع كبرى في طريق تعيين الوظيفة ، بلا فرق بين الأمارات والاصول العملية وغيرهما. فيقال مثلا : هذا أمر ، وكل أمر ظاهر في الوجوب ، فهذا ظاهر في الوجوب ، وكما يقال : هذا خبر موثوق به ، وكل خبر موثوق به حجة ، فهذا حجة ، أو يقال : هذا مجهول الحكم ، وكل مجهول الحكم يرجع فيه إلى البراءة العقلية والنقلية ، فهذا مما يرجع فيه إليهما ، إلى غير ذلك. وجميع تلك المسائل لا بد أن تثبت بالأدلة اللفظية في الاصول ، وقد وضع هذا العلم لذلك.

٩

ويمكن أن تعنون مسألة واحدة بعناوين متعددة ، بعضها تكون اصولية وبعضها فقهية ، وبعضها كلامية ، وهو شائع في العلوم ، فيكون المدار حينئذ على خصوصية العنوان ، لا ذات المعنون من حيث هو حتى يلزم التداخل.

والقاعدة الفقهية عبارة عن حكم شرعي ينطبق على مصاديقه انطباق الطبيعي على أفراده ، ولا تقع في طريق إثبات شيء أبدا ، ولا فرق بينها وبين المسألة الفقهية إلا بالاصطلاح.

نعم ، يمكن أن يفرّق بينهما بالاعتبار ، بأن يقال : القاعدة نتيجة المسألة بمقدماتها. وكذا الكلام في الفرق بين القاعدة الاصولية ومسألتها.

والفرق بين القاعدة الفقهية والمسألة الاصولية من جهات :

أولها : أن القواعد الفقهية يشترك فيها العالم وغيره ، كسائر الأحكام الإلهية ، بخلاف المسائل الاصولية ، فإنّها تختص بالعلماء.

ثانيها : القواعد الفقهية يمكن أن تختص بباب دون باب ، وهي كثيرة بخلاف المسائل الاصولية ، فإنها جارية في جميع أبواب الفقه.

ثالثها : أن المسائل الاصولية نتائجها تقع كبرى في طريق إثبات الوظيفة ، بخلاف القواعد الفقهية ، فإن شمولها لمصاديقها نحو شمول الطبيعي لأفراده.

رابعها : القواعد الفقهية غالبها من المسلّمات بين العلماء ، بخلاف المسائل الاصولية ، فلهم فيها اختلاف كثير.

خامسها : أن غالب القواعد الفقهية نفس المضمون الذي صدر عن المعصوم عليه‌السلام ، ويصح إطلاق الأصل على القاعدة أيضا ، إذ لا مشاحة في الاصطلاح ، وهي مقدمة على الاصول العملية ـ سميت أصلا أولا ـ واعتبار مثبتاتها يدور مدار القرائن الخارجية المعتبرة ، في كل أصل أو أمارة ، بلا فرق في التسمية من هذه الجهة أيضا.

١٠

الأمر الرابع :

المعروف أن موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ، وأن العرض الذاتي ما ينتزع عن ذات الشيء ، كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة ، أو ما لا يكون عروضه على المعروض بواسطة أمر أخص أو أعم.

فاشكل عليهم : بأن محمولات المسائل لا تنتزع عن ذات موضوع العلم غالبا ، مع أن جلّ مباحث علم الاصول ، يبحث عما يعرض الموضوع لأمر أعم بناء على أن موضوعه الأدلة الأربعة ، ولذا عدل المحققون منهم إلى أن المراد بالعرض الذاتي ما لا يصح سلبه عن الموضوع ، وإن كان العروض بواسطة بل بوسائط ، أي الوصف بحال الذات. وما صح سلبه عنه يكون عرضا غريبا وإن لم تكن في البين واسطة ، أي ما كان من الوصف بحال المتعلق ، ولا ريب في أن محمولات مسائل العلوم لا يصح سلبها عن موضوع العلم ، كما لا يخفي.

كما أنه لا ريب في أن نسبة موضوع العلم الى موضوعات المسائل نسبة الكلي إلى أفراده والطبيعي إلى مشخصاته.

ثم إنهم قالوا : إن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، وتمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات. فإن كان نظرهم إلى أن ذلك من أحد طرق التمييز فله وجه ، وإن كان نظرهم إلى الانحصار في ذلك ، فهو مردود ، لإمكان التمييز بالغرض ونحوه أيضا. وبذلك يمكن أن يجمع بين الكلمات.

الأمر الخامس :

قالوا : إن موضوع علم الاصول الأدلة الأربعة ، إما بوصف الحجية ، كما عن بعض ، أو بذواتها ، كما عن آخر.

١١

واشكل على الأول : بأنه يلزم أن يكون البحث عن حجية الإجماع والعقل ، وظاهر الكتاب خارجا عن المسائل وداخلا في المبادئ ، لكونها بحثا عن ذات الموضوع حينئذ.

ويردّ : بأن ما هو الموضوع إنما هو الأدلة بوصف الحجية الواقعية النفس الأمرية الثابتة لها ، والبحث عن حجية الإجماع والعقل وظاهر الكتاب ، بحث عن مقدار الحجية ، وكيفيتها ، ودفع اعتراض المعترضين عليها ، فتكون من المسائل قهرا.

واشكل على الثاني : بلزوم خروج البحث عن الخبر الواحد ، والتعارض وأحكامه عن المسائل ، لعدم كونها بحثا عن السنّة ، بل بحثا عن الحاكي لها ، فيكون من العرض الغريب.

وفيه : أن الخبر الواحد متحد عند الرواة والعلماء ، بل المتشرعة من السنة ، فيكون عوارض أحدهما عين عوارض الآخر عندهم ، فلا وقع للإشكال من هذه الجهة ، فيكون بحث خبر الواحد والتعارض وأحكامه من عوارض السنّة.

ثم إنه لا وجه للقول بأن الموضوع هو الأدلة الأربعة ، لأن السنّة شارحة للكتاب ، والإجماع والعقل لا موضوعية لهما ، بل لا بد فيهما من الكشف عن السنة في الأول ، وعدم ثبوت الردع في الثاني. فموضوعه هو الكتاب المشروح بالسنّة أو السنّة الشارحة للكتاب. فيكون تعريفه : أنه ما يقع نتائج البحث عنه في طريق معرفة الوظيفة الشرعية ، ولا فرق بين العقل والشرع إلّا بما قاله عليه‌السلام : «العقل شرع داخلي والشرع عقل خارجي».

فالعقل الذي هو أصل الحجج الإلهية إذا ظهر في المظاهر الظاهرية يكون شرعا ، والشرع إذا ظهر في مظهر التجرد يكون عقلا ، فلا فرق بينهما بحسب الواقع والحقيقة.

نعم ، العقول الجزئية حيث أنها قريبة من الأوهام والخيالات فلا بد لها من

١٢

أن تكون تحت سلطة الشرع ، حفظا للأحكام من أن يتدخل فيها الأوهام والخيالات.

ثم إن السيرة العقلائية وبناء العقلاء ، الذين يتمسك بهما غالبا في الفقه والاصول ، راجعان إلى دليل العقل الذي لم يردع عنه الشرع. وكذا السيرة العرفية ومرتكزات العرف اللتين يتمسك بهما أيضا ، ويمكن الفرق بينهما وبين بناء العقلاء بحسب المتعلّق ، لا بحسب الذات.

الأمر السادس :

الوضع من الامور النظامية يقوم به نظام الاجتماع في الإنسان قديما وحديثا ، فاللازم في فهم معناه من الرجوع إلى العرف ، وإذا رجعنا إليه نرى أنه عبارة عن :

إظهار المعنى باللفظ حدوثا بداعي كون اللفظ علامة للمعنى ووجها من وجوهه ، ولا فرق بينه وبين مطلق استعمال اللفظ في المعنى إلا من وجهين :

الأول : أنه حدوثي فقط بخلاف سائر الاستعمالات ، فإنها تتحقق بعده.

الثاني : أنه بداعي كون اللفظ علامة للمعنى وسائر الاستعمالات تكون بدواع اخرى ، وجهة الاشتراك في الجميع إظهار المعنى باللفظ وإبرازه به ، بلا فرق في ذلك بين الوضع التخصيصي والتخصصي.

نعم الفرق بين التخصيص والتخصص أن كثرة الاستعمال في الثاني لها دخل في الجملة ، بخلاف الأول ، فإن نفس الاستعمال بداعي كون اللفظ علامة للمعنى يكفي في حصول الوضع. والدليل على ما قلناه إنما هو الوجدان في الأسماء التي نضعها لأولادنا ، وما حصل من الأوضاع الكثيرة المستحدثة في زماننا.

هذا إذا لوحظ الوضع بالمعنى المصدري ، وأما إذا لوحظ بمعنى الاسم

١٣

المصدري ، فهو نحو ارتباط حاصل بين اللفظ والمعنى ناشئ من تخصيصه به تارة ، ومن تخصصه به اخرى.

ثم إن من قال بأن الواضع هو الله تعالى ، فإن أراد الوضع بمباشرته تعالى ، كما في مباشرته تعالى لوحي القرآن والتكلم مع موسى بن عمران ، فمقتضى الأصل والوجدان عدمه ، ولو كان كذلك لاشتهر اشتهار نسبة الكتب السماوية إليه تعالى في هذا الأمر المهم ، ويستفاد من قوله تعالى : وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها عدم مباشرة الوضع ، لأن تعلم الأسماء أعم من مباشرة الوضع ، إذ يمكن أن يكون تعالى علّمه لأن يضع آدم بعد ذلك بمباشرته. وإن أراد أن ذلك بإلهام منه تعالى ، أو أنه تعالى جعل استعدادا في آدم وبنيه وحصل له الاقتدار به على الوضع ، فهو حسن.

كما أن من قال بالمناسبة بين اللفظ والمعنى ، فإن أراد بها الذاتية الطبيعية ومن تمام الجهات ، فهو باطل. وإن أراد لحاظ المناسبة الاعتبارية في الجملة عند الوضع إجمالا وارتكازا ، فله وجه.

ثم إن للوضع أقساما :

منها : الوضع النوعي ، كوضع الهيئات.

ومنها : الوضع الشخصي ، كوضع الأعلام ، وأسماء الأجناس.

ومنها : الوضع التعييني ، والتعيّني ، ويسمى بالتخصيصي والتخصصي أيضا ، ويمكن أن يصير المجاز حقيقة لكثرة الاستعمال ، كما يمكن أن تصير الحقيقة مجازا لهجر الاستعمال ، وكل منهما شائع في المحاورات.

ومنها : الأصلي والتبعي ، والأول كالمستقلات ، والثاني كالنسب والإضافات.

ومنها : الوضع العام ، والوضع الخاص ، أي أن المعنى الموضوع له اللفظ إما عام أو خاص ، وعلى الأول إما أن يوضع له اللفظ ، فهو الوضع العام

١٤

والموضوع له العام ، كأسماء الأجناس ، وهو على قسمين : فتارة يتصور العام بذاته ويضع اللفظ بإزائه ، واخرى يتصور العام من حيث الإضافة إلى الحصص مع قطع النظر عن المضاف إليه ويضع اللفظ بإزاء مثل هذا العام الملصق بالحصص ، ويأتي قسم آخر أيضا.

وعلى الثاني إن وضع اللفظ له ، فهو الوضع الخاص والموضوع له كذلك ، كالأعلام ، ويمكن أن يكون الأعلام من الوضع العام والموضوع له الخاص ، بأن يلحظ مطلق الذكور مثلا ، ثم يضع لفظ (الحسن) للمصداق الخاص ، أو يلحظ مطلق الإناث ، ثم يضع لفظ (فاطمة) للمصداق المخصوص.

والمعروف أنه لا يصح أن يوضع اللفظ للكلي الذي يكون هذا الخاص من مصاديقه حتى يكون من الوضع الخاص والموضوع له العام ، لأن الموضوع له لا بد وأن يتصور حين الوضع ولو بوجه ، والخاص لا يصلح لأن يكون وجها من وجوه الكلي والعام ، بخلاف العكس.

وفيه : أنه لمكان اتحاد العام مع الخاص يصلح لكونه وجها من وجوه العام في الجملة ، وهذا المقدار يكفي في تصوره ، فلا مانع منه ثبوتا.

نعم ، هو غير واقع إثباتا في المحاورات.

ثم إنه لا ريب في وقوع الوضع العام والموضوع له كذلك ، كأسماء الأجناس. ولا في وقوع الوضع الخاص والموضوع له الخاص ، كالأعلام.

وأما الوضع العام والموضوع الخاص ، فعن جمع وقوعه أيضا ، كالحروف وما يلحق بها. وعن جمع آخر أن الوضع فيها ـ كالموضوع ـ عام ، فينحصر الواقع من أقسام الوضع في القسمين الأولين فقط.

وخلاصة ما استدل به على عدم كون الموضوع له فيها خاصا : أن الخصوصية إما خارجية ، أو ذهنية. وعلى الأول يلزم أن يكون استعمالها بنحو الكلية مجازا ، كقولك (من) للابتداء مثلا. وعلى الثاني يلزم عدم الصدق على

١٥

الخارجيات ، وكلاهما خلاف المحاورات.

ويمكن المناقشة فيه : أما الأول : فلأن الكلية فيها تبعية على ما يأتي ، والكلية التبعية من جهة لا تنافي الخصوصية من جهة اخرى ، كما هو واضح.

وأما الثاني : فلأن الخصوصية الذهنية اخذت مرآة إلى الخارج ، فيصح الصدق على الخارجيات قهرا.

نعم ، لو قيدت بما في الذهن لا تصدق عليها حينئذ.

ولكنه باطل لا يقول به أحد.

ثم إن لحاظ الاستقلالية في الأسماء ، والآلية في الحروف من دواعي الوضع ، لا أن يكون قيدا في الموضوع له ، أو المستعمل فيه ، فلا وجه لخصوصية المعنى من هذه الجهة في الحروف أصلا ، ولا يلزم في كونها داعيا الالتفات التفصيلي ، بل يكفي الارتكازية فقط.

هذا ، ومن ذهب إلى أن الموضوع له فيها خاص قال : إن تقوّمها بالغير أوجب خصوصية المعنى ؛ فلا يكون إلا خاصا.

وفيه : أن هذا النحو من التقوّم بالغير لا ينافي الكلية ، فالمعنى في حدّ نفسه لا اقتضائي ، يكون مع الخاص خاصا ، ومع العام عاما.

والحق أن يقال : إن المعاني الحرفية ، والنسب والإضافات ، تكون في الغير من تمام الجهات مفهوما وذاتا ووجودا ، لا في الأخير فقط حتى تكون كالأعراض ، بل مفهومها وذاتها ووجودها ، فانيات في الغير فناء تاما ولا نفسية لها بوجه ، نظير الربط المحض الذي لا نفسية له أبدا ، وما هي كذلك يكون وضعها تبعيا وغيريا أيضا ، فهي مع أسماء الأجناس يكون الوضع والموضوع له فيها عامين ، وفي الأعلام يكونان خاصين لأجل تبعيتها المحضة والفناء المطلق ، فيكون وضعها نوعيا تبعيا لمتعلقاتها ، إن عاما فعام ، وإن خاصا فكذلك.

وظهر مما مرّ أن الربط ينافي التشخّص مطلقا ، فلا وجه لقول الحكيم

١٦

السبزواري «ره» : «إن الوجود رابط ورابطي ...» مع قولهم : إن الوجود مساوق للتشخّص ، ولا تشخّص في الربط المحض ، إلا أن يراد به التشخّص التبعي.

ثم إن الأقوال في المعانى الحرفية بين الإفراط والتفريط : فمن قائل بأنه لا معنى لها أصلا ، وإنما هي علامات فقط ، مثل كون الرفع علامة للفاعلية. وفيه من الفساد ما لا يخفى.

ومن قائل بأنه لا فرق بين المعاني الحرفية والاسمية إلا بلحاظ الآلية في المعاني الحرفية والاستقلالية في الاسمية ، وهو خلاف الوجدان المحاوري وإن أمكن توجيهه بوجه.

ومن قائل ـ وهو الحق ـ بأنها في ذاتها مباينة مع المعاني الاسمية جوهرا كانت أو عرضا ، لأن المعاني الإمكانية إما تحصل في الذهن مستقلا وفي الخارج كذلك ، ويعبّر عنها بالجوهر بمراتبه الكثيرة ؛ أو توجد في الذهن مستقلا ولا توجد في الخارج إلا في الموضوع ، ويعبّر عنها بالعرض ، أو لا توجد في الذهن والخارج إلّا في الغير وبالغير ، ويعبّر عنها بالمعاني الحرفية ، فلها معان لكن في الغير من كل جهة.

فالمعاني إما للغير وبالغير وفي الغير ، وهي المعاني الحرفية. وإما بغيره في نفسه ، وهي المعاني الاسمية الجوهرية. وإما بغيره في غيره ، وهي الأعراض ـ اسما كانت أو فعلا ـ وإما لنفسه في نفسه بنفسه ، وهو منحصر في الله تبارك وتعالى.

هذا ، ولكن قد نسب إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : «الاسم ما أنبأ عن المسمّى ، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى ، والحرف ما أوجد معنى في غيره». والمراد بالجملة الاولى هو الدلالة على المسمّى ، وهو صحيح بالنسبة إلى جميع الأجناس والأعلام. والمراد بالثانية إنما هو بالنسبة إلى أفعال الممكنات ، حيث أن غالبها متقوّمة بحركة ما ، ولو الحركة الإرادية. والمراد بالأخيرة إيجاد النسب

١٧

والإضافات في استعمالات المعاني الاستقلالية ، كما تقدم.

وعن مولانا الرضا عليه‌السلام : «واعلم إن الإبداع ، والمشيّة ، والإرادة ، معناها واحد وأسماؤها ثلاثة ، وكان أول إبداعه وإرادته ومشيته : الحروف التي جعلها أصلا لكل شيء ، ودليلا على كل مدرك ، وفاصلا لكل مشكل ...». وهنا مباحث نفيسة ليس المقام محل التعرض لها.

ثم إن المعاني الحرفية المبحوث عنها في المقام كل ما لا يستقل بالذات أو لا تحصّل له إلّا في الغير وبالغير ، فتشمل جميع النسب والإضافات والهيئات التي لا استقلال لها بوجه من الوجوه ، وهذا كله إذا لوحظت من حيث الفناء في المتعلق والقيام به.

وأما إذا لوحظت في نفسها وبنفسها فيخرج عن موضوع البحث قهرا ، لصيرورتها بذلك من المعاني المستقلة الملحوظة بنحو العنوان المشير إلى المعاني الحرفية ، لا أن تكون عينها لاستحالة ذلك.

وكيف كان ، فلا ثمرة عملية في البحث عن المعاني الحرفية وما يلحق بها من النسب والإضافات والهيئات ، إلا في مورد واحد وهو إمكان تقييد الهيئة بناء على كون الموضوع له فيها عاما ، دون ما إذا كان خاصا. وهذه الثمرة ساقطة رأسا ، كما أشرنا إليه سابقا.

أما أولا : فلأن الخصوصية لا تنافي التقييد ، كما في تقييد الأعلام.

وثانيا : فلأنها بتبع متعلقاتها تقبل كل شيء ، كما هو واضح.

هذا كله في نفس المعاني الحرفية وما يلحق بها.

وأما الأسماء التي تشبهها ، المعبّر عنها بالمبنيات في العلوم الأدبية والمبهمات أيضا ، كالضمائر والموصولات والإشارات ، فوضعها استقلالي ، لكن الموضوع له فيها الذات المبهم من كل حيثية وجهة ، القابل الانطباق على الجزئي والكلي ، نظير ما يأتي في معنى الإطلاق إن شاء الله تعالى.

١٨

ولعل المراد بالوضع العام والموضوع له العام ما يعم هذا القسم أيضا ، فلا يلزم زيادة في أقسام الوضع المشهورة.

تذنيبات :

الأول : تتصف المعاني الحرفية بالإيجادية والإخطارية ، الكلية والجزئية ، والإطلاق والتقييد بتبع متعلقاتها ، لفرض فنائها في متعلقاتها ، وعدم تحصّل لها في ذاتها بوجه من الوجوه ، بل يصح فرض اتصافها بها ولو لم يتصف المتعلق بها على نحو عدم لحاظ المتعلق والغفلة عنه ، لا لحاظ العدم ، وهذا صحيح في الانحلالات الذهنية وتمحلاتها.

فما يقال : من أن الهيئات لكونها من سنخ المعاني الحرفية ، غير قابلة للإطلاق والتقييد ، لكون الموضوع له فيها خاصا.

مردود : بما مرّ ، مع أن التقييد لا ينافي الخصوصية إن فرض كون الموضوع له فيها خاصا ، كما في تقييد الأعلام.

الثاني : النسب والإضافات تعمان جميع الموجودات ، ففي المبدأ تبارك وتعالى ـ كالخالقية ، والرازقية ونحوهما ـ وأما الممكنات فقد حفّت بإضافات شتى من إضافاتها إلى الفاعل ، والمادة ، والزمان ، والمكان ، وغيرها مما لا تحصى. وأول النسب العارضة لها هي النسبة إلى الفاعل ، ثم الزمان والمكان ، وقد اصطلحوا في الأخيرين على المستقر تارة ، واللغو اخرى.

والأول : ما كان نفس الظرف محمولا ، كزيد في يوم الجمعة ، أو في الدار.

والثاني : ما كان من متممات المحمول ، كزيد يقوم في الجمعة ، ويصلي في الدار.

الثالث : الجملة تارة إخبارية محضة ، كزيد قائم. واخرى إنشائية كذلك ، كاضرب. وثالثة تستعمل فيهما ، كبعث مثلا. والجامع في الجميع إبراز المعنى ،

١٩

والفرق في الاوليين من جهة المحاورات ، وفي الأخيرة من جهة القرائن التي منها الداعي الذي يفهم بالقرائن الظاهرة ـ مقالية كانت أو حالية ـ

ثم إن الإخبارية والإيجادية من الامور المتقوّمة بالقصد ، ولا يبعد صحة اتصاف كلام واحد بهما من جهتين مختلفتين.

ولا ريب في وضع مواد الجمل شخصيا ، كما لا ريب في وضع هيئاتها الخاصة التي تفيد معاني مخصوصة نوعيا.

وأما ملاحظة المادة مع الهيئة الخاصة مجموعا ثم وضع المركب منهما ثالثا ، فهو من اللغو الباطل ، ولا يرتكبه العاقل.

الأمر السابع :

لا ريب في وقوع الحقيقة والمجاز في المحاورات. والاولى هي استعمال اللفظ في معناه الموضوع له ، كما أن الثاني هو استعماله فيما يناسبه. والاحتمالات في المعاني المجازية خمسة :

الأول : عدم وضع لها أصلا ، بل الاستعمالات فيها طبعية ، لا أن تكون مستندة إلى الوضع.

الثاني : أن تكون وضعية بالوضع النوعي ، لكن لا دليل عليه ، بل مقتضى الأصل عدمه.

الثالث : أن يكون نفس الوضع للمعنى الحقيقي وضعا لها أيضا ، لكن بالتبع ، لأنها من شئون المعنى الحقيقي وأطواره وخصوصياته. وأيضا مقتضى الأصل عدم لحاظ هذه الخصوصية للواضع.

الرابع : أن يكون ذلك بإذن من الواضع. ومقتضى الأصل عدمه أيضا ، وعلى فرض وجوده ، لا دليل على اتباعه ما لم يساعده الذوق السليم.

الخامس : أن يكون الاستعمال فيها تنزيليا ، أي تنزيل المعاني المجازية

٢٠