تهذيب الأصول - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

تهذيب الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

وعن الكفاية تقديم أصالة العموم ، لأنها جارية في تعيين المراد ، وأصالة التطابق بين الضمير والمرجع جارية في بيان كيفية المراد مع القطع بأصل المراد ، والمتيقن من بناء العقلاء في هذه الاصول هو الأول دون الأخير.

ويرد عليه .. أولا : سقوط هذا البحث رأسا لابتنائه على أن العام المخصص مجاز ، وأما بناء على ما مرّ من التحقيق من عدم كونه مجازا بعد التخصيص وأنه مستعمل في العموم على أي تقدير ، فلا ريب في جريان أصالة العموم حينئذ ، وعدم محذور فيه بالنسبة إلى الإرادة الاستعمالية ، لا الإرادة الجدية الواقعية ، ولا دليل على المطابقة بين الإرادتين من كل جهة ، بل مقتضى الأصل عدم اعتبارها ، كما لا ريب في أن الضمير يرجع إلى تمام العام بالإرادة الاستعمالية أيضا لا الجدية الواقعية ، فيتحقق العمل بالأصلين بلا مخالفة بينهما في البين بعد معلومية المراد الواقعي بالقرينة الخارجية ، فيكون المقام مثل سائر الموارد التي يستكشف فيها المراد بتعدد الدال والمدلول.

إن قيل : بعد معلومية المراد الواقعي الجدي من الخارج فلا وجه لإرجاع الضمير إلى تمام العام.

يقال : هذا نحو من التفنن في الكلام وهو من المحسنات ، كما لا يخفى ويمكن أن تترتب عليه أغراض صحيحة اخرى أيضا.

وثانيا : دعوى أن المتيقن من بناء العقلاء إجراء هذه الاصول في تعيين المراد ، لا في كيفية ما اريد أول الدعوى ، لجريان بنائهم على الأخير أيضا.

والحاصل : أنه يعمل بكلا الأصلين في الإرادة الاستعمالية ، ولا تعارض في البين مع وضوح المراد الواقعي في الإرادة الجدية ، وعلى أي تقدير فلا ثمرة عملية لهذا البحث بعد تعيين المراد الواقعي بالقرينة ، ومع عدمها فالمرجع الاصول العملية بعد سقوط العام عن الحجية.

١٤١

تخصيص العام بالمفهوم

لا ريب في أن مناط التخصيص إنما هو لأجل تقديم القرينة على ذي القرينة ، والأظهر على الظاهر ، وهذا مما اتفق عليه أهل اللسان في جميع الملل والأزمان ، ومهما تحقق هذا المناط يصح التقديم بلا كلام ، سواء كان بين المنطوقين أم المفهومين ، أم بين المنطوق والمفهوم ، وسواء كان المفهوم موافقا أم مخالفا. ولا إشكال في تحققه في مفهوم الموافق الذي هو عبارة عن موافقة المفهوم مع منطوقه في الإيجاب والسلب ، لقوة المفهوم حينئذ ، لكونه من الحكم القطعي ، سواء كان بينه وبين العام الذي يخصص به عموم مطلق ، أو من وجه.

وكذا في المفهوم المخالف الذي هو عبارة من مخالفة المفهوم مع منطوقه فيهما إن ثبت كونه أقوى من العام ، مثل ما إذا كانت دلالة المفهوم وضعية ودلالة العام بمقدمات الحكمة ، أو كانت الأقوائية مستندة إلى جهات اخرى ـ داخلية كانت أو خارجية ـ ولا تضبطها ضابطة كلية ، ويمكن أن يجعل النزاع في هذا البحث لفظيا ، فمن أثبت تخصيص العام بالمفهوم يثبته في ما إذا ثبتت الأقوائية ، ومن ينفيه إنما ينفيه في ما لم تثبت ، فلا ثمرة عملية في هذا النزاع بعد ثبوت كلية الكبرى وإمكان إرجاع النزاع إلى الصغرى.

الاستثناء المتعقب لجمل متعددة

إذا تعقب الاستثناء جملا متعددة ، كقوله تعالى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ... .

١٤٢

فالمتبع هو القرائن المعتبرة داخلية كانت أو خارجية ، فقد تدل على الرجوع إلى الكل ، وقد تدل على الرجوع إلى البعض ، وقد يظهر منها الإجمال ، ومع عدمها فالمتيقن الرجوع إلى الجملة الأخيرة لو لم يكن الكلام مجملا ، وليس في البين قاعدة كلية يحكم بها بالرجوع إلى الكل أو البعض أو الإجمال.

وأما ما قيل : من أنه مع وحدة الفعل يرجع إلى الجميع ، كأكرم الفقهاء والسادات والزهاد إلا الفساق ، ومع تكرار الفعل الواحد أو تعدده فيرجع إلى الأخيرة ، فلا ريب في أنه من القرائن في الجملة. ولكن لا كلية فيه بحيث تكون قاعدة كلية تنفع في جميع موارد الشك.

تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد

استقرت السيرة من عصر الأئمّة عليه‌السلام على تخصيص عمومات الكتاب وتقييد إطلاقاته بما اعتبر من خبر الواحد ، وذلك لما ارتكز في الأذهان من تقديم القرينة على ذيها ، والأظهر على الظاهر. والخبر المعتبر ـ الذي يصلح للتقييد والتخصيص ـ قرينة على بيان المراد من عمومات الكتاب وإطلاقاته ، وأظهر بالنسبة إليهما فلا بد من تقديمه عليهما ، ولو لا ذلك لانسد باب الاجتهاد ولزم طرح جملة كثيرة من الأخبار.

وما استشكل في المقام ليس إلا شبهة في مقابل البديهة. مثل : أنه لو جاز التخصيص والتقييد لجاز النسخ أيضا ، ولا ريب في بطلانه ، ولأن الخبر ظني الصدور ، والكتاب قطعي الصدور ، ولا وجه لتقديم الظني على القطعي ، وللأخبار المستفيضة الواردة في أن ما خالف قول ربنا لم نقله أو زخرف ، أو يضرب على الجدار.

والكل باطل .. أما الأول : فلأنه لا ملازمة بينهما لا شرعا ولا عقلا ولا عرفا مع الفرق الواضح بين التخصيص والنسخ ، فإن الأول خروج بعض الأفراد عن

١٤٣

حكم العام مع بقاء أصل وجوده وظهوره وحجيته ، والثاني إزالة أصل وجوده وتحققه بجميع مراتبه.

وأما الثاني : فلأنه من تقديم الأظهر في الدلالة على الظاهر فيها ، لا أن يكون من تقديم الظني على القطعي من جهة الصدور ، ونسبة الأخبار إلى الكتاب نسبة الشرح والتفسير والبيان.

وأما الأخير : فلأن موردها المخالفة والمباينة المطلقة من كل جهة ، والتخصيص والتقييد ليس منها قطعا.

الدوران بين التخصيص والنسخ

تاريخ صدور كل من العام والخاص ..

تارة يكون مجهولا.

واخرى : يكون زمان صدورهما معلوما تفصيلا ، وأن العام مقدم على الخاص.

وثالثة : بالعكس.

رابعة : يعلم بأنهما صدرا متقارنين.

وخامسة : يكون زمان صدور العام معلوما تفصيلا والخاص مجهولا.

وسادسة : بالعكس.

ومقتضى شيوع التخصيص وغلبته في المحاورات ـ حتى قيل ما من عام إلا وقد خص ـ وندرة النسخ جدا ، والاهتمام بإثباته في الكتاب والسنة أكثر من الاهتمام لإثبات التخصيص ، هو الحكم بالتخصيص في جميع تلك الأقسام ، ويمكن أن يجعل هذا أصلا محاوريا ، وليس في البين قاعدة معتبرة كلية عند دوران الأمر بين النسخ والتخصيص تعين أحدهما إلا هذا ، فيقال الأصل عدم النسخ مطلقا إلا إذا ثبت بدليل قطعي لا سيما في أحكام الشريعة الأبدية ، وهذا

١٤٤

الأصل أقوى من أصالة عدم التخصيص ، لما مرّ من كثرة التخصيص ، فأصالة عدم النسخ بمنزلة الأصل الموضوعي ، وأصالة عدم التخصيص كالأصل الحكمي في تقدم الأول على الثاني.

وما قيل : من أنه إذا تأخر زمان صدور الخاص عن العام يتعين النسخ ، لأن الخاص بيان للعام ، ومع التأخر يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو قبيح.

مدفوع .. أولا : بأن تأخير البيان القبيح إنما هو في ما إذا علم أن المقتضي له موجود من كل جهة والمانع مفقود كذلك ، وأما مع عدم العلم به فلا محذور فيه ، بل قد يجب ذلك ، فكيف بما إذا علم بالعدم؟! وقد جرت سيرة العقلاء أنهم يجعلون القوانين العامة ثم يذكرون مخصصاتها في طول شهور بل أعوام ، هذا حال القوانين الوضعية الزائلة فكيف بالقوانين الأبدية التي يختلف الحكم فيها باختلاف الموضوعات والأحوال مع أن موجبات تأخير البيان كثيرة جدا ، كقصور الظروف ، والأفهام والتقية ونحو ذلك.

وثانيا : أن الناسخ بيان أيضا للمنسوخ كالخاص ، غاية الأمر أن الخاص بيان لأفراد العام ، والناسخ بيان لأزمانه ، فلا فرق فيهما من هذه الجهة ، فالنسخ تصرّف في المنسوخ زمانا ، والتخصيص تصرّف في العام فردا ، مع اشتراكهما في جامع البيانية.

وأما ما قيل : من أنه إذا ورد العام أو الخاص قبل حضور وقت العمل بالآخر ، يتعين التخصيص ولا يصح النسخ حينئذ ، لعدم صحة النسخ قبل حضور وقت العمل بالمنسوخ.

فهو فاسد : لأن الغالب في النسخ وإن كان بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ ولكن ليس ذلك من مقوماته الذاتية بحيث يقبح بدونه ، بل المناط كله وجود مصلحة فيه ، سواء كان قبل حضور وقت العمل بالمنسوخ ، أو في أثنائه ، أو بعده.

١٤٥

ثم إن المعروف في الثمرة بين النسخ والتخصيص ، أن أثر التخصيص خروج الخاص عن حكم العام رأسا ، والنسخ ارتفاع الحكم عن المنسوخ من حين ظهور النسخ. وإثبات الكلية لهذه الثمرة يحتاج إلى الدليل ، وهو مفقود.

ومما لا مناسبة له بالاصول ما تعرض له القوم في المقام وهو مسألتا النسخ والبداء ، ولا بد أن ينقح الكلام فيهما في غير المقام ، وإنما تعرضنا لهما تبعا لهم.

النسخ

مما تعارف في جميع القوانين النسخ ـ وقد اصطلح عليه في ما قارب هذه الأعصار ب (إلغاء القانون) ، ولم تخرج القوانين الإلهية عما تعارف بين البشر من الكيفيات والخصوصيات ـ من العام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والمجمل والمبين ، والناسخ والمنسوخ إلى غير ذلك ـ ولو قيل بأن هذه الامور من لوازم جعل القانون لم يكن به بأس ـ. فلا ريب في وقوعه ، وقد دلّت الأدلة الثلاثة من الكتاب والسنة والإجماع عليه في الجملة أيضا ، وإنما الكلام في حقيقته وعمدة الوجوه المحتملة فيه خمسة :

الأول : ظهور خلل في الحكم المنسوخ ، وعلم مستأنف ببعض خصوصياته مسبوقا بالجهل ، بحيث لو علم به ابتداء لم ينشأ الحكم المنسوخ البتة.

الثاني : إبداء القانون بصورة الدّوام لمصلحة في نفس الأمر ، أو من دون مصلحة في المجعول والمتعلق ، بل لمحض المصلحة في الإنشاء الصوري فقط ، ثم تبدل المصلحة الظاهرية بمصلحة اخرى واقعية في المتعلق تقتضي نسخ ما أنشأ أولا ، نظير التكاليف الصورية الامتحانية.

الثالث : كون المصلحة الموجودة في المتعلق محدودة بحدّ خاص في

١٤٦

الواقع ولكن انشأ في صورة الدوام لمصلحة في ذلك ، فليس في الحقيقة نسخ بالنسبة إلى شيء وإنما أظهر ثانيا أن الحكم الأول كان محدودا بحد معين فانقضى حدّه ، ثم إنشاء حكم آخر لمصلحة اخرى يقتضيها الوقت ، وتبدل المصالح والمفاسد بحسب الظروف والمقتضيات والحالات مما يشهد بصحته الوجدان والبرهان.

الرابع : كون الحكم ذا مصلحة كاملة من جميع الجهات ، ومقتضية للدوام أيضا كذلك ، ثم تبدلت تلك المصلحة باخرى مساوية أو أقوى اقتضت رفع الحكم الأول ونسخه ، فيكون النسخ تخصيصا زمانيا ، والتخصيص ـ المصطلح عليه ـ تخصيصا فرديا.

الخامس : كون الحكم في الواقع هو الحكم الناسخ الذي سيثبت بعد ذلك ، وإنما انشأ المنسوخ لمصلحة مقدمية لبيان الحكم الناسخ في ظرفه.

وكل هذه الوجوه صحيحة في النسخ في القوانين المجعولة ، وفي نسخ الله تعالى لأحكامه المتعالية في شرائعه المقدسة إلا الوجه الأول ، فإنه مستحيل بالنسبة إليه تعالى ، وإن كان هو الغالب في القوانين المجعولة.

ولكن لا محذور في صحة استناد البقية إلى الله تعالى من عقل أو نقل إلا شبهة واهية ، وهي : أنه إن علم الله تعالى بأنه يرفع المنسوخ فلا وجه لإظهاره في صورة الدوام ، وإن لم يعلم فهو مستلزم لجهله تعالى وهو محال ، مع أنه إن كانت في المنسوخ مصلحة فلا وجه للنسخ ، وإن لم تكن فيه مصلحة فلا وجه لجعله حتى ينسخ.

ولكنه مردود : بأنه تعالى يعلم بالنسخ بلا إشكال ، إلا أنه اقتضت المصلحة لإظهاره بصورة الدوام ولا محذور فيه ، ومنه يعلم أنه كانت في المنسوخ مصلحة موقتة تختلف باختلاف المقتضيات والجهات.

وبعبارة اخرى : دليل الناسخ كاشف عن أن المنسوخ كان موقتا في الواقع

١٤٧

وإنما ذكر بصورة الدوام لمصلحة ، بلا فرق بينه وبين سائر الموقتات ، إلا أن التوقيت في النسخ كان بتعدد الدال والمدلول ، وفي غيره من الموقتات يمكن أن يتكفل دليل واحد لذلك ، وإن شئت فقل : إن التوقيت في سائر الموقتات بجعل واحد ، وفي النسخ بتعدد الجعل.

ثم إنه لا يخفى أن النسخ في الشرائع الإلهية بالنسبة إلى اصول الدين قليل جدا ، بل لا وجه له ، وكذا بالنسبة إلى الفطريات العقلية التي كشف عنها الشارع ، وكذا بالنسبة إلى مهمات فروع الدين ـ من الصلاة ، والصوم ، والزكاة ونحوها ـ وإنما التغيير في جزئيات قليلة تقتضيها الظروف والأزمان ، فتبدل الأحكام والشرائع المتعددة كتبدل حالات المصلي في الشريعة الختمية من الصحة والمرض ، وفقد بعض الشرائط ووجدانه. فما قيل : إن الأصل في كل شريعة أن ينسخ ما قبلها.

ساقط لا أساس له أصلا. وقد فصّلنا القول فيه في التفسير فراجع.

البداء

وهو وجداني لكل فاعل مختار ، وقد دل الكتاب الكريم ، والسنّة المستفيضة على ثبوته بالنسبة إلى الله تعالى أيضا. قال تعالى : يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ، وفي الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «ما عبد الله بمثل البداء ، وما بعث الله نبيّا إلّا بالإقرار بالبداء».

وحقيقته تجدد الاختيار للفاعل المختار لمصلحة ، وليس متقوّما بالجهل والندامة وإن تحققا بالنسبة إلى بداء غيره عزوجل ، كما أن السميع والبصير بمعنى العلم بالمسموعات والمبصرات وليسا متقوّمين بالجارحة الخاصة وإن تقوّما بها في السمع والبصر الحيوانيين ، ولا ريب في صحة إطلاقهما عليه عزوجل مع امتناع الجارحة بالنسبة إليه تعالى ، وكذا لا ريب في صحة الإطلاق

١٤٨

على ما نرى ونسمع في النوم مع تعطيل السمع والبصر فيه عن العمل.

ولا إشكال في أن البداء من صفات الفعل ، كالإرادة ، والمشيئة ، والقضاء والقدر. فهو تبديل لما وقع من القضاء ، لا أن يكون في مرتبة الذات ولا العلم حتى يستلزم التغيير في الذات وهو محال. واشكل على البداء لله تعالى بوجوه :

الأول : أن البداء يستلزم الباطل ، لأنه تعالى إن علم بأنه سيبدو له ومع ذلك قضى بشيء فهو لغو ، وهو قبيح ، والقبيح محال بالنسبة إليه تعالى. وإن لم يعلم فهو جهل ، وهو أيضا محال عليه عزوجل.

ويرد عليه : أنه تعالى عالم بأنه سيبدو له ومع ذلك قضى بالقضاء الأول ثم نقضه وقضى بالقضاء الثاني ، لمصالح كثيرة في كل منهما ، منها ترغيب الناس إلى الدعاء والأعمال الصالحة والتحذير عن الأعمال السيئة التي لها آثار في تنقيص الأعمار وحبط ثواب الخيرات وقطع الأرزاق وغير ذلك ، ومنها أنه تعالى كل يوم ـ بل كل آن ـ في شأن ، ولم يفرغ من الأمر ، وليست يده مغلولة كما قال به اليهود.

الثاني : أنه إن كانت مصلحة القضاء الأول محدودة بحدّ خاص به فلا وجه لتغييره ، وإلا فلا وجه للقضاء الأول بذلك الحدّ.

ويرد عليه .. أولا : أنها كانت بالنسبة إليه تعالى لا اقتضاء فيصح معه القضاء الأول.

وثانيا : أنها كانت محدودة بذلك الحد الخاص لو لم تعرض مصلحة أقوى ، وقد تحققت فتبدل القضاء لا محالة.

الثالث : بأنه مستلزم لتكذيب الرسل وعدم اعتماد الناس على إخبارهم بالمغيبات.

وفيه : بعد النقض بالنسخ في الأحكام ، أن الإخبار بالمغيبات مع تلقين الأنبياء لاممهم صحة البداء بالنسبة إلى الله تعالى ، لا يستلزم التكذيب لفرض

١٤٩

التفات الناس إلى البداء. أما قبل إخبار الأنبياء بالمغيبات أو بعده فلا مورد للتكذيب أصلا ، فيكون الإخبار بالمغيبات على نحو الاقتضاء لو لا البداء ، كإخبار الطبيب بشفاء المريض مثلا لو ساعدت المقادير.

ثم إنه لا ريب في عدم صحة تعلّق البداء بالممتنعات ، لاشتراط كون مورده مقدورا مقضيا وهما من أسباب الفعل الخارجي ، ولا خارجية بالنسبة إلى الممتنعات ، ولا قضاء ولا تقدير بالنسبة إليها ، وكذا لا بداء بالنسبة إلى كليات العوام ـ كانقلاب كرة الشمس مثلا ـ وإنما مورده ما يتعلّق بالناس من حيث دخل عملهم فيه خيرا كان أو شرا. وبالجملة مقتضى الأصل عدمه إلا في ما دلت عليه النصوص ، فيكون مورد البداء خصوص بعض الممكنات في الجملة.

هذا ، وقد اجيب عن شبهة البداء بوجوه ..

منها : ما تقدم من أنه تجدد الاختيار ، ولا إشكال فيه ثبوتا ولا إثباتا.

ومنها : أنه بمعناه الحقيقي بالنسبة إلى خصوص هذا العالم لا جميع العوالم ، كما في قوله تعالى : وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ وقوله تعالى : حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ. مع أن علمه الأزلي يتحقق بالنسبة إلى جميع الأشياء أزلا وأبدا ، فقول : بدا لله ، أي ظهر له في هذا العالم ما لم يكن ظاهرا ، ولا ينافي ذلك ظهوره له في سائر العوالم والمراتب. وفي البداء أبحاث اخرى ليس هنا محل ذكرها.

هذا ما يتعلّق بالبداء إجمالا. وأما ما يتعلّق بلوحي المحو والإثبات الذين هما محور البداء ، فلا يعلم حقيقتهما وخصوصياتهما وكيفية الثبت والمحو وغير ذلك مما ينوط بهما إلّا خالقهما أو من أفاض عليه الخالق ، والتفصيل يطلب من محله.

١٥٠

القسم الخامس

المطلق والمقيد ـ والمجمل والمبين

المطلق والمقيد

وهما من الأمور الشائعة في المحاورات في جميع الألسنة ، ولا تختص بلغة دون أخرى ، ويتقوم بهما الإفادة والاستفادة ، وبحث الأصولي فيهما من هذه الجهة لا لأمر يختص به دون غيره ، فكل ما هو مطلق عند متعارف الناس مطلق لديه أيضا ، وكذا المقيد وليس يحد اصطلاح خاص فيه. ومعناه عند الكل : ما لم يحدّ بحدّ ولم يقيّد بقيد ، وبالتعبير الإيجابي ما هو الشائع في الجنس ، كالماء. أو الفرد ، كرجل. وأما البدلية والشمولية فتستفاد من القرائن ، خارجية كانت أو داخلية.

ولا فرق بين العام الشمولي والبدلي وبين المطلق الشمولي والبدلي ثبوتا ، وإنما الفرق بينهما بحسب مقام الإثبات ، إذ لكل منهما لفظ يختص به.

ثم إن الإطلاق والتقييد من شئون المعاني أولا وبالذات ويتصف اللفظ بهما بالعرض ، لمكان الاتحاد بين اللفظ والمعنى فيتصف كل منهما بصفات الآخر في الجملة ، ولا ثمرة عملية بل ولا علمية في جعلهما من صفات المعنى أولا وبالذات أو بالعكس ، لظهور كل منهما في المعنى وفي اللفظ أيضا ، كظهور حسن المعنى وقبحه في اللفظ كذلك.

ولا ريب في كون الإطلاق والتقييد من الأمور الإضافية ، فربّ مقيد يكون

١٥١

مطلقا من جهة وربّ مطلق يكون مقيدا من جهات ، فهما من الأمور الإضافية وكذا العام والخاص. والمطلق الحقيقي هو اللابشرط المقسمي المهمل عن كل قيد حتى عن عنوان اللابشرطية.

وذلك لأن كل شيء إما أن يلحظ بذاته ، ولا يتصف في هذا اللحاظ بالإطلاق والتقييد ، لفرض قصر اللحاظ على الذات من حيث هي وهما ليسا في مرتبة الذات قطعا. أو يلحظ بالنسبة إلى ما هو خارج عن الذات ، وحينئذ تتحقق الاعتبارات الثلاثة المعروفة.

لأنه إما أن يلحظ مقيدا ومشروطا به ويعبّر عنه (بشرط شيء) ، أو مشروطا بعدمه وهو (بشرط لا) ، أو لا مقيدا به ولا بعدمه وهو (اللابشرط) ، ولا ريب في أن المقسم لهذه الأقسام لا بد أن يكون مهملا عن كل جهة ، كما هو الشأن في كل مقسم بالنسبة إلى أقسامه ، وهنا لا بد أن يكون مجردا حتى عن عنوان اللابشرطية أيضا حتى يصح أن يكون مقسما للأقسام التي منها اللابشرط.

وقد وقع البحث في أن المطلق هل هو اللابشرط المقسمي ، أو القسمي؟ وعلى الثاني لا يحتاج في إثبات الإطلاق إلى مقدمات الحكمة ، لفرض لحاظ الإرسال فيه بخلاف الأول فإنه يحتاج إليها ، لفرض إهماله حتى عند قيد الإرسال.

والحق هو الأول لأنه المطلق الحقيقي المجرد عن جميع القيود حتى لحاظ الإطلاق والإرسال ، ويمكن إرجاع قول من قال بالثاني إلى الأول كما لا يخفى على من راجع وتأمل.

وأما احتمال أن يكون المطلق هو الذات من حيث هي فهو خطأ. أما أولا : فلأن لحاظه من حيث هي نحو قيد يخرج به عن الإطلاق الصرف. وأما ثانيا : فلأن المطلق في المحاورات ما لوحظ فيه الذات مهملا بالنسبة إلى عوارض

١٥٢

الذات لا بالنسبة إلى نفس الذات من حيث هي. وبالجملة : إن المطلق هو اللابشرط المقسمي المهمل عن كل قيد حتى عن الإطلاق فيحتاج في ثبوته له إلى مقدمات الحكمة ، والعرف والعقل يشهد لذلك أيضا.

الفاظ المطلق

منها : اسم الجنس ، وهو اللفظ الموضوع للذات المهمل عن كل قيد حتى قيد الإطلاق ، سواء كان جوهرا ، أم عرضا ، أم عرضيا ، أم اعتباريا ـ كالماء ، والأبيض ، والبياض ، والزوجية.

ومنها : علم الجنس ، وليس لكل جنس علم ، بل هو مقصور على السماع ، ولذا قيل :

ووضعوا لبعض الأجناس علم

كعلم الأشخاص لفظا وهو عم

ولا فرق بينه وبين اسم الجنس إلا من جهتين :

الاولى : أن اسم الجنس نكرة بخلاف علم الجنس ، فإنه معرّف لفظي تجري عليه أحكام المعرفة في الجملة ـ من صحة الابتداء به ونحو ذلك ـ ولكن تعريفه اللفظي لا يسري إلى المعنى ، كما أن التأنيث اللفظي لا يسري إلى الذات ، ولكن هذا القسم نادر في غالب الاستعمالات المحاورية خصوصا في الفقه.

الثانية : أن اسم الجنس وضع لذات المعنى على نحو ما مر ، بخلاف علم الجنس ، فإنه وضع لذات المعنى في حال تميزه عن غيره من دون أن يكون اللحاظ قيدا حتى يكون مقيدا ويمتنع صدقه على الخارجيات ، بل بنحو القضية الحينية لا الشرطية ، وهذه العناية أو جبت كونه معرفا لفظيا ، وهذا الفرق يرجع إلى الأول في الواقع.

ومنها : النكرة ، وهو المفرد المبهم في الجملة ، إلّا أن التردد والإبهام فيه

١٥٣

يتصور على أقسام ثلاثة :

الأول : التردد ثبوتا وإثباتا.

وفيه : أنه خلاف المعهود في النكرات عند المحاورات ، وليس له واقع إلا الفرض ، إذ لا تحقق للمبهم كذلك إلا في الفرض والتقدير ، لا بحسب التحقق حتى في الذهن والتصوير ، لأن كلما كان له حظ من التحقق كان له نحو من الوجود.

الثاني : أنه المتردد ظاهرا لا في الواقع ، بل هو متعين واقعا.

وفيه : أن الظاهر من موارد استعمال النكرة في المحاورات العرفية إخبارا وإنشاء غير ذلك ، كما لا يخفى.

الثالث : أنها الطبيعة من حيث الوحدة البدلية السارية لكلما يصلح أن يكون فردا ، والظاهر أن هذا هو المتبادر منها في الاستعمالات.

فالمطلق على أي تقدير الطبيعة المهملة ، فإن كانت متوغلة في الإبهام من كل جهة ـ نوعا وصنفا وفردا ـ فهو اسم الجنس ، وإن اتصف بالتعريف اللفظي مع الإهمال المعنوي من كل جهة فهو علم الجنس ، وإن كان إهمالها في خصوص الفردية البدلية السارية فقط فهي النكرة ، فليس المطلق إلا الذات المتطورة بهذه الأطوار ، وبعروض هذه الأطوار عليه يختلف اسمه فيسمى باسم الجنس ، وبعلم الجنس ، وبالنكرة. وإن لوحظت من حيث التحقق الخارجي فهو الفرد ، ويخرج بذلك عن الإطلاق ، وهذا هو الموافق للعرف والعقل مع أدنى تأمل في البين.

ومنها : المفرد المعرّف باللام جنسا ، واستغراقا ، أو عهدا بأقسامه الخارجي والذهني والذكري ، والبحث فيه من جهتين :

الاولى : في أن اختلاف اللام بهذه الأقسام هل هو وضعي ، أو لأجل القرائن ـ خارجية كانت أو داخلية ـ وعلى الأول فهل هو بالاشتراك اللفظي ،

١٥٤

أو المعنوي؟

والحق سقوط هذا البحث عن أصله ، لأن اللام لم توضع في لغة العرب إلا لغرض تزيين الكلام ، والربط بين جزئيه ، وجميع هذه الأقسام لا تستفاد إلا من القرائن والمناسبات داخلية كانت أو خارجية ، لفظية كانت أو غيرها ، لأن التزيين والربط الحاصل باللام معلوم ، وصحة انتساب الأقسام الى القرائن مع وجودها كذلك أيضا ، والباقي مشكوك فيه فيدفع بالأصل ، وقد تقدّم في بحث العام والخاص أن المفرد المعرّف باللام من ألفاظ العموم أيضا ، وأن استفادة العموم منه ليست مستندة إلى الوضع بل تكون من مقدمات الحكمة ، وعلى هذا فاستفادة العموم والإطلاق من المفرد المعرف باللام لا بد أن تكون لأجل مقدمات الحكمة.

الثانية : في دلالتها على الإطلاق ، والحق أن استفادة الإطلاق إنما هو من نفس المدخول من حيث هو.

إن قلت : المعهودية بأقسامها نحو من التعين ، مع أن المشهور بين الأدباء أن الألف واللام أداة التعريف والتعيين ، والتعريف ينافي الإطلاق ، فكيف يكون المعرّف باللام من أقسام المطلق؟!

قلت : أما التعريف فهو لفظي فلا ينافي الإبهام المعنوي ، مثل ما تقدم في علم الجنس ، وكذا التعين الحاصل بالعهد لا ينافي الإطلاق أيضا ، لأنه ليس الإطلاق مقيدا به حتى ينافيه ، بل يكون من باب انطباق المطلق وصدقه عليه قهرا ، وفرق واضح بين انطباق المطلق على شيء خاص وبين تقييده به ، والثاني ينافي الإطلاق دون الأول.

وبعبارة اخرى : العهدية والإطلاق من باب تعدد الدال والمدلول لا وحدة المطلوب ، حتى ينافي الإطلاق.

١٥٥

مقدمات الحكمة وما يتعلق بها

وهي من القرائن العامة غير المختصة بمورد دون آخر ، وقد جرت سيرة أهل المحاورة على استفادة الإطلاق منها بعد تحققها ، وتتركب من امور :

الأول : كون المتكلم في مقام بيان المراد.

الثاني : عدم ما يصلح لتقييد الكلام بحيث يصح الاعتماد عليه لدى العرف.

الثالث : عدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب في البين ، ويمكن إرجاع الأخيرين إلى واحد ، وهو عدم وجود قرينة على التقييد ، ووجود القدر المتيقن قرينة. فمقدمات الحكمة في الواقع اثنتان ، كون المتكلم في مقام البيان ، وفقد القرينة على التقييد ومع تماميتها فالعاقل المتكلم إما أنه أراد الإهمال الواقعي ، أو أراد المقيد مع عدم القرينة عليه ، وهما خلاف المحاورات العرفية المتداولة بين العقلاء ، فيتعين الإطلاق لا محالة ، فكما أن ظاهر اللفظ حجة لدى العقلاء ، فظاهر مقام التخاطب ، وحال اللافظ أيضا كذلك ما لم تكن قرينة على الخلاف.

ثم إنه قد يعدّ من المقدمات كون المورد قابلا للإطلاق والتقييد ، فلا تجري المقدمات في المعاني الربطية والحرفية.

وفيه .. أولا : أن هذا مقوم موضوع جريان المقدمات ، ومقومات الموضوع لا ينبغي أن تعد من لواحقه.

وثانيا : أنه ليس في الألفاظ والمعاني ما لا يتصف بالإطلاق والتقييد إلّا أن بعضها يتصف بهما مستقلا ، كالمعاني الاستقلالية ، وبعضها تبعا كالمعاني الحرفية ، فلا وجه لهذا الشرط على كل تقدير ، فهو ساقط من أصله.

وينبغي التنبيه على امور :

١٥٦

الأول : القدر المتيقن إما خارجي ، أو في مقام التخاطب. وكل منهما لا يضر بالإطلاق ما لم يوجب ظهور اللفظ في المتيقن.

الثاني : ظاهر حال كل متكلم أنه في مقام بيان مراده إلا إذا كان هناك مانع ، ويصح التمسك بالأصل المقبول في المحاورات أيضا ، فيقال : الأصل كون المتكلم في مقام البيان إلّا مع الدليل على الخلاف ، ولو شك في وجود المانع يدفع بالأصل.

ويكفي في إحراز كونه في مقام البيان فعلا ما هو المتعارف منه لدى الناس في البيانات الفعلية ، سواء كان أبديا أو لا. لأن البيان له مراتب متفاوتة منها دائمية ، ومنها ماداميّة بحسب الظروف والمقتضيات ، وهي تارة مع قصر المدة ، واخرى مع طولها ، والكل يكفي للإطلاق مع عدم القرينة على التقييد.

ولو شك في أنه أبدي أو غير أبدي ، فمقتضى الأصل والظاهر هو الأول ، لا سيما في الأحكام الشرعية.

الثالث : الاحتياج إلى مقدمات الحكمة إنما هو لنفي القيد والبشرطشيئية.

وأما احتمال بشرط لائية فليس من الاحتمالات التي يعتني بها العقلاء حتى يحتاج في نفيه إلى مقدمة الحكمة.

نعم ، لو كان احتماله مما يعتنى به ـ كما في بعض الامور المبنية على الدقة من كل جهة ـ لاحتاج في نفيه إليها أيضا.

ولا فرق في الإطلاق بين أن يكون حاليا ، أو مقاميا ، أو لفظيا ، فالجميع يحتاج في إثباته إلى جريان مقدمات الحكمة ، بعد فرض اعتبار الكل في المحاورات العرفية.

والفرق بين الأولين والأخير أنه يصحّ استفادة فيهما من السكوت أيضا كما لا يخفى.

الرابع : إحراز الإطلاق من كلام المتكلم تارة بالقطع ، واخرى بالظاهر ،

١٥٧

والأصل على نحو ما تقدم في الأمر الثاني.

وعلى كل منهما فإما أن يكون في البين ما يشك في كونه قيدا ، أو لا يكون ، فهذه أقسام أربعة. ولا ريب في ثبوت الإطلاق في ثلاثة منها ، وهي ما إذا احرز الإطلاق بالقطع ، وسواء كان في البين ما يشك في كونه قيدا ، أو لا ، وما إذا احرز بالأصل ولم يكن في البين ما يشك في كونه قيدا ، كما لا ريب في عدم ثبوته في ما إذا أحرز بالأصل وكان في البين ما يصلح للتقييد ، لعدم صحة الاعتماد على هذا الأصل حينئذ.

وأما إذا لم يكن كذلك ، بل كان من مجرد الشك فيه فأصالة الإطلاق محكمة ، فيجري هذا الأصل في الشك في أصل التقييد ، كما يجري في الشك في قيدية الموجود إلا إذا كانت أمارة معتبرة على التقييد.

الخامس : لا فرق في جريان مقدمات الحكمة وثبوت الإطلاق بها بين المعاني الإفرادية ، والتركيبية ، والإخبارية ، والإنشائية مطلقا ، فيتصف الجميع به مع جريانها ، ولا يتصف به مع عدم جريانها ، كما هو واضح. وقد استقرت السيرة على التمسك بإطلاق العقود ، والجمل الشرطية ، والأوامر والجمل الطلبية في الفقه.

وتتصف المعاني الربطية ، والتبعية ـ كالحروف وما يلحق بها ـ بالإطلاق والتقييد بتبع متعلقاتها ، لمكان الوحدة الاعتبارية بينهما ، فتسري عوارض المعاني الاستقلالية إلى المعاني التبعية المتقوّمة بها أيضا.

نعم ، إذا لوحظت تلك المعاني التبعية منسلخة عن المعاني الاستقلالية ، لا وجه لعروض الإطلاق والتقييد عليها ، إذ لا ذات لها إلا في الغير وبالغير ، وما كان كذلك لا معنى لاتصافها ذاتا بأية صفة كانت.

وبذلك يمكن الجمع بين الكلمات ، فمن يقول بعدم اتصاف المعاني التبعية بهما أي بالذات ، ومن يقول باتصافها بهما أي بالتبع ، وهذا وجه صحيح.

١٥٨

السادس : لا تتصف الأعلام الشخصية من حيث التشخّص بالإطلاق ، لأن التشخّص ينافي الإرسال والسريان ، فلا تتصف بالتقييد من هذه الحيثية أيضا ، لما يأتي من أن بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، فكل ما لا يتصف بالإطلاق لا يتصف بالتقييد أيضا.

نعم ، يصح اتصافها بهما من حيث عوارضها ، كالزمان والمكان وسائر صفاتها المحفوفة بها ، كالطول والقصر ، والسواد ، والبياض ونحوها ، إذ كل شيء محفوف بعوارض لا تحصى ، لأن من شئون الممكن الاحتفاف بالعوارض ، بل يتصف الواجب تعالى بالأوصاف الإضافية الكثيرة ، كالخالقية ، والرازقية ، والرأفة ، والقهارية وغير ذلك مما لا يحصى.

السابع : يمكن أن تكون للكلام جهات عديدة قابلة للإطلاق والتقييد ، فإن تمت مقدمات الحكمة بالنسبة إلى جميعها يثبت الإطلاق كذلك ، وإلا فبالنسبة إلى ما تمت فقط ، ولا يثبت بالنسبة إلى ما لم تتم إلا إذا كانت ملازمة بين الجهات عقلية كانت ، أو عرفية ، أو شرعية فيثبت الإطلاق حينئذ بالنسبة إلى جميع الجهات ، وإن تمت المقدمات بالنسبة إلى بعضها فقط ، لفرض تحقق الملازمة بين الجهات جميعها.

الثامن : لا وجه لاحتمال ورود التقييد المعصومي لإطلاقات الكتاب والسنة بعد الغيبة الكبرى ، لانقطاع طريق الوصول إليه (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فينحصر احتماله بتحقق الإجماع ودليل العقل المعتبرين شرعا.

التقييد

المشهور أن التقابل بينه وبين الإطلاق من تقابل العدم والملكة ، لأن المطلق عبارة عن عدم التقييد بما يصلح أن يكون مقيدا به ، هذا إن عرف المطلق بالعنوان السلبي ، وأما إذا عرف بالعنوان الإيجابي ، كالإرسال والسريان

١٥٩

فيصح أن يكون بينهما تقابل التضاد ، لكون كل منهما وجوديا لا يصح اجتماعهما في محل واحد من جهة واحدة ، وليس التضاد إلا ذلك.

ولا بأس باجتماع بعض أقسام التقابل مع بعضها الآخر مع اختلاف العنوان والجهة.

وأما تقابل السلب والإيجاب ـ بناء على تفسير المطلق بالتعبير السلبي ـ فعن بعض عدم صحته بينهما ، لما ثبت من أنه لا يمكن ارتفاع النقيضين وفي المقام يجوز ذلك ، كما في أخذ قصد الأمر في متعلقه ، حيث لا يصح تقييد الأمر به ولا إطلاقه بالنسبة إليه ، فيرتفع الإطلاق والتقييد في هذا المورد.

ويرد عليه .. أولا : أن قصد الأمر ممكن أخذه في متعلقه ، كما تقدم بيانه.

وثانيا : أن الممتنع من ارتفاع النقيضين إنما هو بحسب الواقع ، ولا ريب في عدم جوازه في الواقع ، لأن الأمر بالنسبة إلى متعلقه إما مطلق في علم الله تعالى ، أو مقيد ، وإن لم يمكن الإطلاق والتقييد بحسب الاعتبار الصناعي ، فارتفاع الإطلاق والتقييد الصناعي لا محذور فيه ، ولا تعتبر الموافقة بين كل أمر صناعي وبين الامور الواقعية ، لأن الأول اعتباريات محضة ، وارتفاع الضدين واجتماعهما في الاعتباريات لا بأس به.

ولا ثمرة عملية معتد بها في تحقيق أن التقابل بينهما من أي الأقسام ، بل ولا ثمرة علمية أيضا.

ثم إن صدق المطلق على المقيد ـ كصدقه على نفسه ـ حقيقي ، لما تقدم من أنه اللابشرط المنقسم إلى الأقسام ، ولا ريب في تحقق المقسم في جميع أقسامه ، وصدقه عليها صدقا حقيقيا ، بل وكذا لو كان المطلق عبارة عن اللابشرط القسمي ، فيصح أن يكون صدقه على المقيد حقيقيا من باب تعدد الدال والمدلول ، فيكون لفظ المطلق قد استعمل في ذات المعنى ويستفاد التقييد من دال آخر ، فلا يكون من استعمال اللفظ في غير الموضوع له حتى يكون مجازا ،

١٦٠