جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

محمّد رضا الناصري القوچاني

جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

المؤلف:

محمّد رضا الناصري القوچاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

(والكلام فيه) أي في المتكافئين (اولا في أن الأصل) والقاعدة (في المتكافئين) كتعارض الطرق والامارات ، قولان.

القول الأول : (التساقط) كما هو مذهب فقهاء العامة مع قطع النظر عن ملاحظة الأخبار العلاجية ، ومعنى التساقط فرض المتعارضين كالعدم ولا يجب العمل بشيء منهما ويرجع إلى الأصل ، سواء كان على طبق احدهما أو على الخلاف؟

فإذا ورد : يجب اكرام العالم ، وورد ايضا لا يجب اكرام العالم تساقطا معا (وفرضهما) أي فرض الدّليلين المتعارضين (كان لم يكونا اولا) فيرجع إلى الأصل وفي المثال ، الأصل : هو البراءة فنحكم بعدم وجوب اكرام العالم مثلا.

القول الثاني هو : عدم التساقط (ثم اللازم بعد عدم التساقط الاحتياط) في مقام العمل مع امكانه كما هو مذهب الاخباريين ، مثلا إذا ورد خبر بوجوب السورة ، والآخر بعدم وجوبها ويكونان متساويين من جميع الجهات فالاحتياط يقتضي الاتيان بها (أو التخيير) إذا لم يمكن الاحتياط بل وان أمكن كما هو المشهور ، بأن يؤخذ أحدهما سند أو دلالة ، ويطرح الآخر رأسا.

نعم لو قلنا بحجّية الاخبار من باب السببيّة والموضوعيّة ، يكون التخيير عقليّا أيضا (أو التوقّف) أعني تساقط الدّليلين المتعارضين في وجوب العمل بكلّ منهما ، فإذا كان لكلّ منهما جهة ضعف وقوّة ، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر فيجب التّوقف (والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما) أي لأحد الدّليلين (دون) الأصل (المخالف لهما لأنّه) أي الأصل المخالف لهما (معنى تساقطهما) مثلا إذا ورد خبر بوجوب الجمعة ، معناه لزوم الاكتفاء به ، وورد آخر بوجوب الظّهر كذلك ، ولكنّ الاحتياط يخالفهما.

إذ معنى الاحتياط : عدم الاكتفاء بكلّ منهما ، لأنّه يقتضي الاتيان بكليهما فالاحتياط مخالف لهما.

٨١

(فنقول وبالله المستعان) يعنى الاستعانة بالله ، فهو مصدر ميمي من المزيد بمعنى الاستعانة لا المفعول (قد يقال : بل) قد (قيل أنّ الأصل) الأولى في الدّليلين (المتعارضين عدم حجّية احدهما) لا كلّ واحد منهما ، ولا نصف من كلّ منهما (لأنّ دليل الحجيّة مختصّ بغير صورة التعارض) لأنّه ما جعل المعصوم (ع) العمل في مورد التّعارض لأنّه يئول إلى اجتماع النقيضين ، لفرض تناقض مؤدّيهما.

ولو قال الشّارع بحجّية الخبرين المتعارضين ، أمّا أن يثبت بالاجماع العملي ، أو بالنّقل (أمّا إذا كان) الدّليل على حجيته (اجماعا) فهو راجع إلى العمل ، فلا يدلّ على السّعة والعموم ، فيؤخذ بالقدر المتيقّن منه ، ويجري هذا في صورة عدم التعارض ، كما قال (فلاختصاصه) الاجماع (بغير المتعارضين وليس فيه) الاجماع (عموم ، او اطلاق لفظي) حتّى (يفيد العموم) فانّ الاطلاق والعموم اللّفظي يكون لهما ظهور كامل ، نظير (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٢) (وأمّا إذا كان) الدّليل على حجيته (لفظا) لقوله عليه‌السلام فارجعوا إلى رواة احاديثنا (فلعدم امكان ارادة المتعارضين من عموم ذلك اللّفظ) فإذا ورد خبر بوجوب صلاة الجمعة ، والآخر بحرمتها لا يمكن الالتزام بكليهما واقعا (لأنّه) أي عموم ذلك اللّفظ (يدلّ على وجوب العمل عينا بكلّ خبر مثلا) حتّى صورة التعارض ، ولكن عدم حجيته في المتعارضين لعدم امكانه بالفعل لا بالذّات ، كما أنّ شرب الماء بذاته مباح ، ولكن إذا كان في نهار رمضان يحرم ، فلا منافاة بين حرمته بالعارض ، واباحته بالأصل.

(ولا ريب أنّ وجوب العمل عينا بكلّ من المتعارضين) أي العمل بكلّ

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) المائدة : ١

٨٢

منهما تعيينا بهذا وذاك (ممتنع) ولم يصدر من متكلّم حكيم إن قلت : انّ وجوب العمل المتعلّق بالجامع بينهما ، لقوله (ع) : فارجعوا فيها إلى روات حديثنا (١) وهو عنوان أحدهما القابل للانطباق على كلّ منهما ، وأيّا منهما فعل المكلّف فيكشف كونه المطلوب عند الله تعالى.

قلت (والعمل بكلّ منهما) أي من المتعارضين (تخييرا) وايكال تعيين احدهما في صورة التّعارض إلى المكلّف (لا يدلّ الكلام عليه إذ) على تقدير وجوده يستلزم ذلك استعمال اللّفظ المشترك في أكثر من معنى واحد ، لأنّه يستعمل في صورتي التعيين والتخيير و (لا يجوز ارادة الوجوب العيني) أي التعييني (بالنّسبة إلى غير المتعارضين و) ارادة الوجوب (التخييري بالنسبة إلى المتعارضين من لفظ واحد ، وأمّا العمل باحدهما الكلّي عينا) يعني إن قلنا بأنّ التخيير في المقام لا يكون شرعيّا كخصال الكفّارة (٢) لأنّ الشارع خيّرنا بين عتق رقبة ، واطعام ستّين مسكين ، وصوم شهرين متتابعين ، بل قلنا بأنّ التخيير في المقام عقليّ فكما أنّ اتيان الصلاة ينحلّ إلى أفراد طوليّة وعرضيّة ، بأنّ العقل يتخيّر بين اتيان صلاة الصبح مثلا في أي جزء من أجزاء الزّمان ، من أوّل طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس ، أو في كلّ مكان يجوز الصلاة فيه بمعنى اتيانها في الدّار ، أو في المسجد ، أو في الحرم الشريف ، أو في الحائط ، وكذلك فيما نحن فيه استعمل اللّفظ في التّعيين مطلقا.

ففي مورد عدم التعارض ، يكون كلّ فرد واجبا تعيينا ، وفي مورد التّعارض يكون التّخيير عقلا بين أفراد هذا الكلّي أعني المفهوم المنتزع من المتعارضين ليس فردا حقيقيّا للكلّي وإنّما يسري حكم الكلّي إلى أفراده الواقعيّة الخارجيّة

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ١٠١ الرواية : ٩.

(٢) الوسائل : الجزء ٧ ص ـ ٣٥. الرواية : ١.

٨٣

التي يكون الكلّي موجودا في ضمنهما.

ولكنّ العمل بأحدهما الكلّي (فليس من افراد العام).

فانّ قوله صدّق العادل ، وإن شمل هذا قول كلّ عادل ولكن في المتعارضين لم يكن افراد ثلاثة أمّا خبر زيد وحده ، وأمّا خبر عمرو وحده ، وأمّا أحدهما لا بعينه ، بل يكون في الخارج فردان معيّنان وبالعبارة الفارسيّة مادر خارج فرد سرگردان نداريم بلكه حكم روى افراد معيّن رفته است.

وأشار إليه بقوله (لأنّ افراد) العام (هي المشخّصات الخارجيّة ، وليس الواحد على البدل فردا آخر بل هو) أي أحدهما لا بعينه (عنوان منتزع منها) أي من الأفراد المعيّنة (غير محكوم عليه بحكم نفس المشخصات بعد الحكم بوجوب العمل بها عينا).

وبعبارة اخرى : ما ينتزع منه هو أحد تلك المشخّصات ، فهو في الحقيقة واحد منها ، وليس فردا آخر ، والمفروض ثبوت الحكم لكلّ من المشخصات بالوجوب العيني ، فلو حكم عليه أيضا بالوجوب العيني ، يعين بعنوان أحدهما المعيّن متعلّق الوجوب وبعنوان أحدهما الوجوب لا بعينه يجتمع الوجوبان ، فيلزم اجتماع حكمين متماثلين في مورد واحد (هذا لكن ما ذكره) قيل (من الفرق بين الاجماع والدّليل اللّفظي لا محصّل ولا ثمرة له) والفرق (فيما نحن فيه لأنّ المفروض قيام الاجماع) من أصحابنا الإماميّة (على) بطلان التساقط في صورة التعارض ، بل الاجماع قائم على (أنّ كلّا منهما) أي من المتعارضين (واجب العمل) فلا مدخليّة لعموم اللّفظ.

واطلاقه في مثل المقام لأنّه إذا اقام الدّليل على حجّية كلّ فرد فرد من حيث هو فلا شك في أنّه لا فرق بين صورتي التعارض وعدمه.

إذ : عدم التّعارض ليس من شرائط الحجيّة ، بل من شرائط العمل.

ولذا لم يعدّه أحد من شرائط الحجّة ، بل عدّوه من شرائط العمل ،

٨٤

والمقتضى للعمل موجود ، لأنّ قوله صدّق العادل ، ينحلّ إلى قضيّة طبيعية بمعنى أنّ الحكم ثابت على كلّما صدق عليه العنوان نظير المستطيع يحجّ ولكن (لو لا المانع الشرعي وهو) أي المانع الشّرعي عبارة عن (وجوب العمل بالآخر) بحيث أنّ العمل بكلّ واحد منهما مانع عن العمل بالآخر (إذ : لا نعني بالمتعارضين إلّا ما كان كذلك) أي كون كلّ منهما حجّة بنفسه ، وجامعا لشرائط الحجيّة ، كذلك ، فكما أنّ دليل انقذ الغريق ، يشمل كلا الغريقين ، إذا كانا مسلمين متساوي الرتبة في الفضل والكمال ، ولكن عجز المكلّف عن انقاذهما مانع ، ولذا يتخيّر بين انقاذ واحد منهما.

هكذا فيما نحن فيه ، فكلّ من الخبرين فيه مقتضى الحجيّة ، ولكن تعارضه مع الغير مانع ، إذ لو لم يكن شيء منهما حجّة في نفسه ، فلا مزاحمة بينهما اصلا ، بل يطرحهما كما لا يجب انقاذ الغريقين إذ كانا كافرين.

وبالجملة فإلغاء أحدهما غير جائز من دون فرق بين أن يكون الدّليل على الحجّية من الأدلة اللفظيّة أو اللّبية.

(وأمّا إذا كان وجود احدهما) أي أحد المتعارضين (مانعا عن وجوب العمل بالآخر) لأنّ وجوب العمل بهذا الدّليل لحجيّته يمنع ذلك ، وبالعكس (فهو) أي فهذا المورد (خارج عن موضوع التعارض ، لأنّ الامارة الممنوعة) كقيام التّواتر على حرمة اعطاء الصّدقة الواجبة على بني هاشم (لا وجوب للعمل بها) أي بهذه الأمارة الممنوعة ، فلا يعطى بهم الصدقة الواجبة (والامارة المانعة أن كانت واجبة العمل) نظير إنّما الصّدقات للفقراء (تعيّن العمل بها) أي بهذه الامارة المانعة (لسلامتها) الامارة المانعة (عن معارضة) الامارة (الأخرى فهي) أي الامارة المانعة (بوجودها تمنع وجوب العمل بتلك) الامارة الممنوعة ، لأنّها حاكمة (وتلك) الامارة الممنوعة لمحكوميّته (لا تمنع وجوب العمل بهذه) الامارة المانعة ، لأنّ الامارة الممنوعة ، لا يكون حاكما ولا واردا على الامارة المانعة ، كما أنّها لا يكون معارضا لها ، كما قال : (لا بوجودها) حتى يكون حاكما أو

٨٥

واردا (ولا بوجوبها) حتّى يكون معارضا.

فكون أحدهما حاكما أو واردا على الآخر خارج عمّا نحن فيه ، لأنّ النزاع انّما هو في تعارض الخبرين بحيث كان العمل بكلّ منهما مانعا عن الآخر (فافهم ، والغرض من هذا التطويل حسم) بسكون السّين أي إزالة (مادّة الشبهة التي توهّمها) الشبهة (بعضهم) أي بعض الاصوليّين (من أنّ القدر المتيقّن من أدلّة الامارات).

قوله (الّتي) صفة للأدلّة أي (ليس لها) أي لدليل الحجيّة (عموم لفظي هو) أي القدر المتيقن (حجيّتها) الامارات (مع الخلوّ عن المعارض).

(وحيث اتّضح) بأنّ كلا من المتعارضين لم يكن مانعا عن حجيّة الآخر ، فالمقتضى موجود وهو كونه خبر عدل أمرنا بتصديقه و (عدم الفرق في المقام بين كون ادلّة) الّتي دلّت على حجّية (الامارات من العمومات ، أو من قبيل الاجماع).

(فنقول أنّ الحكم بوجوب الأخذ بأحد المتعارضين ، في الجملة) أي إذا كان احدهما ارجح ، والّا فالتخيير.

ونهاية ما يمكن أن يقال ، هو التوقف ، والرّجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما ، مثلا إذا ورد خبر بحرمة الغراب الأسود ، وورود آخر بحليّته ، فالمستنبط يتوقف في مقام الفتوى ، ولكن في مقام العمل يرجع إلى : خلق لكم ما في الأرض جميعا ، لأنه موافق للحلية (وعدم تساقطهما) أي المتعارضين (ليس لأجل شمول العموم اللفظي لأحدهما على البدل ، من حيث هذا الظهور المنتزع لأن ذلك) الذي قاله الخصم (غير ممكن كما تقدم وجهه في بيان الشبهة) قبل أسطر ، لمنافاته لظواهر تلك الأدلة.

(لكن لما كان) المستعمل فيه اللفظ هو خصوص الوجوب العيني ، يشمل لصورة التزاحم أيضا ، فإن الذي في نفسه إنما هو وجوب العمل بكل واحد من آحاد الخبر عينا ، لكن في صورة التعارض يؤخذ أحدهما تخييرا ، لكون (امتثال

٨٦

التكليف بالعمل بكل واحد منهما كسائر التكاليف الشرعية والعرفية ، مشروطا بالقدرة والمفروض أن كلا منهما مقدور في حال ترك الآخر ، وغير مقدور مع ايجاد الآخر) فنحن قادرون على العمل بكل واحد منهما عند ترك الآخر ، لفرض عدم القدرة على كليهما ، فيكون حال الخبرين اعني وجوب العمل بصدق العادل ، في كل منهما من قبيل مقولة الواجبين النفسيين المتزاحمين ، نظير الغريقين اللذين لا يمكن انقاذهما بل يمكن انقاذ واحد منهما فقط (فكل منهما مع ترك الآخر مقدور ، يحرم تركه) أي ترك المقدور (ويتعين فعله) أي فعل ذلك المقدور (ومع إيجاد الآخر يجوز تركه) أي ترك ما ذكرناه (ولا يعاقب عليه) أي على ترك الآخر ، لأنه معذور.

وعلى ما ذكر علم بأن التخيير لم يكن من جهة شمول عموم اللفظ حتى يلزم المحذور المزبور أعني استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد ، بل يستفاد من حكم العقل بكون امتثال التكليف مشروطا بالقدرة ، فقوله : أنقذ كل غريق ، استعمل في معنى واحد ، غير أن العقل له حكم في الموارد بين المزاحم لغيره ، وغير المزاحم ، فيشمل الخطاب من قدر على كلا الغريقين من جهة الانقاذ ، ومن لا يقدر إلّا واحدا.

(فوجوب الأخذ بأحدهما) أي بأحد المتعارضين (نتيجة أدلة وجوب الامتثال و) وجوب (العمل بكل منهما) أي المتعارضين (بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة وهذا) أعني وجوب الاخذ بأحدهما (مما يحكم به بديهة العقل كما في كل واجبين اجتمعا على المكلف ، ولا مانع من تعيين كل منهما) أي من الواجبين (على المكلف بمقتضى دليله) أي دليل التكليف وهو : انقذ الغريق مثلا (الا تعيين الآخر عليه) أي المكلف (كذلك) أي بحسب دلالة الدليل.

فإن العقل لما رأى ثبوت الوجوب العيني لكل منهما مع عجز المكلف عن العمل بكليهما جميعا ، ومع ملاحظة أن المتكلم حكيم لا يكلف بغير المقدور ، فيستفيد من ذلك كله أن غرض المتكلم من تقسيم الوجوب العيني إلى تلك

٨٧

الصورة ، إنما هو بالنسبة إلى تمامية المقتضى له في كل منهما فيها ، وأنه يجب العمل بمقتضاه بما أمكن ، وهو العمل بأحدهما لا تركهما جميعا ، وهكذا يقال في ساير الواجبات النفسية أيضا كانقذ الغريق.

(والسر في ذلك) أي في وجوب الأخذ بأحدهما ، هو (أنا لو حكمنا بسقوط كليهما مع امكان) إنقاذ(أحدهما على البدل لم يكن وجوب كل واحد منهما ثابتا بمجرد الامكان ، ولزم كون وجوب كل منهما مشروطا بعدم انضمامه مع وجود الآخر ، وهذا) أي عدم وجوب هذا عند الامكان (خلاف ما فرضنا ، من عدم تقييد كل منهما) أي من الواجبين (في مقام الامتثال بازيد من الامكان ، سواء كان وجوب كل منهما) أي من المتزاحمين (بامرين) أعني مندرجين في عنوانين مختلفين كل منهما مأمور به بأمر مستقل كانقاذ الغريق ، واطفاء الحريق (أو كان وجوبهما) أي وجوب الفردين (بامر واحد ، يشمل الواجبين؟) أعني مندرجين في عنوان واحد ، كانقاذ الغريقين أو اطفاء الحريقين يدخلان تحت نوع واحد من سنخين.

ومقتضى الأصل في تزاحم الواجبين في كلتا الصورتين ، هو : لزوم امتثال احدهما تخييرا إذا كانا متساويين ، بمعنى عدم كون احدهما أهم من الآخر كما هو المفروض في المقام بحيث يستحق العقاب على مخالفة كليهما معا ، والتخيير يشمل كلتا الصورتين (وليس التخيير في القسم الأول) أعني كون وجوب كل منهما بامرين (لاستعمال الأمر في التخيير) حتى يتوجه عليه محذور استعمال اللفظ الواحد في معنيين (كما يتوهم ، بل) في التعيين ، ولكن الحكم بالتخيير (من جهة ما عرفت) وهو : حكم العقل بالتخيير (١).

(والحاصل : أنه) أي الشأن (إذا أمر الشارع بشيء واحد) كالأمر بتصديق قول العادل ، أو كالأمر بانقاذ الغريق (استقل العقل بوجوب اطاعته) أي أمر

__________________

(١) من : كما إلى هنا نسخة بدل.

٨٨

الشارع (في ذلك الأمر بشرط عدم المانع العقلي) وهو : تعارض الخبرين المتساويين من جميع الجهات ، أو تزاحم الغريقين وعدم قدرة المكلف ازيد من انقاذ احدهما (و) بشرط عدم المانع (الشرعي) كعدم جواز الصلاة والصيام والطواف والاعتكاف للحائض.

ملخصه : هذا الواجب التخييري وإن لم يدل عليه الخطاب لفرض كون مؤداه وجوب كل منهما عينا مع امتناع ثبوته لهما حينئذ لاستلزامه التكليف بغير المقدور كامتناع ارادة وجوب التخييري من ذلك الخطاب بالنسبة إلى صورة التزاحم ايضا لاستلزامها في استعماله في المعنيين.

والحاصل : أنه لا شبهة في تضمين كل من الواجبين كما تضمنه في غير تلك الحال من المصلحة التامة في حد نفسها ، بحيث تساوي هي في تلك الحال لها في غيرها من غير نقص فيها اصلا ، وهي مقتضى مطلوبية ذيها حتما على وجه التعيين لو لا المانع عن طلب ذيها كذلك ، بمعنى أن المانع ـ على تقديره ـ إنما يمنع عن فعلية التأثير ، لا من اصل الاقتضاء.

ومن المعلوم أن غاية ما عرضها في صورة التزاحم ، هو : عجز المكلف عن امتثالهما معا ، بحيث لو فرض محالا اتيانه بهما معا في تلك الحال لكان مطلوبا منه ذلك ، ولا ريب أن الذي ينافيه العجز انما هو عينية الوجوب ، لا أصله.

ضرورة عدم منافاته له تخييرا ، فلا مانع من اقتضاء المصلحة المفروضة حينئذ للوجوب التخييري.

ومن البين أن المقتضى ـ مع عدم المانع منه ـ علة تامة لمقتضاها ، فهي في تلك الحال علة تامة لوجوب كليهما تخييرا ، فيستكشف بطريق الإنّ ، بكون الملاك موجودا في كليهما ، والمفروض مساواة كل منهما للأخرى في حد نفسها ، ومساواة مورد كل منهما لمورد الأخرى ايضا ، بمعنى عدم كونه أهم من الآخر في نظر الشارع ، فيكون تأثير أحدهما فيما يقتضيه بالذات من الواجب

٨٩

النفسي من دون تأثير الأخرى ترجيحا بغير مرجح ، لتساوي نسبة المانع المفروض مع كل منهما.

(وإذا أمر) الشارع (بشيئين) كالأمر بانقاذ الغريق ، واطفاء الحريق (واتفق امتناع ايجادهما) أي ايجاد الشيئين (في الخارج ، استقل) العقل (بوجوب اطاعته) أي أمر الشارع (في أحدهما) أي أحد الشيئين (لا بعينه ، لأنها) أي لأن الاطاعة في احدهما (ممكنة) وإن لم يمكن فعلهما فالحكم بالتخيير من جهة قدرته على كل واحد بشرط ترك الآخر (فيقبح تركها) أي ترك الاطاعة في احدهما.

(لكن هذا كله) يعني أن الحكم بالتخيير في الخبرين المتعارضين من باب تزاحم الواجبين ، إنما هو : القاعدة الأولية في تأسيس الأصل في المتعارضين (على تقدير أن يكون العمل بالخبر) واعتباره (من باب السببية) والموضوعية (بأن يكون قيام الخبر على وجوب شيء) قوله : (واقعا) قيد للوجوب ، إن كان هو بنفسه كاشفا كما إذا فرض كون الوجه في حجية قول العادل لأجل أنه يحدث في الفعل بسببه مصلحة تساوي مصلحة الواقع المخالف ، أو تغلب عليها ، ويكون (سببا شرعيا لوجوبه) أي الشيء (ظاهرا على المكلف فيصير) الخبر أن (المتعارضان من قبيل السببين المتزاحمين) كوجود المصلحة في انقاذ كل من الغريقين (فيلغى احدهما) أي احد المتزاحمين (مع وجود الوصف السببية فيه) أي في المطروح (لأعمال) الخبر (الآخر كما في كل واجبين متزاحمين ، وأما لو جعلناها) أي جعلنا حجية الاخبار (من باب الطريقية) المحضة (كما هو) أي كون حجيتها من باب الطريقية (ظاهر أدلة حجية الاخبار بل غيرها) أي الاخبار (من الامارات) كالاقرار ، والبينة ، واليد ، وامارات الوقت والقبلة ، ونحوها (بمعنى أن الشارع لاحظ الواقع ، وامر بالتوصل إليه) أي الواقع (من هذا الطريق لغلبة ايصالها) أي الطريق (إلى الواقع) وهذا هو الفارق بين المتزاحمين ، وبين الطريقين المتعارضين.

٩٠

(فالمتعارضان لا يصير أن من قبيل الواجبين المتزاحمين) كاطفاء الحريقين ، وانقاذ الغريقين ، ونحوهما (للعلم بعدم إرادة الشارع سلوك الطريقين معا) إذ : المفروض ، اشتمال كل من المتعارضين ـ قد اخبر أحدهما بوجوب صلاة الجمعة ، والآخر بحرمتها مثلا ـ على شرائط الحجية المأخوذة من دليل اعتبارهما على نحو اشتمال الآخر عليها بحيث لو لا العلم بكذب أحدهما الناشئ من تنافي مدلولهما لكان كل منهما حجة فعلية على خصوص مؤداه.

لكن العلم بكذب أحدهما غير المعين يمنع من حجية كليهما معا لاستلزامها العمل بالطريق المعلوم كذبه ، ولا يعقل التعبد بطريقيّة ما علم مخالفته للواقع ، إذ : لا بد من كون الطريق المتعبد به على وجه يمكن الوصول إلى الواقع في نظر المكلف ، ومع علمه المفروض يمنع عنده التوصل إليه ، فيكون تعبده بهذا الطريق ، وذاك الطريق آئلا حينئذ إلى التناقض في نظره ، لفرض ارادته الواقع منه ، المخالف لمؤدى ذلك المتعبد به.

وحينئذ فيقبح التعبد بكلا الطريقين المتعارضين معا (لأن احدهما) أي أحد الطريقين (مخالف للواقع قطعا) فان جواز العمل بقول أهل الخبرة عند العقلاء ، مقيد بعدم معارضته بمثله ، إذ : المعارضة توجب القطع بمخالفة احدهما للواقع (فلا يكونان طريقين إلى الواقع ، ولو) وصلية لا شرطية (فرض محالا امكان العمل بهما) وتمكن المكلف من العمل بكليهما معا (كما يعلم ارادته) أي ارادة العمل بهما (لكل من المتزاحمين في نفسه على تقدير امكان الجمع) بحيث ان كان المكلف قادرا على انقاذهما فوجب عليه ذلك.

(مثلا : لو فرضنا أن الشارع لاحظ كون الخبر غالب الايصال إلى الواقع) لأن في العمل بقول العادل مصلحة غالبة لمطابقته للواقع في اكثر الأوقات (فامر) الشارع (بالعمل به) أي بالخبر العادل (في جميع الموارد) كما أن القياس بعض أقسامه يحرم العمل به لأن ما يفسده أكثر مما يصلحه ، ولذا منعوا من العمل به

٩١

بقولهم عليهم‌السلام : السنة إذا قيست محق الدّين (١).

وبالجملة : ان في انقاذ الغريقين لو فرضنا تمكنه من كليهما ـ ولو فعلا لا يقدر ـ لكان كليهما مطابقا للواقع ، بخلافه هنا ، إذ : لو فرضنا أنه يتمكن من كليهما نعلم بأن أحدهما ليس حكما واقعيا بل كذبا (لعدم المائز بين الفرد الموصل منه) أي الخبر (وغيره) أي غير الفرد الموصل من الخبر حتى أمر بأخذ ما كان موصلا.

(فإذا تعارض خبر أن جامعان لشرائط الحجية) وكون كل منهما مندرجين في العنوان الذي دلّ الدليل على اعتباره بشرائطه ، وهو الخبر العدل الضابط مثلا (لم يعقل بقاء تلك المصلحة) الكاشفة (في كل منهما) أي من المتعارضين لأنه ينتهي إلى التناقض (بحيث لو امكن الجمع بينهما) أي الخبرين (أراد الشارع إدراك المصلحتين بل وجود تلك المصلحة) الطريقي (في كل منهما) أي المتعارضين (بخصوصه مقيد بعدم معارضته) أي أحد الخبرين (بمثله).

إذ : في صورة التعارض بمثله يحصل العلم الاجمالي بكذب أحدهما في الواقع ، ومع العلم الاجمالي بمخالفة احدهما واقعا لا يجوز الأخذ بأحد المتعارضين.

(ومن هنا يتجه الحكم حينئذ) أي حين عدم جواز الأخذ بواحد من المتعارضين (بالتوقف) فلو جهلنا بطريق بغداد ، ودلنا شخص موثوق الخبر على جهة ، ودلنا آخر على خلاف تلك الجهة ، لم يجز لنا العمل بشيء منهما ، بل يجب التوقف (لا بمعنى أن أحدهما المعين واقعا طريق ولا نعلمه) أي المعين (بعينه) إذ : التعبد بكل واحد منهما عينا بدون التعبد بالآخر كذلك وإن كان امرا جائزا لفرض الشك في مخالفة كل منهما في حد نفسه للواقع وامكان التوصل به إلى الواقع في نظره بدون العمل بالآخر ، لكن لما كان المفروض اشتمال كل

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٩ ص ـ ٢٦٨. (الرواية : ١).

٩٢

منهما على شرائط الحجية المعتبرة من دليل اعتبارهما على نحو اشتمال الآخر عليها ، ودخول كل منهما في مصاديق العنوان المحكوم على حجيته في ذلك الدليل ، وهو خبر العادل مثلا ، فلا يقتضي ذلك الدليل اعتبار احدهما دون الآخر لكونه ترجيحا من غير مرجح ، نظير : جريان اصالة الطهارة في أطراف العلم الاجمالي ، لأجل عدم امكان أن يكونا ظاهرين ، وفي الواقع احدهما معلوم النجاسة كذا فيما نحن فيه ، لأن أصالة الحجية في كليهما معا لا يمكن ، للعلم بعدم صدور أحدهما واقعا ، وأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ، فيتساقطان (كما لو اشتبه خبر صحيح بين خبرين) فيما لو اشتبه الخبر المعتبر في نفسه بغيره الغير المعتبر كاشتباه الخبر الصحيح بالضعيف غير المنجبر ، فإذا علمنا بكذب أحدهما بلا عنوان معين ، فغير الحجة منهما انّما هو أحدهما بلا عنوان معين ، كما أن الحجة منهما هو أحدهما كذلك ، فالذي علم من تنافى مدلولهما هو كذب أحدهما بلا عنوان ، فأحدهما بلا عنوان غير حجة في مداليله مطلقا ، وأحدهما كذلك حجة في مداليله مطلقا ، لفرض بقاء احتمال صدقه مع اشتماله على شرائط الحجية.

ولأجل ذلك لا يعمل بشيء منهما في مؤديه المطابقي ، بل يتساقطان وإنما ينفي الثالث بأحدهما المحتمل الصدق غير المعنون بعنوان ، وهذا بخلاف ما اشتبه طريق معتبر بغيره ، فإن المعتبر له عنوان واقعي غير عنوان غير المعتبر ، فالنافي هناك للثالث ، إنما هو معين واقعي مجهول في الظاهر ، فالنافي للثالث عند اشتباه الصحيح بالضعيف هو الصحيح الذي هو معين في الواقع ، فالنافي للثالث هو الواحد المردد لا نفس كليهما معا نافيا ، مثلا ، إذا أخبر العدل بوجوب الظهر ، فقد أخبر بأمرين أحدهما عدم جواز البناء على البراءة ، والثاني وجوب البناء على الظهر وحيث أن الثاني معارض بخبر مثله الحاكم بوجوب البناء على الجمعة مثلا ، سقط عن الاعتبار ، بخلاف الأول فإنه غير معارض بمثله ، بل معتضد به فلا وجه لترك العمل به ففي عدم جواز البناء على البراءة فهما متفقان

٩٣

فيه فاشتراك المقامان في أصل التساقط في المدلول المطابقي ، وفي أن النافي للثالث فيها هو احدهما لأكل منهما ولا كلاهما معا ، وافترقا في أن النافي له هنا هو أحدهما بلا عنوان معين ، وهناك هو أحدهما المعين.

وبعبارة أخرى : أن المقامين وأن اشتركا في الحكم بنفي الثالث فيهما إلا أن النافي له في المقام كل واحد من المتعارضين ، وهناك هو المعلوم الاجمالي المردد وهو الخبر الصحيح فإن الطريق ، غير المعتبر عند اشتباهه بالمعتبر لا يزيد على ما كان عليه عند امتيازه عنه ، وهاهنا كلمات أزيد مما ذكرنا ، غير أنه اطالة لا يوافق مقام الاقتصار.

فلنرجع إلى ما نحن بصدده ، من أن المقام لا يكون من قبيل أحدهما المعين واقعا طريق (بل بمعنى أن شيئا منهما ليس طريقا في مؤداه بخصوصه) لعدم تعين الحجة منهما ، فلا يكون واحد منهما حجة في اثبات مؤداه المطابقي ، لعلمنا بكذب احد الخبرين إلا أنه لما لم يكن مائز بينهما ويكون تعيينه في احدهما ترجيحا بلا مرجح ، فلا يكون أحد الخبرين أيضا حجة في مؤداه المطابقي فيجب التوقف.

(ومقتضاه) أي التوقف إن لم يكن في البين دليل كالقطع الموصل إلى الواقع ، والعلم الاجمالي لكونه طريقا معتبرا ، والظواهر ، والخبر الواحد (الرجوع إلى الأصول العملية) فإن كان له حالة سابقة فنستصحب وإن شككنا في التكليف فالبراءة ، وإن شككنا في المكلف به فنحتاط ان أمكن وإلّا التخيير كدوران الأمر بين المحذورين (ان لم يرجح بالأصل الخبر المطابق له) أي الأصل إذ ترجيح احد الخبرين بالأصل موجب لتقديمه على معارضه ، ويخرج عن مورد الكلام أعني التكافؤ.

(وان قلنا بأنّه) أي الأصل (مرجح ، خرج عن مورد الكلام أعني التكافؤ) أيضا مثلا ، لو دل الدليل على حرمة الغراب الأسود ، والآخر على حليته ،

٩٤

فنحكم بالحلية لأن الأصل ، وهو : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)(١) موافق له وحينئذ يخرج عن فرض التكافؤ ويدخل في باب الترجيح بموافقة الأصل.

وعليه فيتعين العمل بالخبر الموافق للأصل فما وافق لاصالة الحلية يؤخذ به ، ويطرح الآخر (فلا بد من فرض الكلام فيما لم يكن أصل مع احدهما) أي أحد المتعارضين (فيتساقطان من حيث جواز العمل بكل منهما) أي الدليلين.

إذ : على السببية مقتضى الامتثال في كل منهما موجود ، بخلاف تعارض الطريقين ، فإن المصلحة الباعثة على جعله حجة ، هو الايصال إلى الواقع ، ولا يعقل في المتناقضين ، والمتضادين (لعدم كونهما طريقين كما أن) وجود المصلحة في أحدهما المعين واقعا لا يقتضي (التخيير) بل (مرجعه إلى التساقط من حيث وجوب العمل) بقول العدل مثلا.

(هذا) أي الذي قلنا من التساقط بالوجه المزبور (ما يقتضيه القاعدة) الأولية (في مقتضى وجوب العمل بالاخبار من حيث الطريقية ، إلا أن الأخبار المستفيضة) وهو عبارة عن ما فوق الواحد وما دون التواتر (بل المتواترة) الذي يفيد القطع (قد دلّت على عدم التساقط مع فقد المرجح).

نعم إذا كان لأحدهما مرجح ، فوجوب الترجيح إنما هو أصل ثانوي (وحينئذ) أي حين ما دلت الأخبار المستفيضة أو المتواترة على عدم التساقط عند فقد المرجح (فهل يحكم بالتخيير) كما عليه جمهور المجتهدين مستدلا بالأخبار المستفيضة الدالة على التخيير ، كما سيأتي (والعمل بما) أي بأحدهما الذي (طابق منهما الاحتياط) إن كان أحدهما مطابقا له ، كما إذا ورد خبر بوجوب السورة ، وورد آخر بعدم وجوبها ، فالاحتياط يقتضي إتيانها لا بقصد الجزئية الواجبة ، بل بقصد الجزئية المطلقة ، يعني سواء كان جزء مستحب ، أو جزء واجب (أو) العمل (بالاحتياط ، ولو كان) الاحتياط (مخالفا لهما كالجمع بين)

__________________

(١) البقرة : ٢٩.

٩٥

صلاة (الظهر و) صلاة (الجمعة) فيما إذا دل الدليل على وجوب صلاة الجمعة فمعناه لزوم الاكتفاء به ودل دليل آخر على وجوب صلاة الظهر كذلك ، والاحتياط مخالف لهما لأنه لا يقتضي الاتيان بأحدهما بل بكليهما ، فالاحتياط باتيان الظهر والجمعة مخالف لهما (مع تصادم) : أي مخالفة (أدلتهما) أي ادلة الظهر والجمعة (وكذا) الحكم كالجمع (بين القصر والاتمام) مع تصادم ادلتهما فيما اذا اتفق في سفره الثمانية ، بمعنى أنه ذهب أربع فراسخ ورجع كذلك ، فيجمع بين القصر والاتمام.

فالمحتمل في المقام (وجوه) ثلاثة (المشهور ، وهو الذي عليه جمهور المجتهدين) سوى الاخباريين (الأول) وهو : التخيير (للاخبار المستفيضة بل المتواترة الدالة عليه) أي على الأول (ولا يعارضها) أي ولا يعارض الأخبار الدالة على التخيير (عدا ما في مرفوعة زرارة الآتية المحكية عن عوالي اللئالي الدالة على الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة) فإن في ذيلها الأمر بالأخذ بما يوافق الاحتياط (وهي) أي الوجه الثاني (ضعيفة جدا) لأن غير هذه الرواية لم يقيد فيها موافقة الاحتياط مرجحا فيكون هذه الرواية نادرة وشاذة ، فالعمل على المشهور.

(وقد طعن في ذلك التأليف) أي عوالي اللئالي (و) طعن (في مؤلفه) أي الشيخ محمد بن علي بن ابراهيم بن أبي الجمهور (المحدث البحراني) الشيخ يوسف (قده ، في مقدمات الحدائق) وقد نقل المصنف قده عبارته سابقا ، وقال : بأنه مطعون في دينه وكتابه.

(وأما أخبار التوقف الدالة على الوجه الثالث) وهو : العمل بالاحتياط ولو كان مخالفا لهما (من حيث أن) وجوب (التوقف في) المتعارضين وإن كان ظاهرا في التوقف عن (الفتوى) وعدم الافتاء بشيء منهما إلا أنه (يستلزم الاحتياط في العمل كما) ذكر في أوائل مبحث البراءة بأن المنسوب إلى معظم الاخباريين (فيما لا نص فيه) هو الترك ، ويعبر عنه بالاحتياط.

واستدلوا بالأدلة الثلاثة : من الكتاب والسنة والعقل ، فقال قده لمدعي

٩٦

الاخباري ، ما هذا لفظه : فنذكر بعض ذلك الاخبار تيمنا منها.

مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) وفيها بعد ذكر المرجحات ، إذا كان ذلك ـ أي لم يوجد المرجح ـ فارجئه حتى تلقى امامك ، معللا بقوله (ع) فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات الخ.

تقريب الاستدلال يتوقف على دعويين ، أحدهما وجوب التوقف ، وثانيهما الاحتياط في مقام العمل والرجوع فيه إلى الاحتياط.

أما الأول : فلان التوقف عبارة عن السكون وعدم المضي ، فيكون كناية عن عدم الحركة بارتكاب الفعل ، ولو دل الخبر على الاستحباب لكان في اقتحام التهلكة حسنا ، وكان الوقوف أحسن منه ، لكن لا حسن في الاقتحام في التهلكة ، فيكون الوقوف حسنا على الاطلاق ، وهذا المعنى يجمع مع الوجوب.

ويؤيد ذلك قول بعض النحاة بأنه قد يقصد باسم التفضيل ، أصل الفعل مع التجريد عن معنى التفضيل ، فلا يفضل فيه كما هو ظاهر الرواية وكقوله تعالى : (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ)(٢) وكقولهم الناقص والاشج أعدلا بني مروان ، أي عادلاهم ، لانهما يشاركهما أحد من بني مروان في العدل ، والناقص ، هو : يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان ، لانه نقص أرزاق الجند ، والاشجّ بالشين المعجمة والجيم ، هو : عمر بن عبد العزيز ، لقب بذلك ، لأنه كان بجبينه أثر شجة من دابة ضربته.

وأما الثاني : فلأنه إذا ثبت وجوب التوقف من حيث الفتوى ، فيثبت وجوبه من حيث العمل أيضا ، كما ادعاه المصنف قده.

ووجهه أن وجوب التوقف من حيث الفتوى على تقدير ثبوته ، ثابت

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ٧٥. (الرواية : ١).

(٢) الجمعة : ١١.

٩٧

مطلقا ، شامل للافتاء بالحكم الظاهري ، ووجوب التوقف من حيث الحكم الظاهري يستلزم وجوبه من حيث العمل في مورد الشبهة أيضا.

فيدل هذه الرواية باطلاقها على وجوب التوقف في مقام الفتوى في الشبهة الحكمية الناشئة عن تعارض النصين المبحوث عنها في المقام اذ : عدم المضي معنى واحد في مقام العمل والفتوى ، والاختلاف أنما هو في مصاديقه حيث أن مصداقه في مقام الفتوى تركه ، وفي مقام العمل ترك العمل المخالف للاحتياط.

هذا ولكن أخبار التوقف (فهي) أي هذه الاخبار (محمولة على صورة التمكن من الوصول الى الإمام عليه‌السلام كما يظهر من بعضها) أي أخبار التوقف فقوله عليه الصلاة والسلام : فارجئه حتى تلقى أمامك ، مختصة بزمان حضور الأئمة عليهم الصلاة والسلام (فيظهر منها) أي من بعض أخبار التوقف (أن المراد ترك العمل وإرجاء) أي تأخير (الواقعة) أي الموضوع كالحكم بوجوب الصلاة ، وحرمة شرب الخمر ، ونحوهما ، وسماه بالواقعة ، لأنه يقع (الى القاء الإمام عليه‌السلام ، لا العمل فيها) أي الواقعة (بالاحتياط) كما مر في مسئلة البراءة في رواية جابر عن أبي جعفر ـ أمامنا الباقر ـ عليه الصلاة والسلام ، في وصيته ، لاصحابه ، اذا اشتبه الامر عليكم ، فقفوا عنده ، وردوه الينا ـ عند التمكن من الوصول ـ حتى نشرح لكم من ذلك ـ المشتبه معناه ـ ما شرح الله لنا الخ (١) فان اخبار التوقف ، نص في صورة تمكن تحصيل العلم ، وظاهر في صورة عدم التمكن ، واخبار التخيير بالعكس ، فيدفع ظاهر كل منهما بنص الآخر ، فنأخذ بالتخيير في زماننا هذا ، لأنه ليس زمان الحضور حتى نرجع الى المعصوم (ع).

(ثم) قد ظهر مما ذكرنا بان الغرض هو العمل بهما على وجه الطريقية و (ان حكم الشارع في تلك الاخبار بالتخيير في تكافؤ الخبرين ، لا يدل على

__________________

(١) الوسائل الجزء ١٨ ص ـ ١٢٣. (الرواية : ٤٣).

٩٨

كون حجية الاخبار من باب السببية بتوهم) كون الملاك موجودا في كليهما كما في صورة تزاحم الواجبين و (أنّه لو لا ذلك) أي لو لا حجية الأخبار من باب السببية والموضوعية (لأوجب التوقف) اذ : لو كان اعتبارها على وجه الطريقية المحضة ، لكان مقتضى القاعدة أن يحكم الشارع في المتعارضين منها بالتساقط في مؤداهما كما مر سابقا ، فحكمه بالتخيير يناسب اعتبارها على وجه السببية ، إذ : القاعدة فيهما بناء على اعتبارهما كذلك أنما هو ذلك ، ولكن لا يدل على كون دلالة الاخبار الآمرة بالتخيير في المتعارضين على اعتبارها من باب السببية (لقوة احتمال أن يكون التخيير حكما ظاهريا عمليا) ثابتا كما هو مقتضى الأصل الأولى ، لما مر آنفا بان الاخبار المتواترة قد دلت على عدم التساقط في مقام تعارض الخبرين مع فقد المرجح ، فليس كل واحد منهما حكم واقعي لأجل حدوث المصلحة ، بل ليست حجيتها إلا من باب الطريقية.

والبناء على التخيير حكم ظاهري تعبدي ، سواء قلنا بكون التخيير عقليا كما هو المختار ، كدوران الأمر بين المحذورين كالحلف بوطء الزوجة أو تركها في ليلة معينة ، أو شرعيا ، كاشتباه الواجب بغير الحرام ، نظير : اشتباه الصلاة في جوانب الأربعة ، واكتفى الشارع فيه بالموافقة الاحتمالية لقاعدة نفي الحرج ، أو غيرها من القواعد ، فإن التخيير في مثل هذه الموارد حكم ظاهري عملي ، جعل في موارد الاشتباه ، فيمكن أن يكون حكم الشارع بالتخيير في تعارض الخبرين ايضا من باب الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية (في مورد التوقف) فلما كان الملاك هاهنا ، هو الحكم الظاهري ، لذا أمر بالأخذ بأحدهما تخييرا من باب التعبد و (لا) يكون التخيير (حكما واقعيا ناشيا من تزاحم الواجبين) كقوله : أنقذ كل غريق ، حيث أنه مع عدم القدرة على الجمع بين فردين منه في مورد من الموارد ، يحكم بالتخيير العقلي ، لاشتمال كل فرد على المصلحة الملزمة بحيث لا مانع من الاتيان بفردين منه الا عدم القدرة بذلك ، فيكون وجوبه واقعيا ناش عن مصلحة ولم يكن التخيير فيما نحن فيه كذلك (بل الاخبار المشتملة

٩٩

على الترجيحات) والامر بأخذها من الاعدلية ، والاوثقية ، والأورعية ، ونحوها من المزايا التي توجب أقربية ذي المزية الى الصدور ، أو أبعدية احتمال عدم صدوره يثبت المطلوب (و) أيضا (تعليلاتها) أي الأخبار كما في قوله عليه‌السلام : فان الرشد في خلافهم (١) وغير ذلك مما سيأتي إن شاء الله تعالى (أصدق شاهد ، على ما استظهرناه من كون حجية الأخبار من باب الطريقية) مع عدم ظهور أخبار التخيير على خلافها لأنه يمكن أن يكون التخيير ظاهريا ، وحجية الأخبار من باب الطريقية (بل هو) أي كون حجية الأخبار من باب الطريقية (أمر واضح) فيعلم بهذه القرائن التي ذكرناها أن التخيير ليس واقعيا كما في انقاذ الغريقين ، لأنه لو كان التخيير واقعيا وأمكن الجمع في العمل بالخبرين باتيان القصر والإتمام ، أو الظهر والجمعة ، فلا معنى للتخيير ، بل يعمل بهما فان التخيير الثابت في المتعارضين حكم ظاهري تعبدي ثابتة في مورد التوقف ، وأن اعتبارها على وجه الطريقية أنما ينافي ثبوت التخيير في المتعارضين على نحو ثبوته للمتزاحمين من الواجبات النفسية ، اذا كان كل منهما مطلوبا نفسيا واقعيا تخييرا من حيث السببية ، وأما ثبوته فيهما بعنوان كونه حكما ظاهريا في مقام العمل ، ليست ظاهرة فيه ، بل طريقي متعبد بالعمل به (ومراد من جعلها) أي حجية الاخبار (من باب السببية عدم إناطتها) حجية الأخبار (بالظن الشخصي) بل طريق نوعي ، بمعنى أنه لا يدور مدار ظنك الفعلي ، بل الشأني.

وهذا لا يدل على أنه في اخبار العدل يحدث مصلحة في عرض الواقع ، بل معناه : ان الطريق هو ظن نوعي ، والظن النوعي حجيته من باب الطريقية.

فمعناه أنه لا يدور مدار فعلية الظن ، وشخصية الظن كما في الانسداد ، حتى القائلين بحجية الظواهر والأخبار ، قائلون بالطريقية ولا يعتبرون الظن الشخصي بوفاقه ، ومعنى السببية أن الأخبار سبب لأن يعمل بها ولو كانت حجة

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ٨٠. (الرواية : ١٩).

١٠٠