تهذيب الأصول - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

تهذيب الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

لتحقق الإرادة الاستعمالية بالنسبة إلى كل منهما وهي تكفي في الصدق الحقيقي ، ومقتضى الأصل عدم اعتبار شيء آخر. نعم لو اعتبرت الإرادة الجدية الواقعية في الصدق الحقيقي يكون مجازا حينئذ ، لعدم تحقق تلك الإرادة إلا بالنسبة إلى القيد.

ختام فيه أمران :

الأول : يعتبر في حمل المطلق على المقيد ، وسقوط الإطلاق عن الاعتبار إحراز وحدة التكليف وثبوت التنافي بينهما ، وإلا فيصح الأخذ بمفاد كل واحد من الدليلين ولا موضوع للتقييد حينئذ ، ولذا اشتهر بين الفقهاء أنه لا موضوع له في غير الإلزاميات ، لعدم إحراز وحدة التكليف فيها ، بل القيود الواردة فيها من باب تعدد المطلوب غالبا إلا إذا دل دليل من الخارج على وحدته ، ولو شك في مورد أنه من باب وحدة المطلوب أو تعدده فلا موضوع للتقييد أيضا ، لعدم إحراز وحدة المطلوب ، وتجري أصالة الإطلاق بلا محذور.

والحاصل أن الأقسام ثلاثة :

فتارة : يحرز وحدة المطلوب.

وأخرى : يحرز عدمها.

وثالثة : يشك فيها.

ويتعين التقييد في الأول دون الأخيرين ، فيصح الأخذ بالإطلاق فيهما أيضا.

الثاني : كل ما ورد لبيان الجزئية أو الشرطية أو المانعية أو القاطعية ، لا ريب في تحقق موضوع التقييد بالنسبة إليها وإلا لبطل وجوبه وتشريعه ، بلا فرق فيه بين الإلزاميات وغيرها. وكذا ما كان واجبا نفسيا في شيء آخر ، بحيث لو لم

١٦١

يكن الآخر لكان وجوبه لغوا ، كبعض واجبات الحج.

واستفادة ما ذكر إما من القرائن الداخلية أو الخارجية ، ومع الشك في شيء مما ذكر فمقتضى الأصل اللفظي والعملي عدم وجوبه ، فلا موضوع للتقييد ، كما أنه مع تحقق موضوعه لا وجه لحمل القيد على الندب والأخذ بالإطلاق ، لأنه خلاف طبع القيدية ويحتاج إلى قرينة دالة على ذلك.

ثم إن جميع ما تقدم في أقسام إجمال العام والمخصص وأحكامها تجري في إجمال المطلق والمقيد أيضا ، وكل مورد لا يصح فيه التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، لا يصح فيه التمسك بالمطلق أيضا.

وكل مورد يجوز ذلك هناك ، يجوز هنا أيضا. وكذا ما تقدم في الدوران بين النسخ والتخصيص يجري هنا أيضا ، إذ المطلق ملحق بالعام والتقييد ملحق بالتخصيص ، فهما متحدان حكما من هذه الجهة.

١٦٢

المجمل والمبين

وهما من المفاهيم المعروفة في المحاورات ، وليس للعلماء فيهما اصطلاح خاص. فالمجمل ما لم يتضح المراد منه ولو بالقرائن. والمبين بخلافه عند الجميع حتى الاصوليين ، هذا بحسب المفهوم.

وأما بحسب المصداق فالمرجع في تعيينه الأذواق السليمة ، والأذهان المستقيمة ، والظاهر كونهما من الامور الإضافية ، فربّ مجمل عند بعض مبين عند آخر وبالعكس.

وللإجمال مناشئ كثيرة ، كتشابه اللفظ واختلاف القراءة ونحو ذلك ، ويصح وقوع الإجمال في كلام الحكيم تعالى ، إذ قد يتعلق الغرض بالإجمال والإهمال لمصالح شتى.

وأما حكمه فهو أنه إن كان مما يتعلّق بالأحكام فلا بد من التفحّص التام لعله يزول الإجمال والإبهام ، ومع عدم الزوال يرجع إلى أدلة اخرى ، ومع عدمها فإلى الاصول العملية وهي مختلفة باختلاف الموارد.

١٦٣

القسم السادس

التعارض

لا بد أن يذكر هذا البحث في مباحث الألفاظ ، لرجوعه إلى كيفية الاستفادة من الدليلين المتعارضين بحسب المحاورات العرفية.

امور تمهيدية :

الأول : وهو أعم من التناقض والتضاد المعروفين في علم المنطق ، فيكون المراد به في المقام مطلق التنافي عند المتعارف بين الناس. ولا اختصاص له بعلم دون آخر بل يجري في جميع العلوم النظرية ، والحرف والصنائع الفكرية مطلقا.

والظاهر كونه في غير الأخبار منتهيا إلى غير الاختيار ، لأن منشأه اختلاف الأنظار في استخراج الواقعيات ، وهو يحصل من اختلاف الاستعدادات ، وهي ذاتية لا دخل للاختيار فيها.

وأما الأخبار فمنشأ حصول التعارض فيها أحد امور على سبيل منع الخلو :

منها : أنهم عليه‌السلام تعمدوا في ذلك ، كما يستفاد ذلك من جملة من الأخبار ، كموثق زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام المنقول في الحدائق.

ومنها : قصور نقل الناقلين وفهمهم خصوصا بعد التفاتهم إلى جواز النقل بالمعنى.

١٦٤

ومنها : التقية.

ومنها : اختفاء القرائن ، إلى غير ذلك من الامور التي تظهر بعد التأمل.

وليس ذلك من الإغراء بالجهل ـ كما قد يتوهم ـ لأنه بعد اهتمام الأئمّة عليه‌السلام ببيان أحكام التعارض وشدة ترغيبهم في الوصول إلى الحقيقة ، لا وجه لتوهم لزوم الإغراء بالجهل.

الثاني : وإلى الدليل المركب منهما أيضا ، وذلك لمكان التضايف بين المدلول والدلالة والدليل ، فتسري صفات كل منها إلى الآخر في الجملة ، ولا ثمرة عملية في أنه من صفات أي منها إلا ما يتوهم من أنه إن كان من صفات المدلول يتحقق التعارض في مورد مثل النص والظاهر ، ثم يرفع بالجمع العرفي المحاوري من تقديم النص على الظاهر ونحوه ، بخلاف ما إذا كان من صفات الدلالة ، فلا يكون في موارد الجمع العرفي المحاوري تعارض أصلا ، إذ لا يرى أهل المحاورة فيها تعارضا لما ارتكز في أذهانهم من الجمع بينهما فيها.

ويرد عليه : أن ما يأتي من أحكام التعارض إنما يترتب على التعارض الثابت المستقر في الجملة إلا ما يزول بأدنى توجه والتفات ، والتعارض في موارد الجمع العرفي مما يزول بأدنى توجه والتفات فلا موضوع للتعارض فيها ، سواء كان من صفات المدلول أو الدلالة ، لأن موضوعه التحير الثابت المستقر ، لا المتزلزل الزائل ، سواء كان الزوال بالتخصص ، أو الورود ، أو الحكومة ، أو التخصيص ، أو الجمع العرفي أو غير ذلك.

الثالث : قد شاع استعمال التزاحم والتعارض ، واشتباه الحجة بغير الحجة في الفقه والاصول.

والأول عبارة عما إذا كان امتناع الجمع بين الحكمين من ناحية عدم قدرة المكلف فقط لا من ناحية الشارع ، فإنهما تامان ملاكا وتشريعا ، بل وحجة

١٦٥

عليهما في مقام الإثبات أيضا من كل جهة ، ويلزم ذلك كونه اتفاقيا ، لأن جعل ما لا يقدر عليه المكلف دائما قبيح ، وأن يكون الترجيح بحسب الملاك فقط لفرض تمامية الحجة عليهما في مقام الإثبات فلا منشأ للترجيح من هذه الجهة ، ولو لم يوجد الترجيح الملاكي يتعين التخيير الثبوتي لا محالة.

والثاني عبارة عن عدم إمكان تشريع الحكمين ثبوتا لكن مع اجتماع دليلهما لشرائط الحجية إثباتا.

ولا قصور له في مقام الإثبات ، بل هو منحصر في مقام الثبوت فقط ، إذ ليس في البين إلا حكم واحد ، وأما مقام الإثبات فالدليلان جامعان لشرائط الحجية. فيكون الترجيح في مقام الإثبات لا محالة ومع عدمه فالتخيير الإثباتي ، كما يأتي.

والأخير يشترك مع الثاني في أنه ليس فيه أيضا إلا حكم واحد في مقام الثبوت ، ويفترق عنه في مقام الإثبات ، فإن الدليل فيه واحد لا تعدد فيه بوجه ، فيكون خارجا تخصصا عن مورد التعارض والتزاحم ، ولكنه يتردد بين كونه حجة أو غير حجة ، كتردد رجال السند بين الثقة وغيره ، وتردد الحديث بين كونه للتقية وعدمها ، إلى غير ذلك من الجهات الموجبة لعدم الحجية ، والمرجع فيه التفحص في ما يتكفل لبيان هذه الامور ، وبعد الفحص واليأس عن الحجية يرجع إلى الاصول العملية.

الرابع : من المحاورات الشائعة النص ، والأظهر ، والظاهر. ولا ريب في تقدم الأول على الأخيرين ، والثاني على الأخير ، لصلاحية النص للتصرّف فيهما بخلاف العكس ، كما أن الأظهر يصلح للتصرف في الظاهر من دون عكس ، وهذا من المسلّمات المحاورية. كالتسالم على اعتبار الظواهر ، فلا يحتاج إلى إقامة دليل عليه من الخارج.

كما أن صحة الجمع العرفي كذلك ، وهو عبارة عن التصرف في الدليلين

١٦٦

أو أحدهما ، بحيث إذا عرضا على المتعارف من أهل اللسان يعترفون بأنه لا تعارض بينهما مع هذا الوجه من التصرّف ، بشرط أن تدل قرينة معتبرة على هذا الجمع والتصرّف ، وإلا يكون من الجمع التبرعي الافتراضي. الذي يكون لغوا وباطلا.

وقد شاع عند من قارب هذه الأعصار من الأعلام لفظا الورود ، والحكومة ، مع خلو كلمات القدماء عنهما.

والورود : عبارة عن خروج مورد أحد الدليلين عن مورد الدليل الآخر موضوعا بعناية الجعل ، فيكون مشتركا مع التخصص في الخروج الموضوعي إلا أن التخصص تكويني ـ كخروج الجاهل عن مورد أكرم العلماء ـ والورود يكون بعناية الجعل ـ شارعا كان الجاعل أو غيره ـ كخروج مورد الاصول العقلية عن مورد الأمارات المعتبرة الشرعية ، لأن اعتبار تلك الاصول إنما هو في مورد عدم وصول الحجة المعتبرة ، ومع الوصول لا يبقى مورد لها قهرا. واستعمال الورود قليل الابتلاء في الفقه ، كما لا يخفى على الفقهاء.

والحكومة ـ وهي التي يكثر الابتلاء بها في الفقه ـ عبارة عن أن يكون أحد الدليلين صالحا لتوسيع مورد الدليل الآخر ، أو تضييقه ، أو يصلح لهما معا.

والأول كقوله عليه‌السلام : «التراب أحد الطهورين» بالنسبة إلى قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» حيث يوسع الطهور إلى الطهارة الترابية أيضا.

والثاني كقوله عليه‌السلام : «لا شكّ لكثير الشكّ» بالنسبة إلى قوله عليه‌السلام : «إذا شككت فابن على الأكثر» حيث يضيقه بالنسبة إلى خصوص الشكوك المتعارفة دون الكثيرة.

والثالث كقوله عليه‌السلام : «العمري وابنه ثقتان فما أدّيا فعنّي يؤدّيان» فإنه يوسع العلم في قوله تعالى : وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إلى مورد الأمارات

١٦٧

المعتبرة أيضا ، كما يضيق موارد اعتبار الاصول مطلقا إلى غير موارد الأمارات المعتبرة.

وعن بعض مشايخنا قدس سرّهم أن الحكومة تارة واقعية ، كما إذا كان مورد الحاكم والمحكوم من الأحكام الواقعية.

واخرى ظاهرية ، وهي ما إذا كان موردهما من الأحكام الظاهرية.

ولكن لا ثمرة فقهية لهذا التقسيم أبدا ، لأن الحاكم مقدم على المحكوم مطلقا بأي نحو كان.

وبالجملة أن الحكومة بحسب مقام الثبوت تارة للتوسعة. واخرى للتضييق. وثالثة لهما معا ، وكل منها إما بالنسبة إلى الموضوع أو المحمول أو هما معا ، فتصير تسعة ، وكل من التسعة إما واقعية أو ظاهرية ، فتكون ثمانية عشر.

ثم إن التخصيص مما يكون شائعا في المحاورات مطلقا وهو إخراج بعض أفراد العام عن حكمه فقط بلا عناية أن يكون دليل الخاص ناظرا إلى التضييق في أفراد العام وإن كان يترتب عليه ذلك قهرا.

وفرّق بينه وبين الحكومة ..

تارة : بأن التخصيص من شئون الألفاظ ، والحكومة من شئون المعاني.

وفيه : أنه مجرد الدعوى ، مع أن اللفظ طريق إلى المعنى فيصير التخصيص من شئون المعنى بالآخرة.

واخرى : بأن إجمال الحاكم يسري إلى المحكوم مطلقا ـ متصلا كان أو غير متصل ـ بخلاف الخاص ، فإنه إن كان منفصلا وتردد بين الأقل والأكثر ، يؤخذ بالعام بالنسبة إلى الأكثر.

وفيه : أنه يمكن أن يقال في الحكومة بهذا التفصيل أيضا.

وثالثة : بأن التخصيص للتضييق دائما بخلاف الحكومة ، فإنها ربما توسع كما تقدم.

١٦٨

وفيه : أنه تستفاد التوسعة من التخصيص أيضا ، لأن قول : لا تكرم الفساق ، يضيق مفاد أكرم العلماء ويوسع الفساق بشموله لفساق العلماء أيضا.

وقد ذكر وجوه اخرى ضعيفة ، ولعل الفرق حيثية الشارحية التي تتقوّم بها الحكومة دون التخصص.

الخامس : سواء كانا قطعيين من حيث السند والدلالة ، أو ظنيين كذلك ، أو بالاختلاف ، لأن الخاص قرينة للتصرّف في العام ، وتقديم القرينة على ذيها من القطعيات في المحاورات ، ولا فرق بين كونهما في كلام واحد أو لا. مع أن فرض تعدد الكلام حقيقة في شريعة خاتم الأنبياء مما لا وجه له ، لأن ألسنة المعصومين عليهم‌السلام من بدء البعثة إلى بدء الغيبة الكبرى لسان واحد يحكي عن واحد ، ولا تلاحظ النسبة بينهما ، فيقدم الخاص مطلقا على العام مطلقا ، إذ ليست ملاحظة النسبة بين القرينة وذيها من دأب العقلاء في أنحاء المحاورات ، وكذا الكلام في المطلق والمقيد مع تحقق شرط التقييد ، أي إحراز وحدة المطلوب.

السادس : قد اشتهرت قضية : «أن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح».

واستدل عليها .. تارة : بالإجماع.

واخرى : بأن الطرح طرح للدلالة الأصلية ، وهي المطابقة ، وفي الجمع طرح للدلالة التضمنية أو الالتزامية ، وطرح الدلالة التبعية أولى من طرح الدلالة الأصلية.

وثالثة : بأن الأصل في الدليل الاعتماد عليه.

والكل باطل .. أما الأول : فلا رسم ولا إشارة إليه بين القدماء مع كون المسألة ابتلائية بين العلماء ، وعلى فرض الاعتبار فالمتيقن منه مثل المطلق والمقيد ، والعام والخاص ونحوهما من العرفيات المسلّمة في المحاورات ، وهي مما ينبغي أن يستدل بها ، لا أن يستدل عليها.

١٦٩

وأما الثاني : فلأن طرح الدلالة وبقاءها تدور مدار الأغراض الصحيحة المحاورية ، فمع وجود الغرض الصحيح في البين يؤخذ بالدلالة الالتزامية وتطرح المطابقية ـ كما في الكنايات ونحوها ـ ومع عدمه تنتفي جميع الدلالات.

وبالجملة فإن ذلك كله يدور مدار الأغراض المعتبرة ، ونفس هذه الجملة : طرح الدلالة التبعية أولى من طرح الدلالة الأصلية ، يحتاج في إثباتها إلى دليل وهو مفقود ، مع أن هذا الدليل عين المدعى بعد التأمل كما لا يخفى.

وأما الثالث : فهو بمعنى الغلبة في الجملة ، لا بأس به ، لكن في تمام مدلوله لا في بعضه ، فلا دليل على كلية هذه القضية بوجه.

نعم ، لو كان المراد بالجمع الجمع العرفي المقبول عند ذوي الأذهان القويمة والسلائق المستقيمة.

والمراد من الإمكان القياسي منه بالنظر إلى القرائن الخارجية والداخلية ، فهو حق لا ريب فيه ، فيكون المراد بالاولى حينئذ هو اللزوم ، كما في قوله تعالى : وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ .

وهذا النحو من الجمع شائع في الفقه ؛ بل في جميع العلوم مطلقا ، فتكون القضية بناء على هذا التفسير من القضايا التي يغني تصورها عن الاستدلال عليها.

وأما إذا كان المراد بالجمع مطلق الجمع ولو كان بعيدا عن الأذهان ولم يكن عليه دليل ولا برهان. وكان المراد بالإمكان الذاتي منه في مقابل الاستحالة الذاتية ، أو الإمكان الوقوعي في مقابل الامتناع العادي العرفي ، فلم يقل بصحة هذا النحو من الجمع أحد من العقلاء فضلا عن العلماء.

وموضوع هذا الجمع إنما هو صدور المتعارضين عن واحد ، أو من هو كالواحد ـ كالأئمة عليهم‌السلام ـ وأما لو كان صدورهما عن المتعدد فلا موضوع للجمع

١٧٠

حينئذ ، كما في رأي مجتهدين في موضوع واحد ، وإن كان الجمع حسنا وكان صحيحا في نفسه.

ثم إن القرائن الشاهدة على صحة الجمع لا تضبطها ضابطة كلية ، بل تختلف باختلاف الموارد ، كما أن ما يأتي من أحكام التعارض من الترجيح ، والتخيير أو التساقط ، لا تشمل موارد الجمع العرفي مطلقا ، لأن موضوعها التعارض المستقر لا البدوي الزائل بأدنى التأمل والنظر.

السابع : إن كان النص والأظهر معلومين ، فلا ريب في تقدم النص على الأظهر ، كتقدمهما على الظاهر. وإن لم يكن أحدهما معلوما فإن أمكن تعينه بقرينة خاصة تتبع لا محالة ، وإلا فتصل النوبة إلى القرائن العامة.

وقد يقال : بوجود القرينة العامة في بعض الموارد ..

منها : ما إذا تعارض العام الاصولي ـ كأكرم العلماء ـ والمطلق الشمولي ـ كلا تكرم الفاسق ـ فيدور الأمر بين تخصيص الأول ، أو تقييد الثاني.

فقيل : بأن العام الاصولي أظهر في العموم فلا بد من تقييد المطلق ، لأن التصرف في المطلق أكثر ، ولأن عموم العام وضعي ، وإطلاق المطلق بمقدمات الحكمة وهي لا تجري مع ما يصلح للقرينية والعام يصلح لها ، فلا موضوع للمقدمات مع وجوده.

ويرد الأول بأن ذلك من مجرد الدعوى ، كيف وقد اشتهر أنه ما من عام إلا وقد خص.

والثاني بأنه صحيح إن كان العموم بالوضع ، كلفظ (كل) وما يرادفه ، لا ما إذا كان ذلك بمقدمات الحكمة أيضا ، كالعام الاصولي.

ثم إنه لا فرق بين كون صدورهما متقارنا أو متلاحقا ، لأن تشريع الحكم وجعل القانون بجميع حدوده وقيوده ـ فصل الزمان بين بيانها ، أو لم يفصل ، طال أو قصر ـ كتشريع واحد وجعل فارد ولا سيما في أحكام الشريعة التي

١٧١

تكون جميع ألسنة تشريعها من المعصومين عليهم‌السلام كلسان واحد ، فإنها وإن تعددت صورة لكنها واحدة حقيقة.

فما عن صاحب الكفاية قدس‌سره من أن عدم البيان الذي هو من مقدمات الحكمة ، عدم البيان في مقام التخاطب لا مطلقا خلاف التحقق ، مع أنه خلاف مبناه في الفقه أيضا.

ثم إنه بعد عدم إحراز ترجيح التقييد على التخصيص ولا العكس ، لا بد في مورد الاجتماع من الرجوع إلى الأصول العملية ، لصيرورة الكلام مجملا حينئذ.

ومنها : ما إذا ورد بعد حضور وقت العمل بالعام شيء ، ودار الأمر بين كونه ناسخا أو كاشفا عن المخصص السابق ، أو مخصصا فعلا.

وعن الشيخ الأنصاري قدس‌سره استحالة الثاني ، فتكون الناسخية أظهر لا محالة ، لتوفر الدواعي على ضبط ما ورد ، فالعادة تقضي باستحالة التخصيص كشفا أو فعلا.

وفيه : أن الاهتمام بالضبط مسلّم ولكن وصول كل ما ضبطوه إلينا أول الدعوى ، وقد ذكر أن المحقق قدس‌سره ينقل عن اصول لا رسم لها عندنا ولا أثر راجع الجواهر بحث تطهير إناء الولوغ.

وقيل : بتقديم التخصيص على النسخ لكثرة الأول وقلة الثاني.

وفيه : أن ذلك لا يوجب الأظهرية ، كما هو معلوم.

وقيل : بالعكس لأن النسخ تصرّف في زمان العام والتخصيص تصرّف في أفراده ، وظهور العام في الأفراد أقوى من ظهوره في الأزمان ، لأن الأول بالوضع ، والثاني بمقدمات الحكمة.

وفيه : أن السريان الزماني في الأحكام ليس بمقدمات الحكمة ، بل بالأدلة القطعية. منها ما دل على أن : «حلال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال الى يوم القيامة ، وحرامه

١٧٢

حرام إلى يوم القيامة» فيكون التخصيص أظهر.

ويمكن أن يقال : إن بناء المحاورات العقلائية في الدوران بينهما على تقديم التخصيص ، وهذا البناء كالقرينة المعتبرة.

حكم المتعارضين

لا بد أن يذكر حكم التعارض في المبادئ لعدم اختصاصه بعلم دون آخر ، أو يذكر في ختام المطلق والمقيد ـ كما فعلناه ـ لكونه من الامور المحاورية المتعارفة ، ولكن مشايخنا قدس سرّهم تعرضوا له بعد الاصول العملية.

التعارض في الأدلة والأقوال من الامور الشائعة في جميع العلوم ، بل هو متحقق في العرفيات ، ولا يختص بأدلة الفقه ، ويمتنع عادة أن لا يكون للعقلاء في حكمه بناء مستمر ، وسيرة مستقرة. ولأجل ذلك لا بد أولا من تحقيق بناء العقلاء في مورد التعارض ، ثم الرجوع إلى الأدلة الشرعية ، فإن كان ردع عن بنائهم فهو المتبع لا محالة ، وإلا فيكفي عدم ثبوت الردع في اعتبار بنائهم في هذا الأمر العام البلوى ، كسائر السير العقلائية ، وإذا تأملنا في بنائهم نجدهم يحكمون بالفطرة في مورد التعارض بامور ثلاثة :

الأول : عدم الحجية الفعلية للمتعارضين بعد التعارض ، لأن حجيتهما معا لا تعقل ، وأحدهما بالخصوص ترجيح بلا مرجح ، وهذا مما تحكم به الفطرة في جميع موارد التعارض مطلقا ، وقد اتفق العلماء على ذلك أيضا.

وهذا الأصل من الاصول العقلائية المعتبرة لديهم ، ولا إشكال فيه بناء على الطريقية المحضة التي استقرت عليها السيرة في الحجج المعتبرة.

وكذا بناء على السببية الباطلة أو الصحيحة التي هي عبارة عن وجود المصلحة السلوكية المتداركة للواقع عند التخلّف ، لأن الظاهر عدم القائل بوجود مصلحتين كذلك في صورة التعارض ، أو السببية المحضة ، وعلى فرض وجود

١٧٣

القول بذلك يكون من التزاحم في المصلحة السلوكية ، لأنه يمكن ثبوتا جعل المصلحة كذلك في كل منهما.

وأما بناء على السببية الباطلة فلا يكون منه ، لأن مورد التزاحم ما كان ثبوته ممكنا ، والمفروض عدمه.

هذا ، ولكن الحجية الاقتضائية ثابتة لا محذور فيها ، إذ لا تعارض في مقام الاقتضاء وإنما هو في المرتبة الفعلية والتأثير.

إن قلت : كيف تسقط الحجية الفعلية مع كون المتعارضين حجة في نفي الثالث.

قلت : نفي الثالث مستند إلى التفحّص في الأدلة وعدم الظفر به ، لا إلى المتعارضين ، مع أن نفي الثالث مستند إلى الدلالة الالتزامية ، وهي تابعة للدلالة المطابقية ، لا لحجية المدلول المطابقي. أصل الدلالة شيء وحجيتها شيء آخر ، والساقط بالتعارض هو الثاني دون الأول ، ولا فرق في ما ذكر بين الإلزاميات وغيرها ، كالمندوبات ونحوها.

الثاني : أنهم بعد سقوط الحجية الفعلية يتأملون ويتفحصون في إيصال الحجية الاقتضائية إلى مرتبة الفعلية بإعمال ما يمكن أن يصير منشأ لذلك من المرجحات التي لا تضبطها ضابطة كلية ، بل تختلف باختلاف الموارد والأشخاص ، والظاهر أن هذا أيضا من الامور الفطرية التي لا تحتاج إلى دليل وبرهان.

الثالث : بعد استقرار التحيّر المطلق واليأس عن الظفر على المرجح من كل حيثية وجهة ، تبعث الفطرة إلى التخيير وتحكم به ، وهو تخيير عقلائي ، وقد يكون عقليا ، كما في موارد دوران الأمر بين المحذورين ، هذه امور كلها يغني الوجدان فيها عن إقامة البرهان ، وتجري في الجميع من البينات المتعارضة القائمة على الموضوعات ، وأقوال اللغويين ، والمفسرين وأهل الرجال ، وآراء

١٧٤

المجتهدين وغير ذلك مما يقع فيه التعارض والتنافي مما يكون موردا للابتلاء ، فإن ثبت من الشرع ما يكون رادعا يتبع ، وإلا فهو المحكم.

وما ورد في حكم المتعارضين أقسام :

منها : ما يدل على الأخذ بالأخير ، كما في مرسل حسين بن المختار عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «أرأيتك لو حدّثتك بحديث العام ثمّ جئتني من قابل فحدثتك بخلافه بأيّهما كنت تأخذ؟ قلت : كنت آخذ بالأخير. فقال عليه‌السلام : رحمك الله» أو الأحدث ، كما في خبر الكناني : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا أبا عمرو أرأيت لو حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثمّ جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ذلك بأيّهما كنت تأخذ؟ قلت : بأحدثهما وأدع الآخر. فقال عليه‌السلام : قد أصبت يا أبا عمرو ، أبى الله عزوجل لنا ولكم في دينه إلّا التقيّة». والمراد منها واحد.

وفيه : مضافا إلى مخالفتهما للمشهور ـ إذ لم أجد عاملا بهما في ما تفحصت ـ ومعارضتهما بغيرهما مما هو كثير ، أنهما ليسا في مقام بيان حكم المتعارضين ، بل في مقام التنبيه على أن الاختلاف إنما كان لأجل التقية أو نحوها من المصالح ، ولا ربط لهما ببيان حكم العلاج بين المتعارضين ، ويشهد لذلك ذيل خبر الكناني ، مع أنه لا وجه يتصور في الأخير إلا النسخ ، وبناء عليه لا ربط لهما بالمقام أيضا ، لعدم التعارض بين الناسخ والمنسوخ. فإنه لا وجه لاحتمال الأخذ بالأخير ولو كان مخالفا للكتاب وموافقا للعامة ، وكان الأول بالعكس ، ولا يرضى بذلك فقيه فكيف بالمعصوم عليه‌السلام. فلا وجه لعدّ هذه الأخبار من أخبار علاج المتعارضين.

ومنها : ما يدل على التوقف ، كموثق سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه ، أحدهما يأمره بأخذه ، والآخر ينهاه عنه ، كيف يصنع؟ قال عليه‌السلام : يرجئه حتّى يلقى من يخبره

١٧٥

فهو في سعة حتّى يلقاه» ، وعن الرضا عليه‌السلام : «وعليكم بالكفّ والتثبّت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا» ، وعن أبي جعفر عليه‌السلام : «وإن اشتبه عليكم الأمر فقفوا عنده وردّوه إلينا حتّى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا» ، وعن سماعة عن الصادق عليه‌السلام : «يرد علينا حديثان ، واحد يأمر بالأخذ! والآخر ينهانا عنه. قال عليه‌السلام : لا تعمل بواحد حتّى تلقى صاحبك. قلت : لا بدّ وأن نعمل بواحد منهما!! قال عليه‌السلام : خذ بما فيه خلاف العامة» ، وهناك روايات اخرى.

وفيه : أنه مضافا إلى مخالفتها للمشهور ، ومعارضتها بما يأتي من مقبولة ابن حنظلة ، أن المراد بالتوقف ترك العمل ابتداء ، وترك الاستعجال بالعمل ، أو الطرح من غير تأمل وتفحص في الأخبار والقرائن ، بل لا بد من التفحّص حتى الظفر بالمرجح ثم العمل بالراجح.

وليس المراد التوقف إلى الأبد وترك العمل مطلقا حتى لو ثبت الرجحان في أحدهما.

والمراد من الإرجاء حتى يلقى من يخبره ، أو حتى يأتي البيان من عندهم ، أو حتى نشرح لكم ... ، أو حتى تلقى صاحبك. هو العرض على ما صدر منهم عليهم‌السلام في هذا الباب ، ثم الحكم بمحصول ما يستفاد من المجموع ، فإذا ظفرنا بالمتعارضين وعرضناهما على المقبولة يصدق أنه توقفنا ، أي تركنا العمل بدوا ورجعنا إلى بيانهم عليهم‌السلام ، وما شرحوه لنا ، ولقينا صاحبنا ـ يعني ما ورد من صاحبنا ـ إلى غير ذلك من التعبيرات التي تقدمت في أحاديث التوقف.

فالتوقف عن العمل في المتعارضين اللذين يكونان مورد الابتلاء ملازم عرفا للتفحص عن القرائن الموجبة لصحة العمل بأحدهما ، والمقبولة تشمل على تلك القرائن ، فيكون لها نحو حكومة على غيرها من الأخبار التي تدل على التوقف الذي يكون عبارة اخرى عن التثبت والتفحص عما يوجب الرجحان والاطمئنان بأحدهما.

١٧٦

وما يقال : من أن التوقف ذكر في خبر سماعة قبل المرجح الذي هو المخالفة للعامة ، وفي المقبولة ذكر بعد تمام المرجحات ، فيتعارضان من هذه الجهة.

مدفوع : بأن ما ذكر في خبر سماعة هو التوقف عن العمل لأجل الفحص والظفر بالمرجح ، وما ذكر في المقبولة هو التوقف بعد الظفر به واليأس عن غيره ، فلا ربط لأحدهما بالآخر حتى يثبت التعارض.

والحاصل : أنه ليس في أخبار التوقف ما يخالف بناء العقلاء وسيرتهم في المتعارضين.

ومنها : ما دل على الأخذ بما وافق الاحتياط.

وفيه : مضافا إلى معارضته بالمقبولة وغيرها ، وإلى أنه قد يكون المورد مما لا يمكن فيه الاحتياط ، وإلى أنه خلاف المشهور ، وخلاف سهولة الشريعة ، أنه إرشاد إلى حسنه ولا يستفاد منه أكثر من ذلك ، فليس فيه أيضا ما يخالف بناء العقلاء وسيرتهم.

ومنها : ما يدل على التخيير ـ وهي عدة روايات يأتي بعضها ـ ففي مرسل الاحتجاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترى القائم فترد عليه» ، وفي مرسله الآخر عن الرضا عليه‌السلام : «قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ، فلا نعلم أيّهما الحقّ ، فقال عليه‌السلام : إذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت».

وفيه : أن التخيير بحسب المرتكزات إنما هو في مورد التحير المطلق ، وهو منتف مع المرجح ، فتختص بصورة فقد المرجح ، فلا تشمل مورد تحقق الترجيح ولهذه القرينة الارتكازية المحفوفة بها ، فلا إطلاق لها حتى يعارض بها المقبولة ونحوها مما يدل على الترجيح. فلا وجه لحمل ما يدل على الترجيح على الندب.

١٧٧

ومنها : المقبولة : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعه في دين أو ميراث فتحاكما إلى السّلطان أو إلى القضاة ، أيحلّ ذلك؟ قال عليه‌السلام : من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت وما يحكم له فإنما يأخذه سحتا وإن كان حقه ثابتا لأنه أخذ بحكم الطاغوت وإنّما أمر الله أن يكفر به. قال الله تعالى : يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ. قلت : فكيف يصنعان؟ قال عليه‌السلام : ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما ، فإنّي جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما بحكم الله استخفّ وعلينا قد ردّ. والراد علينا الراد على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله. قلت : فإن كان كلّ واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما فاختلفا في ما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ فقال عليه‌السلام : الحكم ما حكم به أعدلهما ، وأفقههما ، وأصدقهما في الحديث ، وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر. فقلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا ، لا يفضل واحد منهما على صاحبه؟ فقال عليه‌السلام : ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الّذي حكمنا به ، المجمع عليه عند أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشّاذّ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه مما لا ريب فيه ـ إلى أن قال ـ قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثّقات عنكم؟ قال عليه‌السلام : ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسّنّة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسّنّة ووافق العامة. قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان

١٧٨

الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسّنّة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم بأيّ الخبرين يؤخذ؟ فقال عليه‌السلام : ما خالف العامّة ففيه الرشاد. فقلت : جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا؟ فقال عليه‌السلام : ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر. قلت : فإن وافق حكّامهم الخبران جميعا؟ قال عليه‌السلام : إذا كان ذلك فأرجئه حتّى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات».

والظاهر أنه لا إشكال في هذه المقبولة من حيث السند ، فإنه قد يحصل الوثوق بصدورها من قرائن ، كوقوع صفوان بن يحيى في الطريق ، واعتناء المشايخ الأجلاء ـ من المحدثين والفقهاء في كل طبقة ـ بها ضبطا وعملا وبحثا ، وقول الصادق عليه‌السلام في ما ورد في الأوقات عن عمر بن حنظلة : «إنّه لا يكذب علينا» إلى غير ذلك مما يمكن استفادة توثيقه ، كما لا يخفى على من راجع كتب الرجال ، فلا إشكال فيها من هذه الجهة.

نعم ، قد أشكل عليها بوجوه :

منها : أنها في مورد الحكومة فلا تشمل غيرها.

وفيه : أنها ظاهرة ؛ بل ناصّة في أن المدار على منشأ الحكم ودليله ، لا أن يكون لنفس الحكم من حيث هو موضوعية خاصة ، ولا فرق حينئذ بين كون الدليل دليلا للحكم أو للفتوى ، فتشمل جميع الأحاديث المتعارضة الصالحة للدليلية مطلقا.

ومنها : معارضتها بمرفوعة زرارة قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام فقلت له : جعلت فداك ، يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان ، فبأيهما آخذ؟ فقال عليه‌السلام : يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر. فقلت : يا سيدي إنهما معا مشهوران مأثوران عنكم؟ فقال عليه‌السلام : خذ بما يقول أعدلهما

١٧٩

عندك وأوثقهما في نفسك. فقلت : إنهما معا عدلان مرضيان موثقان؟ فقال عليه‌السلام : انظر ما وافق منهما العامة فاتركه ، وخذ بما خالف ، فإن الحق في ما خالفهم. قلت : ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين ، فكيف أصنع؟ قال عليه‌السلام : إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر. قلت : إنهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له ، فكيف أصنع؟ فقال عليه‌السلام : إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به ودع الآخر» ، وفي هذه المرفوعة ذكرت الشهرة أول المرجحات بخلاف المقبولة ، حيث ذكرت فيها بعد صفات الراوي ، مع أن سيرة العلماء على تقديم الترجيح بالشهرة على سائر المرجحات مطلقا.

وفيه : أن أول المرجحات الخبرية الشهرة ، نصا وفتوى ، وفي المقبولة ذكرت في أول المرجحات الخبرية أيضا ، وإنما ذكرت الصفات للحاكم من حيث أنه حاكم لذكر منصب الحكومة في صدر المقبولة ، لا للخبر المتعارض من حيث أنه خبر متعارض ، بل ظاهر قوله عليه‌السلام : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما ...» ذلك ، كما أن ظاهر قوله عليه‌السلام : «ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه ..» أن الشهرة أول المرجحات الخبرية ، فلا تنافي بين المقبولة والمرفوعة وما استقر عليه عمل المشهور من تقديم الشهرة على جميع المرجحات.

وقد أرسل صاحب الجواهر في كتاب الكفارات إرسال المسلّمات أن الشهرة أقوى المرجحات ، ولا يخفى أن المرفوعة غير مسبوقة بذكر الحكومة ، فلا بد أن تذكر الشهرة أولا بخلاف المقبولة المسبوقة بها ، فإنه لا بد من الإشارة إجمالا إلى مرجحات الحاكم ثم بيان مرجحات مدرك حكمه.

ومنها : اختصاص المقبولة بزمان الحضور ، لما ذكر في ذيلها : «فأرجئه حتى تلقى إمامك».

وفيه : أن التعبيرات مختلفة ، ففي المقبولة : «حتّى تلقى إمامك» ، وفي موثّق

١٨٠