تهذيب الأصول - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

تهذيب الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

الحرمة ، بل يصرّحون بوجوبه مطلقا مع أن المسألتين من واد واحد. ويمكن أن يقال : بأن الشارع يسقط اعتبار رضاه مع عدم التضرر ، بل ومعه لكن مع التضمين ، فيصح الأمر بالخروج بلا مانع ومدافع ، كما في صورة اضطرار الشخص إلى تناول غذاء الغير حفظا لنفسه ولو كان الاضطرار بسوء اختياره ، وكما في مورد الاحتكار ، فتخرج المسألة عن مورد البحث حينئذ.

وأما الثاني : فقد نسب إلى القائلين بالجواز أنه يتصف بالوجوب والحرمة معا ، لما عرفت من تعدد الحيثية. ولكنه مردود ..

أولا : بما مرّ من أنه لا بد من اعتبار المندوحة في المسألة ، ولا مندوحة في المقام.

وثانيا : بأنه لا يتصور النهي الفعلي لمكان الاضطرار ، فليس في البين تعدد الحكم حتى يكون من مورد الاجتماع إلا أن يقولوا بفعلية النهي في مورد الاضطرار إن كان حاصلا بسوء الاختيار ، ولكنه من الدعوى بلا شاهد عليها بل هو على خلافها ، لبنائهم في الفقه على سقوط النهي مع الاضطرار مطلقا ، ومع ذلك ليس من مسألة الاجتماع لعدم المندوحة.

وأما الثالث : فقيل بوجوب الخروج شرعا بلا عقاب عليه فعلا لا من جهة النهي الفعلي ولا من جهة النهي السابق ، لأن الاضطرار يسقط الخطاب والملاك معا ، فالمقتضى للوجوب موجود والمانع عنه مفقود.

وأشكل عليه .. أولا : بأن سقوط الخطاب لأجل الاضطرار معلوم بخلاف أصل المبغوضية ، بل هو ثابت فلا وجه لتعلق الوجوب الشرعي بما هو مبغوض فعلي.

وفيه : إنه مبني على ترجيح ملاك الإيجاب على جهة المبغوضية تقديما للأهم على المهم فلا محذور فيه من هذه الجهة ، فيكون نظير وجوب بيع مال الغير عند الاحتكار والاضطرار مع أن التصرف في ملك الغير مبغوض مطلقا.

١٠١

وثانيا : بأنه يكون الإيجاب الشرعي لغوا وبلا أثر مع حكم العقل بلا بدّية الخروج.

وفيه : أن حكم الشرع حينئذ يكون إتماما للحجة ، وتأكيدا لحكم العقل ، وقطعا لعذر المكلف ، كما في حرمة الظلم التي استقل العقل والعقلاء بها ، وكما في وجوب ردّ المغصوب المنقول مع وجوبه عقلا وشرعا ، ولو كان ذلك بسوء الاختيار فلا محذور في الوجوب الشرعي مع اللابدّية العقلية.

وأما عدم العقاب فلانقلاب موضوع الاختيار إلى الاضطرار ، فتنقلب العوارض واللوازم التابعة للموضوع لا محالة.

وقيل : بأنه واجب مع جريان حكم العقاب السابق عليه ، وأما بالنسبة إلى الوجوب فقد تقدم تصحيحه وعدم المحذور فيه ، وأما بالنسبة إلى جريان حكم العقاب فلا دليل عليه إلا جملة «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وإن نافاه خطابا».

وفيه : إنه لم يقم دليل من عقل أو نقل على كلية هذه الجملة ، وعدها من القواعد المعتبرة وإن كانت صادقة على نحو الإهمال وفي الجملة في مورد عمل الأصحاب بها فتنجبر بالعمل ، واعتبارها في المقام أول الكلام.

وقيل : بعدم الوجوب الشرعي أصلا ، ولكن العقل يحكم باختيار أقل القبيحين.

وفيه : ما ثبت من إمكان تصوير الوجوب الشرعي من دون محذور فيه ، نفسيا كان أو غيريا. هذا ما يتعلق بحكم الخروج.

وأما حكم الصلاة في حال الخروج فلا تصح في سعة الوقت وإمكان إتيانها في محل مباح بالاتفاق حتى عند القائلين بالجواز ، وأما في الضيق فهي صحيحة حال الخروج بناء على الجواز ، وكذا بناء على الامتناع ورضاء المالك بالخروج ، كما استظهرناه ، وكذا بناء على عدم رضاه مع تغليب جانب الأمر.

١٠٢

نعم بناء على عدم رضاه وتغليب جانب النهي لا وجه للصحة ، ولكن أنى لنا إثبات ذلك في ضيق الوقت ، مع أن الصلاة لا تسقط بحال ، ويأتي أنه لا دليل على تغليب النهي مطلقا.

الأمر الثاني :

لا ريب في أنه لا تخلو واقعة من حكم من الأحكام ، فبناء على الجواز يكون مورد الاجتماع محكوما بالوجوب والحرمة لتعدد الجهة ، كما هو المفروض وأما بناء على الامتناع فلا بد من إثبات أحدهما ، سواء كانت المسألة من باب التزاحم أم التعارض ، وقد قيل بتغليب الحرمة في مورد الاجتماع ، وطريقه منحصر إما بالدليل الخاص ، أو القرائن العامة المعتبرة ، ومع عدمها تصل النوبة إلى الأصل العملي.

أما الأول فلم يدعيه أحد. نعم ادعوا الإجماع على بطلان الصلاة في المغصوب مع العمد والاختيار ، والظاهر تسالم القائلين بالجواز عليه أيضا ، ويرد عليه : مضافا إلى أنه ليس من الإجماعات التعبدية ، بل حاصل مما يأتي من الوجوه التالية ، أنه مختص بخصوص الصلاة ولا يجري في غيرها إلّا أن يدعى الإجماع على عدم الفرق بين جميع الموارد. فتأمل.

وأما الثاني فقيل فيه وجوه ..

منها : أن العموم في النهي شمولي وفي الأمر بدلي ، والأول مقدم على الثاني.

وفيه : أنه كذلك إن كان الشمول وضعيا ، وأما مع كون الشمولية والبدلية كلاهما بمقدمات الحكمة ، فلا وجه للتقديم لتساويهما في مناط الاعتبار.

ومنها : أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

وفيه : إن بناء العقلاء على تقديم أقوى الملاكين ، سواء كانا مصلحتين ، أم

١٠٣

مفسدتين ، أم بالاختلاف ، مع أنه فيما إذا لم يمكن الجمع بينهما ، وفي المقام يمكن جلب المصلحة ودفع المفسدة ، بأن يصلى في غير المغصوب ، لما تقدم من اعتبار قيد المندوحة في مورد النزاع.

ومنها : أن مقتضى الاستقراء تغليب جانب النهي على الأمر عند الدوران بينهما ، كحرمة الصلاة على الحائض في أيام الاستظهار ، وحرمة الوضوء من الإناءين المشتبهين.

وفيه : أن ثبوت الاستقراء بالظفر على موردين مع وقوع الخلاف فيهما أيضا لا وجه له ، بل مقتضى سهولة الشريعة سقوط فعلية الحرمة عند عدم إمكان إتمام الدليل عليها ، كما في جميع الشبهات التحريمية ، ويعلم من ترتيب الشارع الأقدس أحكام الوطء الصحيح على الوطء بالشبهة ، وصحة الصلاة مع الجهل بالغصب ونحو ذلك من الموارد التي ثبتت الصحة فيها أن مجرد المبغوضية الواقعية ما لم تكن مقرونة بالمنجزية الفعلية لا أثر لها ، هذا مع أنه لا ربط للمثالين بالمقام إذ الحرمة فيهما تشريعية لا ذاتية ، والمقام من الثاني دون الأول.

فتلخص أنه لا وجه لتقيم النهي على الأمر في مورد الاجتماع ، وحينئذ فمقتضى البراءة العقلية والنقلية عدم فعلية النهي ، وبعبارة أخرى أصالة عدم المانعية لمثل هذا النهي الذي لم تثبت غلبة مفسدته على مصلحة الأمر ، فتصح الصلاة ، لإطلاق دليلها الشامل لمورد الاجتماع أيضا ، مع وجود المصلحة فيها.

إن قلت : مقتضى عموم النهي شموله لمورد الاجتماع أيضا ، مع أنه تعتبر في العبادة المصلحة الغالبة على المفسدة وهي مشكوكة.

قلت : أما شمول النهي الكاشف عن فساد الصلاة فهو ممنوع إلا مع ثبوت غلبة المفسدة ، وفعلية النهي ، وكلاهما ممنوعان.

وأما اعتبار غلبة المصلحة في العبادة ، فلا دليل عليه بل يكفي مطلق المصلحة ما لم تكن مرجوحة. فالأقسام ثلاثة : تغليب المفسدة على مصلحة

١٠٤

الأمر ، وتساوي المصلحة مع المفسدة ، وكون المفسدة مرجوحة بالنسبة إلى المصلحة ، وعدم صحة الصلاة يختص بالقسم الأول.

ثمرة البحث :

الظاهر أنه لا ثمرة عملية لهذا البحث الطويل ، لأن مورد الاجتماع إن كان توصليا فيسقط الوجوب بالإتيان بالمجمع مع الإثم اتفاقا. وإن كان تعبديا وكان له بديل ، فالكل متفقون على أنه يتعين اختيار البدل ولا يجوز الإتيان بالمبدل ، وإن لم يكن له بدل وكان في سعة الوقت وإمكان التأخير والإتيان بغير مورد الاجتماع ، فظاهرهم التسالم على التأخير ، وإن كان في الضيق وعدم إمكان التأخير فيظهر منهم عدم الخلاف في لزوم الإتيان في المجمع حينئذ ، هذا كله بناء على القول بتغليب النهي بناء على الامتناع ، كما نسب إلى المشهور. وأما بناء على عدم التغليب ، كما مرّ فعدم الثمرة بين القولين أظهر من أن يخفى.

١٠٥

القسم الثالث

المفاهيم

تمهيد فيه امور :

الأول : حتى يكون من الموضوعات الشرعية أو المستنبطة التي تحتاج إلى النظر والبحث ، بل هو من الامور المحاورية ، وقد يطلق ويراد به المعنى ، فيكون مدلول اللفظ معنى من حيث أنه عني من اللفظ. ومدلولا من حيث دلالته عليه. ومفهوما من حيث أنه يفهم من اللفظ ، فالحقيقة واحدة والتعبير مختلف.

وقد يطلق في العرف ـ ومنه الاصطلاح الاصولي ـ على ما يلازم الكلام عرفا ، وغير مذكور في اللفظ بحدوده وقيوده بحيث يصح الاعتماد عليه في المحاورات والاحتجاجات ، سواء كان الكلام إنشائيا ، مثل : أكرم زيدا إن جاءك ، أم إخباريا مثل : إن ضربتني ضربتك ، وهذا هو المراد من جميع التعريفات وإن اختلفت التعبيرات ، فيصح أن يقال : إنه حكم لغير مذكور ؛ أو حكم غير مذكور ، والمقصود بهما واحد.

ولا ريب في أن الدلالية والمدلولية والدلالة ، من الامور الإضافية فيستلزم كل منها الآخر ، ولا يتحقق إحداها بدون الأخريين ، فما يكون من صفات إحداها يكون من صفات البقية بالملازمة ، فيصح أن يكون المفهوم من صفات الدلالة ، أو الدال ، أو المدلول ، وإن كان بالأخير أقرب عرفا.

١٠٦

كما أن كون المفاهيم من الدلالات الإطلاقية السياقية أقرب لدى العرف من كونها من الدلالات الوضعية ، ويشهد له أصالة عدم التفات الواضع إلى هذه الخصوصية ، وإن كان من لوازم الكلام عرفا فيما إذا كان ترتب الجزاء على الشرط على نحو ترتب المعلول على العلة التامة ، وذلك لأن هذا اللزوم أعم من أن يكون ملحوظا حين الوضع ، كما هو واضح.

الثاني : ، ويسمى (بمفهوم الموافقة) ، والأولوية ، والفحوى. كقوله تعالى : إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ فيدل على ترك اللهو واللعب بالأولى ، وقوله تعالى : فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ فيدل على حرمة الإيذاء بالأولى.

وأما مخالف له ويسمى (بمفهوم المخالفة) ، كقوله تعالى : فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .

الثالث : لا ريب في أن شخص الحكم المتقوّم بالموضوع في المنطوق ينتفي بانتفائه قهرا ، ولا ينبغي أن يكون ذلك مورد النزاع ، ولذا اتفقوا على أنه لا مفهوم في الوصايا ، والأقارير ، والأوقاف ونحوها ، إذ ليس المنشأ فيها إلا شخص الحكم المتقوّم بموضوع خاص ، فليس ذلك كله من المفهوم في شيء أبدا. ومورد البحث في المفهوم انتفاء سنخ الحكم بانتفاء الموضوع ، لا انتفاء شخصه.

إن قلت : إن ما حدث في المنطوق إنما هو شخص الحكم ، وهو منتف بانتفاء موضوعه قهرا ، والسنخ لم يحدث أصلا حتى يبحث عن انتفائه أو عدمه.

قلت : المنشأ في المنطوق إنما هو طبيعي الحكم وهو غير مقيد بخصوص الموضوع وإن تقيد حصة منه بذلك ، وإن شئت قلت : إنه إن كان القيد قيدا لطبيعي الحكم المنشأ فلا ريب في المفهوم ، لأن زوال حصة من الطبيعي بزوال الموضوع لا يوجب زوال أصله ، وإن كان للحصة فلا ريب في عدم ثبوته ، لانعدام أصل الحكم المنشأ حينئذ.

١٠٧

ثم إن النزاع في حجية المفهوم صغروي فقط ، بمعنى أنه هل يكون للجملة الشرطية ـ مثلا ـ مفهوم أو ليس لها مفهوم؟ وليس نزاعا كبرويا ، بمعنى أنه هل يكون المفهوم حجة أو لا؟ لأن بناء العقلاء على اعتباره على فرض ثبوته ، فلا يكون مورد البحث من هذه الجهة.

ولنا أن ندخل مباحث المفاهيم مطلقا في مباحث الملازمات العقلية غير المستقلة ، لحكم العقل بثبوت المفهوم إن ثبت كون القيد علة تامة منحصرة للحكم ، وعدم حكمه كذلك ، بل حكمه بالعدم مع عدم ثبوت العلية التامة المنحصرة ، فالجامع بين جميع المفاهيم ليس إلا ذلك.

الرابع : لا أصل في المسألة الاصولية يتمسك بها إلا بناء على جريان الأصل في الأعدام الأزلية ، وأما في المسألة الفرعية فإن كان في البين أصل موضوعي فهو المرجع ، وإلا فيرجع إلى أصالة البراءة ، فتكون النتيجة متحدة مع ثبوت المفهوم وهو انتفاء الحكم.

ثم إن المفاهيم كثيرة ، وقد أنهاها في كشف الغطاء إلى عشرين ، ولكن المعروف منها عند الاصوليين ستة : مفهوم الشرط ، والوصف ، والغاية ، والحصر ، واللقب ، والعدد.

والضابطة الكلية في تحقق المفهوم في الجميع تحقق العلية التامة المنحصرة لما ذكر موضوعا في المنطوق ، فمع تحققها لا شبهة في تحقق المفهوم ، ومع عدم العلية ، أو عدم التمامية ، أو عدم ثبوت العلية التامة المنحصرة لموضوع الحكم المذكور في المنطوق بالنسبة إليه وعدمه ، فلا وجه للمفهوم أصلا ، واستظهار ذلك لا بد أن يكون من العرف والمحاورات.

ثم إن الحاكم بثبوت المفهوم بعد الاستظهار إنما هو العقل ، ولهذا أمكن إدراج هذه المباحث في العقليات غير المستقلة كما عرفت ، ولكن ذكرناها في مباحث الألفاظ تبعا للقوم ، مع أنها بحسب الأنظار العرفية من سنخ الدلالات اللفظية.

١٠٨

الأول : مفهوم الشرط

ثبوت المفهوم للجمل الشرطية متوقف على أن يكون الجزاء مترتبا على الشرط ، كترتب المعلول على العلة التامة المنحصرة ، فلا بد في ثبوته من إحراز هذه القيود الثلاثة. وإلا فلو كان الترتب من مجرد ترتب المقتضى (بالفتح) على المقتضي (بالكسر) ، أو ترتب المعلول على العلة غير التامة المنحصرة ، يسقط المفهوم لا محالة.

فمع انتفاء أصل العلية ـ بأن كان الترتيب اتفاقيا ـ أو التمامية ـ بأن كان من ترتب المقتضى (بالفتح) على المقتضي (بالكسر) ـ أو الانحصار ـ بأن كان من ترتب المعلول على علل متعددة ـ لا وجه للمفهوم عقلا واتفاقا. ولا ريب في تحقق الثلاثة في القضايا التي سيقت لبيان الموضوع كقول : «إن رزقت ولدا فاختنه» ونحوها الدالة على المفهوم لقرائن قطعية ، وإنما البحث في بيان قاعدة كلية جارية في جميع القضايا الشرطية.

وما قيل في دلالتها على المفهوم وجوه :

الأول : أن دلالتها على العلية التامة المنحصرة وضعية ، لتبادرها منها.

وفيه : أن المتبادر مطلق الترتب في الجملة ، لا على نحو العلية فضلا عن التامة أو المنحصرة ، مع أنه يلزم أن يكون استعمالها في مطلق الترتب بناء على تبادر العلية التامة المنحصرة مجازا ، وهو مشكل.

وكون ذلك من باب تعدد الدال والمدلول أشكل ، لأصالة عدم وجود دال آخر ولو بالأصل الأزلي.

الثاني : أن ذلك من باب الانصراف.

وفيه : أنه ممنوع لغلبة الاستعمال في مطلق الاقتضاء والترتب ، وعلى فرض الصحة فهو بدوي لا اعتبار به.

١٠٩

الثالث : إنها إطلاقية ، فإن كل واحد من إطلاق الشرط ، وإطلاق ترتب الجزاء عليه ، وإطلاق نفس الجزاء يقتضي العلية التامة المنحصرة ، إذ لو كان في البين شرط آخر ، أو كان الترتب على نحو الاقتضاء ، أو صح أن يكون الجزاء جزاء لشرط آخر لذكر ـ ولو في كلام آخر ـ وحيث لم يذكر فيستفاد العلية التامة المنحصرة لا محالة ، كما يستفاد الوجوب العيني التعييني النفسي عن إطلاق الأمر.

وفيه ـ أولا : أنه يعتبر في التمسك بهذه الإطلاقات إحراز كون المتكلم في مقام البيان من هذه الجهات أيضا ، ومع عدم الإحراز لا وجه للتمسك بها ، إلا أن يقال : إن مقتضى ظاهر حال المتكلم حين التكلم كونه في مقام بيان كل ما له دخل في مراده مطلقا إلا مع القرينة على الخلاف ، فيكون حكم صورة الشك حكم صورة إحراز كونه في مقام البيان ، لأصالة كونه في مقام البيان ، وهي من الاصول المحاورية المعتبرة في المحاورات والاحتجاجات.

وثانيا : أن ذلك ليس إلا دعوى الانصراف الذي تقدمت المناقشة فيه ، كما أن الاستدلال عليه بأن الظاهر من الجزاء ترتبه على خصوص الشرط ، وإلا لكان مستندا إلى الجامع وهو خلاف الظاهر ، يرجع إلى أحد الوجوه المتقدمة ، فلا وجه لجعله دليلا مستقلا.

وهذه الوجوه وإن أمكنت المناقشة فيها ، لكن مجموعها بقرينة بناء العرف على استفادة العلية التامة من الجمل الشرطية ، يكفي لإثبات المطلوب.

وقد استدل على عدم المفهوم ..

تارة : بأنه لو ثبت لكان بإحدى الدلالات ، والكل منتفية.

وأخرى : بقوله تعالى : وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ، فإن مفهومه جواز الإكراه مع عدم التحصّن ، وهو ضروري البطلان.

١١٠

وثالثة : باحتمال أن يكون في الواقع شرط آخر لم يذكر في اللفظ.

والجميع مردود : لأن الدلالة الالتزامية العرفية ثابتة ، وعدم المفهوم بقرينة قطعية في الآية لا ينافي ثبوته في غيرها ، واحتمال وجود شرط آخر مدفوع بظاهر الإطلاق ، كما مر.

ويلحق بذلك مبحثان :

المبحث الأول

الشرط والجزاء إما أن يكونا متحدين ، كما إذا قيل : إن جاءك زيد فأكرمه. وإما أن يتعددا ، كما إذا قيل : إن جاءك فأكرمه ، وإن سلّم عليك فسلّم عليه. وإما أن يكون الشرط واحدا والجزاء متعددا ، أو يكون عكس ذلك ، بأن يكون الشرط متعددا والجزاء واحدا. ولا ريب في صحة الجميع ثبوتا وإثباتا في المحاورات.

وإنما البحث في الأخير مثل قولهم : «إذا خفي الأذان فقصّر ، وإذا خفي الجدران فقصّر» ، فإن كانا متلازمين في التحقق الخارجي ، فلا ريب في أن الشرط واحد وهو الجامع بينهما. وإن كانا مختلفين فيتحقق التعارض بين إطلاقي المنطوقين وبين مفهوميهما لا محالة ، ولا بد حينئذ من دفع التعارض صونا للكلام عن اللغوية.

ودفعه منحصر بإسقاط العلية التامة المنحصرة عن الشرط ، ويحصل ذلك بتقييد إطلاق كل واحد من الشرطين بالآخر ، أما بالنسبة إلى التمامية فيكونان معا شرطا واحدا ، فلا بد في ثبوت القصر من تحققهما معا ولا يكفي ثبوت أحدهما ، أو تقييد إطلاق كل واحد منهما بالآخر بالنسبة إلى الانحصار فيجب القصر

١١١

بثبوت أول الشرطين ، ويكون الآخر كاشفا عن ثبوت العلة سابقا ، وهذان الوجهان يشتركان في تقييد إطلاق الشرطين ، فيسقط المفهوم لا محالة لابتنائه على الإطلاق من كل جهة ؛ ومع تقييده ـ ولو من وجه ـ ينتفي المفهوم قهرا.

والظاهر أن العرف في نظائر المقام يساعد على الوجه الأول ، ومع عدم الاستظهار العرفي وتردد التقييد بين أحد الوجهين يسقط المفهوم أيضا ، للعلم الإجمالي باختلال شرط تحققه ، وباقي الوجوه المذكورة في الكفاية وغيرها إن رجع إلى ما ذكرناه فهو ، وإلا فهي ساقطة ، كما هو واضح.

١١٢

المبحث الثاني

بناء على أن كل شرط علة تامة منحصرة لترتب الجزاء ، فإذا تعدد الشرط واتحد الجزاء في ظاهر الخطاب ، فهل يتعدد الجزاء أيضا بتعدد الشرط ، كما إذا قال : إذا بلت فتوضأ ، فبال مكررا ، فهل يجب تكرار الوضوء أيضا؟ وتنقيح البحث يقتضي بيان امور :

أحدها : الشروط المتعددة إما من صنف واحد أو لا ، وعلى كل منهما فإما أن يكون المحل قابلا لتعدد الجزاء ـ ولو بالاشتداد والضعف ـ أو لا. والجميع داخل في محل النزاع إلا الأخير ، لأنه مع عدم قابلية المحل للتعدد ، فحينئذ ينتفي النزاع عقلا بانتفاء أصل موضوعه.

ثانيها : يمكن القول بتعدد الجزاء مطلقا حسب تعدد الشرط ، كما يمكن التفصيل بين وحدة الشرط صنفا فيتحد الجزاء ، وبين تعددها كذلك فيتعدد. كما يمكن إرجاع الشروط المتعددة مطلقا إلى واحد ، ويعبّر عنه بتداخل الأسباب ، أو الاكتفاء عن الجزاءات المتعددة في مقام الامتثال بواحد ، ويعبّر عنه بتداخل المسببات. والتداخل فيهما إما رخصة أو عزيمة. هذه هي عمدة الوجوه المحتملة ثبوتا في المقام.

ثالثها : ظاهر الجملة الشرطية حدوث الجزاء عند حدوث كل شرط ، فلا بد حينئذ من تعدد الجزاء حسب تعدد الشرط إلا إذا دلت قرينة معتبرة على الخلاف ، فيدل على تداخل الأسباب أو تداخل المسببات ، وهي على قسمين :

الأول : القرينة الخاصة ، وهي في موارد مخصوصة ، كظهور إجماعهم على كفاية طهارة واحدة ، عند اجتماع أحداث صغرى من صنف واحد أو من أصناف شتى. وكذا بالنسبة إلى كل واحد من الأحداث الكبرى إذا تكرر من

١١٣

صنف واحد ، بل ومن أصناف متعددة ، لقول أبي جعفر عليه‌السلام : «إذا اجتمعت لله عليك حقوق يجزيك غسل واحد».

الثاني : القرينة العامة وهي كثيرة :

منها : أن تعدد الجزاء حسب تعدد الشرط يوجب اجتماع المثلين ، لأن الجزاء طبيعة واحدة ، فيتعدد الوجوب بالنسبة إلى الطبيعة الواحدة ، فيلزم اجتماع المثلين.

وفيه .. أولا : أن موضوع اجتماع المثلين المحال إنما هو في ما إذا كان المثلان عرضا خارجيا ، فلا موضوع له في الأحكام التي هي من الاعتباريات العقلائية ؛ ولا تكون من الموجودات الخارجية.

وثانيا : أنه يلزم إذا لوحظت الطبيعة على نحو الوحدة لا من حيث السريان إلى الأفراد ، وإلا يتعدد الوجوب حسب تعدد الأفراد قهرا.

ومنها : أن إطلاق متعلق الجزاء يقتضي الاكتفاء بمجرد إتيانه مرة واحدة فقط ، فإن مقتضى الإطلاق مطلوبية صرف الوجود حتى مع تعدد الشرط وهو يحصل بالمرة.

وفيه : أنه كذلك لو لم تكن قرينة على الخلاف ، وظهور تعدد الجزاء بتعدد الشرط من القرينة على الخلاف ، مع أنه يقتضي الاكتفاء بصرف الوجود بالنسبة إلى طلبه فقط ، ولا نظر له بالنسبة إلى طلب آخر وقضية اخرى.

ومنها : أن الجملة الشرطية عند تعدد الشرط لا تدل على حدوث الجزاء عند حدوث الشرط ، بل على مجرد الثبوت الأعم من الحدوث الحاصل بالشرط الأول ، والبقاء الكاشف عن الشرط الثاني ، فأصل الحدوث حاصل بالشرط الأول ، وباقي الشروط تكشف عن البقاء.

وفيه .. أولا : أنه من مجرد الدعوى ، ولا شاهد عليها من عقل أو نقل.

وثانيا : أنه يلزم أن تكون جملة شرطية واحدة بالنسبة إلى شخص دالة على الحدوث وبالنسبة إلى آخر دالة على البقاء ، بل يلزم ذلك بالنسبة إلى

١١٤

حالات شخص واحد أيضا ، وفيه من الغرابة ما لا يخفى.

ومنها : أن الجزاء وإن كان متعددا واقعا ، ولكنه يجزي الواحد من باب تداخل المسببات ، كما إذا ورد : أكرم عالما ، وأكرم هاشميا ، وأكرم عادلا ، أي أكرم من كان جامعا لهذه الصفات.

وفيه : أنه يحتاج إلى دليل وهو مفقود ، والمثال أجنبي عن المقام ، لأنه في ما إذا كان بين العناوين المنطبقة على الواحد عموما من وجه وتصادقت عليه ، وفي المقام لا يكون الجزاء إلا طبيعة واحدة قابلة للتكرر.

وكذا لو قيل : بأن الجزاء يحدث عند كل شرط تأكيدا لا تأسيسا ، فيكون من تداخل المسببات أيضا ، فإنه خلاف الظاهر ، مع أن مقتضى الأصل في المحاورات هو التأسيس لا التأكيد.

ومنها : أن العلل والأسباب الشرعية ليست حقيقية حتى يمتنع اجتماعهما على واحد ، بل هي معرّفات وكواشف ، فالعلة في الواقع واحدة والجزاء يكون واحدا.

وفيه : أنه لا فرق بين العلل التكوينية والشرعية في أنهما حقيقة تارة ، وكواشف عن العلل الحقيقية اخرى. والظاهر كونها حقيقية إلا مع الدليل على الخلاف ، ولا دليل كذلك على نحو الكلية.

فتبين من جميع ما تقدم أن مقتضى الظاهر تعدد الجزاء بتعدد الشرط ، سواء كان من صنف واحد أم كان من أصناف متعددة ، وأن القول بتداخل الأسباب أو المسببات يحتاج إلى دليل خاص.

ولكن يمكن أن يقال : انه في ما إذا تعاقبت الشروط المتعددة من صنف واحد على محل واحد ولم يتخلل الجزاء بينهما ، كانت تلك الشروط بمنزلة شرط واحد عرفا ، لأن المنساق عند المتعارف حينئذ أن الجنس شرط ، لا أن يكون خصوص الفرد شرطا ، والأدلة الشرعية منزّلة على العرفيات ، ولذا استقرت سيرة العلماء في الفقه على ذلك ، كما لا يخفى.

١١٥

تذنيبان :

الأول : لو فرض الإجمال وعدم استظهار تعدد الجزاء مع تعدد الشرط ، فإن كان الشك في أن التكليف في الواقع واحد أو متعدد ، فهو من موارد الأقل والأكثر ، فتجري البراءة بالنسبة إلى الأكثر ، ويتحد في النتيجة مع تداخل الأسباب.

وإن احرز تعدد التكليف ، وشك في أن الجزاء الواحد يجزي عن التكاليف المتعددة ، فمقتضى قاعدة الاشتغال عدم الإجزاء ووجوب التعدد ، وإن شك فيهما معا فيكون من القسم الأول وتجري البراءة عن الزائد.

الثاني : منها : ما تقدم من كفاية وضوء واحد عن أحداث صغرى ، سواء كانت من صنف واحد أم لا ، للإجماع.

ومنها : ما سبق أيضا من كفاية غسل واحد عن موجبات كثيرة للغسل ، لقول أبي جعفر عليه‌السلام : «إذا اجتمعت لله عليك حقوق يجزيك غسل واحد».

ومنها : كفاية كفارة واحدة لمن أفطر متعمدا في يوم من شهر رمضان متعددا ، سواء كان الإفطار من صنف واحد أم من أصناف متعددة ، تخلل التكفير أم لا ، ولكن الظاهر خروجه عن المقام تخصصا ، لأن بالإفطار الأول يبطل الصوم فلا يبقى موضوع للكفارة بعد ذلك ، ووجوب الإمساك في شهر رمضان إنما هو تأدبي لا ربط له بالكفارة ، وتوجد هناك موارد اخرى مذكورة في الفقه ، فراجع.

١١٦

الثاني : مفهوم الوصف

الوصف إما أن يكون مذكورا في الكلام ، أو يستفاد من سياق الجملة ـ فيكون كالمذكور فيه في المحاورات ـ وعلى كل منهما فإما أن يكون الموصوف مذكورا أو لا. ومورد البحث في المقام خصوص ما كان الموصوف مذكورا في الكلام ، وأما غيره فإنه أشبه بمفهوم اللقب ، ويأتي البحث عنه.

فالأليق بعنوان البحث في المقام أن يقال : الحكم الثابت للمنعوت بنعت ظاهري أو سياقي ، هل يدور مدار وجود النعت؟

وكيف كان ، فالوصف والموصوف إما يكون بينهما التساوي ، أو العموم المطلق ، أو العموم من وجه ، وأما التباين فلا يمكن أن يتحقق بينهما ، للزوم الاتحاد بين الصفة والموصوف في الجملة ، ولا اتحاد بين المتباينين. والظاهر خروج الأول عن مورد البحث ، لأن مقتضى التساوي بين الموصوف والصفة ، انتفاء الموصوف بانتفاء الوصف قهرا ، فتكون القضية من السالبة بانتفاء الموضوع ، إلّا أن يكون مورد نظرهم في المقام إلى الأعم من ثبوت الموضوع خارجا أو فرضا ، ولكنه بعيد عن كلماتهم.

كما أنه لا إشكال في خروج القسم الأخير إن كان الافتراق من طرف الموضوع ، إذ لا اعتماد فيه للوصف على الموصوف في ظاهر الخطاب ، وقد تقدم اعتباره ، فما نسب إلى بعض الشافعية من أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «في الغنم السائمة زكاة» يدل على عدم الزكاة في غير السائمة. لا وجه له إلّا إذا استفيد العلية التامة المنحصرة من السائمة الواردة في الغنم في غير الغنم من سائر الأنعام التي فيها الزكاة أيضا. فيبقى مورد البحث القسم الثاني ، والأخير في ما إذا كان الافتراق من ناحية الوصف ، وتكون البقية من اللقب الذي يأتي عدم المفهوم فيه. ومنه يظهر الإشكال في ما في الكفاية من تعميمه للجميع ، فراجع وتأمل.

١١٧

ثم إن الوصف إما أن يكون علة تامة منحصرة لثبوت الحكم للموضوع أو يكون مقتضيا له ، أو لا اقتضاء له أصلا ، فيكون وجوده كعدمه على حدّ سواء ، والمفهوم إنما يثبت في القسم الأول فقط دون الأخيرين ، كما تقدم في مفهوم الشرط.

إذا عرفت ذلك نقول : إنه لا ريب في ثبوت المفهوم للوصف في بعض الموارد لقرائن خارجية أو داخلية ، كما لا ريب في عدمه كذلك في بعض الموارد الأخر ، إنما الكلام في بيان القاعدة الكلية التي يصح الاستناد إليها في كل مقام ، وما يمكن أن يستند به عليها وجوه جميعها قابلة للمناقشة :

منها : دلالته على المفهوم وضعا.

وفيه : أنه لو كان كذلك لما وقع الخلاف فيه ، ولكانت كتب اللغة مرجعا لبعض ذلك من دون احتياج إلى إتعاب النفس إلى التمسك بالأدلة الخارجية.

ومنها : أنه لو لم يدل عليه لكان ذكره لغوا ، إذ لا فائدة فيه غير ذلك.

وفيه : وضوح عدم انحصار الفائدة فيه ، بل له فوائد كثيرة ، كما لا يخفى على من تأمل في المحاورات ، فراجع علم المعاني والبيان.

ومنها : ما اشتهر من أن الأصل في القيد أن يكون احترازيا ، وأن تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية ، فيثبت المفهوم لا محالة.

وفيه : أنه لا أصل لهذا الأصل إلّا في الحدود الحقيقية والتعريفات الواقعية ، وهي كلها خارجة عن مورد الكلام.

وقضية تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية ليست من القواعد المعتبرة ، مع أن الإشعار بالعلية أعم من العلية التامة المنحصرة التي هي مناط تحقق المفهوم ، كما مر.

ومنها : أن من لزوم حمل المطلق على المقيد في المحاورات العرفية يستكشف المفهوم للوصف أيضا.

١١٨

وفيه : أن مناط حمل المطلق على المقيد إحراز وحدة الحكم فيهما ، وتقديم النص ـ الذي هو المقيد ـ على الظاهر ـ الذي هو المطلق ـ والمناط في المقام إحراز العلية التامة المنحصرة للوصف ، فلا ربط لأحدهما بالآخر.

فليست في البين قاعدة كلية تدل على ثبوت المفهوم للوصف ، بل لا بد في ثبوته من دلالة القرائن الخاصة المعتبرة عليه.

وقد يستدل على عدم المفهوم للوصف بقوله تعالى : وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ فإنه لو ثبت المفهوم لدلت الآية على حلية الربيبة إذا لم تكن في الحجر ، مع أنها محرّمة أيضا.

وفيه : أن ذلك لأجل الأدلة الخاصة الدالة على حرمة الربيبة مطلقا ولو لم تكن في الحجر ، مع أن عدم دلالة الوصف على المفهوم أحيانا لا يدل على عدم دلالته عليه بالكلية ، كما هو واضح.

١١٩

الثالث : مفهوم الغاية

البحث في الغاية من جهتين :

الاولى : في دخولها في المغيّا وعدمه ، والتحقيق أن لها معنيين : فتارة يراد بها آخر الشيء باعتبار وجوده المختص به ، كقولك : مساحة هذا الشيء ذراع. وهو داخل في المغيّا ، لأن كل شيء عبارة عن المحدود بحد خاص وشكل مخصوص.

واخرى يراد بها ما ينتهي عنده الشيء باعتبار الحكم لا باعتبار الموضوع ، كقوله تعالى : ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ. وحينئذ فيمكن أن يقال بانتزاع الغاية من أول جزء من الليل فتكون داخلة حينئذ ، أو انتزاعها من آخر جزء من النهار فتكون خارجة لا محالة ، ويختلف ذلك باختلاف الموارد ، والمتبع هو القرائن المعتبرة ومع عدمها فالمرجع هو الاستصحاب ، فتكون النتيجة دخولها في المغيا.

والمعروف بين أهل الأدب أن كلمة (حتى) و(إلى) تدلان على دخول الغاية في المغيّا ما لم تكن قرينة على الخلاف ، ولكن اعتبار كلامهم أول الدعوى إلا مع ثبوت ذلك في المحاورات المعتبرة.

الثانية : أنها هل تدل على ارتفاع الحكم عما بعد الغاية؟ والتحقيق أنها إن كانت قيدا للموضوع تكون من الوصف حينئذ ، وقد تقدم عدم المفهوم له. وإن كانت قيدا للحكم فتدل على ارتفاع الحكم عما بعد الغاية قهرا ، وإلا فلا تكون غاية وهو خلف ، مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» ، وقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام» فلا وجه للطهارة والحلّية بعد العلم بالقذارة والحرمة. ويمكن أن يعد هذا من الدلالة المنطوقية لا المفهومية ، وإن شك في كونها قيدا للحكم أو للموضوع فالمرجع الاستصحاب مع تحقق شرائطه وإلّا فالبراءة ، فتخرج حينئذ عن الدلالة منطوقية كانت أو مفهومية.

١٢٠