تهذيب الأصول - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

تهذيب الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

منزلة المعاني الحقيقية.

وفيه : أنه يحتاج إلى عناية خاصة ، والأصل عدمها.

ويمكن اختيار الاحتمال الثالث وإرجاع الأول إليه.

وعلى أي تقدير يكون ذلك مشروطا بعدم استنكار أهل المحاورة ، سواء أذن الواضع فيه أم لا. وأما مع الاستنكار ، فلا يصح وإن أذن الواضع فيه. والاستنكار وعدمه يختلفان بحسب الأعصار والأمصار والعادات المختلفة غاية الاختلاف. فالمجاز ، والاستعارة ، والكناية من مجرد الاصطلاح ـ والمدار كله على صحة الاستعمال بحسب الذوق السليم والطبع المستقيم ـ سمي بتلك الاصطلاحات أو لا ، كما أن الإفادة والاستفادة تدوران مدار الظهور ، فمعه تصح وإن كان المعنى غير حقيقي ، ومع عدمه لا وجه له وإن كان حقيقيا.

ومن ذلك كله يظهر أن الاستعمال لا ينحصر في الحقيقة والمجاز ، بل يصح كل ما قبله الأذهان المستقيمة من أهل المحاورة ، سمي بالحقيقة أو المجاز ، أو لا. كاستعمال اللفظ في نفسه أو مثله أو نوعه ، كما إذا قيل (زيد لفظ) واريد نفسه ، أو قيل : زيد في (زيد قائم) مبتدأ واريد مثله ؛ أو قيل ذلك واريد نوعه ، فإن كل ذلك يصح في المحاورات الصحيحة.

وإشكال وحدة الدال والمدلول ، مدفوع : بتعدد الجهة والحيثية مع أنه لا محذور فيه ، فقد قال عليه‌السلام : «يا من دلّ على ذاته بذاته».

وقد تقدم أن مقتضى الأصل عدم الوضع للمجازات ـ ولو نوعا ـ كما أن مقتضاه عدم الحصر للعلائق المجازية ، بل الاستعمالات المجازية تدور مدار الأذواق السليمة المختلفة بحسب العادات والأعصار والأمصار التي لا تضبطها ضابطة كلية ، وما ذكر في العلوم الأدبية من العلائق المجازية إنما هو بحسب الغالب لا الاستقصاء. وبذلك كله يسقط البحث عن جملة كثيرة من مباحث الحقيقة والمجاز التي أطيل فيها الكلام من دون أن تكون فيها ثمرة عملية بل ولا علمية.

٢١

الأمر الثامن :

الحقيقة عبارة عن كون اللفظ مرآة لذات المعنى بلا واسطة ، والمجاز عبارة عن كونه مرآة لما يناسبه بقرينة حالية أو مقالية. وللحقيقة علامات انطباقية قهرية ، لا أن تكون جعلية :

الاولى : تبادر المعنى ، سواء كان للانس الذهني في الجملة ـ ولو كان جاهلا بالوضع تفصيلا ـ أو عند العالمين بالوضع تفصيلا ، فإنه علامة للوضع عند الجاهل به.

واشكل على الأول : بأن التبادر يتوقف على العلم بالوضع ، وإلا لا يتبادر شيء قطعا ، فإذا كان العلم بالوضع متوقفا عليه ، لدار.

وفيه : أن التبادر متوقف على أن اللفظ ليس بمهمل ، بل له معنى إجمالا مرددا بين شيئين أو أشياء ، والعلم بالوضع متوقف على تبادر معنى خاص عن اللفظ تفصيلا ، فتختلف جهة التوقف ، فلا دور. هذا إذا علم الاستناد إلى ذات اللفظ ، وأما لو شك فيه فبأصالة عدم القرينة لا تثبت الحقيقة ، لأنها من الاصول العقلائية التي تجري في استفادة المراد فقط ، لا في تشخيص أنه حقيقة أو مجاز.

الثانية : عدم صحة السلب ، فإنه كصحة الحمل علامة للحقيقة. والدور المزبور آت هنا أيضا مع جوابه.

الثالثة : الاطّراد ، أي كلما اطلق لفظ باعتبار معنى خاص على مورد ، صح إطلاقه في كل مورد تحقق ذلك المعنى بعينه ، كإطلاق الرجل على زيد باعتبار الرجولية ، فإنه يصح إطلاقه باعتبار هذا المعنى في كل مورد تحققت فيه الرجولية.

ولكن ، لما كان الاطراد متحققا في المجاز باعتبار القرينة الخاصة ويطّرد

٢٢

أيضا ، فلا وجه لجعله علامة للحقيقة.

نعم ، لا اطراد في المجاز مع قطع النظر عن العلاقة الشخصية ، وزيادة قيد بلا قرينة ، أو على وجه الحقيقة موجب للدور ، لأحذ المعرّف (بالفتح) في المعرّف (بالكسر) فتتوقف معرفة كل منهما على الآخر ، ولا وجه للجواب بالإجمال والتفصيل هنا ، لأنه لا بد من العلم بالمعرّف (بالكسر) تفصيلا ، والمفروض أن من أجزاء المعرّف (بالكسر) قيد «على وجه الحقيقة ، أو بلا قرينة» التي هي عبارة اخرى عنها.

ثم إن صحة السلب وعدم الاطراد علامتان للمجاز. وأما عدم التبادر ، فهو أعم من كونه علامة للمجاز ، لإمكان كون اللفظ مجملا.

الأمر التاسع :

الألفاظ المتداولة في المحاورات لها حالات من الحقيقة ، والمجاز ، والاشتراك ، والنقل ، والإضمار ـ وهو احتياج فهم المراد إلى إضمار شيء ـ إلى غير ذلك من الحالات المذكورة في المطولات. فإن علم حالة اللفظ ولو من القرائن ـ مقالية كانت أو حالية ـ تتبع لا محالة ، وإلا فتصل النوبة إلى الاصول العقلائية المتداولة بينهم في محاوراتهم ، كأصالة عدم القرينة فيحكم بالحقيقة ، وأصالة الإطلاق والعموم التي ترجع إلى عدم القرينة أيضا. وكأصالة عدم النقل ، وأصالة عدم الوضع ثانيا ، فيحكم بعدم الاشتراك.

ومع عدم جريان مثل هذه الاصول يحكم عليه بالإجمال ، سواء جرى الأصل وسقط بالتعارض ، أم لم يجر لاختلال أركانه. وأما الاستحسانات التي ذكرت لتعيين حال اللفظ عند التعارض ، فمقتضى الأصل عدم الاعتبار بها ما لم يوجب الظهور.

٢٣

الأمر العاشر :

الدلالة التصديقية عبارة : عن دلالة الكلام على أن المتكلم معترف بكلامه وجازم به ، وهي معتبرة لدى العقلاء مطلقا في المحاورات والاحتجاجات وغيرها ، ولا ريب في توقفها على إرادة المتكلم ، وإلا فلا وجه لاعتبارها أصلا ، إذ لا وجه لاعتبار ما لا إرادة فيه.

فكل كلام يصدر اختيارا من أي متكلم يدل على أنه معترف بمفاد كلامه ، ما لم تكن قرينة حالية أو مقالية على الخلاف.

والدلالة التصورية عبارة عن خطور المعنى في ذهن السامع عند سماع الكلام ، وعن جمع أنها أيضا تتبع الإرادة ، وعن آخرين نفي ذلك ، ويمكن الجمع بين القولين : بأن من قال بالتبعية ، أي التبعية للإرادة الاستعمالية ، لأن الدلالة معلولة الاستعمال ، والاستعمال معلول الإرادة. ومن قال بعدمها أي الإرادة الحاصلة من جزم نفس المتكلم أو تجزمه بما تكلم به ، إذ الإرادة الاستعمالية ليست تابعة لتلك الإرادة ، لصحة كون الاستعمال لدواع أخر غير جزم النفس بما يقوله.

إن قلت : فعلى هذا لو سمع الكلام من متكلم بلا شعور وإرادة ، يلزم أن لا تكون فيه الدلالة التصورية ، مع أنه خلاف الوجدان.

قلت : لا ريب في وجود الدلالة فيه أيضا ، لكنها من جهة انس الذهن وارتكازه بالإرادة الاستعمالية ، لا من جهة اخرى ، فلا نقض ولا إشكال.

وأما ما ذكره في الكفاية من أنه يلزم كون وضع عامة الألفاظ عاما والموضوع له خاصا ، لمكان أخذ الإرادة الشخصية فيه.

فلا وجه له ، لأن الإرادة المأخوذة إنما هي بنحو دخل لحاظ الغاية في المغيا ، لا بنحو دخل الجزء في المركب.

٢٤

الأمر الحادي عشر :

لا ريب في أن المعاني إما من التكوينيات ـ جوهرا كانت أو عرضا ـ أو من الاعتباريات العقلائية ، كالبيع والصلح ، والإجارة ونحوها ، أو من المخترعات ، كالصلاة والصوم والحج ونحوها. ولا خلاف في أن ألفاظ غير الأخيرة من الحقائق اللغوية ، ولا وجه لجريان نزاع الحقيقة الشرعية فيها.

نعم ، زاد الشارع في بعضها حدودا أو قيودا ، كالكر ، والسفر ، والبيع ، والإجارة ونحوها.

وأما الأخيرة فاختلفوا فيها من جهتين :

الاولى : هل هي من المعاني المستحدثة في خصوص الشريعة الختمية أو كانت في جميع الشرائع الإلهية ، مع الاختلاف في خصوصياتها في الجملة؟ يظهر من جملة من الآيات ، والنصوص الكثيرة الواردة في حالات الأنبياء عليه‌السلام الثاني والشريعة الختمية إنما أكملها ، لا أنه أوجد معنى لم يكن الأنبياء يعرفون ذلك المعنى ، فهذه المعاني كانت في جميع الرسالات السماوية وإنما أكملتها الشريعة الختمية ، كما أكملت جميع المعارف الربوبية.

الثانية : هل تكون ألفاظ هذه المعاني مسبوقة بالعدم قبل شرع الإسلام؟ وإنما أوجدها الشارع ، أو إنها كانت مستعملة في معان لغوية وإنما استعملها الشارع في ما أراد على نحو استعمال الكلي في القرد ، بمعنى الصلاة هو الدعاء والميل والعطف ، والزكاة هو التطهير ، والحج هو القصد. وحيث أن الصلاة المتعارفة من مصاديق الدعاء ، والزكاة من مصاديق طهارة المال ، والحج من مصاديق القصد ، استعملها الشارع فيها لا أن يكون وضع حادث في الإسلام تخصيصا أو تخصصا؟ قولان : الحق هو الأخير ،

٢٥

للأصل ، ولأنه لو كان شيء لظهر وبان وشاع ، لا سيما في مثل هذا الأمر العام البلوى ، خصوصا مع اهتمام الناس على حفظ مثل هذه الامور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فاستعماله صلى‌الله‌عليه‌وآله لهذه الألفاظ معلوم نطقا ، ووضعه صلى‌الله‌عليه‌وآله لها مشكوك ؛ فيطرح المشكوك بالأصل ، فيكون استعمال هذه الألفاظ اللغوية ، كاستعمال لفظ (الميزان) في الموازين الحادثة بعد وضع لفظ الميزان ، كميزان الحرارة والكهرباء ، ومثل كون علم المثلثات ميزانا لمعرفة البراهين ، وعلم العروض ميزانا لمعرفة الشعر ، وفي زيارة علي عليه‌السلام : «السّلام على ميزان الأعمال» ، ومثل هذه الألفاظ كثير لا يحصى مع أنه لا ثمرة عملية بل ولا علمية لهذا البحث رأسا ، لأن مراده صلى‌الله‌عليه‌وآله من هذه الألفاظ ببيانه وبيان أوصيائه عليهم‌السلام معلوم ، سواء ثبتت الحقيقة الشرعية أم لا ، وقد تقدم أن الظهور المرادي حجة متبعة ، سواء استند إلى الحقيقة أم غيرها ، وما كان مجملا يكون ساقطا ولو كان حقيقة.

وأما ما اصطلح عليه ب (حقيقة المتشرعة) فلا وجه له أيضا بعد ما مرّ من أنها حقائق لغوية.

نعم ، بناء على أن استعمال الشارع لتلك الألفاظ في المعاني المستحدثة كان على نحو المجاز ، لكن صار ذلك المجاز حقيقة متشرعة ، لكثرة الاستعمال في المعاني المستحدثة ، لا بأس به ، ولكن أصل المبنى باطل ، كبطلان كون استعمال الشارع لها يكون من المجاز ، أو حصول الوضع التخصصي من استعماله ، أو أن استعماله ليس من الحقيقة والمجاز ، وإنما حصلت الحقيقة التخصصية في لسان تابعيه ، فكل ذلك رجم بالغيب ومن مجرد الدعوى بلا ريب.

٢٦

الأمر الثاني عشر :

وقع النزاع في أن الألفاظ مطلقا موضوعة للمعاني الصحيحة ، أو للأعم منها ومن الفاسد. ولا اختصاص لهذا النزاع بخصوص المخترعات الشرعية ، كما يظهر من الكلمات ، بل يجري في جميع الألفاظ مطلقا.

والظاهر هو الوضع للأعم ، لأن الصحة إما قيد للموضوع له ، أو يكون الوضع في حال الصحة مع عدم لحاظ القيدية ، وعلى كل منهما إما أن يراد بها الصحة الفعلية من كل حيثية وجهة ، أو الصحة الاقتضائية الشاملة للفعلية وغيرها.

ولا وجه لاحتمال القيدية مطلقا ، لأنه خلاف الأصل والوجدان ، كما لا وجه لاحتمال الوضع في حال الصحة الفعلية ، لأن للصحة مراتب متفاوتة جدا ، وبناء نظام التكوين على التغير والتبدل ، فيكون الموضوع له أي مرتبة منها ، فيتعين أن تكون الألفاظ موضوعة للمعاني في حال الصحة الاقتضائية الجامعة لجميع المراتب ، وهي عبارة اخرى عن الأعم ، فيكون النزاع لفظيا ، إذ لا فرق بين الأعم والصحة الاقتضائية.

ثم إنه نسب إلى المشهور أن ألفاظ العبادات موضوعة للمعاني الصحيحة. فإن كان مرادهم الصحة الاقتضائية ، فلا فرق بينها وبين الأعم. وإن كان مرادهم الصحة الفعلية من كل جهة ، فلا دليل لهم ، كما تقدم ويأتي.

ثم إنه قد اطيل الكلام في جريان النزاع على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية. والظاهر عدم الاحتياج إلى الإطالة ، بل ينبغي أن يقال : إن المسمى في هذه الألفاظ في لسان الشرع وتابعيه ، خصوص الصحيحة أو الأعم منها ، فيشمل النزاع ما إذا لم تثبت الحقيقة الشرعية أيضا.

ولا بد من التنبيه على امور :

٢٧

الأول : الصحة والفساد بما لهما من المعنى العرفي الواقعي يكونان مورد البحث في المقام ، وتكون الصحة والفساد الشرعي من مصاديق كلي الصحة والفساد العرفي ، فموافقة الأمر وعدمها ، وسقوط الإعادة وعدمه ، وموافقة الشريعة وعدمها ، الذي اصطلح الاصولي والفقيه والمتكلم فيها ليس مغايرا للمعنى العرفي ، بل الجميع ـ بكل معنى لوحظ ـ ملازم لمعنى التمامية ، كما أن ما ذكره الفقيه والاصولي والمتكلم واحد وإن اختلف التعبير.

الثاني : الصحة والفساد من الامور الاعتبارية الإضافية لهما أفراد عرضية وطولية ، فربّ صحيح بالنسبة إلى شخص فاسد بالنسبة إلى آخر وبالعكس ، بل بالنسبة إلى حالات شخص واحد أيضا ، فرب صحيح بالنسبة إلى حالة ، فاسد بالنسبة إلى اخرى ، ولكل واحد منهما مراتب متفاوتة جدا.

ولا ريب في أن الوضع في ألفاظ العبادات كغيرها من أسماء الأجناس عام والموضوع له كذلك أيضا ، وقد أجمعوا على أنها ليست من المشترك اللفظي ، فلا بد على كل من القولين من قدر جامع في البين ، يكون هو الموضوع له ، مع أن غرض الأعمّي التمسك بالإطلاق ، ومقصود الصحيحي ثبوت الإجمال ، وكلاهما يستلزمان الجامع ، ففرضه مما لا بد منه على كل تقدير.

الثالث : الصحة والفساد إنما يكونان بالنسبة إلى الذات من حيث التقييد بالشرائط ، لفرض دخالة كل من الأجزاء والشرائط فيهما بحسب التشريع.

وأما المشخصات فهي خارجة عن الحقيقة وداخلة في المأمور به ، ويمكن جعل الجامع مرآة إجمالية بالنسبة إليهما أيضا.

ثم إنه يصح أن يكون الجامع عنوانيا ، كعنوان الناهي عن الفحشاء بنحو الاقتضاء من حيث جعله عنوانا مشيرا الى المعنون ، لا بنحو لوحظ بنفسه ، وأن يكون ذاتيا ماهويا ، كذوات الأجزاء بنحو الشأنية أيضا ، وأن يكون وجوديا ،

٢٨

كالوجود الاعتباري للصلاة مطلقا في مقابل الزكاة والحج والصوم مثلا ، وأن يكون حاليا ، أي حالة توجه العابد إلى المعبود على نحو الاقتضاء والشأنية أيضا ، ولكنه يرجع إلى الثاني ، لأن التوجه عبارة عن النية ، وهي إما جزء أو شرط ، وكل ذلك يصح أن يقع جامعا.

ولا ملزم لأن يكون الجامع معلوما من جميع جهاته ، بل يكفي لحاظه بنحو الإهمال والإجمال بالعنوان المشير إلى الماهية المبهمة الصلاتية القابلة الانطباق على الصحيحة والفاسدة ، ولا ملزم لجعل الجامع تارة على الصحيح ، واخرى على الأعم ، كما فعلوه ، بل يكفي تصوير الجامع بينهما ، لأن أفراد الصحيح والأعم متداخلة ، فالصحيح لشخص فاسد لآخر ، فتصوير الجامع بينهما يغني عن تطويل الكلام ، كما لا يخفى.

وقد يقال : إن الجامع إنما هو الأركان ، والزائد عليها معتبر في المأمور به لا في المسمى.

واشكل عليه : بعدم دوران التسمية مدارها ، لصدق الصلاة مع الاخلال ببعضها ، وعدم الصدق على خصوص الأركان مع الإخلال بسائر ما يعتبر في الصلاة جزء وشرطا ، مع أنه يستلزم أن يكون صدق الصلاة على المستجمع لجميع الأجزاء والشرائط مجازا ، من باب إطلاق اللفظ الموضوع للجزء على الكل.

وفيه : أنه كذلك إن كان الموضوع له الأركان بحدّ خاص ومرتبة معينة.

وأما إذا كان على نحو الاقتضاء من حيث المرتبة ، ومن حيث لحوق باقي الأجزاء والشرائط بالنسبة إليها ، فلا إشكال فيه أصلا.

وقيل : إن الجامع معظم الأجزاء الدائرة مدارها التسمية.

واشكل عليه : مضافا إلى ما تقدم في سابقه مع جوابه ، أن معظم الأجزاء تتبادل بحسب الحالات ، فيلزم كون شيء واحد داخلا في المسمى مرة وخارجا

٢٩

عنه اخرى.

وفيه : أنه كذلك لو كان معظم الأجزاء ملحوظة على نحو التعيين ، لا على نحو الإهمال المنطبق على جميع المتبادلات.

وقيل : بأن وضعها كوضع الأعلام الشخصية ، فكما لا تضر التبدلات الخارجية بأصل المسمّى ، فكذا المقام.

واشكل عليه : بأن الموضوع له متعين في الأعلام فلا تضر التبدلات ، بخلاف المقام الذي لا تعين فيه بوجه.

وفيه : أن التعين أعم من التعين الخارجي ، كما في الأعلام ، أو الاعتباري الفرضي ، كما في المقام ، فيعتبر ما ثلثه الركوع ، وثلثه السجود ، وثلثه الطهور بالمعنى الأعم مما يجزئ شرعا بحسب الحالات المختلفة.

وقيل : بأنه الصحيح المستجمع لجميع الأجزاء والشرائط من كل جهة ، ثم يطلق على سائر الأفراد تنزيلا.

وفيه : أنه مع إمكان فرض الجامع الصحيح وإمكان الإطلاق الحقيقي ، لا تصل النوبة إلى الإطلاق التنزيلي.

والحاصل أنه يصح تصوير الجامع على الصحيحي ، بل الأعمّي أيضا ، لإمكان تصوير ما ثلثه ركوع ، وثلثه سجود ، وثلثه طهور ـ كما في الحديث ـ بالمعنى الأعم من الاختياري والاضطراري بجميع مراتبها.

وما يقال : إن الجامع المفروض إما مركب أو بسيط ، والأول يحتاج إلى فرض جامع آخر ، لأن المركب قابل للتمامية والنقصان. والثاني يوجب عدم صحة الرجوع إلى البراءة في موارد الشك في الجزئية والشرطية ، لكونه من الشك في المحصل حينئذ.

مدفوع : بأنه يمكن أن يكون مركبا ولا محذور فيه ، لأنه ملحوظ بنحو الإهمال لا التعين ، والإشكال يلزم على الثاني دون الأول. كما يمكن أن يكون

٣٠

بسيطا ، ومع ذلك يصح الرجوع إلى البراءة في الشك في الجزئية والشرطية ، لأن ثبوتها إنما هو بحسب الأدلة البيانية لا مجرد الوضع ، وبعد الرجوع إلى الأدلة وعدم الظفر بجزء أو شرط سوى ما ذكر فيها ، يصح الرجوع إلى البراءة ، عقلا وشرعا في المشكوك ، سواء كان الموضوع له بسيطا أو مركبا.

ثم إنه قد استدل للصحيح بالتبادر ، وعدم صحة السلب ، وسيرة العقلاء في أوضاعهم ، وبظهور الأخبار الدالة على آثار خاصة للعبادات ، فإن المنساق منها الصحيح ، كالأخبار النافية لآثارها عند فقد بعض الأجزاء والشرائط.

ويمكن المناقشة في الجميع بأنه قد استدل بالأولين للأعم أيضا ، ومقتضى السيرة الوضع للصحيح الاقتضائي ، لا الفعلي من كل جهة ، وهو لا ينافي الأعم.

وما هو المنساق من الأخبار إنما هو بالنسبة إلى المأمور به لا الموضوع له ، فالوضع للصحيح الاقتضائي معلوم وغير مشكوك فيه ، وهو لا ينافي الأعم ، بل يمكن أن يجعل أصل هذا النزاع لفظيا.

والجمع بين القولين ـ وإن بعد عن كلماتهم ـ بأن يكون مراد من يقول بالوضع للصحيح أي الاقتضائي منه ، وهو عبارة اخرى عن الأعم ، ومع بطلان الثمرة العملية الآتية يكون هذا الجمع متينا ، إذ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح.

واستدل للأعم تارة بتبادر الأعم ، وعدم صحة السلب عن الفاسد ، واشكل عليه بتوقفه على تصور الجامع وهو غير ممكن.

وفيه : ما تقدم من إمكان تصويره بلا محذور.

واخرى : بصحة التقسيم إلى الصحيح والفاسد ، ولا بد من ثبوت المقسم في الأقسام بلا كلام.

٣١

واشكل عليه : أنه بلحاظ الاستعمال ، وهو أعم من الحقيقة.

وفيه : أن وجود المقسم في الأقسام لا بد أن يكون واقعا وحقيقة ، لأن الأقسام من أفراد ذات المقسم ، ويصدق عليها صدق الطبيعي على أفراده ، فلا وجه لاحتمال كونه أعم من الحقيقة إلّا أن يكون أصل التقسيم مجازيا ، والمفروض في المقام خلافه.

وثالثة : بالأخبار الظاهرة في صدق الصلاة على الفاسدة أيضا ، كقوله عليه‌السلام للحائض : «تدع الصلاة ما دامت ترى الدم» ، ونحوها مما يكون ظاهرا في الصدق على الفاسد.

واشكل عليه .. تارة : بأن الاستعمال أعم من الحقيقة.

وفيه : أن الاستدلال باعتبار الظهور العرفي ، وهو حجة معتبرة.

واخرى : بأن مثل هذه النواهي إرشاد إلى الفساد ، وإلا يلزم أن يكون إتيان الصلاة الباطلة محرما عليها.

وفيه : أنه لا ينافي الاستعمال في الفاسد ، وعدم حرمة الصلاة الباطلة عليها لظهور الإجماع.

ثم إن الظاهر عدم الثمرة العملية لهذا البحث.

وما قيل : من ظهورها في التمسك بالإطلاق والعموم بناء على الأعمي في نفي مشكوك القيدية دون الصحيحي ، لصيرورة الألفاظ مجملة حينئذ. وكذا في التمسك بالأصل العملي ، فإن المرجع هو البراءة في مشكوك القيدية بناء على الأعمّي ، والاشتغال بناء على الصحيحي ، لفرض الإجمال في الدليل.

مخدوش : بأن الإطلاق والعموم إن كان في مقام البيان ، يصح التمسك به لنفي مشكوك القيدية على كلا القولين بعد الفحص عن المقيدات والمخصصات ، وإن لم يكن كذلك فلا يصح مطلقا.

كما أنه بعد التفحص في الأدلة الدالة على شرائط المأمور به وأجزائه

٣٢

وعدم الظفر على ما يدل على اعتبار المشكوك ، يكون المرجع هو البراءة على القولين ، وقبل التفحص فيها يكون المرجع هو الاشتغال عليهما أيضا. فلا ثمرة بينهما ، لا بالنسبة إلى الاصول اللفظية ولا العملية.

وأما ما يقال : من ظهور الثمرة في نذر الصلاة في مكان مكروه ، أو لباس كذلك. فإنه بناء على الأعم يكون صحيحا ويتحقق الحنث بالمخالفة. وأما بناء على الصحيح فلا يتحقق الحنث لو أتى بالصلاة كذلك ، لكونها باطلة من جهة تحقق النهي الحاصل من مخالفة النذر بها ، والنهي في العبادة يوجب البطلان ، بل يكون إتيان الصلاة الصحيحة غير مقدورة بناء عليه.

ويرد عليه .. أولا : فلأنه ليس ثمرة البحث الاصولي حتى تقع في طريق استفادة الأحكام الكلية ، وإنما هو مسألة فقهية ذات قولين.

وثانيا : أنه تابع للقصد لا الاستعمال ، فإن قصد الناذر الصلاة الصحيحة لا يحنث ، سواء كان الوضع والاستعمال للصحيح أم للأعم. وإن قصد الأعم يحنث ، سواء كان الوضع والاستعمال للصحيح أم للأعم.

وثالثا : أنه يمكن أن يكون المراد الصحيح الاقتضائي لو لا النذر ، فحينئذ يصح النذر والصلاة ، ويحصل الحنث أيضا.

وأما المعاملات فهي إمضائية يكفي في صحتها عدم ثبوت الردع من الشارع ، ومقتضى العرف والعادة هو الوضع للصحيح الاقتضائي فيها أيضا ، وكلما صدق عليه عناوينها الخاصة عرفا ولم يثبت الردع عنها شرعا ، يصح التمسك بإطلاقها وعمومها ، لنفي مشكوك القيدية مطلقا ، ومع الشك في الصدق العرفي لا يصح التمسك بها كذلك ، لأنه من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه ، فيرجع إلى الاصول الموضوعية ، ومع عدمها إلى الحكمية ، فلا ثمرة فيها أيضا بين القولين.

٣٣

الأمر الثالث عشر :

اللفظ والمعنى إما متحدان ، ويعبّر عنه بمتحد المعنى ، أو متعددان ، ويعبّر عنه بالمتباين. أو يكون المعنى واحدا عرفا ـ وإن تعدد بحسب الحيثيات والدقيات العقلية ـ واللفظ متعددا ، ويعبّر عنه بالمترادف ، أو يكون بالعكس ، ويعبّر عنه بالمشترك.

ولا ريب في وقوع الجميع في المحاورات الصحيحة ، إلا أنه قد وقع الكلام في الأخير من جهات :

منها : كونه خلاف الفصاحة والبلاغة ، لأنه إن اتكل في فهم المراد على القرينة فهو من التطويل بلا طائل ، وإلا فهو من الإجمال.

وفيه : أن كلّا من التطويل والإجمال قد يكون موردا لأغراض صحيحة ، فتصير بها من أهم موارد الفصاحة والبلاغة.

ومنها : أنه لا بد من وقوعه لتناهي الألفاظ ، لكونها مركبة من الحروف المتناهية ، والمركب من المتناهي متناه ، وعدم تناهي المعاني فلا بد من وقوعه.

وفيه : أن المعاني متناهية أيضا في كل دورة من الأدوار ، ومورد الاحتياج متناهية قطعا ، بلا احتياج إلى معان اخرى حتى نحتاج إلى الاشتراك.

نعم ، لا ريب في وقوع الاشتراك خارجا ، خصوصا في الأعلام الشخصية ، وهو أعم من وجوب وقوعه.

ومنها : أن استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد إن كان على نحو تعدد الدال والمدلول ، فلا إشكال فيه ، فيكون نظير الكنايات التي يستفاد من مدلولها المطابقي شيء ، ومن مدلولها الالتزامي شيء آخر.

وأما إذا كان مستقلا وبالدلالة المطابقية في كل واحد من المعاني بحيث كأنه لم يكن للفظ معنى غيره ، فاستدل على بطلانه بوجوه :

٣٤

الأول : أنه خلف الفرض. والمناقشة فيه واضحة ، فإن الاستقلالية أمر اعتباري ، فمن الممكن اعتبار الاستقلالية من جهتين ، ولا محذور فيه.

وأما حديث أن اللفظ فان في المعنى ، ولا يعقل فناء الواحد في الاثنين. فلا أصل له ، لأن اللفظ له نحو من التعين ، والمعنى كذلك ، ولا يعقل فناء أحد المتعينين في الآخر.

نعم ، لا ريب في أن اللفظ عنوان مشير إلى المعنى ، ويصح أن يكون شيء واحد عنوانا مشيرا إلى شيئين.

الثاني : أنه مستلزم لتكثّر الواحد ، لأن تعدد الدلالة المطابقية مع الاستقلال في كل واحد منهما ـ كما هو المفروض ـ يستلزم تعدد الدال قهرا ، مع أنه واحد في الاستعمال الواحد ، كما هو واضح ، فيلزم المحذور.

وفيه : أن تكثّر الواحد بتعدد الاعتبار والجهة ، لا بأس به.

الثالث : أن اللفظ موضوع للمعنى بقيد وحدة المعنى ، أو في حال الوحدة ، والاستعمال في الأكثر ينافي ذلك ، فيكون مجازا من باب استعمال الموضوع للكل في الجزء.

وفيه : أن التعدد خلاف الأصل والوجدان عند وضعنا للأعلام الشخصية ، والوضع في حال الوحدة وإن صح ثبوتا لكن حالات الموضوع له عند الوضع غير دخيلة في الوضع ولا في الموضوع له ، وإلا لعمّت المجازية أكثر الألفاظ لو لا كلها ، مع أنه من مجرد الدعوى بالنسبة إلى المشترك اللفظي ، والموضوع له في الجميع نفس الذات مع قطع النظر عن أية جهة خارجة عنه ، كما لا وجه للتفصيل بين التثنية والجمع فيجوز فيهما ـ لأنهما بمنزلة تكرار اللفظ ـ وبين المفرد ، فلا يجوز ، لما تقدم من أنه لو كانت الدلالة بنحو تعدد الدال والمدلول ، فهو خارج تخصصا من مورد البحث ، لأن مورده ما إذا كان الدال واحدا صورة ، واللفظ مع علامتي التثنية والجمع يكون من تعدد الدال ، كما هو واضح ، مضافا

٣٥

إلى أنه إذا لم يصح استعمال المفرد في المتعدد ، لا يصح بالنسبة إلى التثنية والجمع أيضا ، لأنهما من عوارضه فيتبعهما ما يلحقه جوازا ومنعا.

ثم إنه لا بد في التثنية والجمع من جهة جامعة بينهما وبين المفرد ، لأن معناهما لغة وعرفا فردان أو أفراد من شيء واحد ؛ وتلك الجهة الجامعة إما أن تكون النوع المشترك بين الأفراد ، أو الجنس البعيد ، كما يقال : الماء والنار جسمان ، أو هما والتراب أجسام.

وقد تكون مطلق الشيئية ، كما يقال : الواجب والممكن شيئان ، وقد تكون مجرد الاشتراك في التسمية ، كالتثنية والجمع بالنسبة إلى الأعلام.

وفي التثنية والجمع بالنسبة إلى المشترك يتصور وجوه :

الأول : استعمال المفرد في معنى واحد ، وإرادة فردين أو أفراد منه ، وليس هذا من استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، كما هو واضح.

الثاني : أن يراد بالمفرد المتعدد ، كما إذا استعمل العين في الباكية والجارية ، واريد بالعينين فردان من كل منهما ، وهذا من استعمال المفرد والتثنية في أكثر من معنى.

الثالث : استعمال المفرد في المعنى الواحد ، كالجارية ، واستعمال التثنية في الجارية والباكية.

والظاهر صحة الكل مع القرينة.

وحاصل ما ذكرناه في جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد أنه يصح بتعدد الدال والمدلول ، والتعدد إما خارجي أو اعتباري ، فكما يصح في الأول يصح في الأخير أيضا ، لبناء جملة من المحاورات على الاعتباريات.

ثم إن ما دل من الأخبار على أن للقرآن بطونا لا يدل على صحة استعمال المشترك في أكثر من المعنى ، لأن تلك البطون من قبيل الإشارات والرموز التي لا يفهمها إلا أشخاص خاصة.

٣٦

والكلام في المقام في الاستعمالات المحاورية العرفية. وأما ما ورد في سؤال الهداية من الله عزوجل عند قراءة اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ مثلا ، فهو ليس من استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد في شيء أبدا ، وإنما هو من باب الحالات المقارنة للمتكلم بالآية ، لا من المستعمل فيه.

الأمر الرابع عشر :

المعروف أن المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ عند فعلية التلبّس وحال ظهور الموضوع في مظهر المحمول ، ومجاز في غيره. وظاهر عنوان البحث في كتب القوم أنه في الاستعمال وأنه حقيقة في المتلبس ومجاز فيما انقضى ، وليس البحث في انطباق الكلي على الفرد ، لأنه أمر تكويني لا يتصف بالحقيقة والمجاز ، بل يتصف بالوجود والعدم ، وخارج عن الاستعمال مطلقا ، فلا وجه لاحتماله في المقام.

وذكر المشتق في عنوان البحث إنما هو من باب الغالب لا التخصص ، فالمراد به كل محمول يحمل على الموضوع ، مشتقا كان أو غيره. فجميع الجوامد المحمولة داخلة في مورد البحث ، كقولك : هند زوجة زيد ، أو زينب مرأة عمرو ، أو بكر غلام خالد ، إلى غير ذلك من المحمولات الجامدة.

وذلك لأن المحمول إما متحد مع الموضوع ماهية ، كالإنسان إنسان ، أو حيوان ناطق. أو منتزع عن ذات الموضوع ومحمول عليه ، مثل الأربعة زوج ، أو يكون خارجا عن الذات مطلقا ، ولكن لا يتصور فيه حال الانقضاء بل جميع حالات الموضوع تكون حال التلبس ، كالإنسان ممكن بالإمكان الذاتي مثلا ، أو خارج عن الذات مطلقا ويتصور فيه حال الانقضاء ، مثل زيد قائم ، وعمرو كاتب ، إلى غير ذلك من القضايا. ومورد البحث مختص بخصوص القسم الأخير فقط ، لأنه يتصور فيه حالات :

٣٧

فتارة : لم يتلبس الموضوع بالمحمول بعد.

واخرى : يكون متلبسا به فعلا.

وثالثة : تلبّس به وانقضى تلبّسه عنه.

وأما القسمان الأولان فليست فيهما إلّا حالة وحدة ، وهي عدم التلبس بعد ، والتلبّس بالفعل من كل جهة ، ولا خلاف في أن الإطلاق في الأول مجازي ، كما لا خلاف ولا إشكال في أنه في الثاني حقيقي ، وإنما اختلفوا في الأخير ، فالمعروف أنه مجازي ، وعن جمع أنه على نحو الحقيقة أيضا. ومن ذلك يعرف أن المراد بلفظ الحال في العنوان حالة تلبّس الموضوع بالمحمول ، وفعلية صدق المحمول عليه لا غيرها. لا حال النطق ـ أي زمان التكلم بالقضية ـ لعدم دلالتها على الزمان ، للأصل والوجدان والاتفاق.

نعم ، تقع كل قضية في الزمان ، وهو غير دلالتها عليه ، كما هو واضح.

وحال فعلية صدق المحمول هي حال التلبس وحال النسبة المذكورة في كتب القوم.

نعم ، حال النسبة بناء على كون المشتق حقيقة في التلبس تكون عينه ، وبناء على كونه حقيقة في الأعم يكون موافقا للأعم ، كما لا يخفى.

وأما القضايا الأزلية التي تستعمل في صفات الباري عزوجل الجمالية والجلالية ، فهي خارجة عن المقام بلا كلام ، لتنزّه ساحته العليا عن التلبّس والانقضاء. نعم ، في صفات الفعل يتصور ذلك باعتبار المتعلق.

ثم إنه يشهد للتعميم للجوامد النزاع المعروف بين الفريقين في مسألة الرضاع من أنه لو كانت لشخص زوجة رضيعة ، وزوجتان كبيرتان ، فأرضعت إحدى الكبيرتين الرضيعة حرمتا عليه ، لصيرورتهما ام الزوجة ، وأما الكبيرة الاخرى إذا أرضعت الرضيعة بعد الاولى فحرمتها مبتنية على أن المشتق حقيقة في الأعم من المتلبّس ومن انقضى. وأما إن كان حقيقة في خصوص المتلبّس

٣٨

فلا تحرم ، وقد تعرضنا في المهذب لتفصيل المسألة فراجع.

ولا بد أولا من بيان امور :

الأول : مرجع البحث الى أنه هل يعتبر في صدق المحمول حقيقة على الموضوع فعلية تلبس الموضوع بالمحمول ، أو يكفي في الصدق الحقيقي صرف وجود التلبس فقط؟ وعلى هذا ، لا فرق بين أنحاء المشتقات مما تدل على الحرف والصناعات والملكات وغيرها ، لأنه يتصور في جميعها حالة فعلية التلبّس وحالة الانقضاء ، فيجري البحث في جميعها ، كما لا وجه لإخراج اسم الزمان عن مورد البحث بدعوى أنه لا بد أن يكون الموضوع باقيا في حالتي التلبّس والانقضاء ، والزمان ليس كذلك ، لأنه متصرم ومقتض بذاته ، فما هو في حال التلبس شيء وما هو في حال الانقضاء شيء آخر ، فليس شيء واحد محفوظا في الحالتين ، إذ فيه إمكان تحقق بقاء شيء واحد فيهما ، كطبيعي الزمان ، أو الوحدة الاعتبارية الملحوظة ، أو وجود الزمان من حيث هو وجود ، إلى غير ذلك من الجامع المفهومي ، أو الوجودي ، أو الاعتباري ، على نحو ما مرّ في جامع الصحيح والأعم.

الثاني : لا ريب في خروج المصادر والأفعال عن مورد النزاع ، لعدم حملها على الذات ، بلا فرق بينهما من هذه الجهة. نعم ، الفرق بينهما أن المصدر يدل على الحدث من حيث هو حدث مع قطع النظر عن إضافته إلى الفاعل. والفعل يدل على الحدث المضاف إلى جهات ، منها الإضافة إلى الفاعل ، فهي ملحوظة في معنى الفعل بخلاف المصدر.

وقد يفرّق بينهما بدلالة الفعل على الزمان وضعا ، بخلاف المصدر ، ولكن يرد عليه : بأن الفعل مركب من المادة والهيئة ، والدال على الزمان إما المادة فقط ، أو الهيئة كذلك ، أو هما معا.

والكل مردود : أما الأول : فلأنه لو دلّت المادة على الزمان لدلّت المصادر

٣٩

عليه أيضا ، لوجود المادة فيها.

وأما الأخيران : فمقتضى الأصل عدم الوضع كذلك ، مع أنه لغو ، لاستفادة الزمان من إطلاق الفعل على الزمانيات ـ كما يأتي ـ مضافا إلى أن الهيئة من المعاني الحرفية ، والزمان من المعاني الاسمية الاستقلالية ، إلا أن يقال : الموضوع له مجرد النسبة الزمانية وهو من المعاني الحرفية ، ولكن الأصل ينفي هذا الوضع المشكوك فيه ، مضافا إلى أن الأفعال الإنشائية مطلقا لا تدل على الزمان. نعم ، تقع في زمان الحال وهو أعم من الوضع للزمان ، كما عرفت.

مع أنه يصح إطلاق الأفعال بالنسبة إليه تعالى ، وهو عزوجل محيط على الزمان ، ولا وجه لتصور الماضي والمستقبل والحال بالنسبة إليه تبارك وتعالى ، إلّا أن يقال : إن الإطلاق بالنسبة إليه تعالى إنما هو بحسب مخاطبته عزوجل مع الزمانيات ، لا بالنسبة إلى ذاته تعالى ، أو باعتبار معيته القيومية مع الممكنات فإنه عزوجل مع السابق سابق ومع اللاحق لا حق. مضافا إلى أنه يستعمل الماضي في المضارع وبالعكس في الاستعمالات الصحيحة ، ولا وجه للمجاز في ذلك كله. نعم ، لا ريب في أن الإطلاقات في الزمانيات تنصرف في الماضي إلى الزمان السابق ، وفي المضارع إلى الحال أو الاستقبال ، وهذا أعم من الوضع ، كما هو واضح. ومنشأ هذا الانصراف كثرة استعمال الماضي فيما مضى ، والمضارع فيما يأتي ، والأمر في الحال. فهذه الاستفادة مستندة إلى الانصراف الإطلاقي ، لا التخصيص الوضعي. ولا ثمرة عملية بل ولا علمية مهمة في هذا البحث بعد اعتبار الظهور ولو لم يستند إلى الوضع. نعم ، بناء على المعروف بين الأدباء يكون استعمال الماضي في المضارع وبالعكس مجازا ، وبناء على عدم أخذ الزمان فيهما وضعا لا يكون مجازا بل يكون حقيقة ، لأن الجامع القريب حينئذ بين الماضي والمضارع إنما هو تحرك الفعل من العدم إلى الوجود ، وهو الذي أشار إليه علي عليه‌السلام : «الفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى» ، فكل ما حكم أهل

٤٠