تهذيب الأصول - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

تهذيب الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

فتكلّمه تعالى عبارة عن خلق الأصوات والحروف والهيئات ، كما أن إيجاده تعالى لسائر الممكنات عبارة عن خلقها ، فلا ملزم للكلام النفسي بوجه ، لا فيه تعالى ولا في غيره. إلا أن يكون مرادهم به تقدير الكلام والقضاء به قبل خلقه ، فله وجه ، إذ ما من شيء إلا وله قضاء وقدر مطلقا ، سواء كان في فعله تعالى ، أم في فعل غيره. وكذا يصح أن يكون المراد بالكلام النفسي النسبة الكلامية القائمة بالطرفين ، ولا مشاحة في الاصطلاح. نعم ، لا ريب في وجود الأحاديث النفسانية في الإنسان ، كما يدل عليه الوجدان ، فإن أرادوا بالكلام النفسي في الإنسان ذلك فلا إشكال فيه.

هذا ، وفي جملة من الروايات التصريح بأن كلامه تعالى حادث ، لا أن يكون قديما ولا نفسيا.

ثم إن من فروع الكلام النفسي مسألة أن القرآن مخلوق أو قديم. ولا وجه للقدم في القرآن إلا علمه تعالى الأزلي بما لا نعرف كيفية تعلّقه به ، وبغير ذلك لا يتصور معنى للقدم ، فلا وجه لكون القرآن قديما أيضا ، إلّا أنه تعالى عالم بما ينزله من القرآن. والقدم بهذا المعنى لا يختص بالقرآن ، بل يعمّ جميع ما سوى الله تعالى مما يعمه علمه عزوجل.

٦١

الأمر الثاني

في صيغة الأمر

والكلام فيها يقع من جهات :

الجهة الاولى : قد ذكر لصيغة الأمر معان كثيرة : من التهديد ، والترجي ، والإهانة ونحوها ، ومقتضى الأصل عدم تعدد الوضع بالنسبة إليها ، كما أن مقتضاه عدم تعدد المستعمل فيه أيضا ، والمتيقن إنما هو الاستعمال في البعث نحو المطلوب والتحريك إليه وإيجاد الداعي له.

وكون ما ذكر لها من المعاني من دواعي الاستعمال ، كما هو الشأن في كثير مما ذكر من المعاني المتعددة لجملة من الألفاظ ، فلا اختلاف في الموضوع له ولا في المستعمل فيه ، وإنما الاختلاف في الدواعي ، ولا ريب في أنها خارجة عن كل منهما. ولا إشكال في أن أصل استعمالها في البعث والتحريك التنزيلي ، مسلّم عند الكل ، ومقتضى الإطلاق أن يكون الداعي إليه هو البعث الحقيقي ، إلّا أن تكون قرينة على الخلاف. ومنه يعلم أن التمني ، والترجي ، والاستفهام ، الواردة في كلامه تعالى مستعملة في معانيها الإنشائية بدواع شتى ، منها التكلم مع الناس بما يليق بهم في كيفية المحاورة بينهم ، والمستحيل إنما هو استعمالها في معانيها الحقيقية بالنسبة إليه تعالى. وأما الاستعمال في المعاني الإنشائية

٦٢

بدواع اخرى ، فلا استحالة فيه أبدا.

الجهة الثانية : اختلفوا في أنها هل تكون حقيقة في مطلق الطلب ، أو في الوجوب أو في الندب؟ والظاهر سقوط هذا البحث من رأسه ، لما تقدم من أن مفادها البعث نحو المبعوث إليه ، ومقتضى الإطلاق كونه بداعي الطلب الحقيقي ، فيحكم العقل حينئذ بلزوم الامتثال ما لم تكن قرينة على الترخيص.

فالوجوب حكم عقلي بعد تمامية الحجة والبيان ، كما أن الندب يستفاد من القرائن الخارجية ، لا من نفس الصيغة من حيث هي. نعم ، يصح إضافة كل منهما إلى الصيغة بالعناية. وإن أراد من قال بأنها حقيقة في الطلب ما ذكرناه ، فنعم الوفاق ، وإلا فلا دليل له عليه.

وما يقال : من أن الحاكم بالإلزام لا بد أن يكون من بيده الجزاء ، والعقل بمعزل عن ذلك.

مدفوع : بأن للجزاء مرتبتين ، مرتبة الاستحقاق على المخالفة ، ومرتبة الفعلية ، والاولى من حكم العقل ومترتبة على إلزامه ، والأخيرة وظيفة الشارع ، وتكون بيده وتحت اختياره.

الجهة الثالثة : قد استقرّت السيرة على أن الجمل الخبرية التي علم بورودها مورد البعث ، تكون مثل صيغة الأمر في إفادة الوجوب. ما لم تدل قرينة على الخلاف ، وقد استعملت في معانيها الحقيقة وهي النسبة الإخبارية ، لكن بداعي البعث والتحريك لا بداعي مجرد الإخبار. ولا إشكال فيه لكفاية مثل هذه الجمل في إتمام الحجة ، فيحكم العقل بلزوم الامتثال مع عدم ورود الترخيص ؛ فالإلزام مطلقا ـ فعلا كان أو تركا ـ إرشاد من حكم العقل ، ومن فروع قاعدة دفع الضرر المحتمل ، فكيف بالمقطوع؟! فيصح العقاب على الترك حينئذ عقلا وشرعا.

هذا إذا أحرز أنها وردت في مقام البعث والإنشاء. وأما إذا شك في ذلك

٦٣

أو علم بورودها في مقام الإخبار فقط ، فلا وجه لاستفادة الوجوب منها ، بل مقتضى الأصل عدمه.

الجهة الرابعة : لا تدل الصيغة على المرة ، ولا على التكرار مطابقة ، ولا تضمنا ، ولا التزاما بالملازمة الشرعية أو العرفية أو العقلية ، إذ ليس مفادها إلّا البعث نحو المطلوب فقط والتحريك إليه ، وإيجاد الداعي للعبد وإتمام الحجة عليه ، وكل ذلك على نحو اللابشرط عن كل قيد حتى عن اللابشرطية.

وكذا ليست في البين قرينة عامة مقرونة بها تدل على أحدهما.

نعم ، يمكن استفادة المرة أو التكرار من القرائن الخاصة في موارد مخصوصة ، ومع فقدها فمقتضى أصالة الإطلاق الاكتفاء بمجرد إتيان ذات المأمور به لتحقق الامتثال بذلك عرفا ، وهو مقتضى أصالة البراءة أيضا ، لأن الشك في الزائد عليه شك في أصل التكليف ، ومع عدم البيان بالنسبة إليه يرجع إلى البراءة ، فيتطابق مفاد الأصل اللفظي والعلمي على عدم اعتبار خصوصية زائدة على مجرد إتيان المتعلق فقط. هذا ولا بد من التعرض لامور :

منها : أن المرة تطلق على الفرد والدفعة ، وبينهما عموم مطلق ، لصدقهما فيما أتى بذات المأمور به ، وصدق الثاني دون الأول فيما إذا أتى بأفراد منه دفعة. ولا يخفى أن هذا البحث إنما هو في ما أمكن التعدد في متعلق الأمر ، وإلا فالبحث ساقط من رأسه.

ومنها : حكي عن الفصول أن هذا البحث إنما هو بالنسبة إلى الهيئة فقط ، لاتفاق الأدباء على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين يدل على الماهية المطلقة والطبيعة الصرفة ، والمصدر أصل المشتقات ومادة لها ، فلا مورد حينئذ للنزاع بالنسبة إلى المادة.

وفيه .. أولا : ما تقدم من أنه لا وجه لكون المصدر أصلا ، لأن له هيئة ، وما كان ذا هيئة لا يقع مادة لغيره. نعم ، يصح أن يقع لحاظه منشأ لوضع الصيغ

٦٤

ونظمها ، وليس هذا من المادة في شيء.

وثانيا : أن المادة المجردة لها حكم ، والمادة المتهيئة بهيئة خاصة لها حكم آخر.

وثالثا : أن المادة والهيئة متلازمتان ، فعوارض إحداهما تنسب إلى الاخرى ، لمكان الاتحاد ، فلا وقع لهذا النزاع.

ومنها : أنه قد يتوهم أن المراد بالمرة والتكرار في المقام خصوص الدفعة والدفعات ، لأنه لو كان المراد الفرد والأفراد لكان البحث من متممات البحث الآتي من أن الأمر يتعلق بالطبيعة أو الفرد ، وعلى الثاني فهل المراد المرة أو التكرار؟ لا أن يجعل بحثا مستقلا.

وفيه : أنه يصح جعله بحثا مستقلا ولو اريد به المرة والتكرار ، لأن مجرد التشابه بين المسألتين في الجملة لا يوجب جعلهما بحثا واحدا مع تحقق الاختلاف العرفي بينهما.

ومنها : أنه لا إشكال في وجوب التكرار بناء على استفادته من القرائن ، كما لا إشكال في الاكتفاء بالمرة بناء على استفادة المرة ، أو الإطلاق المحض ، لانطباقه عليها قهرا. وهل يجوز التكرار عليهما؟ لا ريب في جوازه رجاء ، للأصل.

وأما بقصد الأمر ، فإن كان المأتي به علة تامة لسقوطه من جميع الجهات ـ خطابا ، وملاكا ، وقبولا ـ فلا يعقل حينئذ قصده ، لفرض سقوطه من كل جهة.

وأما إذا لم يكن كذلك فلا بأس بالإتيان بقصده ، لاحتمال بقائه ، ويأتي بعض الكلام إن شاء الله تعالى.

الجهة الخامسة : لا تدل الصيغة بشيء من الدلالات على الفور ، أو التراخي. نعم ، مقتضى المرتكزات حسن المسارعة إلى الامتثال ، وحسن الفورية فيه.

٦٥

وآيتا المسارعة والاستباق ـ لو تمت دلالتهما ـ لا تكون إلا إرشادا إليها ، فلا يستفاد منهما حكم إلزامي مولوي ، كما أن مقتضى الإطلاق ، وسهولة الشريعة المقدسة هو التراخي بالنسبة إلى الزمان. فصحة التراخي مقتضى التسهيل ، وحسن الفورية مقتضى الارتكاز ، ولا يتعين أحدهما إلا بدليل معتبر. ومن ذلك يظهر أنه لو ترك الفورية لا يرتفع حسنه ، بل يظل حسنه مطلقا فورا ففورا ، ما لم يأت بالمأمور به ، وما لم يسقط التكليف.

الجهة السادسة : الواجب إما متقوّم بإتيانه بقصد الأمر ، ويعبّر عنه بالتعبدي ، أو لا يكون كذلك ، وهو التوصلي ، ولا ريب في ثبوتهما في الشرع ، كالصلاة وأداء الدين.

وقد وقع الخلاف في أن اعتبار قصد الأمر في متعلق العبادة ـ جزء أو شرطا ـ شرعي أو عقلي. فعن جمع أنه عقلي ويمتنع أن يكون شرعيا ، لأنه إن كان بنفس الأمر الواحد المتعلّق بالعبادة ، فهو مستلزم لتقدم ما هو متأخر طبعا ، وهو محال ، لأن موضوع الأمر ومتعلقه متقدم طبعا على الأمر ، كما في العارض والمعروض ، فإذا أخذ الأمر المتأخر عن الموضوع في موضوعه ، يلزم تقدم المتأخر طبعا ، وهو محال.

ويصح تقريب الإشكال بنحو الدور أيضا بأن يقال : إن الأمر متوقف على متعلقه ، والمفروض أن المتعلق أيضا متوقف على الأمر به ، فيلزم الدور ، بل يلزم المحذور في مقام الامتثال أيضا ، لأن الامتثال هو الإتيان بالعمل بأجزائه وشرائطه التي منها قصد الأمر بقصد الأمر ، فيكون قصد الأمر متأخرا طبعا عن الأجزاء والشرائط ، والمفروض أن منها قصد الأمر ، وكيف يصح الامتثال حينئذ؟!.

والجواب : أنه لا محذور فيه ، لاختلاف المتقدم والمتأخر بالحيثية والجهة ، فما هو المتقدم إنما هو لحاظ الأمر بما هو طريق إلى الخارج ، وما هو

٦٦

المتأخر نفس الأمر الخارجي الصادر من الآمر ، وبهذا يجاب عن الدور أيضا.

وأما في مقام الامتثال ، فما هو قيد للعمل إنما هو قصد الأمر من حيث الإضافة إلى جعل الآمر ، وما هو المتأخر إنما هو قصد الأمر من حيث الإضافة إلى الممتثل ، ومع تعدد الجهة واختلافهما ، وكفاية ذلك في دفع المحذور ، يرتفع أصل الإشكال من البين ، فلا يكون أي محذور في أخذ قصد الأمر في المتعلّق بنفس الأمر المتعلّق به ، فضلا عما إذا كان بأمرين.

وما يقال : من الإشكال عليه بأنه إذا سقط الأمر الأول بامتثال متعلقه لا يبقى موضوع للأمر الثاني ، وإلا فلا وجه للأمر الأول.

مردود : بأن الأمر الأول يسقط مع امتثاله من جهة خاصة ، لا من جميع الجهات ، وسقوطه المطلق يتوقف على امتثال الأمر الثاني ، كما هو الشأن في جميع الأوامر المتعلقة بأجزاء المركب المتممة للجعل الأولى ، وبعد إمكان أخذ قصد الأمر في المتعلق ، إما بالأمر الواحد أو بأمرين ، يصح التمسك بالإطلاق اللفظي ، لنفي القيدية عند الشك فيه ، فتثبت التوصلية لا محالة.

مع أنه لو لم يمكن الإطلاق اللفظي ـ بناء على امتناع التقييد فيمتنع الإطلاق ، لأنهما من العدم والملكة ـ يمكن التمسك بالإطلاق المقامي الواقعي ، لأنه بعد امتناع الإطلاق والتقييد اللحاظي اللفظي يثبت الإطلاق المقامي الواقعي لا محالة. والملازمة بين امتناع التقييد وامتناع الإطلاق إنما هي في اللفظي منهما دون الواقعي النفس الأمري.

ولو وصلت النوبة إلى الأصل العملي ، فمقتضى البراءة العقلية والنقلية عدم وجوب قصد الأمر ، وليس المقام من موارد الشك في حصول الغرض حتى يجب الاحتياط ، لأن وجوبه إنما هو في ما إذا علم الغرض بحدوده وقيوده وتمت عليه الحجة من الشارع ، وشك المكلف في مقام الامتثال في أنه هل حصل الغرض أو لا؟ وأما إذا شك في أصل حد الغرض ثبوتا مع عدم دليل عليه

٦٧

إثباتا ـ وإن كان لأجل امتناعه ـ فلا دليل من عقل أو نقل على وجوب الاحتياط حينئذ.

وبالجملة : الغرض الذي علم ثبوته واقعا بحده وجب تحصيله ولو بالاحتياط ، كما في أطراف العلم الإجمالي ، والشبهات البدوية قبل الفحص ، لا ما إذا كان أصل ثبوته مشكوكا فيه ، إذ العقل لا يحكم بوجوب الاحتياط حينئذ. وبالجملة أنه تطابق الأصلي اللفظي والحالي والذاتي ، والأصل العملي على التوصلية عند الشك فيها وفي العبادية.

أما وجوب قصد الأمر باستصحاب أصل الوجوب. فهو مردود ..

أولا : بأنه محكوم بالإطلاق اللفظي ـ بناء على جواز أخذ قصد الأمر في المتعلّق ـ وبالإطلاق المقامي الحالي والذاتي بناء على عدم الجواز.

وثانيا : بأنه إن اريد به دخل قصد الأمر في المتعلّق ، فهو مثبت.

وإن اريد به وجوب قصد الامتثال من غير دخله في المتعلّق ، ففيه : أنه ليس أثرا لنفس المتيقن المستصحب ، لأنه ذات الوجوب من حيث هو ، وقصد الامتثال غير ذات الوجوب من حيث هو. مع أنه يعتبر في الاستصحاب أن يكون المشكوك عين المتيقن شرعا.

وإن أريد به حكم العقل بوجوب الاحتياط ، فهو باطل ، لأنه مع العلم بأصل الوجوب لا يحكم العقل بوجوب الاحتياط وتحصيل الغرض المشكوك الثبوت ، فكيف يحكم بذلك لأجل الاستصحاب؟!

هذا كله إذا كان التعبد لقصد الأمر. وأما إذا كان لجلب الثواب أو للفرار من العقاب ، أو لأنه تعالى أهل لأن يعبد أو غير ذلك ، فامكان أخذها في المتعلّق بأمر واحد أو بأمرين مما لا ريب فيه ، ولم ينكره أحد.

٦٨

ختام فيه امور :

أحدها : ظاهر أدلة العبادات اعتبار المباشرة فيها ، إلا أن يدل دليل على الخلاف ، وعليه استقرت الفتوى والسيرة أيضا. كما أن مقتضى المرتكزات عدم سقوط العباديات بالمحرّم ، لأن التقرب بالمبغوض مما تأباه العقول ، وأما التوصليات فلا يعتبر فيها المباشرة إلا مع الدليل على الخلاف ، كما أنها تسقط بالمحرم وإن أثم ، وكل ذلك من القضايا التي قياساتها معها. وتفصيل هذا الإجمال يطلب من الفقه.

ثانيها : إطلاق دليل الوجوب يقتضي أن يكون عينيا نفسيا تعيينيا ، لأن الكفائية ، والغيرية ، والتخيرية ، تحتاج إلى دليل خاص ، وقرينة مخصوصة ، ومع العدم فالمرجع إنما هو حكم العقل ، فكما استفدنا أصل الوجوب بحكم العقل ، فكذا عدم هذه الخصوصيات أيضا. وهذا مقتضى الأصل العملي أيضا ، أي أصالة عدم السقوط بفعل الغير ، أو في ضمن فرد آخر. يمكن أن يستدل عليه بأصالة الإطلاق أيضا ، لأن استفادة جنس الوجوب من حيث هو لا وجه له ، لأن أدلة الأحكام تدل على الأنواع لا الجنس من حيث هو ، واستفادة التخيير بين الأنواع أيضا ممنوع ، فينحصر الإطلاق في ما ذكر على فرض كون الوجوب مفاد الدليل اللفظي ، فتتحد نتيجة الأصل العملي مع الأصل اللفظي. نعم في ما لو شك في الوجوب الغيري ، ولم يكن وجوب ذي المقدمة فعليا ، يكون حينئذ من الشك في أصل الوجوب ، والمرجع البراءة ، بخلاف ما إذا كان فعليا فإنه يجب الإتيان به لا محالة.

ثالثها : وقوع الأمر بعد الحظر ـ كقوله تعالى : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ... فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ، أو بعد توهمه ، كما إذا سئل عن جواز الشيء فاجيب بالأمرية ـ لا

٦٩

يكون من القرينة العامة المعتبرة الدالة على الإباحة مطلقا ، بل يصير اللفظ حينئذ مجملا ، فيتبع القرائن الخاصة التي تدل على الإباحة تارة. وعلى الوجوب اخرى ، ومع فقدها فالمرجع أصالة البراءة ونتيجتها الجواز ، ولا يبعد جعلها حينئذ من القرائن العامة على الجواز. وكذا الكلام في النهي الواقع بعد الأمر ، أو توهمه.

رابعها : إيجاب شيء على المكلف مع العلم بانتفاء شرطه قبيح عند العقلاء كافة ، وكل قبيح عقلي ممتنع بالنسبة إليه تبارك وتعالى ، فيكون من التكليف المحال أو بالمحال. نعم ، لو كانت مصلحة خاصة تقتضي ذلك فلا إشكال فيه ، لأن وجود المصلحة يرفع قبحه ، بل قد يكون تركه قبيحا. وكذا لو كان إنشاء التكليف في ظرف عدم الشرط ، ولكن تمكن منه حين فعلية التكليف ، ولا إشكال فيه ، بل هو شايع.

خامسها : من الشائع المتعارف ، وعليه جرى بناء الشارع الأمر بالأمر بشيء ، ولا ريب في أنه يستفاد منه الوجوب بالنسبة إلى المأمور الثاني إن دلت القرينة على أن الواسطة واسطة في الإبلاغ والإرسال فقط ، كوساطة المرسلين في إبلاغ أوامر الله تعالى.

وإذا لم يكن كذلك ، وشك في أن الأمر من الآمر الأول صدر للإيجاب على المأمور الثاني ، أو لغرض آخر ، فهو من الشك في أصل الوجوب ، ومقتضى الأصل فيه البراءة ، ولا يبعد أن يقال : إن الظاهر كونه في مقام الإيجاب على المأمور الثاني ، إلا مع القرينة على الخلاف.

سادسها : إذا ورد الأمر بشيء ثم ورد أمر آخر به قبل امتثاله ، فمقتضى المحاورات أن الثاني تأكيد للأول ، وإن ورد الأمر بشيء بعد امتثاله فهو إيجاب آخر لا ربط له بالأول وإن كان مثله ، إلا مع القرينة على الخلاف في الموردين. ومع الشك في أنه من أيّهما تكون الشبهة من الأقل والأكثر ، فيجزي امتثال واحد

٧٠

وتجرى البراءة عن الأكثر.

سابعها : لا دلالة لدليل نسخ الوجوب ، ولا لدليل المنسوخ على بقاء الجواز بعد النسخ. أما بالدلالة المطابقة فمعلوم الانتفاء ، وكذا الالتزام ، إذ لا ملازمة عقلية ولا عرفية ولا شرعية بين دليل الناسخ أو المنسوخ والجواز بوجه.

وقيل : إنه يدل عليه بالتضمن ، لأن الوجوب عبارة عن الترخيص في الشيء مع المنع عن الترك ، فإذا نسخ المنع من الترخيص يبقى الجواز بالدلالة التضمنية.

وفيه : أولا : أن مفهوم الوجوب بسيط لا أن يكون مركبا ، سواء كان بحكم العقل ، أم من مدلول اللفظ.

وثانيا : على فرض التركب لا وجه لبقاء الجنس خارجا مع زوال الفصل ، كما تقرر في محله ، إلّا أن يتمسك بالعرف. هذا بحسب الاستظهارات اللفظية.

وأما الاصول العملية فهي إما حكمية أو موضوعية.

والاولى منحصرة في أصالة الإباحة ، ولا مانع من جريانها.

والثانية عبارة عن استصحاب أصل الجواز ، وهو لا يجري ، لما تقدم من بساطة الوجوب ، فلا جواز في البين حتى يكون مجرى له. وعلى فرض التركب فهو من استصحاب القسم الثالث من الكلي ، ويأتي بطلانه في محله.

ثامنها : متعلق الإلزام ـ فعلا كان أو تركا ـ لا بد أن يكون مرآة إلى الخارج ، لأن التحقق الخارجي هو المراد والمطلوب لكل فرد ، والشارع لا يخالف طريقة العقلاء.

وإنما اختلفوا في أنه مع قطع النظر عن الخصوصيات ، وهذا يعبّر عنه بالتعلق بالطبيعة ، أو مع اعتبارها مرآة إلى الخصوصية الخارجية ، ويعبّر عنه بالتعلق بالفرد.

والحق هو الأول ، وليس المراد بالطبيعة الطبيعة من حيث هي ، لأنها لا

٧١

تكون مورد الطلب ، بل ولا لغرض من الأغراض العقلائية ، وإنما هي فرض يختص بفن المنطق والحكمة فقط. كما أنه ليس المراد بالفرد ما هو المتحقق خارجا بعد تحققه ، لكونه مسقطا للطلب ، فيكون طلبه من تحصيل الحاصل ، ولا يصح أن يكون موردا للطلب ، كما أنه ليس المقام مبنيا على ما اختلفوا في الحكمة من أصالة الوجود أو الماهية ، لما تقدم من أنه لا بد في مورد الطلب اعتبار التحقق الخارجي طريقا ومرآة ، وحيث أنه لا ثمرة عملية بل ولا علمية في هذه المسألة ، فلا وجه للتطويل بأكثر من ذلك.

٧٢

الأمر الثالث

أقسام الواجب وهي سبعة :

القسم الأول : المطلق والمشروط

وهما من المفاهيم المبينة العرفية ، لشيوعهما في المخاطبات ـ كنظائرهما ـ مما تقوم به المحاورات ، وكل ما قيل في تعريفهما لا وجه له ما لم يرجع إلى ما هو المقبول لدى العرف.

فكل واجب إذا لوحظ وجوبه مع شيء ، فإن كان مقيدا به فهو مشروط بالنسبة إليه فقط ، وإلا فهو مطلق كذلك. فهما من المفاهيم الإضافية لا يخلو منهما واجب أبدا ، ويصح اجتماعهما في واجب واحد من جهتين ، كما هو شأن الامور الإضافية.

ثم إن لكل واجب هيئة ومادة بالضرورة ، وهما متلازمان ومتحدان في الوجود عقلا ، فيتحدان في الإطلاق والاشتراط أيضا في الجملة ومن جهة خاصة لا مطلقا ، لصحة التفكيك بين الحيثيات والجهات ، كما يأتي. فيكون إطلاق أحدهما واشتراطه عين إطلاق الآخر واشتراطه ، بلا تفكيك بينهما من هذه الجهة في الأنظار العرفية المنزلة عليها الأدلة.

نعم ، يفرّق العرف بينهما في أن قيود الوجوب غير واجب التحصيل بخلاف قيود الواجب ، وهذا أمر آخر لا ربط له بالملازمة العرفية في الإطلاق

٧٣

والاشتراط وإن صح التفكيك بينهما عقلا ، ولكنه بمعزل عن الأحكام الشرعية المنزلة على العرفيات.

والمعروف أن القيود في الواجبات المشروطة قيود للهيئة ، فلا وجوب إلا بعد تحققها ، فيكون الواجب أيضا كذلك لا محالة ، لما ذكرنا من الملازمة بين المادة والهيئة.

وذهب المحقق الأنصاري قدس‌سره إلى لزوم كون القيد قيدا للمادة مع اعترافه بأن مقتضى المحاورات أن يكون قيدا للهيئة ، فالوجوب مطلق فعلي والواجب مشروط بتحقق الشرط ، وهو لديه عين الواجب المعلق عند صاحب الفصول.

واستدل على مدعاه : بأن الهيئة من المعاني الحرفية المتقومة بالغير وهي غير قابلة للإطلاق والتقييد ، لكونهما من شئون المعاني المستقلة ، مع أن الوضع في المعاني الحرفية وما يلحق بها خاص ، فكيف تقبل التقييد؟!

وفيه : ما عرفت من قبولها للإطلاق والتقيد بتبع متعلقاتها ، وكون الوضع فيها خاصا ممنوع ، وعلى فرضه فلا ينافي التقييد ، كما في تقييد الأعلام الشخصية وغيرها من الجزئيات. مع أنه لا ثمرة لهذا النزاع أصلا إلا في وجوب بعض المقدمات قبل دخول زمان الواجب ، ويأتي بيان الوجوب فيها بطريق صحيح مقبول بلا احتياج إلى ارتكاب ما هو خلاف المشهور باعترافه قدس‌سره.

ثم إن التكاليف المجعولة لها مراتب متفاوتة ، منها مرتبة لحاظ جعل القانون فقط ، ومنها صلاحيتها للداعوية بالنسبة إلى المكلفين ، ومنها الفعلية. ولا أثر للإطلاق والاشتراط في الأولين بالنسبة إلى فعلية الوجوب لأن فعلية التكليف منحصرة بحكم العقل ، ولا ربط لها بالشارع وإنما تدور مدار تحقق الشرائط بأسبابها التكوينية خارجا وعدمه ، فمع التحقق يكون الوجوب فعليا عقليا ، ومع عدمه لا فعلية له. فالإطلاق والاشتراط في التكليف الفعلي يرجع إلى حكم العقل فقط ، وما هو مربوط إلى الشارع إنما هو الإطلاق والاشتراط في

٧٤

مرتبة جعل القانون فقط ، فيصح جعل القانون المطلق أو المشروط ولو لم يكن مكلف في البين ، إذ المقصود منه إنما هو إتمام الحجة والبيان ، وهو يحصل بمجرد الإظهار والإعلان ، وهذه هي الفعلية التي يصح انتسابها إلى الشارع ، وفعلية التكليف إنما هي من العقل فقط ، ومنسوبة إليه ، فإشكال انفكاك المنشأ عن الإنشاء في التكاليف المشروطة ، ساقط من أصله.

القسم الثاني : المعلق والمنجز

وهذا الاصطلاح حدث من صاحب الفصول ، فإنه قال : الواجب إما مطلق غير مقيد بشيء ، وهو المنجّز ، أو يكون نفس الوجوب مقيدا بشيء ، وهو الواجب المشروط عند المشهور. أو يكون الوجوب مطلقا والواجب مقيدا بشيء غير مقدور ، وهو المعلّق. ولا فرق بين الواجب المعلّق وما ذكره المحقق الأنصاري رحمه‌الله في الواجب المشروط ، إلا أن التعليق في المعلق يكون على أمر غير مقدور ، وفي المشروط أعم منه.

فتكون الأقسام أربعة : فإن الهيئة والمادة إما مطلقتان ، أو هما مقيدتان ، أو أن التقييد للمادة ، أو بالعكس.

فالأول مطلق ومنجز ، والثاني مشروط على كلا الاصطلاحين ، والثالث إن كان بغير المقدور فهو معلّق ، وإن كان بالأعم فهو مشروط عند الشيخ قدس‌سره ، والأخير مشروط عند المشهور ، والكل صحيح لا إشكال فيه ثبوتا.

ثم إن إحراز كون الوجوب ، أو الواجب مقيدا ، لا بد وأن يكون من دليل آخر ولا يدل نفس الأمر عليه ، كما أن إحراز كون القيد قيدا للمادة أو للهيئة أيضا كذلك ، وإنما اختار الشيخ وصاحب الفصول قدس‌سرهما ما اختاراه لدفع الإشكال عن موارد قليلة في الفقه توهم فيها وجوب المقدمة قبل ذيها ، كما يأتي.

واشكل على المعلّق بوجوه جميعها قابلة للمناقشة :

٧٥

الأول : ما عن المحقق الأنصاري قدس‌سره من أنه غير معقول.

وفيه : أنه كذلك بناء على ما ذهب قدس‌سره إليه في الواجب المشروط ، حيث عرفت من أنه عين المعلّق على مصطلح صاحب الفصول ، فلا يتصور قسم آخر حتى يسمى بالمعلّق ، وأما على ما ذهب إليه المشهور في الواجب المشروط فهو معقول ثبوتا بلا إشكال.

الثاني : أنه محال لاستلزامه انفكاك المراد عن الإرادة ، وهو كانفكاك المعلول عن العلة التامة ، ولا ريب في استحالته.

وفيه : أن المراد في إرادة التكاليف ليس إلّا جعل القانون ووضع التكليف على عهدة المكلف ، وإتمام الحجة ، ولا ريب في عدم انفكاكه عن بيان التكاليف ـ مطلقا كان أو مشروطا ، معلقا أو غيره ـ لأن بمجرد جعل القانون ـ بأي وجه كان ـ يحصل ذلك كله في الواقع ، فلا يعقل الانفكاك حينئذ.

وأما ما أجاب به صاحب الكفاية قدس‌سره من صحة انفكاك المراد عن الإرادة وأطال فيه الكلام. فإن أراد بها الشوق المؤكد ، فهو حق لا ريب فيه ، إذ كم من مشتاق ينفك عن الشوق وجدانا. وإن أراد بها الاختيار المستلزم لتحقق المختار ، فلا وجه له من عقل أو نقل.

الثالث : أنه لا قدرة للمكلف على الامتثال حين صدور الخطاب ، لفرض تعلقه على غير المقدور.

وفيه : أن المعتبر من القدرة في التكاليف مطلقا القدرة حين الامتثال ، لا في حالة اخرى ، كما هو أوضح من أن يخفى.

الرابع : ما تقدم من الملازمة بين الهيئة والمادة في الأنظار العرفية ، في أن تقييد أحدهما عين تقييد الآخر وإن أمكن التفكيك بينهما دقة. ودفع هذا الإشكال سهل ، لأنه ربما يكون نظر صاحب الفصول قدس‌سره إلى الدقة العقلية ، لا الأنظار العرفية. فلا محذور في الواجب المعلق لا ثبوتا ، ولا إثباتا.

٧٦

ولكن لا يخفى أنه لا موجب للقول به ، بل هو من التطويل بلا طائل ، لأنه لدفع الإشكال عما ورد في موارد من وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها ، كغسل الجنب أو المستحاضة قبل الفجر في صوم شهر رمضان ، وتعلّم أحكام المسائل الابتلائية قبل الابتلاء بها ، والمسير إلى الحج قبل زمانه. مع أن وجوب المقدمة معلول لوجوب ذيها ، فتكون تلك الموارد من تقدم المعلول على العلة ، وهو محال.

ولدفع هذه الغائلة تشتّت الأقوال واختلفت المسالك ، فاختار كل مهربا ، فتعلّق بعضهم بالواجب المعلق ، وآخر بما هو خلاف المشهور في الواجب المشروط.

فذهب صاحب الفصول قدس‌سره إلى أن وجوب ذي المقدمة في تلك الموارد فعلي والواجب استقبالي من غير أن يلزم المحذور. ولكنه تبعيد للمسافة بلا ملزم في البين.

وذهب شيخنا الأنصاري إلى أن القيد قيد للمادة ، فالوجوب مطلق في الواجب المشروط وفعلي مع اعترافه بكونه خلاف القواعد العربية.

وذهب شيخ مشايخنا في الكفاية إلى جعل الواجب في تلك الموارد فعليا مشروطا بالشرط المتأخر ، وهو مجيء الزمان الخاص.

وهو مردود أيضا ، لكونه راجعا إلى الواجب المعلّق في الواقع ، مضافا إلى كونه خلاف المنساق من القيود والشروط التي يكون المنساق منها في المحاورات العربية خصوص المقارنة دون غيرها من السابقة أو اللاحقة.

وذهب بعض إلى القول بأن وجوب التعلّم نفسي ، لا أن يكون غيريا حتى يلزم المحذور.

وفيه : أنه للمعرفة ملاك نفسي أبدا ، بل هي طريقية محضة. وكل هذه الامور مبنية على جعل وجوب ذي المقدمة علة تامة منحصرة لوجوب المقدمة ،

٧٧

كالعلل التكوينية. وهذا من مجرد الدعوى بلا دليل عليه ، بل هو خلط بين الاعتباريات والتكوينيات ، مع أنه لا بد من مراعاة الفرق بينهما في الجملة.

فالحق في الجواب أن يقال :

أولا : أن وجوب المقدمة كوجوب ذيها في الشرعيات والعرفيات مطلقا من الاعتبارات الصحيحة العقلائية ، حيث تدور مدار الجعل الاعتباري وعدم استنكار ذلك لديهم ، فكما أن الوجوب في المقدمات الداخلية وجوب واحد انبساطي على جميع الأجزاء مع ترتبها ، وتقدم بعضها على بعضها ، ويتصف الجميع بوجوب واحد انبساطي على الجميع مع صحة اعتبار المقدّمية فيها ، فيصح أن يسمّى هذا الوجوب بالمقدّمي من جهة وبالنفسي من جهة اخرى ، فليكن في المقدمات الخارجية أيضا كذلك ، فمنشأ الوجوب إنما هو من ذي المقدمة ومنه الانبساط على المقدمات ، سواء كانت مقارنة أم متأخرة أم متقدمة على ذيها ، ولا مانع من عقل أو نقل ، لأنه اعتبار ـ وأخف الأشياء مئونة إنما هي الاعتباريات. فيصح بكل نحو تطرّق إليه الاعتبار ، وليس ذلك من تقدم المعلول على العلة ، أو تأخره عنها زمانا لفرض انبساط العلة على المعلول وتقارنها معه بجميع أجزائه وجزئياته ، والتقدم والتأخر الزماني لا ينافي التقارن الاعتباري ، وهو يكفي في دفع الغائلة.

إن قيل : لا وجه للوجوب الانبساطي بالنسبة إلى المقدمات الخارجية مطلقا ، لأنه إنما يكون فيما لوحظ فيه ملاك النفسية في الجملة ، لا في ما إذا تمحّض ملاك الوجوب في إيجاب ذي المقدمة ، كما في المقدمات الخارجية ، لأن ملاك محبوبيتها ممحّضة في ذلك.

يقال : المناط كله في إيجاب المقدمة ، التمكن من ذيها بأي نحو كان لها دخل فيه ، سواء كان ذلك من جهة كونها دخيلة في وجوب ذيها أم من جهة اخرى.

٧٨

وثانيا : أن وجوب ذي المقدمة علة غائية لوجوب المقدمة ، لا أن يكون علة فاعلية حتى يلزم المحذور ، فلا تجب المقدمة إلا لأجل وجوب ذيها في وقته ، وقد ثبت في محله أن الغاية متقدمة في العلم ومتأخرة في الوجود والعمل ، وقد جرت السيرة على الاهتمام بإتيان امور لأجل غايات تترتب عليها في أوقات خاصة ، فللغاية اعتبار صحيح فعلي ، تترتب على فعلها من جهة الاعتبار آثار عرفية صحيحة ، بل شرعية ، كصحة اعتبار وجوبها فعلا. وليس ذلك من القول بالوجوب النفسي للمقدمة ، لأنه في ما كان الملاك فيه غير وجوب شيء آخر ، ولا ملاك للمقدمة في المقام وغيره إلّا وجوب ذي المقدمة والتمكن من إتيانه. فإن أراد من يقول بالوجوب النفسي التهيئي ذلك فلا مشاحة في الاصطلاح.

وما يقال : من أن وجوب الشيء لأجل غايته عقلي والكلام في الوجوب الشرعي المولوي.

مدفوع : بأن المقام من موارد الملازمة قطعا للعلم بالملاك مع استقرار السيرة العقلائية على الوجوب التي يستكشف منها الوجوب الشرعي ، كما في سائر الموارد.

وثالثا : أنه يمكن إثبات الوجوب في هذه الموارد من باب حكم العقل بقبح تفويت التكليف في ظرفه مطلقا ، فالوجوب عقلي من هذه الجهة ويتبعه حكم الشرع أيضا ، ولا نحتاج إلى إثبات أن وجوبها تبع لواجب آخر أو أن الواجب الآخر غاية له ، لفرض كون الوجوب حينئذ عقليا وشرعيا مستقلا ، فيكون الوجوب في جميع هذه الموارد كوجوب صلاة الظهر من حيث أنه وجوب مستقل وفيه ملاك المقدمية أيضا.

٧٩

فوائد :

الاولى : كل واجب مشروط يصير مطلقا بعد حصول شرطه من جهة حصول هذا الشرط فقط ، وإن كان مشروطا من جهات اخرى ، لما تقدّم من أن الإطلاق والاشتراط من الامور الإضافية ، بلا فرق فيه بين كون الشرط شرطا للوجوب ، أو للواجب.

الثانية : لو شك في الاشتراط وعدمه ، فمقتضى الأصل والإطلاق عدمه.

الثالثة : لو كان الواجب مشروطا وشك في حصول الشرط وعدمه فمقتضى الأصل وإن كان عدم الحصول ، ولكن يظهر عن جمع من الفقهاء في جملة من الموارد لزوم التفحص.

الرابعة : إذا كان شرط في البين متصلا بالكلام أو منفصلا عنه وشك في أنه يجب تحصيله أو لا ، فمقتضى أصالة البراءة عدم الوجوب ، فلا يكون أصل التكليف المشروط به منجزا حينئذ إلا بعد حصوله.

وقد يقال : إن إطلاق الهيئة شمولي يشمل صورة الشرط وعدمه ، فهو إطلاق قوي لا يزول إلّا بما هو أقوى منه ، وإطلاق المادة بدلي لا يدل إلا على إتيان صرف وجودها في الجملة ، فهو إطلاق ضعيف ، فيرد القيد على الضعيف ويبقى القوي على حاله.

وفيه : مع أنه من مجرد الاستحسان الذي يجل الأحكام الإلهية أن تبتنى عليه ، أنه لا وجه لكون الأول قويا والآخر ضعيفا بعد كون كل منهما بمقدمات الحكمة. نعم ، لو كان الأول بالوضع والآخر بمقدمات الحكمة لكان له وجه ، ولكنه ليس كذلك ، مضافا إلى ما تقدم من التلازم العرفي بينهما.

٨٠