تهذيب الأصول - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

تهذيب الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

الرابع : مفهوم الاستثناء

مقتضى المحاورات المتعارفة في كل لغة أن الاستثناء من الإيجاب سلب ؛ ومن السلب إيجاب ، وأنه يدل على الحصر ، وأن الحكم المذكور في القضية مختص بالمستثنى منه ، والمشهور أن انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى إنما هو بالمفهوم ، فإن أرادوا ذلك في الجملة وفي بعض الموارد الخاصة لمناسبات مخصوصة فلا إشكال فيه ، وإلا فالظاهر أنه في مثل (ليس) و(لا يكون) بالمنطوق لا بالمفهوم ، لتبادر ذلك منهما في المحاورات ، ولا يبعد ذلك في مثل (إلّا) أيضا إذا كان من حدود الحكم ومتعلقاته.

وأما إذا كان من قيود الموضوع فمرجعه إلى الوصف ، وتقدم عدم المفهوم له ، فيصح أن يقال : إن الأدوات الاستثنائية تدل على انتفاء حكم ما قبلها عما بعدها بالمنطوق لا المفهوم ، إلا في بعض الموارد لقرائن خاصة.

وأما ما قيل : من أنها لو دلت على المفهوم لكان قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» دالا على كون الطهور صلاة ولو لم تتحقق سائر الأجزاء والشرائط.

فهو باطل قطعا ، لأن مثل هذه التعبيرات إنما يقال عند بيان اعتبار ما بعد إلّا لما قبلها تحققا أو كمالا ، فيقال : لا صلاة إلا بطهور ، ويكون عبارة اخرى عن قوله عليه‌السلام : «الصلاة ثلث طهور ، وثلث ركوع ، وثلث سجود». وكما يقال : لا علم إلّا بعمل ، ولا إيمان إلا بصبر.

كما أن قبول إسلام من قال : لا إله إلا الله ، لا يدل على ثبوت المفهوم للاستثناء على نحو الكلية ، لما تقدم من احتمال كون الدلالة فيها أيضا بالمنطوق مثل (ليس) و(لا يكون) ، وعلى فرض كونها بالمفهوم فهي لقرينة خاصة ، ولا

١٢١

تثبت بها الكلية.

وقد يقال : بأن المقصود من كلمة التوحيد الإقرار بوجود الله تعالى وتحقق فعليته من كل جهة ، ونفي الشريك له تعالى. فإن قدّر خبر (لا) النافية ممكن ، يكون المعنى : لا إله ممكن إلا الله ، فهو ممكن ويثبت الإمكان بالنسبة إليه تعالى ، وهو أعم من الوجود الفعلي ، إذ لا يلزم أن يكون كل ممكن موجودا. وإن قدّر موجود فيكون المعنى : لا إله موجود إلا الله فهو موجود ، فهو وإن دلّ على الفعلية والوجود ولكن لا يدل على امتناع الشريك له تعالى ، لأن نفي الوجود أعم من الامتناع إذ ليس كل معدوم ممتنعا.

نقول .. أولا : أن كلمة (لا) تامة لا تحتاج إلى الخبر مثل ليس التامة ، فالمعنى أنه لا تحقق للمعبود بالذات إلّا الله تعالى ، وهو ظاهر في وجوده وامتناع معبود آخر غيره عزوجل.

وثانيا : يصح تقدير الخبر لفظ الممكن ولا يلزم المحذور ، لما ثبت في محله من أن كل ما كان من المعاني الكمالية ممكنا بالنسبة إليه تعالى ولم يكن مستلزما للنقص ، فهو واجب بالنسبة إليه ، فقولك : لا إله ممكن إلا الله فهو ممكن ، أي واجب ، كما برهن عليه. قال الحكيم السبزواري :

إذ الوجود كان واجبا فهو

ومع الإمكان قد استلزمه

وقس عليه كلما ليس امتنع

بلا تجشم على الكون وقع

وثالثا : يصح تقدير الخبر لفظ الموجود ، ويكون نفي الوجود عن جنس الواجب بالذات أو المستحق للعبادة ذاتا ملازما لامتناعه ، لأنه لو كان ممكنا لتحقق.

ثم إن لفظ (إنما) يدل على الحصر والاختصاص ، لتبادر ذلك منه عند عرف أهل المحاورة ما لم تكن قرينة على الخلاف.

وكذا لفظ (بل) الإضرابية المستعملة في الجملة المنفية مع كون الإضراب

١٢٢

حقيقيا التفاتيا ، فإنه يدل على الاختصاص أيضا ، لتبادره منه. وأما لو كان لبيان السهو والغفلة والغلط فلا يدل عليه ، كما لا يدل عليه سائر أقسام (بل) المذكورة في الكتب الأدبية إلا مع قرينة معتبرة دالة عليه.

وقد يعدّ مما يدلّ على الحصر تعريف المسند إليه باللام ، وتقديم ما حقه التأخير ، فإن اريد أنها لأجل القرينة الخاصة ـ حالية كانت أو مقالية ـ فلا إشكال فيه. وإن اريد أنها وضعية فهي ممنوعة ، لعدم التبادر كما لا يخفى.

١٢٣

الخامس والسادس : مفهوم اللقب والعدد

والأول ما كان طرفا للنسبة الكلامية في الجملة ، مسندا كان ، أو مسندا إليه ، أو من متعلقاتهما. وحينئذ فإن كان وصفا يصير مورد بحث المفهوم من جهتين ، بل يمكن أن يصير مورد البحث من جهات لامور أخر أيضا.

وعلى أي تقدير مقتضى الأصل والمحاورات العرفية عدم اعتبار المفهوم للقب ، فإن قول : زيد قائم ، لا يدل على نفي القعود عنه ـ نعم حين القيام لا يصدق عليه القعود فعلا من جهة امتناع اجتماع الضدين ، ولا ربط له بالمفهوم ـ كما لا يدل على نفي القيام عن عمرو بوجه من الدلالات ، وقد ارتكز في النفوس أن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عما عداه ونفي ما عداه عنه وعن غيره.

وأما العدد ..

فتارة : يكون محدودا بالنسبة إلى طرفي القلة والكثرة ، كركعات الظهر مثلا.

واخرى : بالنسبة إلى طرف القلة فقط ، كالصدقات الواجبة المحدودة بحدّ خاص معين ، فلا يجزي الأقل منه.

وثالثة : يكون محدودا بالنسبة إلى طرف الزيادة ، كنافلة الظهر حيث لا تجوز الزيادة على الثمانية ويجزي الأقل منها.

ورابعة : يكون لا اقتضاء بالنسبة إلى الطرفين.

والكل ليس من المفهوم في شيء ، والمنساق عرفا من العدد التحديد بالنسبة إلى الأقل إلا مع القرينة على الخلاف.

١٢٤

القسم الرابع

العام والخاص

تعريف العام والخاص

العام والخاص من المعاني المرتكزة إجمالا في الأذهان في كل لغة ومحاورة. والعموم عند العرف متقوّم بالشمول والسريان ، بخلاف الخصوص الذي هو في مقابله ، ومنه يظهر أن لفظ (عشرة) مثلا ليس بعام بالنسبة إلى الآحاد التي تكون تحتها ، لعدم سريان هذا اللفظ وعدم إطلاقه بالنسبة إليها. نعم ، هو عام بالنسبة إلى عامة العشرات فيشمل كل عشرة.

وهو وضعي ، أو بمقدمات الحكمة ، والمقصود بالذكر في المقام هو الأول ، ويأتي الأخير في المطلق والمقيد إن شاء الله تعالى.

وقد عرّف العام بتعاريف كلها مخدوشة ما لم ترجع إلى ما هو المركوز في الأذهان ، مضافا إلى أنه لم يقع لفظا العام والخاص موردي حكم من الأحكام حتى يحتاج إلى التعريف والتزييف.

نعم الألفاظ الدالة على العموم والخصوص كثيرة الدوران في الأدلة وهي معلومة لكل أحد ، سواء كان عارفا بمعنى العام والخاص أم كان جاهلا بهما.

ولا يخفى أن العام والخاص من الامور الإضافية ، فرب عام من جهة يكون خاصا من جهة اخرى ، كما أن رب خاص من جهة يكون عاما من جهة اخرى ، وقد يستعمل كل منهما في الآخر بالعناية إذا استحسنه الذوق السليم.

١٢٥

أقسام العموم :

والعموم إما استغراقي ، أي شامل لكل ما يصلح أن يكون فردا له ، وهو كثير في الكتاب والسنّة ، كقوله تعالى : أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ومثل : (لا تشرب الخمر) أو بدلي ، أي أن مدلوله فرد واحد لكن على البدل ، فالعموم في البدلية الشاملة لكل فرد يصلح أن يكون بدلا لا في الفرد من حيث هو ، كما في القسم الأول. وهو أيضا كثير في الشرع.

أو مجموعي ، أي يلحظ جميع الأفراد عنوانا واحدا للعام وكأنه ليس له إلّا فرد واحد وهو المجموع من حيث المجموع ، كغسل الجنابة ، فإن جميع البدن بتمام أعضائه جعل شيئا واحدا بحيث لو لم يغسل موضع رأس إبرة لبطل الغسل.

ولازم الأول تحقق الإطاعة بامتثال كل فرد ، والعصيان بترك فرد آخر ، فيصح أن تتحقق في عام واحد الإطاعة والعصيان معا ، بل إطاعات عصيانات.

ولازم الثاني تحقق الإطاعة بإتيان فرد ما ، وعدم تحقق العصيان إلا بترك الجميع.

وأما الأخير فهو على عكس الثاني ، فلا تتحقق الإطاعة فيه إلا بإتيان الجميع ، ويتحقق العصيان بترك فرد ما. وليس في القسمين الأخيرين إلا إطاعة واحدة وعصيان كذلك بخلاف القسم الأول ، إذ يصح تعدد الإطاعة والعصيان فيه ، كما هو واضح.

١٢٦

ألفاظ العموم :

قد شاع في كل لغة ألفاظ للعموم ؛ واخرى للخصوص ، وثالثة تستعمل تارة في الأول واخرى في الأخير لقرائن خارجية أو داخلية ، والألفاظ المتداولة في العموم خمسة : لفظ (كل) وما بمعناه ، والنكرة في سياق النفي أو النهي ، والمحلى باللام ، جمعا أو مفردا.

واختلف في أن هذه الدلالة وضعية أو إطلاقية ، أو أن الاولى بالوضع والبقية بالإطلاق. والظاهر هو الأخير ، لظهور هذه الألفاظ الخمسة في العموم ، والظهور حجة معتبرة عند العقلاء وضعيا كان أو إطلاقيا.

نعم ، قد يقال إن الظهور الوضعي أقوى من الإطلاقي فيقدّم عليه مع التعارض ، ولكنه دعوى بلا شاهد ، اللهم إلا أن يصير ذلك موجبا لأظهرية ما يستند إلى الوضع دون غيره ولا ريب في تقديمه عليه حينئذ ، لتقدم الأظهر على الظاهر في المحاورات ، كتقدم النص عليهما كذلك.

استعمال العام في المخصص :

لا ريب في ظهور كل عام في العموم ، والظاهر حجة ما لم تكن قرينة على الخلاف ، والمخصص من القرينة على الخلاف ، فيكون العام ظاهرا في العموم أو الحجة في غير مورد التخصيص على ما هو المشهور بين الأعلام ، بلا فرق فيه بين المخصص المتصل والمنفصل ، ولا إشكال فيه بناء على كون العام المخصص حقيقة في العموم بعد التخصيص ، كما هو التحقيق. وأما بناء على كونه مجازا بدعوى أنه من قبيل اللفظ الموضوع للكل المستعمل في الجزء ، فكذلك أيضا.

أما أولا : فلأن دعوى المجازية باطلة ، لتقوّم العموم بالإرسال والسريان

١٢٧

وعدم تحديده بحدّ معين ومرتبة خاصة ، فمهما تحقق الإرسال والسريان يتحقق العموم لا محالة ـ وسعت دائرته أو ضاقت ، كثرت الأفراد أو قلّت ـ فهو من هذه الجهة كاسم الجنس الصادق على القليل والكثير صدقا حقيقيا مع استفادة القلّة والكثرة من القرائن الخارجية ، ولكن القلة والكثرة ملحوظتان في العموم من جهة السريان والشمول ، وفي اسم الجنس من جهة الذات المهملة المبهمة ، فهو حقيقة في السريان ، سواء كثرت الأفراد لعدم التخصيص ، أو قلّت بوجود المخصص ، فيكون ظاهرا في العموم وحجة فيه ، ما لم تكن حجة أقوى على الخلاف.

ومنه يظهر أنه ليس من قبيل اللفظ الموضوع للكل المستعمل في الجزء ، لأن الكل محدود بحدّ خاص بخلاف السريان ، فإنه غير محدود بحدّ خاص ، كما تقدم.

وثانيا : على فرض المجازية يكون حجة في الباقي بعد التخصيص لوجود المقتضي ـ وهو الظهور اللفظي ـ وفقد المانع ، لأصالة عدم مخصص آخر ، فإنه لا فرق في حجية الظهور بين كونه مستندا إلى الوضع أو إلى سياق اللفظ ولو كان مجازا.

وما ذكره في الكفاية من أن المقتضي هو الدلالة على تمام الأفراد ، ومع التخصيص لا وجه لثبوت المقتضي.

باطل : لأن المقتضي إنما هو ذات الدلالة على نحو الانبساط ، المنطبقة على التمام وعلى ما في ضمنه.

هذا مع أن استعمال العام المخصص في تمام الأفراد لا بأس به إن كان في البين غرض صحيح من التفنن في البيان ، أو تشريع القانون الكلي أو نحو ذلك ، فيكون العام مستعملا في تمام الأفراد بالإرادة الاستعمالية إلا أن الإرادة الجدية تعلقت ببعضها ، والظاهر أنه لا ثمرة عملية بل ولا علمية لهذا البحث. فلا وجه للإطالة بأكثر من ذلك.

١٢٨

أقسام إجمال المخصص وأحكامها

العام والخاص إما مبينان من كل جهة ، أو مجملان كذلك ، أو يكون العام مجملا والخاص مبينا ، أو بالعكس.

ولا إشكال في تمامية الحجة في الأول ، كما لا ريب في عدمها في الثاني ، لفرض الإجمال فيهما ، ولا حجية في المجمل.

وكذلك الثالث ، لأن الخاص كالقرينة للعام والمتمم لفائدته ، ومع إجمال ذي القرينة لا أثر لكون القرينة واضحا ومبينا.

وأما الأخير فعمدة القول فيه : أن الخاص إما متصل أو منفصل ، والإجمال في كل منهما إما مفهومي أو مصداقي. ومنشأ الإجمال إما للتردد بين المتباينين ، أو بين الأقل والأكثر ، فهذه أقسام ثمانية.

ويسري الإجمال من الخاص المتصل المجمل إلى العام بأقسامه الأربعة ، لأنه من القرينة المحفوفة بالكلام ، وإجمال القرينة يسري إلى ذي القرينة في المحاورات العرفية ، فلا حجية للعام في محتملات التخصيص ، بل ولا ظهور له فيها أيضا ، لفرض عروض الإجمال ، وجريان بناء العقلاء على عدم التمسك به فيها حينئذ في محاوراتهم واحتجاجاتهم في الموارد المشكوك في دخولها تحت العام ، والأخذ بالمتيقن بما هو داخل فيه ليس من باب ظهور العام بل من جهة اليقين به ، فلا يكون العام ولا الخاص حجة في الفرد المشكوك ، لفرض الإجمال فلا بد فيه من الرجوع إلى دليل آخر ، ومع عدمه فإلى الاصول العملية ـ موضوعية كانت أو حكمية ـ وكذا في ما يأتي من القسمين من الخاص المنفصل ، حيث لا يجوز فيهما التمسك بالعام فيرجع فيهما إلى دليل آخر أو أصل ، بل وكذا في ما يأتي من الشبهات المصداقية ، حيث لا يصح التمسك بالعام فيها.

١٢٩

وأما الخاص المنفصل فإن كان إجماله للتردد بين المتباينين مفهوما أو مصداقا فلا حجية للعام في محتمل التخصيص أيضا ، للعلم الإجمالي بورود التخصيص في الجملة ، وعدم وجود حجة معتبرة على التعين ، ولا تجري أصالة عدم التخصيص ، لمكان العلم الإجمالي.

نعم ، لا إشكال في بقاء ظهور العام في العموم ، لفرض عدم كون المخصص المجمل متصلا بالكلام ، وعدم احتفافه بما يوجب الإجمال ، ولا ملازمة بين بقاء الظهور وحجيته ، إذ ليس كل ظاهر بحجة ، كما في موارد العلم بإرادة خلاف الظاهر تفصيلا أو إجمالا.

وكذا ليس كل حجة من الظاهر ، كما في حجية الأدلة اللبية ، فيكون بينهما العموم من وجه ، كما هو واضح.

وأما إذا كان الإجمال لأجل تردده بين الأقل والأكثر مفهوما ، فالعام حجة في محتمل التخصيص ـ وهو الأكثر ـ لاستقرار ظهوره في العموم وعدم المنافي له إلا في ما يكون الخاص حجة فيه ـ وهو الأقل ـ فقط ، فيرجع في الأكثر إلى أصالة عدم التخصيص. فالمقتضي لحجية العام في الأكثر موجود ـ وهو الظهور ـ والمانع عنه مفقود ـ ولو بالأصل ـ.

وأما إذا كان إجماله لأجل التردد بين الأقل والأكثر مصداقا ، فهو النزاع المعروف بين العلماء ـ أنه هل يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؟ ـ فذهب جمع إلى الأول ، ونسب الأخير إلى المشهور ، واستدل للأول بوجوه :

منها : وجود المقتضي لحجية العام في المشكوك فيه وهو الظهور ، وفقد المانع ولو بالأصل ، فتتم حجية العام فيه لا محالة.

وفيه : أن الظهور مسلّم ولكن فقد المانع ـ وهو أصالة عدم التخصيص أول الكلام ، لأنها من الاصول المحاورية العقلائية ، ولم يحرز بناؤهم على جريانها في المقام وإلا لما وقع الخلاف بين الأعلام ، ويكفي الشك في الجريان

١٣٠

بعد أن كان المدرك هو السيرة التي لا بد وأن يقتصر فيها على المتيقن ، هذا مضافا إلى أنه بعد العلم بورود المخصص المبين مفهوما وتمامية الحجة بالنسبة إلى التخصيص من طرف المولى ، لا وجه لجريان هذا الأصل ولو كان مدركه إطلاق أخبار الاستصحاب ، إذ الأصل يجري فيما لا حجة فيه في البين ، دون ما ثبتت فيه الحجة ، وهذا هو الفارق بين المقام وبين ما تقدم من تردد المخصص من حيث المفهوم بين الأقل والأكثر ، حيث قلنا بصحة الرجوع إلى أصالة عدم التخصيص هناك في الأكثر ، وذلك لعدم تمامية حجة أقوى على خلاف العام هناك بالنسبة إلى الأكثر لفرض إجمال المفهوم ، فيرجع لا محالة إلى الأصل ، بخلاف المقام الذي تمت الحجة الأقوى على خلاف العام من طرف المولى فلم يبق موضوع للرجوع إلى الأصل.

إن قيل : بعد الاعتراف بثبوت حجة أقوى على خلاف العام فليكن الفرد المردد داخلا تحت الخاص الذي هو الحجة الأقوى.

يقال : لا ملازمة بين كونه حجة أقوى بحسب المفهوم بالنسبة إلى العام في الجملة ، وبين كونه حجة في الفرد المردد بين كونه داخلا تحته أيضا ، بل مقتضى الأصل عدم هذه الملازمة.

هذا إذا كان المراد بأصالة عدم التخصيص الأصل المعروف. وأما إذا كان المراد الأصل الموضوعي فهو صحيح في المقام ، ويأتي الكلام فيه.

والقول : بأن أصالة عدم التخصيص معارضة بأصالة عدم حجية العام في المشكوك فيه.

موهون : باختلاف الرتبة بينهما ، لأنه بعد جريان أصالة عدم التخصيص لا يبقى موضوع لجريان أصالة عدم الحجية ، كما لا يخفى.

ومنها : أن مقتضى إطلاق العام بإطلاقه الأحوالي شموله للفرد المردد أيضا ، فيكون العام مبينا للحكم الواقعي بالنسبة إلى أفراده الواقعية ، وللحكم

١٣١

الظاهري بالنسبة إلى الأفراد المشكوك فيها.

وفيه : أن المنساق من العمومات التكفل للأحكام الواقعية فقط ، إلا أن يدل دليل من الخارج على أنها متكلفة للحكمين ، أو للحكم الظاهري فقط.

ومنها : أن حجية العام في المقام أقوى وأظهر من الخاص. ولكن فساد هذا الوجه غني عن البيان.

ومن ذلك يظهر أن ما نسب إلى المشهور هو الأقوى ، لأن الفرد المردد مشكوك في دخوله تحت كل من العام والخاص ، فيشك في حجية كل واحد منهما بالنسبة إليه ، والشك في الحجية يكفي في عدم الحجية.

ولا ينفع فيها دخوله تحت ظهور العام ، لما تقدم من عدم الملازمة بين الظهور والحجية ، ويقتضي ذلك مرتكز المتعارف أيضا ، فلا يبادرون إلى الحكم بدخول الفرد المردد تحت العام إلا بقرينة خارجية تدل عليه ، مع أن فعلية الأحكام متوقفة على إحراز موضوعاتها ، ومع التردد فيها لا وجه لفعليتها.

وحينئذ يرجع في حكم هذا الفرد المشكوك في دخوله تحت كل واحد منهما إلى الاصول الموضوعية ، ومع عدمها فإلى الحكمية إن لم يكن دليل خارجي على تعين حكمه في البين.

وأما ما قيل : من أن العام بعد التخصيص يكون كالموصوف والوصف ، فكما لا يصح التمسك بدليل الموصوف مع عدم إحراز الوصف فالمقام مثله أيضا.

فهو حسن ثبوتا ولا كلية فيه إثباتا.

ولا فرق في ما ذكرناه بين ما إذا كان الإجمال من حيث المصداق في المخصص المنفصل اللفظي أو اللبي ، لأن المناط كله تردد الفرد بين الدخول والخروج تحت كل من العام والمخصص ، وفي مثله لا يبادر أهل المحاورة إلى الجزم بدخوله تحت أحدهما إلا بقرينة اخرى.

١٣٢

وعن صاحب الكفاية التفصيل بينهما ، فوافق المشهور في المخصص اللفظي ، وأما في اللبّي فذهب قدس‌سره إلى حجية العام في الفرد المردد ، وادعى بناء العقلاء عليه أيضا.

وحاصل ما ذكره في وجه الفرق : أن في المخصص اللفظي قد ورد ظهوران : ظاهر العام ، وظاهر الخاص ، وتردد فرد بين الدخول في كل واحد منهما والخروج ، فلا يكون كل واحد منهما حجة فيه. وأما في اللّبّي فليس في البين إلا ظاهر واحد وهو ظهور العام ، فيكون ظهوره متبعا ما لم يقطع بخروج فرد عنه ، وحيث لا قطع بخروج الفرد المردد ، يكون ظهور العام متبعا لا محالة.

ويرد عليه .. أولا : أن ما ادعاه قدس‌سره من بناء العقلاء على التمسك بالعام في الفرد المردد مع المخصص اللبي دون اللفظي ، دعوى بلا شاهد ، بل هو على خلافها.

وثانيا : أن مناط عدم جواز التمسك بالعام في الفرد المردد هو مجرد التردد بين الدخول والخروج ، ولا ريب في وجود هذا المناط فيهما.

نعم ، للتردد مراتب متفاوتة لا بأس بالتمسك بالعام في بعض مراتبه حتى في الدليل اللفظي أيضا ، وإن لم يصح في بعض مراتبه الاخرى ، وبذلك يمكن جعل النزاع لفظيا.

والحاصل : أنه لا يصح الرجوع إلى دليل العام في جميع الأقسام الثمانية التي تقدمت الإشارة إليها ، إلا في قسم واحد ، وهو ما إذا كان المخصص منفصلا وكان مجملا مفهوما لتردد مفهومه بين الأقل والأكثر ، فيرجع في المشكوك فيه إلى العام ، ولا يصح الرجوع إلى العام في بقية الأقسام السبعة ، كما لا يصح التمسك بالخاص في جميع الأقسام الثمانية ، لسقوط اعتباره في الفرد المردد عند أهل المحاورة.

١٣٣

ختام فيه امور :

الأمر الأول : لو صح سلب عنوان الخاص عن الفرد المردد بأمارة ، أو قاعدة ، أو أصل ، يشمله العام بلا كلام ، لوجود المقتضي حينئذ ـ وهو ظهور العام في الشمول ـ وفقد المانع.

وبعبارة اخرى : العام يشمل جميع ما يمكن أن يكون فردا له ، سواء كانت الفردية وجدانية أم ثبتت بالأمارة ، أو بالقرينة المعتبرة ، داخلية كانت أو خارجية ، أم ثبتت بالأصل ، موضوعيا كان أو حكميا ، فإذا قيل : أكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق. وتردد عالم بين كونه فاسقا أو غير فاسق ، وقامت البينة على عدالته ، أو جرت قاعدة الصحة في ما صدر منه ، أو جرى استصحاب العدالة في حقه ، فلا ريب في وجوب إكرامه ، بل يصح نفي عنوان الخاص بالأصل الأزلي أيضا.

فإذا ورد أن كل امرأة ترى الحمرة إلى خمسين إلا إذا كانت امرأة قرشية فتراها إلى ستين ، وترددت امرأة بين كونها قرشية أو غير قرشية ، فبأصالة عدم انتسابها إلى قريش ينتفي انتسابها إلى قريش ، فيشملها العام قهرا ، إذ المرأة وانتسابها إلى قريش كانتا معدومتين أزلا ، وانتقض العدم بالنسبة إلى أصل وجود المرأة حسا دون الانتساب ، فيستصحب العدم بالنسبة إليه.

وقد يقال ـ أولا : من أن نفس العدم من حيث هو لا أثر له ، وما له أثر هو عدم انتساب هذه المرأة بالخصوص ، فما هو المعلوم سابقا لا أثر له ، وما له الأثر غير معلوم سابقا ، فكيف يجري الأصل.

وثانيا : أنه معارض باستصحاب عدم الانتساب إلى غير قريش ، فيسقطان بالمعارضة.

وثالثا : أن جريان الأصل في الأعدام الأزلية خلاف العرف المبني عليه الأدلة.

١٣٤

ويمكن المناقشة فيه ..

أما الأول : فلأن المستصحب ليس ذات العدم المطلق ، بل الصحة الخاصة منه المقترنة مع هذه المرأة واقعا.

وأما الثاني : فلأنه لا وجه لجريان أصالة عدم الانتساب بالنسبة إلى غير القرشي ، لشمول العموم له ، فإن مورد العام كل امرأة لم تكن منسوبة إلى قريش ولو كان عدم الانتساب لأجل الأصل المعتبر ، فيشمل العام كل امرأة صح نفي القرشية عنها بأي وجه أمكن.

نعم ، لو صار العام مجملا لجهة من الجهات لا يصح التمسك حينئذ ، فيجري الأصل فيهما ويتساقطان بالتعارض. وأما الأخير فلا يضر بعد شمول إطلاق أدلة الاستصحاب له.

الأمر الثاني : نسب إلى المشهور القول بالضمان في ما إذا ترددت اليد بين كونها أمانية ، أو ضمانية مع أنه لا ضمان في الأمانية إلا مع ثبوت التعدي أو التفريط ، فيوهم ذلك ذهابهم إلى التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. ويمكن دفع التوهم بأن الضمان في نظائر المقام لأجل أصالة احترام ملك الغير التي هي من الاصول النظامية المعتبرة ، وليس لأجل العموم حتى يكون من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه ، والتفصيل يطلب من الفقه.

الأمر الثالث : لو علم بخروج فرد عن حكم العام ولم يعلم أنه لأجل التخصيص أو التخصص ، فبأصالة عدم التخصيص لا يثبت الأخير ، لأنها إنما تكون معتبرة في مفادها المطابقي دون الملزومات ، لعدم الدليل على اعتبارها بالنسبة إليها من سيرة أو نحوها إلا إذا كان بينهما تلازم عرفي. فلو قيل : أكرم العلماء ، وعلم بعدم وجوب إكرام شخص خاص ، لا يثبت جهله بأصالة عدم التخصيص بالنسبة إليه ، والعرف لا يساعد عليه أيضا.

الأمر الرابع : كل عام أو مطلق يكون في معرض التخصيص أو التقييد لا

١٣٥

يصح العمل به قبل الفحص ، لعدم استقرار حجيته قبله ، والمعتبر من الحجة الحجية المستقرة دون الشأنية المحضة ، والشك في الحجية قبله يكفي في عدم الحجية.

ويمكن بيان ذلك بصورة الشكل الأول الذي هو بديهي الإنتاج : بأن ظاهر العام والمطلق قبل الفحص عن المخصص والمقيد في معرض الزوال ، وكل ظاهر يكون في معرض الزوال لا اعتبار به ، فظاهر العام والمطلق قبل الفحص عن المخصص والمقيد لا اعتبار به ، وإذا سقط عن المعرضية تستقر الحجية وتصير فعلية.

ومنه يعلم مقدار الفحص ، إذ ليس له حدّ معين ، والمناط كله تبدل شأنية الحجية إلى الفعلية واستقرارها وخروج العام أو المطلق عن المعرضية ، ويختلف ذلك باختلاف العمومات والمطلقات.

ومن ذلك يعلم أنه لا يجب الفحص في ما لا يكون معرضا له وكان احتمال التخصيص والتقييد فيه مما لا يعتني به العقلاء ، فيجب العمل بظاهر العام والمطلق حينئذ ، ولكن هذا النحو من العام والمطلق قليل جدا.

ثم إنه لا يجب في الفحص المباشرة فتصح الاستنابة أيضا ، بل يصح الاعتماد على قول الخبير الأمين ، هذا حال الاصول اللفظية ، كأصالة العموم والإطلاق.

وكذا الحال في الاصول العملية ، كأصالة البراءة ، والتخيير والاستصحاب ، فإن تأخر رتبة اعتبارها عن الأدلة يقتضي أن لا تكون معتبرة إلّا بعد الفحص واليأس عنها ، وإلا فلا اعتبار لها حينئذ.

والفرق بين الفحص في الاصول اللفظية وبينه في الاصول العلمية أنه في الاولى لدفع المانع بعد وجود المقتضي ، فإن المقتضي للحجية ـ وهو الظهور ـ موجود فيتفحص لدفع احتمال المانع ، وأما في الاخرى فإنما هو لأجل إثبات

١٣٦

أصل المقتضي للحجية ، إذ لا مقتضي لها في الاصول العملية قبله ، لأن الشك بالنسبة إلى الاعتبار لا اقتضاء محض ، بلا فرق بين الاصول العقلية والنقلية ، والتفصيل يطلب في محله.

هذا ، ولو عمل بالاصول اللفظية أو العملية قبل الفحص ، فإن طابق عمله للواقع وكان جامعا للشرائط يصح ، وإلّا يجب عليه الإعادة أو القضاء ، والوجه في كل منهما معلوم لا يحتاج إلى البيان.

الخطابات الشفاهية

اختلف الاصوليون في أن الخطابات في الشرع ـ مثل قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... الذي ورد في القرآن في أكثر من ثمانين موردا ـ هل تختص بالحاضر في مجلس الخطاب ، أو يعمه والغائبين ، بل المعدومين أيضا؟ ولا بد أن يعلم أولا أن أحكام الشريعة المقدسة الختمية ثابتة إلى يوم القيامة للجميع بضرورة الدين وإجماع جميع فرق المسلمين ، وإنما البحث في شمول الخطابات الشفاهية للغائبين والمعدومين أيضا ، وهذه الجهة من البحث مستغنى عنها بعد الإجماع والضرورة ، وحديث : «حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة».

ثم إن الكلام يقع من نواح ثلاث :

الاولى : في أصل جعل القانون ، الظاهر أنه لا وقع لهذا النزاع بالنسبة إلى مرتبة أصل جعل القانون ثبوتا من حيث هو ، إذ لا يعتبر فيه وجود مخاطب حين الجعل خصوصا في القوانين الأبدية ، كما جعلت في الشريعة الختمية ، فيصدق جعل القانون على ما كتب في اللوح المحفوظ ، أو ما انزل على قلب نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ولو لم يطلع عليه أحد ، وكذا في مقام إظهاره وإثباته ، إذ يكفي فيه إظهاره بداعي

١٣٧

إتمام الحجة وتمامية البيان على المكلّف ، سواء كان موجودا أم غير موجود ، وسواء كان الإظهار على نحو الجملة الخبرية أم الإنشائية ، أم الكتابة أم غير ذلك مما يمكن به الإظهار والإعلان ، ولو فرض أن توجيه الخطاب فيه يكون إلى شخص أو جمع فهو من باب المرآتية لكل من يصلح لذلك ـ غائبا كان ، أو معدوما ـ لغرض أن المتكلم في مقام جعل القانون وإنما اختار الكيفية الخاصة من البيان لدواع خاصة وجهات مخصوصة ، مثل قوله تعالى : يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وقوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ .

ويدل على ما ذكرنا العرف ، وبناء العقلاء ، وأصالة عدم اعتبار شيء في الجعل ، من حيث أنه جعل القانون وبيانه وإظهاره من طرف الجاعل.

وما ورد من تعدد نزول القرآن ولا ريب في اشتماله على القوانين الدنيوية والاخروية ، فتارة نزل على اللوح المحفوظ ، واخرى على البيت المعمور ، وثالثة نزل في مكة أو المدينة ، متفرّقا بحسب الوقائع والمناسبات ، وفي جميع أطوار نزوله هو قانون أبدي. هذا في مرتبة أصل جعل القانون.

الثانية : من ناحية الخطاب من حيث أنه خطاب ، فالخطاب هو إبراز المراد في الخارج بما اشتمل على أدوات الخطاب ، سواء كان ذلك بداعي التفهيم والتفهم ـ كما هو الغالب فيه ـ أو بداع آخر ، كجعل القانون ، أو التحسّر ، أو التحزّن ، أو التعشق ، أو غير ذلك من الدواعي الصحيحة الموجودة في الكلمات الفصيحة نظما ونثرا ، ويشهد له خطابات الله تبارك وتعالى مع الجمادات ، كقوله تعالى : يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي . وقوله تعالى : يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ . فيصح الخطاب بداعي جعل القانون بالنسبة إلى الغائب والمعدوم ، كما يأتي لا حقا ، فلا أثر لهذا البحث من هذه الجهة.

ثم إن حضور المخاطب لدى المتكلم بما اشتمل على أدوات الخطاب

١٣٨

على أنحاء ..

فتارة : هو الحضور الواقعي الإحاطي من كل جهة ، كحضور الأشياء لدى الله عزوجل.

وأخرى : هو الحضور الاعتقادي ، كحضور المعبود لدى العابد ، وهو في المعبود الواقعي حضور واقعي أيضا.

وثالثة : خارجي شخصي ، كقولك لغريمك : أعطني ما أطلبك.

ورابعة : خارجي مرآتي ، كقولك : يا بني صلّ ، وأطع الله تعالى وخالف الشيطان ، ونحو ذلك.

وخامسة : فرضي اعتباري ، كتكلم العاشق مع المعشوق في غيبته ، وكتكلم من يتمرن درسا يريد أن يدرّسه بعد ذلك في مجمع من الطلاب.

فيكفي في صحة التخاطب مطلق الحضور بأي وجه صحيح ، ويمكن أن تكون الخطابات الشرعية بلحاظ حضور الامة حضورا اعتباريا لدى الصادع بالشريعة المقدسة ، فلا ثمرة لهذا البحث من هذه الجهة أيضا.

الثالثة : من ناحية البعث والزجر ، فالبعث والزجر إتمام للبيان من طرف المولى لأجل إمكان الانبعاث من البعث ، والانزجار من الزجر. ولا فرق فيه بين الحاضر والغائب والمعدوم ، لصحة إمكان الانبعاث والانزجار بالنسبة إليهما أيضا.

نعم ، لو كان المراد بالانبعاث والانزجار الفعليان منهما من كل جهة ، لا يصح بالنسبة إلى الغائب والمعدوم ، بل ولا أثر بالنسبة إلى الحاضر أيضا ما لم تتحقق جميع شرائط الفعلية ، فهذا البحث كسابقيه في انتفاء الثمرة من هذه الجهة أيضا ، فيصح نفي الثمرة لهذا البحث أصلا من هذه الجهات.

وأما ما ذكر له من الثمرة من حجية الظواهر بالنسبة إلى الغائبين والمعدومين ، وصحة التمسك بالإطلاقات بناء على الشمول.

١٣٩

ففيه : أنه مبني على اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه ، وهو باطل ، كما يأتي ، مع أن من قصد إفهامه جميع الامة لا خصوص المشافهين.

فتلخص : أنه لا ثمرة عملية بل ولا علمية لهذا البحث بشقوقه وفروعه. ولو شك في تقييد الإطلاقات ، وتخصيص العمومات بخصوصية المشافهين ، فمقتضى الأصل عدمه ، كما في سائر القيود المشكوكة التي يرجع فيها إلى الأصل.

تعقيب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده

إذا تعقب العام بضمير ، وتردد بين رجوعه إلى تمام أفراده أو بعضه ولم تكن قرينة على الأخير ، فمقتضى أصالة التطابق بين الضمير والمرجع ـ التي هي من الاصول المعتبرة المحاورية ـ هو الرجوع إلى التمام.

وأما إذا علم برجوعه إلى البعض وكان مع العام في كلام واحد ، كما إذا قيل : أكرم العلماء بإعطائهم الخمس حيث أن إعطاء الخمس يختص بالهاشمي منهم ، فلا حجية للعام بالنسبة إلى غير الهاشمي ، لاحتفافه بما يصلح للقرينية عرفا وإن كان ذلك في كلامين ، أو كلام واحد مع استقلال العام بما حكم عليه في الكلام ، كقوله تعالى : وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ .. وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ .

والمراد بالعام الأعم من البائنات والرجعيات ، وبالضمير خصوص الأخيرة ، فهناك أصلان متعارضان : أصالة العموم وأصالة التطابق بين المرجع والضمير ـ التي تكون عبارة اخرى عن أصالة عدم الاستخدام ـ وهما من الاصول المعتبرة في المحاورات ، والعمل بكل واحدة منهما يستلزم سقوط الاخرى.

١٤٠