تهذيب الأصول - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

تهذيب الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

المحاورة بصحته يصح ، وإلّا فلا يصحّ.

الثالث : المعروف أن الماضي مشتق من المصدر ، والمضارع من الماضي ، واسم الفاعل والمفعول من المضارع ، والتثنية والجمع من المفرد ، ولم يستدلوا عليه بشيء ، فإن كان ذلك لأنه أسهل للمبتدئ فله وجه ، وإلا فلا دليل له من عقل أو نقل ، إذ يصح أن تكون جميع الاشتقاقات من المادة المهملة من كل جهة ، فضرب ، ويضرب ، وضارب ، ومضروب ، وجميع المتفرعات مشتقة من (ض ر ب) المعراة من الهيئة في عرض واحد بلا ترتب بينها في البين ، وذلك لما هو المعلوم من أن ما كانت له هيئة خاصة لا تصلح أن تقع مادة لشيء آخر له أيضا هيئة مخصوصة ، إلّا بعد زوال هيئته المختصة به. وهذا واضح إن لوحظت المادة مقيدة بالهيئة الخاصة.

وأما إذا لوحظت لا بشرط عنها فيرجع إلى المادة المبهمة المهملة ، هذا إذا لوحظ لفظ (الضاد) مقدما ، و(الراء) بعده ، و(الباء) في الآخر. وإن لوحظ الإبهام من هذه الجهة أيضا تكون هذه الألفاظ المبهمة مادة لمشتقات كثيرة مختلفة في النوع. وعلى أي حال فالتفرعات والاشتقاقات عرضية ، ولا ملزم لأن تكون طولية.

والحاصل : أن الحدث إن لوحظ من حيث مجرد الحدثية من حيث أنه حدث ، فهو مصدر ، وإن لوحظ من حيث أنه موجود من الموجودات مع قطع النظر عن جهة الحدثية ، فهو اسم المصدر ، وإن لوحظ من حيث النسبة إلى الفاعل بالنسبة التحققية يعبر عنه بالماضي ، وإن لوحظ من حيث النسبة إليه بالنسبة التلبّسية يعبر عنه بالمضارع ، وإن لوحظ من حيث النسبة الاتحادية فهو اسم الفاعل أو المفعول أو غيرهما من الصفات المتحدة مع الذات المحمولة عليه ، بلا فرق بين كون هذه الملاحظات بالترتيب المعهود بين الأدباء ، أو بنحو آخر بأي نحو يتصور.

٤١

الرابع : الفرق بين مفاد هيئات الأفعال ، ومفادها في الأسماء المشتقة ، أن الاولى للربط الانتسابي إلى الفاعل في الجملة ، والثانية للربط الاتحادي بينهما وبين الموضوعات التي تحمل تلك الأسماء عليها. وكذا هيئة الجملة المركبة من الموضوع والمحمول فيما لم يكن المحمول مشتقا.

وأما الفرق بينهما بما قيل من أن النسبة في الأفعال من النسبة التصديقية ، وفي الأسماء المحمولة من النسبة التصورية. فلا كلية فيه ، بل هو تابع للقرائن ، فقد تدل على أنها في الأسماء من النسبة التصديقية ، كما أنها قد تدل على أنها في الأفعال من النسب التصورية ، ومع عدم القرائن فكل منهما يحتمل الأمرين.

الخامس : لا أصل في المسألة الاصولية يثبت به الوضع للمتلبّس أو للأعم ، لأن أصالة عدم ملاحظة حالة التلبّس ، فيكون موضوعا للأعم معارضة بأصالة عدم ملاحظة الأعم ، فيسقطان بالمعارضة.

وما يتوهم : من كفاية أصالة عدم ملاحظة حالة التلبس للوضع للأعم ، لأن المقام من المطلق والمقيد ، لا من المتباينين.

مردود : بأنه من الأخير عرفا ، لأن المتلبس وما انقضى عنه التلبس متباينان وجدانا ، فيتعارض الأصلان ويسقطان بالمعارضة لا محالة ، كما أن التمسك بأصالة الإطلاق والعموم لحال الانقضاء لا وجه له ، لكونه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. مضافا إلى أنها ـ على فرض الصحة ـ لا تثبت الحقيقة ، لأن الظهور الإطلاقي والعمومي أعم منها ، كما هو واضح.

كما أن كون الوضع للأعم من الاشتراك المعنوي ، وكون الوضع للخصوص مع الاستعمال في الأعم من الحقيقة والمجاز ، وعند الدوران بين الاشتراك المعنوي ، والحقيقة والمجاز ، يكون الأول مقدما على الأخير ، لا دليل عليه.

بل نحو استحسان ، ويمكن فرض الاستحسان في تقديم الحقيقة

٤٢

والمجاز أيضا بل بالأولى ، لأن الفصاحة والبلاغة تدور على المجازات والاستعارات والكنايات.

نعم ، يصح التمسك بالاصول العملية في المسألة الفقهية ، وهي إما حكمية أو موضوعية وتختلف بحسب اختلاف الموارد ، فإن حصل الانقضاء بعد صدور الخطاب ، فمقتضى استصحاب الحكم بقاؤه.

وإن حصل قبله ، فمقتضى أصالة البراءة عدم التكليف لو لم يكن أصل موضوعي في البين على الخلاف ، ولا ربط لهذه الاصول بالمسألة الأصولية أصلا ، لكونها من وظائف الفقه والفقيه ، كما في إجراء الاصول العملية في جميع الموارد من الشبهات الحكمية.

ثم إن التحقيق ـ كما عليه أهله ـ هو الوضع لخصوص المتلبّس ، وتدل عليه مرتكزات العقلاء ، وتبادر خصوص المتلبّس ، وصحة السلب عما انقضى ، وما يأتي من إثبات بساطة المشتق الملازم للوضع لخصوص المتلبس فقط ، مضافا إلى صدق ما يضاد حالة التلبّس على حالة الانقضاء. فلو كان شخص متحركا فسكن ، يصدق الساكن عليه بعد انقضاء التحرك عنه ، فإن صدق المتحرك عليه أيضا ، فهو من اجتماع الضدين ، ولا يتوهمه عاقل إلا مع اختلاف الجهة ، وهو خلاف الفرض.

إن قلت : لا وجه لصحة السلب في المقام ، لأنها إن كانت مطلقا حتى بالنسبة إلى حالة التلبس ، فهي كاذبة قطعا. وإن كانت مقيدة بحال الانقضاء فلا تكون علامة للمجاز ، لأن العلامة له ما كانت مطلقة ، لا ما كانت مقيدة.

قلت : هي باعتبار حالة الانقضاء فقط ، وليس المقام من الإطلاق والتقييد ، بل من المتباينين ، لأن حالة التلبّس مباينة مع حالة الانقضاء عرفا ، بل دقة أيضا ، مع أنه لو كان من الإطلاق والتقييد الاصطلاحي تكون بلحاظ حال القيد ـ الذي هو الانقضاء ـ علامة للمجاز وجدانا ، وهو المطلوب. وليس المراد إثبات

٤٣

المجازية حتى بالنسبة إلى حال التلبس حتى يلزم الكذب.

ودعوى : أن علامة المجاز صحة السلب بقول مطلق ، مما لا دليل عليها ، بل العلامة صحة السلب بنحو تكون معتبرة عند المحاورة أعم من المطلق وغيره ، فكلما صدق صحة السلب تصدق المجازية أيضا ، فليست هذه الأمارات حاكمة على الوجدان مطلقا.

وقد استدل للأعم تارة بالتبادر ، واخرى بعدم صحة السلب عما انقضى ، وفيهما ما لا يخفى. وثالثة باستدلال المعصوم عليه‌السلام بالآية الكريمة : لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ على عدم لياقة من كان مشركا وأسلم لخلافة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يتم الاستدلال إلا بناء على الأعم.

ويمكن المناقشة فيه : بأن الخلافة من المراتب الشريفة التي لا ينالها من كان مشركا ولو انقضى عنه الشرك وآمن بعد ذلك ، للأدلة الدالة على اعتبار العصمة من المعاصي مطلقا في الخلافة الإلهية ، فضلا عن الشرك. ولو اريد من الظلم في الآية الشريفة مطلق المعصية أعم من الشرك ، لا يتوقف الاستدلال على دعوى كون المشتق حقيقة في الأعم ، لأن القوم كانوا ظالمين بهذا المعنى حين تقمص الخلافة ، كما لا يخفى على من راجع المطاعن الواردة فيهم من الطرفين.

بل تصوير الوضع للأعم ثبوتا مشكل ، أما بناء على بساطة المشتق ـ كما هو الحق ـ فلا فرق بينه وبين المبدأ إلّا بالحمل ، ولا يعقل فرض الوضع للأعم بالنسبة إلى المبدأ ـ وأما بناء على التركب : فالنسبة إما أن تلحظ مهملة من كل جهة ولازمه الصدق الحقيقي بحسب الاستقبال أيضا مع اتفاقهم على أنه مجاز فيه. وإما أن تلحظ بالنسبة إلى حال التلبس فهو عين الوضع للمتلبس. وإما أن تلحظ بالنسبة إلى الأعم منه وممّن انقضى ، وهو خلاف مفهوم النسبة ومعناها ، لأن معناها الخروج من العدم إلى الوجود وهو ليس إلّا حال التلبّس فقط ، فلا

٤٤

وجه معقول للوضع للأعم ثبوتا حتى يستدل عليه إثباتا.

ثم إن الاصوليين اتفقوا على أن معنى المشتق بسيط لحاظا واعتبارا ، بمعنى أن الملحوظ من (عالم) مثلا شيء واحد ، وإن انحل بالدقة العقلية الى معروض وعرض. ولكن اختلفوا في أنه كذلك في مقام التبادر اللفظي أيضا ، أو أنه مركب فيه.

والحق هو الأول ، لأن المتبادر من كل واحد من العالم ، والضارب شيء واحد يعبر عنه في الفارسية ب (دانا) وب (زننده) وإن انحل بالدقة العقلية إلى شيئين ، ولكن لا ربط للدقيات العقلية بالتبادرات اللفظية ، ولا ملازمة بين البساطة التبادرية والبساطة الدقية أيضا. فكما أن المتبادر من كل واحد من البيت والجدار والكتاب شيء واحد عرفا مع كونها مركبة في الواقع من الأجزاء ، فكذا المقام يكون المتبادر من المشتق شيء واحد وإن انحل في الواقع إلى شيئين ، ولا يضر الانحلال الواقعي بالبساطة التبادرية ، فالعرف أصدق شاهد على البساطة التبادرية ، وفيه غنى وكفاية.

ولا وجه لما استدل به عليها من أنه إن تركب المشتق من الشيء والمبدأ ، يلزم دخول العرض العام في الذاتي في جميع القضايا التي تكون محمولاتها ذاتيا للموضوع ، كالإنسان ناطق مثلا ، لكون الشيء عرضا عاما بالنسبة إلى جميع الأنواع ، وإن تركب من الذات والمبدأ ، لزم انقلاب القضية الممكنة إلى الضرورية في جميع القضايا الممكنة التي تكون محمولاتها من عوارض الموضوع ، كزيد كاتب مثلا ، لصيرورة ذات الموضوع حينئذ جزء للمحمول ، فتصير ضرورية لا محالة ، لأن ثبوت الشيء لنفسه ضروري. وذلك لإمكان اختيار الشق الأول ، ولا يلزم دخول العرض العام في الذاتي.

أما أولا : فلأن جميع تلك المحمولات في تلك القضايا من الخواص الكاشفة عن الذاتيات ، لا أن تكون ذاتية بنفسها.

٤٥

وأما ثانيا : فلأن الشيء ينطبق قهرا على الحصص المختلفة التي تكون مع الذاتي ذاتيا ومع غيره عرضيا ، فيرجع الإشكال إلى الشق الثاني ، ويأتي الجواب عنه.

ويمكن اختيار الشق الأخير أيضا ولا يلزم المحذور ، لأن الذات أخذ في طرف المحمول مرآة لتعرف الموضوع ، وبمنزلة الرابط ، لا أن يكون مستقلا حتى يكون هو المحمول ويلزم المحذور ، فكأنه قيل في (زيد كاتب) مثلا ، زيد يظهر بهذا الوصف ، أو هذه الصفة من مظاهر زيد ، ولا محذور فيه ، ولو لوحظ مستقلا أيضا على ما فصّل ، فكما أنه لو قام شخص مقابل المرآة لا تحصل فيها إلّا صورة واحدة ، فكذلك تكون مرآة النفس ، فالتبادرات المحاورية لا تكون إلّا صورة واحدة ، مع أن القضايا المعمولة في العلوم ليست مبنيّة على هذه الدقائق ، بل منزّلة على المتعارف بين أهل المحاورة ، فربّ شيء لا يصح بالدقة العقلية مع أنه يصح في المحاورات ، وربّ شيء يكون بالعكس ، فلا وجه للاستدلال.

وقد ذكرنا أنه لا ثمرة في بساطة المشتق وتركبه ، بل لا ثمرة عملية في أصل بحث المشتق ، لأن الموارد التي ادعي استعماله فيها في الأعم تكون هناك قرائن معتبرة دالة على ترتب الحكم على الأعم.

ثم إنه قد استدل على التركيب ..

تارة : بأن العرض متقوّم بالموضوع ، فيحصل التركب لا محالة.

وفيه : إن التقوّم إنما هو في الوجود الخارجي لا في المفهوم ، والكلام في الثاني دون الأول.

واخرى : بأن المشتق متضمن للنسبة ، وهي لا بد أن تكون بين اثنين منتسبين ، فيتحقق التركب لا محالة.

وفيه : أنه كذلك في تحليل العقل ، والكلام في المفهوم في المحاورات العرفية.

٤٦

ويمكن أن يرفع النزاع وجعله نزاعا لفظيا ، فمن يقول بالبساطة ، أي لم يؤخذ شيء متعين من مفهوم المشتق ، ومن يقول بالتركب ، أي اخذ فيه شيء مبهم من كل جهة حتى من الإبهام والشيئية ، فيكون من الشبح المحض ، مثل الظل وذي الظل ، والظاهر كون هذا مطابقا للوجدان في الجملة. أو يكون مراد من يثبت التركب أي بلحاظ الحمل ، ومن البساطة أي مع قطع النظر عنه.

فائدتان :

الاولى : لا ريب في صحة حمل المشتق ـ كما عليه تدور المحاورات ـ بخلاف المبدأ ، فإنه لا يحمل إلّا بالعناية. وهذا الفرق من لوازمها غير المنفكة لا أن يكون بالاعتبار ، بأنه إن اعتبر المبدأ لا بشرط يصح حمله ، وإن اعتبر بشرط لا لم يصح ، وذلك لعدم الصحة في المحاورات وإن اعتبر لا بشرط. كما أنه يصح حمل المشتق وإن اعتبر بشرط لا ، فلا أثر لهذا الاعتبار في ذلك ، بل الفرق بينهما في الحمل وعدمه من قبيل لوازم الذات.

ثم إنه يكفي في صحة الحمل حسن الإضافة بين المحمول والموضوع مطلقا بأي وجه كان ، سواء كان على نحو الصدور ، أم الحلول ، أم الوقوع عليه ، أم فيه ، أم الانتزاع مع الواسطة ، أم بدونها ، وسواء كان على نحو الحقيقة ، أم المجاز المستحسن عرفا.

ويعتبر في الحمل المغايرة في الجملة والاتحاد كذلك ، وهما لا يخلوان عن أقسام ثلاثة :

الأول : أن تكون المغايرة اعتبارية والاتحاد مفهوميا ، كقول : الإنسان إنسان.

الثاني : أن تكون المغايرة حقيقية والاتحاد وجوديا ، كقول : زيد كاتب.

الثالث : أن تكون المغايرة حقيقة والاتحاد اعتباريا ، كقول : زيد أسد.

والكل صحيح لا إشكال فيه ، بل تصح المغايرة والاتحاد بأي وجه معتبر

٤٧

في المحاورات العرفية المختلفة باختلاف الأزمنة والأمكنة وسائر الجهات ، ولا دليل على الحصر في موارد خاصة.

الثانية : لا ريب في صحة إطلاق صفات الكمال عليه تبارك وتعالى كالقادر ، والعالم ، والحيّ ، كما ورد في القرآن الكريم ، والدعوات الشريفة. كما لا ريب في أن الإطلاق فيه تعالى بالوجوب والتمام ، وفي غيره بالإمكان والنقصان. وإنما الكلام في أن هذا الإطلاق عليه تعالى وعلى غيره يكون على نحو الاشتراك المعنوي ، والفرق إنما هو بحسب الوجوب والإمكان والتمام والنقصان ، كما أثبتوا ذلك في بحث الاشتراك من مباحث الحكمة والكلام ، أو أن الإطلاق عليه تعالى بمعنى نفي الضد ، فقولنا : إنه تعالى عالم ، أي لا يجهل شيئا ، وقادر أي لا يعجزه شيء ، وسميع أي لا تخفى عليه المسموعات ، إلى غير ذلك من أنحاء الصفات.

الحق هو الأخير ، كما في جملة من الروايات ، ولا يلزم من ذلك الاشتراك اللفظي ، لأن العالم مثلا موضوع لمعنى واحد مطلقا ، وهو ما يصح أن يعبّر عنه بالعالم ، سواء كان ذلك لإثبات العلم بالنسبة إليه ، أم لنفي الجهل عنه. وكذا في باقي الصفات ، بل يصح إرجاع الصفات إلى نفي الأضداد في غيره تعالى أيضا ، ولا محذور فيه ، كما صرّح به بعض أعاظم الحكماء.

٤٨

المقصد الأول

مباحث الألفاظ

٤٩
٥٠

القسم الأول

الأوامر

والبحث فيها يقع ضمن امور :

تقديم :

إن جميع ما يذكر في مباحث الألفاظ في صناعة الاصول إنما هو تشخيص صغريات أصالة حجية الظهور ، التي هي من أهم الاصول النظامية العقلائية ، فلا بد من الوقوف عند جميع تلك الصغريات على باب العرف ، لأنه المرجع في ذلك كله. ومنه يعلم أن جملة كثيرة من التطويلات لا وجه لها في هذه العرفيات العامة البلوى.

الأمر الأول

في مادة الأمر

وفيه جهات من البحث :

الجهة الاولى : قد ذكر في اللغة للفظ الأمر معان متعددة ، كالشأن ، والفعل والحادثة ، ونحوها ، ومقتضى الأصل عدم التعدد إلّا في ما لا يمكن إرجاعه إلى

٥١

جامع قريب عرفي ، وفي ما أمكن ذلك يكون من المشترك المعنوي لا اللفظي.

وقد ذكر من معاني الأمر الطلب ، والشيء ، مع أنه قد يصح استعمال الطلب في مورد ولا يصح استعمال الأمر فيه ، كقولك : يا طالب الدنيا ، وقولك : طلبت شيئا فما وجدته. كما أنه يصح استعمال الشيء بالنسبة إلى الأعيان الخارجية ولا يصح استعمال الأمر بالنسبة إليها ، إلّا أن يكون مرادهم المعنى في الجملة ، لا بنحو الكليّة.

وأما بحسب العرف ـ الذي منه الاصطلاح الاصولي ـ فهو عبارة عن البعث بلفظ افعل ، أو ما يقوم مقامه ، وتصح الاشتقاقات منه باعتبار تضمنه معنى البعث ، وهو معنى حدثي قابل للاشتقاق والتفرع ، وليس المراد أن يكون لفظ الأمر موضوعا للقول المخصوص حتى يكون مثل لفظ الاسم الموضوع لكلمة مخصوصة حتى لا يصح الاشتقاق منه ، لأنه ليس فيه معنى حدثيّ. هذا مع الظهور فيه ، وأما مع الإجمال فالمرجع هو الأصل العملي عن التكليف.

الجهة الثانية : مقتضى الارتكازات تقوّم معنى الأمر بالعلو. وأما الاستعلاء فالأصل عدم اعتباره ، فيكون الأمر الصادر من العالي الخافض لجناحه أمرا بخلاف ما صدر من الخافض أو المساوي ، فلا يسمى ذلك أمرا عرفا ، بل ربما يوجب التوبيخ والتقبيح إن كان على نحو الأمر المعهود ولم يكن من السؤال والالتماس.

ثم إن مادة الأمر في أيّ هيئة استعملت ظاهرة في الوجوب ، إلّا مع القرينة على الخلاف ، لانسباق الوجوب منها في المحاورات.

الجهة الثالثة : يختلف الطلب والإرادة مفهوما ، إذ ربما تستعمل الإرادة فيما لا يصح استعمال الطلب فيه ، كقوله تعالى : يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ ، وقوله تعالى : فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما ، وكقولك : «أردت الصلاة فصليت» ، إلى غير ذلك من الاستعمالات الصحيحة. كما أنه يستعمل الطلب

٥٢

فيما يشكل استعمال الإرادة فيه ، كقولك : «طلبت حقي من زيد فأنكر». نعم ، لا ريب في تصادقهما في الجملة ، ولكنه لا يدل على الاتحاد بالكلية.

والظاهر من المحاورات أن الطلب مبرز للإرادة لا عينها ، ونسبة الطلب إلى الإرادة نسبة اللفظ إلى المعنى في الجملة ، ونسبة الكاشف إلى المكشوف مفهوما وحقيقة واستعمالا ، وإن اريد من الاتحاد هذا النحو منه ، فلا ريب فيه في الجملة ، بل الظاهر اختلافهما عرفا أيضا ، لأن إحراز الطلب يكفي في إتمام الحجة وصحة المؤاخذة على ترك المطلوب من حيث أنه إحراز للطلب بخلاف إحراز الإرادة ، فإنه كإحراز الملاك لا بد من كفايته في إتمام الحجة من إقامة دليل عليها من سيرة أو نحوها.

وأما اتحادهما إنشاء فهو مبني على أن يكون مفاد الأمر إنشاء الطلب ، وهو مردود ، لأن مفاده البعث ، والتحريك نحو المتعلق ، فكما يحصل البعث بالترغيب إلى المصلحة ، والزجر عن الترك ، يحصل بلفظ (افعل) أيضا ، فلا موضوع لإنشاء الطلب حتى يبحث عن أنه متحد مع إنشاء الإرادة ، أو لا.

ومن ذلك كله يظهر اختلافهما بالدقة العقلية أيضا ، كما تقدم من أن الطلب عنوان مظهر الإرادة ، ونسبته إليها نسبة اللفظ إلى المعنى ، كما لا يخفى. مع أن من ادعى الاتحاد بينهما لم يأت بدليل عليه إلّا دعوى الوجدان.

ويمكن رفع النزاع من البين بأن من يدعي الاتحاد يريد به الاتحاد في الجملة ، ومن يدعي الاختلاف يدعيه كذلك ، إذ لا ريب عند أحد في تصادقهما في الجملة.

ولا يخفى أن ما اثبتناه من تغاير الطلب والإرادة ليس لدفع محذور شبهة تخلف المراد عن الإرادة ـ كما التزم به الأشاعرة ـ بل لأجل أن التحقيق يقتضي ذلك ، ونجيب عنها بوجه آخر على ما يأتي.

ثم إنه قد جرت العادة في المقام بذكر شبهة الجبر ، وشبهة تخلف المراد

٥٣

عن الإرادة ، وشبهة الكلام النفسي ، ودفعها ، مع أن كل ذلك لا ربط له بالاصول.

أما الشبهة الاولى ، فهي مورد البحث في جميع الأديان ـ سماوية كانت أو غيرها ـ وهي من الشبهات القديمة جدا. وعمدة المذاهب في أعمال العباد خمسة : ثلاثة منها جبر ، والرابع تفويض ، والخامس أمر بين الأمرين.

الأول من مذاهب الجبر : ما نسب إلى الأشاعرة من نفي الإرادة والاختيار عن العبد مطلقا ، وقالوا : إن نسبة الفعل إلى الله بالحقيقة وإلى العبد بالمجاز ، وإن العبد بالنسبة إليه تعالى ، كالقلم في يد الكاتب ، والسيف في يد القاتل. ومن أمثلتهم : قال الحائط للوتد : لم تشقّني؟ قال : سل عمن يدقّني. واستدلوا عليه بظواهر بعض الآيات ، كقوله تعالى : وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ، وقوله تعالى : وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. وأن التوحيد الخالص في الفعل يقتضي نفي الإرادة والاختيار عما سوى الله تعالى.

ويرد عليه .. أولا : أن تلك الآيات معارضة بما هو أقوى منها في الدلالة على نسبة الفعل إلى العبد ، كقوله تعالى : فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ، ويصح نسبة خلق عمل العبد إليه تعالى بالتسبيب مع اختيار العبد ، كما يأتي. ونفي الرمي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما هو بالنسبة إلى الأثر الخارق للعادة ، لا بالنسبة إلى الفعل المباشري الصادر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وثانيا : أنه مستلزم لنفي الحسن والقبح العقلي المتفق عليهما بين العقلاء.

وثالثا : أنه يلزم منه نفي استحقاق الثواب والعقاب المتفق عليهما في جميع الشرائع الإلهية إلى غير ذلك من المفاسد التي يأبى العقل عنها.

ولو لا ظهور بعض كلماتهم في التعميم لأمكن حمل بعضها على ما لا دخل للاختيار فيه ، كالعزّة ، والذلّة ، والغنى والفقر ونحوهما ، ويمكن أن يحمل الجبر في قولهم على الجبر الاقتضائي ، يعني أن مقتضى الإرادة القاهرة الأزلية الإلهية أن لا تكون في البين إرادة غيرها ، ولكنه تعالى جعل للإنسان بل مطلق

٥٤

الحيوان ، إرادة في الجملة لمصالح كثيرة ، والجبر الاقتضائي لا ينافي الاختيار الفعلي من العبد.

الثاني : ما ذهب إليه جمع من القول بوحدة الوجود ، بل الوحدة المطلقة ، فلا اثنينيّة بين الخالق والعبد حتى تكون فيه الإرادة والاختيار ، لأن ثبوتهما للعبد يتوقف على تعدد وجوده مع وجود الله تعالى ، ومع الوحدة لا اثنينيّة في البين ، فلا وجه لهما بالنسبة إلى العبد في مقابل الله تعالى.

وفيه : مضافا إلى جميع ما ورد على قول الأشاعرة ، أنه قد ثبت في محله بطلان القول بوحدة الوجود مطلقا فضلا عن الوحدة المطلقة ، بل قد ثبت في الفقه أن هذا القول كفر مع الالتزام بلوازمه.

الثالث : ما عن بعض من أن علم الله تبارك وتعالى علة تامة لحصول معلوماته ، وفعل العبد معلوم له تعالى ، فعلمه تعالى علة تامة لحصوله ، فلا أثر لإرادة العبد واختياره في فعله أصلا.

وفيه : أنه لم يدل دليل من عقل أو نقل على كون العلم علة لحصول المعلوم ، بل مقتضى الوجدان خلافه ، وفي جملة من الأخبار الواردة في باب أسباب الفعل ـ التي جمعها في الكافي ـ دلالة عليه أيضا ، فراجع.

نعم ، يعلم الله تعالى أن العباد يفعلون أعمالهم بإرادتهم واختيارهم ، بحيث أن لهم أن يفعلوا ولهم أن يتركوا ، فتعلّق علمه تعالى بأفعالهم من حيث أنها مختارة ، لا أن يتعلّق العلم بأحد طرفي الاختيار فقط.

ثم إن أسباب الفعل هي : المشيئة ، والإرادة ، والقدر والقضاء ، والإمضاء ونحوها ، وهي جارية في كل فعل صادر من كل عالم قادر ، سواء كان هو الله تعالى أم العباد.

والفرق بين المشيئة والإرادة بالكلية والجزئية ، وكل ذلك من المقتضيات ، وليست من العلة التامة في شيء.

٥٥

وهذه كلها تارة التفاتية تفصيلية ، واخرى على نحو الإجمال والارتكاز وهو الغالب.

الرابع من المذاهب في أفعال العباد : التفويض ، ونسب إلى المعتزلة ، فقالوا : إن الأفعال منسوبة إلى العباد بالحقيقة وإلى الله تعالى بالمجاز ، وأنه لا تكون أفعال العباد مورد إرادة الله تعالى أصلا ، وإنما هي مختارة باختيارهم فقط ، ولا دخل لاختياره تعالى فيها ، لأنه لو كانت أفعال العباد موردا لإرادته تعالى لزم الجبر ، مع أنه لا يصح أن تكون السيئات والأفعال القبيحة موردا لإرادته تعالى.

وفيه : انه مردود عقلا ونقلا ، أما الأول فلما يأتي من بيان الأمر بين الأمرين. وأما الثاني فلقوله تعالى : إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، وقوله تعالى : قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ .

ولما ورد من المعصومين من قول : «لا حول ولا قوّة إلّا بالله» ، ولما ورد في الدعوات الكثيرة من الاستعانة به تعالى في جميع الامور.

والجميع ظاهر ظهورا عرفيا في صحة إضافة أعمال العباد إلى الله تعالى ، إما بنحو القضاء والرضا معا ، كما في الحسنات ، أو على نحو القضاء فقط ، كما في السيئات. وقضاؤه تعالى ليس من العلة التامة المنحصرة في شيء أبدا ، وإلّا فهو جبر باطل.

ويمكن حمل كلامهم على التفويض الاقتضائي ، بأن يقال إن نهاية استغنائه تعالى عن خلقه تقتضي إيكال الإرادة إلى العباد بعد بيان طريق الحق والباطل وإتمام الحجة عليهم ، ولكنه تعالى لم يفعل ذلك لمصالح كثيرة ، بل جعل إرادته عزوجل مسيطرة على إرادة عباده على نحو لا يلزم منه الجبر ، وهذا هو عين الأمر بين الأمرين الذي يأتي بيانه ، وعلى هذا فلا نزاع في حاق الواقع بين المسلمين.

وأما الأمر بين الأمرين ، فهو ما ورد عن أئمة الدين أنه : «لا جبر ولا

٥٦

تفويض بل أمر بين الأمرين» ، وهو الحق المطابق للوجدان والبرهان ، وقد ذكروا في بيانه وجوها :

أولها : أن أفعال العباد إما من الحسنات ، أو من المباحات ، أو من السيئات ولا رابع في البين.

ولا ريب في أن الأمر بين الأمرين متقوّم بالانتساب إليه تعالى وإلى العباد انتسابا يحكم بصحته العقلاء ، ومن رضائه تعالى بالحسنات وترغيبه إليها ، والتأكيد في إتيانها والثواب عليه والعقاب على الترك في بعضها ، يصح الانتساب إليه تعالى ـ وأي انتساب أقوى وأحسن من ذلك ـ ويسمى بالانتساب الاقتضائي ، لا يبلغ حدّ الإلجاء والاضطرار.

ومن إذنه تعالى في المباحات وترخيصه لها ، صح انتسابها إليه تعالى اقتضاء أيضا ، كما تقدم في الحسنات. فتحقق بالنسبة إلى الحسنات والمباحات رضاؤه تعالى بها وقضاؤه لها.

ومن خلقه تعالى للنفس الأمّارة والشيطان ، صح نسبة السيئات إليه تعالى ، لكونه خالقا لمنشئها ، وهذا الوجه يجري في الأولين أيضا ، لأن خلق ذواتنا خلق لأفعالنا بالعرض.

وبالجملة يصح نسبة الخلق التسبيبي إليه تعالى في الجميع ، من الحسنات والمباحات والسيئات.

إن قيل : إنه تعالى منزّه عن انتساب السيئة إليه مطلقا.

قلت : لا وجه للانتساب إليه تعالى بمعنى رضائه بها وترغيبه إليها بلا إشكال فيه من أحد ، بل هو لغو. نعم ، هو تعالى خلق الذات المختارة القادرة على السيئة مع نهيه عنها ، وإظهار سخطه وتوعيده عليها ، وقد فعلها العبد بسوء اختياره ، فمنشأ النسبة إليه تعالى من جهة أنه خلق الذات القادرة المختارة مع ابلاغ النهي والتوعيد ، وقد علم بها وقضاها على نحو الاقتضاء لا القضاء الحتم ،

٥٧

ولا منقصة في هذا القسم من النسبة أبدا. ولعل هذا أحد معاني قوله تعالى : قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً .

وبعبارة أوجز : أن في الحسنات والمباحات تعدد جهة الانتساب إليه تعالى من الرضاء والقضاء ، والإذن والترغيب ، وخلق الذات القادرة المختارة. وفي السيئات منحصرة بخصوص الأخيرة ، والقضاء بنحو الاقتضاء مع النهي والتوعيد وإتمام الحجة على الترك من كل جهة ، وكل ذلك موافق لقانون العقل والعدل.

ثانيها : أن لكل فعل أسبابا خفية لا تدركها العقول ، وأسبابا ظاهرة تدركها ، والاولى يصح أن تكون من الله تعالى ، والثانية من العبد.

ثالثها : أن يكون المراد أن إرادة الصرف عن مراد العبد من الله تعالى ، وهو محسوس لكل أحد ، فكم من مريد لشيء يصرف عن إرادته وكم غير مريد يصادفه ما يشتهيه.

إن قلت : بعد ما اشتهر من أنّ السعيد من سعد في بطن أمه ، والشقي من شقي في بطن أمّه ، وما ورد في الأخبار من أن الإنسان مركب من طينة العلّيّين ، وطينة السّجّين ، ومصير الاولى إلى الجنّة والثانية إلى النار ، لا أثر للاختيار.

قلت : يجاب عنه بوجوه : منها أن المراد بالسعادة الحظوظ الدنيوية ، وبالشقاوة الحرمان عنها ، المستندة إلى الأسباب الخفية التي قصرت العقول عن الإحاطة بها.

ومنها : ما في مرسل ابن أبي عمير : «سألت أبا الحسن موسى عليه‌السلام : عن معنى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الشقي من شقي في بطن أمّه ، والسّعيد من سعد في بطن أمّه؟ فقال عليه‌السلام : الشّقيّ من علم الله وهو في بطن أمّه أنّه سيعمل عمل الأشقياء ، والسّعيد من علم الله وهو في بطن أمّه أنّه سيعمل عمل السعداء ...».

ومنها : ما في بعض الأخبار أنه يكتب في جبينه ـ وهو في بطن أمه ـ ما

٥٨

سيئول إليه أمره من الشقاوة أو السعادة ، وفي بعض الأخبار : «السعيد من ختم الله له بالسعادة ، والشّقيّ من ختم له بالشقاوة» ، وفي جملة من الدعوات المعتبرة : «اللهم إن كنت شقيّا فامحني واكتبني من السعداء».

وعلى أي تقدير السعادة والشقاوة المنسوبتان إلى جعله تعالى اقتضائيتان ، لا على نحو العلة التامة المنحصرة الذاتية ، لأنه مع الشقاوة والسعادة الذاتية يلزم منه توالي فاسدات لا يرتضيها العقل والعقلاء ، وتصير هذه الدعوات باطلة ، كما لا يخفى.

وأما ما ورد في الطينة ، فلا تدل على أنها علة تامة منحصرة ، بل غايتها إثبات الاقتضاء لها في الجملة ، ثم بعد الخلط بين الطينتين يصير الاقتضاء أيضا ضعيفا ، فقد خلق الله تعالى الإنسان من مقتضى الخيرات ، ومن مقتضى الشرور لمصالح شتى ، ثم خلق فيه العقل والاختيار ، ثم بعث الرسل وأنزل الكتب وبشّر بالثواب على الخيرات وأنذر بالعقاب على الشرور ، وخلق الجنة والنار ، فلا منشأ لتوهم الجبر والتفويض في أفعال العباد ، كما ورد تفصيل ذلك في الأخبار عن الأئمّة الأطهار ، وتدل عليه الأدلة العقلية ، كما فصّل في محله.

ثم إنه لا اختصاص للأمر بين الأمرين بخصوص أفعال العباد ، بل يجري في جميع المعلولات الحاصلة بالعلل التكوينية ، فالنبات الذي ينبت في الربيع ـ مثلا ـ ينسب إلى المقتضيات التكوينية ، كما ينسب إلى إرادة الله تعالى ، وكذا في تكوين الإنسان والحيوان ، والدم ، واللحم ، وغيرها مما لا يحصى.

وأما الشبهة الثانية ـ وهي شبهة تخلّف المراد عن الإرادة ـ فبيانها : أن الله تبارك وتعالى إما أن يكون قد أراد الإيمان والطاعة من الأنام أو لا فعلى الأول يلزم أن لا يتحقق كافر ولا فاسق ، لامتناع تخلّف مراده تعالى عن إرادته. وعلى الثاني يلزم أن يكون إنزال الكتب وإرسال الرسل لغوا باطلا.

واجيب عنها بوجوه ..

٥٩

منها : القول بتغاير الطلب والإرادة ، وأن ما هو في مورد إيمان العباد إنما هو الطلب دون الإرادة ، وتخلّف الطلب عن المطلوب ممكن ، وإن لم يمكن تخلّف المراد عن الإرادة.

وفيه ما لا يخفى : فإنّه مجرد الدعوى ، مع أن نفي الإرادة في مورد إيمان العباد خلاف ظواهر جملة من الآيات والروايات.

ومنها : أن الإرادة إنما هي الفعل والإحداث ، فهي من صفات الفعل ، سواء كانت في الله تعالى ، أم في العبد ، ولا تخلّف لمراده تعالى عن إرادته في المقام ، لأن فعله تعالى بالنسبة إلى العبيد هو الدعوة إلى الإيمان والبعث نحو الخيرات ، والزجر عن الشرور ، وقد فعله الله تعالى بإنزال الكتب وبعث الرسل بالنحو الأتم الأكمل ، فلا وجه لتخلّف المراد عن الإرادة.

ومنها : أن الإرادة علة تامة لحصول المراد ، إن لم يكن اختيار الغير فاصلا بين الإرادة والمراد. وأما مع فصله فلا وجه لكونها علة تامة ، وإلا لزم الجبر حينئذ مع اختيار الإيمان ، بل ومع اختيار الفسق والعصيان أيضا. وتقدم في دفع شبهة الجبر ما ينفع المقام ، فراجع.

وأما الشبهة الثالثة ـ وهي شبهة الكلام النفسي ـ فقيل فيها : أنه لا ريب في صق المتكلم عليه تعالى ، وقال عزّ من قائل : وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً . فإن كان المراد بالتكلّم فيه تعالى نفس هذه الأصوات والحروف والهيئات المستحدثة ، لزم كونه تعالى محلا للحوادث ، وهو تعالى منزّه عنها.

واجيب عنها : بأن الكلام فيه عزوجل قديم قائم بذاته ، وهو غير العلم ، والإرادة وسائر الصفات ، وهذه الحروف والأصوات والهيئات مخلوقة كاشفة عنه ، لا أن تكون عينه حتى يلزم كونه تعالى محلا للحوادث.

وفيه : أن التكلم عبارة عن إيجاد الحروف والأصوات والهيئات الخاصة ، سواء كان بالآلات الخاصة ، كما في تكلمنا ، أم الإبداع كما في تكلّمه تعالى.

٦٠