تهذيب الأصول - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

تهذيب الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

وإبقاؤها على الشأنية الصرفة في الجملة ، إلا أن يدل دليل على الخلاف في بعض الموارد ، على ما فصل في الفقه.

ثم إن في التكاليف الاضطرارية مباحث لا بأس بالإشارة إليها :

منها : أن الاضطرار والعذر الذي هو موضوع هذه التكاليف هل هو صرف وجود الاضطرار في الموقتات ، أو العذر المستوعب للوقت ، فلا يجوز البدار إلى امتثالها في أول الوقت؟ مقتضى ما هو المرتكز في الاضطراريات إنما هو العذر المستوعب ، وعليها تنزّل إطلاقات أدلة تلك التكاليف إلا مع الدليل على الخلاف ، كما ورد في التيمم والتقية ، فيرجع في غير المستوعب إلى قاعدة الاشتغال ، وإطلاقات أدلة التكاليف الأولية إلا مع وجود دليل خاص في البين.

ومنها : أنه لو أتى المكلف في مورد التكاليف الاضطرارية بالتكليف الواقعي وترك تكليفه الاضطراري ، هل يجزي أو أنه لا يجزي؟ المسألة مبنية على بقاء الملاك في التكاليف الواقعية في مورد الاضطرار ، فمع بقائه يصح بداعي الملاك ، ومع عدمه لا وجه للصحة ، إذ لا خطاب ولا ملاك فكيف يصح وبأي داع يؤتى به ، فلا طريق لإحراز الملاك إلا إطلاق الخطاب من باب كشف المعلول عن العلة ، وقد اختلفت الكلمات ، ففي بعض الموارد يحكمون بالصحة ، وفي بعضها يحكمون بالبطلان ، وفي البعض الآخر يترددون في الفتوى مع عدم دليل خاص لهم أصلا.

ومنها : أن موضوع الاضطرار يلحظ بالنسبة إلى شخص المكلف دون النوع ، فلو كان تكليف اضطراريا بالنسبة إلى شخص دون النوع ، ينقلب تكليفه الواقعي إليه ، وفي العكس يبقى على تكليفه الواقعي. وهذه المباحث لا بد وأن ينقح الكلام فيها في الفقه.

الجهة الثالثة : في إجزاء الإتيان بما يصح الاعتذار به ـ كما في مورد الأمارات والاصول ، والقواعد المعتبرة ـ عن الواقع عند انكشاف الخلاف فهو

٢٠١

من لوازم اعتبارها ، وصحة الاعتذار بها ، لأنها إن طابقت الواقع فلا ريب في الإجزاء ، وإن خالفت فالمكلف معذور في ترك الواقع ، لعموم أدلة اعتبارها وامتنان الشارع على امته في هذا الأمر العام البلوى ، وحكومة أدلة اعتبارها على الواقعيات ، ويشهد له الطريقة العقلائية في الطرق المعتبرة لديهم ، فإنهم عند تبين الخلاف فيها يرتبون الأثر من حين تبين الخلاف من دون استئناف العمل من الأول ، وهذا لسعة فضل الله تعالى أنسب. فكما أنه تعالى يسقط العمل المأتي به عن الاعتبار لأجل بعض الجهات ، كذلك ينزل العمل غير المطابق للواقع منزلة الواقع.

ودعوى : أن العذرية وصحة الاعتذار مادامية ، أي ما لم ينكشف الخلاف ، لا دائمية. من مجرد الدعوى بلا شاهد ومخالفة لإطلاقات أدلة اعتبارها ، وإجماعهم على الإجزاء عند تبدل رأي المجتهد ، فإطلاق أدلة اعتبار مفاد الأمارات والاصول والقواعد ـ تأسيسا كانت أو إمضائية ـ يقتضي الإجزاء مطلقا إلا في مورد الدليل على الخلاف ، فلا مجرى لجريان قاعدة الاشتغال في المقام.

ولم يرد عن الأئمة عليهم‌السلام في هذا الأمر العام البلوى لا سيما عند الإمامية المفتوح عندهم باب الاجتهاد حديث ، وما ورد في عدم إجزاء الرأي والنظر من الأخبار الكثيرة التي جمعها في كتاب القضاء من الوسائل ، لا ربط لها بالمقام ، بل المقصود منها الآراء الفاسدة الباطلة في مقابل الإمام عليه‌السلام ، لا ما حصل من الجد والاجتهاد في أحاديثهم عليهم‌السلام ، فأي مانع من أن يكون المقام مثل أعمال العامة إذا استبصروا ، حيث ورد عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الصحيح : «كل عمل عمله في حال نصبه وضلاله فإنه يؤجر عليه» ، بل ما نحن فيه أولى بذلك كما لا يخفى ، وليس ذلك من التصويب والانقلاب الباطل ، بل هو تنزيلي تسهيلي لغير الواقع منزلة الواقع ، وإسقاطه عن الفعلية لمصالح كثيرة ، فبين المقام وبحث التصويب والانقلاب بون بعيد جدا.

٢٠٢

ولا فرق في جميع ما ذكرناه بين كون تبين الخلاف بالقطع ، أو الظنون الاجتهادية ، وقد تعرضنا لجملة من المباحث المتعلقة بالمقام في بحث الاجتهاد والتقليد ، وفي كتاب القضاء من مهذب الأحكام.

الجهة الرابعة : العمل بما حصل به الاعتقاد مع تبين الخلاف ، فإن كان هذا الاعتقاد مستندا إلى الاجتهاد الصحيح فهو من تبدل الرأي الذي أجمعوا فيه على الإجزاء ، وإن كان من غيره فمقتضى الأصل عدم الإجزاء من غير دليل حاكم عليه. والله تعالى هو العالم.

٢٠٣

الثاني : مقدمة الواجب

يقع البحث في فن الاصول عن الوجوب المولوي الترشحي عن وجوب ذي المقدمة بالنسبة إلى مقدمته ، بعد تسليم اللابدية العقلية التي تكون بين المقدمة وذيها.

وإذا كان نفس الملازمة الواقعية بين طلب الشيء وطلب مقدماته مورد البحث ، فيكون من المسائل العقلية غير المستقلة ، وحيث يقع في طريق الاعتذار لدى المولى ، فإنه يكون من المسائل الاصولية. وفيه ملاك المسألة الفقهية ، والمسألة الكلامية أيضا ، كجملة كثيرة من مسائل الاصول.

تقسيمات المقدمة :

التقسيم الأول : المقدمة إما داخلية محضة ، كالأجزاء. أو خارجية كذلك ، كالفاعل ، والغاية. أو برزخ بينهما ، كالشرط والمعد ، فإن فيهما جهتين : التقيد ، ونفس القيد ، ومن الجهة الاولى داخلية ومن الجهة الثانية خارجية.

ويصح أن يقال : إن المقدمة إما داخلية بالمعنى الأخص ، وهي الأجزاء. أو بالمعنى الأعم ، وهي الأجزاء ، والشرط ، والمعدّ.

والكل صحيح وإن اختلف التعبير. كما أن بعض الأشياء برزخ بين الشرطية المحضة والجزئية الصرفة ، كالنية في العبادات ـ مثلا ـ فإن الفاتحة جزء للصلاة ، والاستقبال شرط لها ، فالنية برزخ بينهما ، كما فصلناه في الفقه.

وحيث أن المقدمة المبحوث عنها في المقام متقوّمة بالتغاير الوجودي مع ذيها ، فالمقدمات الداخلية ـ وهي الأجزاء ـ خارجة عن مورد البحث ، لاتحاد الكل مع تمام الأجزاء وجودا ، ووجود أحدهما عين وجود الآخر كذلك عقلا

٢٠٤

وعرفا ، فلا اثنينية في البين حتى تتحقق المقدمية المتقوّمة بها. والتغاير الاعتباري وإن كان موجودا بينهما فإن الكل عين الأجزاء باعتبار الاجتماع ، والأجزاء الفعلية غير الكل مع قطع النظر عن هذا الاعتبار ، لكن ليس هذا النحو مع التغاير مناط المقدمية عرفا ، فوجوب الأجزاء عين وجوب الكل وبالعكس ، فليس في البين إلا وجوب واحد منسوب إلى الكل بنحو الجمع ، وإلى الأجزاء بنحو الانبساط.

وكذا الكلام في التوليديات ، كالإحراق والإلقاء في النار ، فإنه ليس فيها إلا وجوب واحد منسوب إلى السبب المولد (بالكسر) والمسبب المولد عنه ، فلا اثنينية في البين عرفا وإن كانت متحققة واقعا ، فهي أيضا خارجة عن مورد الكلام في المقام.

التقسيم الثاني : قد قسّموا المقدمة إلى الشرعية ، والعقلية ، والعادية ، ومقدمة الصحة ، ومقدمة الوجود ، ومقدمة الامتثال. ولا وجه لهذا التقسيم أبدا.

فإن الثلاثة الاولى إن كان بلحاظ أصل الدخالة والمقدمية فالجميع عقلية ، لانتفاء المشروط بانتفاء شرطه ، والمركب بانتفاء جزئه ، سواء كان المشروط أو المركب عقليا أو شرعيا أو عاديا ، ولا حكم للأخيرين إلا ما حكم به العقل ولو حكما بشيء لكان إرشادا إلى حكم العقل.

نعم ، لهما تنزل الفاقد للشرط أو الجزء منزلة الواجد في مجعولاتهما ، لفرض استيلائهما عليها موضوعا وحكما ، ولا ربط لذلك بأصل المقدمية التي هي مورد البحث.

وإن كان ذلك بلحاظ الجاعل فهو أجنبي عن بحث المقدمة ، كما هو أوضح من أن يخفى.

والرابع ليس إلا المقدمات الداخلية أو الخارجية ، فلا وجه لتسمية اخرى وزيادة قسم آخر.

٢٠٥

والخامس يرجع إلى الرابع ، فلا وجه لعدّه قسما مستقلا إن كان المراد الوجود الصحيح ، وإن كان المراد مطلق الوجود فهو خارج عن مورد البحث قطعا ، لأن البحث في مقدمة الواجب لا في مقدمة المسمّى ، كما أنه لا بد من خروج مقدمة الوجوب عن مورد البحث أيضا ، لأنه قبل حصول المقدمة لا واجب في البين حتى يترشح منه الوجوب إلى مقدمته ، وبعد الحصول لا معنى للترشح ، لأنه من تحصيل الحاصل.

وكذا لا ريب في خروج مقدمة الامتثال عن مورد البحث ، إذ ليس فيه إلّا اللابدية العقلية وليس فيه وجوب مولوي ترشحي حتى يكون مورد البحث ، ولو ورد دليل عليه لا يكون إلا إرشادا محضا فانحصرت المقدمة ـ التي تكون مورد البحث ـ في الخارجية والداخلية بالمعنى الأعم.

التقسيم الثالث : قد قسّموا المقدمة بلحاظ الزمان الى المقارنة ، كالاستقبال للصلاة ، وعربية الإيجاب والقبول في العقود مثلا. والمتقدمة ، كتقدم الوصية على حصول الملكية للموصى له بعد موت الموصي في الوصايا التمليكية.

والمتأخرة ، كالإجازة لعقد الفضولي في حصول الملكية من حيث العقد بناء على الكشف. فيلزم تخلل الزمان ـ قليلا كان أو كثيرا ـ بين العلة والمعلول في الأول ، وتقدم المعلول على العلة في الثاني ، وهما ممتنعان ، كما ثبت ذلك في فن الحكمة بالدليل والبرهان ، والعلة بجميع أجزائها وجزئياتها مقدمة على المعلول رتبة لا زمانا ، كتأخر المعلول عن العلة فإنه رتبي فقط.

والمراد بأجزاء العلة وجزئياتها ما إذا تحققت في ضمن العلة التامة لا بدونها ، إذ العلية والمعلولية من الامور الإضافية ، فالأجزاء والجزئيات غير المتحققة في ضمن العلة التامة أجزاء استعدادية لا فعلية ، والكلام في الثانية دون الاولى. والعلة التامة مقارنة مع المعلول زمانا وإن اختلفا رتبة ، كقولك : «تحركت

٢٠٦

اليد فتحرك المفتاح» فزمان الحركتين متحد ، ولكن رتبة حركة اليد متقدمة على حركة المفتاح فإن الأخيرة مستندة إلى الاولى.

وقد وقعت في الشريعة المقدسة موارد انتقضت فيها القاعدة العقلية ، منها ما تقدم فيها المعلول على العلة زمانا ، كالعقود الفضولية بناء على الكشف ، فإنه يحصل الأثر قبل حصول العلة التي هي الإجازة ، وموارد تقدم فيها العلة على المعلول زمانا ، كعقد الوصية التمليكية الحاصلة قبل الموت بزمان مع أن الملكية تحصل بعده ولو بزمان كثير ، وكغسل المستحاضة قبل الفجر لصحة الصوم الحادث بعد الفجر.

وقد اضطربت كلماتهم في حل هذه المشكلة ، وقد تعرضنا في الفقه لبعض الكلام ، ولنشر لبعضه الآخر بما يناسب المقام. وقد اجيب عن أصل الشبهة بوجوه :

الأول : ما عن صاحب الكفاية أن الشرط إما شرط للوضع ، كعقد الوصية للملكية بعد الموت ، والإجازة في العقود الفضولية لحصول الأثر قبلها. أو شرط للتكليف ، كالعقد ، والإجازة لوجوب الوفاء. أو شرط للمكلف به ، كغسل المستحاضة قبل الفجر لصحة صومها.

ومرجع الأولين إلى أن لحاظ الشرط عند الشارع دخيل في حكمه وضعا أو تكليفا ، فاللحاظ هو المؤثر لا أن يكون الأثر للوجود الخارجي حتى يلزم المحذور ، فما هو الشرط ـ وهو اللحاظ ـ مقارن ، وما هو متقدم أو متأخر لا ربط له بالشرطية فلا محذور في البين أصلا.

وفيه : أولا : أنه تصرف في ظواهر الأدلة بلا شاهد ، بل على خلافه الشواهد.

وثانيا : أن اللحاظ طريق إلى ما في الخارج لا أن تكون له موضوعية خاصة ، وإذا كان كذلك ، فالمحذور باق على حاله.

٢٠٧

ومرجع الأخير ـ أي ما كان شرطا للمكلف به ـ إلى أن المتقدم أو المتأخر له دخل في صيرورة المكلف به معنونا بعنوان حسن ، فصوم المستحاضة يصير ذا عنوان حسن بتقدم الغسل عليه يوجب بذلك صلاحيته للتقرب به ، فيرجع إلى الشرط المقارن.

وفيه : أنه إن كان الشرط من حيث الوجود الخارجي فهو عين الإشكال قرر بوجه آخر ، وإن رجع إلى شرطية اللحاظ فهو عين ما أجاب به عن شرط الوضع والتكليف ، ومرّ بطلانه.

الثاني : ما عن بعض مشايخنا قدس سرّهم ، فعن شيخنا المحقق العراقي قدس‌سره أن المشروط في جميع تلك الموارد إنما هو الحصة التوأمة مع الشرط ، فالشرط حينئذ قرين المشروط وحليفه ، لا أن يكون متقدما عليه أو متأخرا عنه.

وفيه : أن ذلك إن كان بحسب الوجود اللحاظي فهو عين ما تقدم عن صاحب الكفاية ، وقد أشكلنا عليه. وإن كان بحسب الوجود الخارجي فالشبهة باقية ، مع أن الحصة من الاعتبارات الذهنية لا الموجودات الخارجية.

الثالث : أن أصل المحذور إنما هو في العلة الموجدة ، أما ما توجب القابلية كالشروط والمعدات فلا محذور فيه.

ويرد عليه : أن حصول القابلية للوجود إن كان من ناحية العلة فهو عين المحذور ، وإن كان من ناحية المعلول فهو باطل ، كما ثبت في محله ، راجع الأسفار.

الرابع : أن الشرط في موارد النقض إنما هو العنوان الانتزاعي المقارن مع المشروط ، كما هو شأن كل أمر انتزاعي فإنه خفيف المئونة جدا ، كتعقب العقد للإجازة في الفضولي ، وتعقب عقد الوصية التمليكية بالموت ، واتصاف الصوم بسبق الغسل في المستحاضة ، إلى غير ذلك مما يمكن فيها انتزاع شيء هو مقارن مع المشروط ، وقد اختار ذلك شيخنا المحقق النائيني قدس‌سره بعد جعل

٢٠٨

القضايا التشريعية من القضايا الحقيقية.

وفيه : أنه خلاف ظواهر الأدلة والمنساق منها عرفا بلا دليل ملزم عليه من عقل أو نقل ، مع أن كون القضايا المستعملة في تشريع الأحكام وتقنين القوانين ـ خالقية كانت أو خلقية ـ من القضايا الحقيقية مما لا يخفى على الأصاغر فضلا عن الأكابر.

الخامس : ـ وهو أحسنها ـ ويمكن أن يكون مقصود الجميع ذلك وإن قصرت عبائرهم عن الانطباق عليه ، وهو : أن أصل الإشكال يختص بالعلل والمعلولات التكوينية والموجودات المتحققة الأصيلة التي يدور نظم المباحث الدقية العقلية ، والبراهين المتقنة الحكمية عليها ، بشرط كون العلة بسيطة غير مركبة من الأجزاء المتدرجة الوجود ، لأن فرض تركب العلة من تلك الأجزاء المتدرجة الوجود في الزمان فرض تقدم بعض أجزاء المؤثر على بعض ، وإلا لزم الخلف وهذا أيضا مغالطة اخرى ، فهنا غولط بين العلة البسيطة والمركبة التدريجية. نعم ، في العلة المركبة بعد تحقق جميع الأجزاء والشرائط يعتبر التقارن الزماني مع المعلول أيضا ، من دون اعتبار التقارن الزماني بين كل جزء وجزء من أجزاء العلة.

وأما الاعتباريات التي يدور جعلها ـ بجميع جهاتها وخصوصياتها ـ على الاعتبار كيف ما اعتبره المعتبر ، فلا موضوع للإشكال فيها بعد فرض عدم استنكار عرف المعتبرين لذلك ، فربّ شيء يكون ممتنعا في التكوينيات يكون صحيحا في الاعتباريات ، وكذا بالعكس. ولا ريب في أن جميع القوانين المعتبرة بجميع حدودها وقيودها من الاعتباريات الحسنة العقلائية. وهذه الشبهة ـ وأمثالها ـ إنما حصلت من الخلط بين الامور التكوينية والامور الاعتبارية.

٢٠٩

الأقوال في وجوب المقدمة

وجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط ، إذ لا معنى للتبعية إلا ذلك. واختلفوا في معروض الوجوب لعنوان المقدمة على أقوال ، وتجري هذه الأقوال في الوجوب الشرعي الترشحي ، واللابدية العقلية أيضا :

الأول : ما نسب إلى المشهور من أنه ذات المقدمة بلا قيد وشرط ، لأن المناط في المقدمة التمكن بها من إتيان ذيها ، وهذا ينطبق على الذات بلا قيد ولا شرط.

الثاني : ما يظهر عن صاحب المعالم قدس‌سره من أنه ذات المقدمة عند إرادة ذيها ، لأن عنوان المقدمية متقوّم بالغير فلا بد من إرادته.

وفيه : أنه إن أراد ما هو المتعارف من أن إتيان المقدمة إنما هو عند إرادة ذيها ، فهو مع أنه مخالف لما تسالموا عليه من أن وجوبها في الإطلاق والاشتراط تابع لوجوب ذيها.

يرد عليه .. أولا : أنه لا وجه لتعليق الوجوب على الإرادة مطلقا ، وإلا ينسلخ الوجوب عن وجوبه.

وثانيا : أنه لا يتم في المقدمات التوصلية غير المتوقفة على القصد والإرادة فضلا عن قصد ذيها ، وما كانت منها عبادية يغني أمرها النفسي في عباديتها ، فينطبق عليها عنوان المقدمية قهرا ـ قصد ذاها أو لم يقصد ـ

الثالث : ما عن الشيخ الأنصاري قدس‌سره من أن معروض الوجوب ذات المقدمة مع قصد التوصل بها إلى ذيها ، لأن حيثية المقدمية حيثية التوصل بها إلى ذيها فلا بد من قصد ذلك في ثبوتها وتحققها ، وهذا أخص من قول صاحب المعالم ، لأن ما قصد به التوصل بها إلى ذيها واجبة على كلا القولين ، فإن قصد التوصل قصد إجمالي لإرادة ذي المقدمة ، وما لم يقصد بها التوصل إن كانت

٢١٠

مقرونة بإرادة ذي المقدمة فواجبة على قول صاحب المعالم دون الشيخ ، فتتحقق الأخصية حينئذ وإن لم يقترن بها ، فلا وجوب على كلا القولين.

ثم إن محتملات مراد الشيخ قدس‌سره من قوله أربعة :

أحدها : اشتراط وجوب المقدمة بقصد التوصل ، فيكون وجوبها مشروطا ووجوب ذي المقدمة مطلقا ، وهذا خلاف تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها ، كما مر والشيخ يعترف به في فقهه واصوله.

ثانيها : أن ذلك من باب غلبة الوقوع في الخارج ، حيث أن المقدمة إنما يؤتى بها غالبا بقصد التوصل بها إلى ذيها ، لا أن يكون ذلك من الاشتراط والتقييد الاصطلاحي ، وهذا حق ووجداني لكل أحد ، وليس ذلك على نحو التقوّم بحيث لو أتي بها غفلة ، أو بقصد عدم التوصل لم يتحقق وجود المقدمة ، بل المشهور يقولون بتحقق الواجب حينئذ بخلاف ما يظهر من قول الشيخ ، فلا وجوب لذيه بناء على اعتبار قصد التوصل في الاتصاف بالوجوب.

ثالثها : أن قصد التوصل دخيل في ترتب الثواب أو الامتثال فقط ، لا في الاتصاف بالوجوب ، وهذا بالنسبة إلى ترتب الثواب صحيح ، لكنه ليس من محل الكلام ، لأن البحث في معروض الوجوب لا في استحقاق الثواب ، مع أن اعتبار ذلك في ترتب الثواب أيضا أول الدعوى ، كما حررناه في الفقه.

وأما دخله في الامتثال فهو مردود : بأن المقدمة لغة وعرفا وشرعا ما يتمكن بها المكلف من إتيان ذيها ، وليس موضوع الوجوب ـ شرعيا كان أو عقليا ـ إلا هذا ، ولا ينفك ذلك من قصد التوصل إجمالا وارتكازا ، فيكون اعتبار قصد التوصل بعد ذلك من قبيل لزوم ما لا يلزم ، وإن كان مراد الشيخ قدس‌سره من اعتبار قصد التوصل هذا المعنى الإجمالي الارتكازي ، فهو صحيح لا إشكال فيه.

رابعها : اشتراط ذات مقدمية المقدمة.

وفيه : أنه خلاف الوجدان في التوصليات ، وخلاف الأصل والإطلاق في

٢١١

التعبديات ، وخلاف مبنى الشيخ في فقهه.

الرابع : ما عن صاحب الفصول من اعتبار ترتب ذي المقدمة خارجا على المقدمة في الوجوب الترشحي ، لأنه لا فعلية للمقدمة إلا بذلك ، وهذا هو الذي اصطلح عليه بالمقدمة الموصلة. واشكل عليه بوجوه كلها باطلة.

منها : أنه إن كان قيدا للوجوب فهو من تحصيل الحاصل ، وهو باطل. وإن كان قيدا للواجب فهو من الدور الباطل ، لتوقف ذي المقدمة على المقدمة ، وتوقف المقدمة على ذيها ، وهذا هو الدور.

وفيه : أنه لا يكون قيدا للوجوب ولا للواجب حتى يلزم المحذور ، بل مراده قدس‌سره أن فعلية وجوب المقدمة تدور مدار فعلية وجوب ذيها ، لأنهما من المتلازمين المتكافئين قوة وفعلا ، فكما لا محذور في التلازم في مطلق المتلازمين من كل جهة فليكن المقام أيضا كذلك.

منها : أنه يلزم كون شيء واحد واجبا نفسيا وواجبا غيريا ، لأن ذا المقدمة واجب نفسي بذاته ، ومن حيث كونه قيدا للمقدمة يصير واجبا غيريا.

وفيه .. أولا : أنه لا محذور فيكون شيء واحد واجبا نفسيا وغيريا من جهتين ، كصلاة الظهر مثلا ، فإنها واجبة نفسا بذاتها ومن حيث كونها شرطا لصلاة العصر تتصف بالوجوب الغيري ، فليكن المقام كذلك.

وثانيا : أن ترتب ذي المقدمة على المقدمة ليس من التقييد الاصطلاحي حتى يلزم المحذور ، بل المراد أن فعلية المقدمة وفعلية وجوبها تنتزع من فعلية ذي المقدمة خارجا على نحو القضية الحقيقية لا الشرطية.

ومنها : أنه مستلزم للخلف ، فإن ذات المقدمة أيضا لها مدخلية في ترتيب ذيها عليها ، فيلزم كون الذات أيضا موردا للوجوب الترشحي ، وهو قدس‌سره لا يقول بذلك.

وفيه : أنه مسلم ، لأن الذات أيضا له دخل في الترتب في الجملة ، لكن

٢١٢

مدخلية الذات إمكانيته لا فعليته من كل جهة ، ومراد صاحب الفصول المدخلية الأخيرة دون الاولى.

ومنها : أنه بناء على المقدمة الموصلة ينحصر وجوبها بالعلة التامة المنحصرة. ولا يشمل غيرها ، وهو خلاف الإطلاقات والكلمات.

وفيه : أن الوجوب الفعلي من كل جهة منحصر فيها عند الجميع ، ولكن الوجوب الشأني الاستعدادي يشمل غيرها بلا إشكال. ولا ينكرها صاحب الفصول وغيره.

ومنها : أنه يوجب تعلّق الوجوب بأمر غير اختياري ، لأن من أجزاء المقدمة الموصلة الإرادة وهي غير اختيارية ، وإلا لزم التسلسل.

وفيه .. أولا : أنه لا اختصاص لهذا الإشكال بالمقدمة الموصلة ، لتوقف كل واجب على الإرادة ـ نفسيا كان أو غيريا ـ موصلا أو غير موصل.

وثانيا : يكفي في الإرادية والاختيارية كون الإرادة بذاتها ونفسها مرادة ومختارة في صحة التكليف بها.

وثالثا : لو كانت مرادة بإرادة زائدة على ذاتها ، تكون جميع تلك الإرادات مندمجة في ذاتها لكمال سعة النفس ، وهذا النحو من التسلسل لا امتناع فيه ، كما ثبت في محله ، ويعبّر عنه بالتسلسل اللايقفي ، أي لا يمكن فرض العلية في مرتبة إلا ويمكن فرض علية اخرى فوقها ، وهذا لا يستلزم الوجود الفعلي لسلسلة غير متناهية حتى يمتنع.

ومنها : أن إتيان المقدمة يوجب سقوط طلبها من غير انتظار ترتب ذيها عليها.

وفيه .. أولا : أنه عين الدعوى.

وثانيا : أن السقوط جهتي لا من جميع الجهات ، والسقوط المطلق إنما هو بإتيان ذي المقدمة ، وللمكلف تبديل المقدمة بمقدمة اخرى ما لم يأت بها.

٢١٣

والحاصل : أنه قد اشتملت المقدمة على جهات وحيثيات :

إحداها : التمكن بها إلى ذيها.

ثانيتها : قصد ذيها إجمالا المندرج في قصد ذات المقدمة.

ثالثتها : التوصل بها إلى ذيها ، وهي أيضا مندرجة في قصد المقدمة إجمالا.

رابعتها : ترتب ذيها عليها خارجا.

وهذه كلها جهات وحيثيات تعليلية ، فيكون معروض الوجوب بالآخرة ذات المقدمة بنحو الاقتضاء ، وليست هذه الجهات دقيات عقلية فقط ، بل العرف يعتبر هذه الجهات أيضا ، فيصير النزاع بين الجميع جهتيا لفظيا ، كما لا يخفى على المتأمل لانطباق جميع الأقوال على المرتكزات في مقدمات الأفعال الصادرة منهم ، فأشار كل واحد من الأعلام إلى جهة من تلك الجهات بلا نزاع في حاق الواقع في البين.

ثم إن ما قلناه من أن وجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط ، إنما هو في نفس الوجوب المقدمي من حيث هو مع قطع النظر عن دليل آخر. وأما بحسب الأدلة الخاصة فيمكن أن يكون وجوب المقدمة مشروطا بشيء مع قطع النظر عن ذي المقدمة ، بل يمكن أن يجتمع فيه أنحاء من الوجوب.

الثمرات بين كونها من المسألة الاصولية أو غيرها

بعد ثبوت الوجوب الشرعي الترشحي للمقدمة يكون البحث فيها من المسائل الاصولية. لوقوعه في طريق استنتاج الحكم الفرعي ، فيقال : هذه مقدمة الواجب ، وكل مقدمة الواجب واجبة شرعا ، فتجب هذه.

وكذا بناء على اللابدية العقلية ، فيقال : هذه مقدمة الواجب وكل مقدمة

٢١٤

الواجب لا بد من إتيانها عقلا ، فلا بد من إتيان هذه عقلا ، ويستنتج منه الحكم الفرعي بواسطة قاعدة الملازمة ، فيكون هذا الاستنتاج ـ سواء كان بلا واسطة أو معها ـ من ثمرات هذا البحث ، وقد ذكروا ثمرات اخرى أيضا.

منها : فساد العبادة التي يكون تركها مقدمة لواجب أهم ، كالصلاة في أول الوقت مع فعلية وجوب إزالة النجاسة عن المسجد ، لأن ترك الصلاة حينئذ واجب بالوجوب المقدمي فيكون فعلها حراما ، لأن الأمر بالشيء يكون نهيا عن ضده ، فتقع فاسدة لأن النهي في العبادة يوجب الفساد.

وفيه : أن هذه الثمرة مبنية على مسألة اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده ، وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ بطلان الاقتضاء.

كما أنها مبنية على أن النهي الذي يوجب فساد العبادة هو الأعم من النهي النفسي والغيري وهو محل البحث أيضا.

وأما صاحب الفصول رحمه‌الله فأبطل هذه الثمرة بناء على ما اختاره من المقدمة الموصلة بأن ترك الصلاة مطلقا ليس بواجب ، بل الواجب إنما هو الترك الموصل إلى الإزالة ، ومع فعل الصلاة لا وجه لكون تركها مطلقا واجبا ، فيصير فعلها صحيحا لوجود المقتضي وفقد المانع عن الصحة.

وأشكل عليه شيخنا الأنصاري قدس‌سره : بأنه لا ريب في أن ترك الصلاة الموصل إلى الإزالة واجب فيصير نقيضه حراما ـ بناء على المقدمية ـ ونقيضه ترك الصلاة الموصل ، وهو كلي له أفراد ، منها نفس الصلاة فتصير فاسدة لأجل النهي المنطبق عليها انطباق الكلي على الفرد.

وأورد عليه في الكفاية : بأن الصلاة لازم للنقيض لا أن تكون عينه ، ولا دليل على لزوم كون لازم النقيض محكوما بعين حكم النقيض ، بل يجوز أن لا يكون محكوما بحكم في الظاهر أبدا.

نعم ، لا بد أن لا يكون محكوما بحكم مغاير لحكم النقيض ، لمكان

٢١٥

الملازمة بينهما.

والحق أن إشكال الشيخ قدس‌سره صحيح بحسب الأنظار العرفية المبنية عليها الأدلة الشرعية ، وإشكال صاحب الكفاية لا بأس به بحسب الدقة العقلية ، فكل منهما صحيح في مورده ، ولكن الحق مع ما ذهب إليه الشيخ قدس‌سره عرفا.

ومنها : بر النذر لمن نذر إتيان واجب بإتيان مقدمة الواجب بناء على وجوبها وعدم البر بناء على عدم الوجوب.

وفيه : أنه مسألة فرعية تابعة لقصد الناذر ، ومع الإطلاق والغفلة عن هذه الحصة ينصرف إلى الواجب النفسي ، وليس ثمرة للمسألة الاصولية ، لأنه لا بد وأن يستنتج منها الحكم الكلي.

ومنها : عدم جواز أخذ الاجرة على المقدمة مع وجوبها ، وجوازها بناء على عدم الوجوب.

وفيه : أنه لا دليل على عدم جواز أخذ الاجرة على الواجب بالنحو الكلي ، بل مقتضى الأصل ، وقاعدة السلطنة جوازه إلا في موارد خاصة دل عليها الدليل بالخصوص على عدم الجواز ، وهو تابع لدلالة الدليل عموما أو خصوصا ، وقد فصّلنا المسألة في الفقه ، فراجع.

ومنها : حصول الفسق بترك واجب له مقدمات كثيرة ، لتعدد ترك الواجب ، فيتحقق الإصرار على المعصية.

وفيه : أنه ليس لترك واجب واحد إلّا معصية واحدة إجماعا ـ تعددت مقدماته أو لم تتعدد ـ نعم ، لو كان واجب نفسي مقدمة لواجب آخر وتركهما ، تعددت المعصية ، ولكنه خارج عن محل البحث ، لأنه في الوجوب المقدمي الصرف دون الواجب النفسي.

ومنها : اجتماع الوجوب والحرمة لو كانت المقدمة محرمة ، كالدخول في ملك الغير لإنقاذ النفس المحترمة.

٢١٦

وفيه : أنها إن كانت توصلية يصح التوصل بها إلى ذيها ـ قيل بوجوب المقدمة أو لا ، وقيل بجواز الاجتماع أو لا ـ وكذا إن كانت تعبدية بناء على جواز الاجتماع.

نعم ، بناء على الامتناع وتغليب جانب الحرمة لا تصح المقدمة العبادية ، سواء قيل بوجوب المقدمة أو لا. فهذه الثمرة ساقطة أيضا.

إجراء الأصل في المقدمة

أما اللابدية العقلية الواقعية لإتيان كل مقدمة بالنسبة إلى ذيها من الفطريات والوجدانيات لكل أحد ، فلا يتصور الشك فيها حتى يجري فيها الأصل.

نعم ، قد تتوجه النفس إليها وقد تغفل عنها ، كما هو الشأن في جميع فطريات النفس ووجدانياتها ، فإنه قد تكون مغفولا عنها ، وقد تكون متوجها إليها ، ولا ربط لذلك بالشك فيها.

وأما الوجوب الترشحي الشرعي فلا تجري البراءة العقلية بالنسبة إليها ، لأنها تدور مدار العقاب لابتناء قاعدة قبح العقاب بلا بيان عليه ، ولا عقاب في ترك المقدمة مطلقا إلا ما كانت عين ذيها خارجا ، كما في التوليديات.

وأما البراءة الشرعية فلا محذور في جريانها ، لكفاية مطلق الأثر الشرعي في مجريها ، ولا ريب في أن مطلق الوجوب أثر شرعي.

الحق في المقام

والحق في المقام وجوب مقدمة الواجب بالوجوب التبعي لذيها ، فإنا نرى بالوجدان عند طلبنا لشيء تعلّق الطلب أيضا بالنسبة إلى مقدماته مع

٢١٧

الالتفات إليها ولو مع الغفلة عن اللابدية العقلية ، بل ربما يجعل الأمر بالمقدمة أصيلا والأمر بذيها تبعيا ، فيقال : اركب السيارة واذهب إلى الزيارة ، فينطوي في الطلب التفصيلي لذي المقدمة طلب جميع المقدمات ، انطواء الفرع في الأصل ، والإرادة الإجمالية في الإرادة التفصيلية الالتفاتية ، هذا مع اتفاق العقلاء على وجود أوامر غيرية فيما بينهم ، ووجود أوامر غيرية في الشرع أكثر من أن تحصى ، وصحة استعمال الأمر فيها في المحاورات العرفية بلا شبهة. وجعل ذلك كله إرشادا إلى الشرطية ، والجزئية والمانعية ، وهذا لا ربط له بكون نفس الأمر الغيري إرشادا ، كما لا يخفى. فالوجدان والاتفاق على الوقوع من أكبر الأدلة عليه.

وبعد ذلك لا نحتاج إلى ما يقال : من أنها لو لم تجب فلا مانع من طرف الشارع في تركها ، ومع الترك إن بقي الواجب على وجوبه فهو تكليف بما لا يطاق ، وإلا انقلب الواجب المطلق مشروطا ، وهو باطل.

وهذا الاستدلال فاسد من أصله ، لأن عدم المنع من طرف الشارع في ترك الواجب لا يوجب التكليف بما لا يطاق ، لتمكن المكلف من الإتيان به وحكم العقل باللابدية ، فيصح العقاب على ترك الواجب حينئذ.

كما لا وجه للتفصيل بين السبب وغيره بدعوى وجوبها في الأول وعدمه في الأخير ، لأن المسبب بدونه غير مقدور ، والتكليف إنما توجه بالسبب ، وذلك لأن القدرة بالواسطة تكفي في توجّه التكليف ، مع أنه ليس بتفصيل في وجوب المقدمة وإنما هو قول بتوجّه الوجوب النفسي إلى السبب فقط.

وكذا لا وجه للتفصيل بين الشرط الشرعي وغيره بالوجوب في الأول دون الأخير ، بدعوى : أنه لو لا وجوبه شرعا لما جعله الشارع شرطا. فإنه باطل أيضا.

٢١٨

أما أولا : فلأنه مستلزم للدور.

وثانيا : أن مناط المقدمية توقف ذي المقدمة عليها ودخالة المقدمة في ذيها ، بلا فرق بين كون منشأ التوقف والدخل عقليا أو شرعيا أو عرفيا.

ثم إنه يمكن جعل النزاع في مطلوبية المقدمة شرعا وعدمها من المنازعة اللفظية ، فمن قال بالمطلوبية فيها أي المطلوبية الفعلية في ما إذا كان ملتفتا إليها تفصيلا ، أو متوجها إليها كذلك ، ومن قال بالعدم أي في صورة الغفلة المحضة عنها بلا فعلية للطلب حينئذ ، فتتحقق اللابدية العقلية فقط.

مقدمة المندوب والحرام

أما مقدمة المندوب فإنها مندوبة بعين ما تقدم في مقدمة الواجب ، بلا فرق في المطلوبية العرضية التي تكون للمقدمة بين مراتب الطلب ، شديدا كان أم ضعيفا.

وأما مقدمة الحرام فلا ريب في الفرق بينها وبين مقدمة الواجب والمندوب ، لأن انتفاء إحدى المقدمات في الاولى يوجب عدم التمكن للمكلف من ذي المقدمة ، حيث أن المطلوب فيه الترك وهو يحصل بترك إحدى المقدمات بعكس الأخيرتين ، لتوقفهما على إتيان جميع المقدمات ، إذ المطلوب فيهما الفعل وهو متوقف على إتيان كل ما له دخل في التحقق. فتحرم إحدى مقدمات الحرام لا بعينها بناء على الملازمة ، فلو أتى بجميع مقدمات الحرام إلّا إحداها فترك الحرام ، لم يأت بحرام غيري أبدا ، لعدم تحقق ذي المقدمة ، بل ولم يفعل ما يوجب التجري أيضا ، لأن مورده إنما هو في ما إذا كان الفعل حراما اعتقادا وحلالا واقعا.

وفي المقام لم تتحقق الحرمة الاعتقادية ولا الواقعية ، ولا يبعد تحقق بعض مراتب التجري إن كان بانيا على إتيان الحرام على كل تقدير ، فبترك

٢١٩

المقدمات ، ينترك الحرام قهرا. هذا وقد ورد في الرشوة ، والربا ، والخمر ما يستفاد منه تعميم الحرمة الشرعية الغيرية لجملة كثيرة من مقدماتها ، فراجع أبواب الوسائل عند تعرضه لها.

خاتمة البحث

قد ورد الثواب في جملة من مقدمات الواجبات أو المندوبات وهي كثيرة جدا. فإن قلنا بأن الثواب تفضل ، واستحقاقه أيضا تفضل من الله يؤتيه بما يشاء على ما يشاء لمن يريد ، كما هو المنساق من جملة من الآيات والروايات ـ كما فصلنا الكلام في محله ـ فلا إشكال فيه ، لأن تفضله تعالى غير محدود بحد ، ولا يعلم منشأه إلا ذاته الأقدس ، وحينئذ يسقط أصل البحث رأسا.

وإن قلنا : باختصاصه بالتكاليف النفسية العبادية ، فيصح أن ينبعث الثواب من التكاليف النفسية العبادية إلى جميع مقدماتها ، نظير ما ورد من أن الله تعالى يحفظ لصلاح الرجل أهله وجيرانه وأهل قريته ، وفي سياق هذا المعنى آيات وروايات كثيرة جدا ، وهذا هو المرجو من سعة فضل الله غير المتناهي ، فيكون التكليف النفسي من الواسطة في الثبوت لثواب جميع مقدماته ، سواء أتى بالتكليف النفسي ، أو منع عنه مانع شرعي.

قال تعالى : وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ ... ، وقد ورد في أبواب السعي في قضاء حاجة المؤمن من الثواب ولو لم تقض الحاجة ، والمشي الى الحج ، وزيارة الحسين عليه‌السلام ولو منع عن حصول المقصود مانع.

ولا يبعد حصول المبغوضية من بعض المحرمات النفسية إلى مقدماتها في الجملة أيضا ، حصل الحرام النفسي أو لم يحصل ، كما يشهد به الوجدان.

٢٢٠