جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

محمّد رضا الناصري القوچاني

جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

المؤلف:

محمّد رضا الناصري القوچاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

واحد ، يكونان كعام وخاص مطلق ، فالتخصيص والتأويل ، يكون في غير الاظهر ، وفي غير النص.

قوله : (تعين العمل بالاظهر) جواب للفظة لو الشرطية (وصرف الظاهر الى ما لا يخالفه) فان ظهور يرمى في رمي السهم ، اقوى من ظهور أسد في الحيوان المفترس ، فيحمل على الرجل الشجاع.

وقوله : (كان حكم هذا) جزاء وجواب : أن الشرطية ، بمعنى أن كان لأحد الظاهرين مزية كان حكم ذي المزية أعني تقديم الأظهر على الظاهر (حكم القسم الثاني) أي كتقديم النص على الظاهر (١) (في أنه : إذا تعبدنا بصدور الأظهر ، يصير قرينة صارفة للظاهر ، من دون عكس) بمعنى لا يؤخذ بظهور أسد في الحيوان المفترس ، ويحمل الرمي على رمي التراب.

(نعم الفرق بينه) أي بين القسم الثالث ، وهو : تعارض الظاهر والأظهر (وبين القسم الثاني)

وهو : تعارض النص والظاهر (أن التعبد بصدور النص لا يمكن إلا بكونه صارفا عن الظاهر ، ولا معنى له) أي النص (غير ذلك) لعدم احتمال الخلاف في النص.

فالمتعين فيهما أخذ النص وتأويل الظاهر كما أن حجية الخبر المخصص ثابتة بالادلة الشرعية.

لان ظنية الخاص أن كانت في الدلالة ، فهو من قبيل القسم الثالث وأن كانت في السند ـ كما هو المقصود في المقام ـ تعين العمل بالخاص ، لأن دليل اعتبار سنده سليم عن المعارض ، وبعد وجوب التعبد به يتعين التخصيص ، إذ لا

__________________

(١) لا يخفى أن عد تقديم الأظهر على الظاهر من أقسام الجمع دون الطرح ، لا ينافي ما صرحوا به فيما بعد من كونه من الترجيح في الدلالة ، فان عدهم له من اقسام الجمع إنما هو في قبال الطرح من حيث السند لا في قبال الطرح مطلقا حتى ينافي كلامهم في باب الترجيح (ص ـ ٤٩٤ ـ قلائد).

٦١

معنى للتعبد به سوى الالتزام بآثار صدوره ، ولوازمه.

وقد عرفت أن من لوازم صدور الخاص بعد العام ، رفع اليد عن حكم العام فيكون النص أو الاظهر ، حاكما على غير النص والأظهر.

(ولذا ذكرنا دوران الامر فيه) أي في النص والظاهر كالعام والخاص (بين طرح دلالة الظاهر ، وطرح سند النص ، وفيما نحن فيه) وهو تعارض الظاهر والأظهر (يمكن التعبد بصدور الاظهر ، وابقاء الظاهر على حاله ، وصرف الأظهر) لكون الأظهر أيضا يحتمل فيه التأويل حتى ينطبق مع الظاهر ، ولكن حيث أن العرف يرجحونه على الظاهر فمع الترجيح العرفي يصير قرينة (لأن كلا من الظهورين مستند الى أصالة الحقيقة ، إلا أن العرف يرجحون أحد الظهورين) وهو الأظهر (على الآخر) وهو الظاهر ، بمعنى أنه يمكن أن يراد في تعارض الظاهر والأظهر ، نحو رأيت أسدا يرمى الظاهر ، وليس الأظهر كالنص القطعي فيحمل الأسد على المفترس ويحمل الرمي على رمي التراب ، إلا أن ظهور يرمي في رمي النبل أظهر ، من ظهور أسد في الحيوان المفترس فيستقر التعارض.

ولكن العرف يرجحون في التعارض الأظهر على الظاهر (فالتعارض) بين الأظهر والظاهر (موجود والترجيح بالعرف) (١) (بخلاف النص والظاهر) لأن النص بذاته قرينة قطعية ، فبضميمة صدق السند يقدم على الظاهر ، لأن النص حيث كان قطعي الدلالة فبعد التعبد بصدوره قطعا يكون قرينة على التصرف في الآخر ، لا أنه يمكن التصرف فيه وأن العرف يرجحونه على غيره (وأما لو) كان تعارض الظاهرين بنحو التباين الكلّي و (لم يكن لاحد الظّاهرين مزية على

__________________

(١) نعم بعد احراز الترجيح العرفي للأظهر يصير كالنص ، ويعامل معه معاملة الحاكم ، لأنه يمكن أن يصير قرينة للظاهر ولا يصلح الظاهر أن يكون قرينة له بل لو أريد التصرف فيه احتيج إلى قرينة من الخارج ، والأصل عدمه فافهم منه قده.

٦٢

الآخر ، فالظّاهر ان الدليل المتقدم في الجمع وهو ترجيح التعبد بالصدور على أصالة الظهور) بان يؤخذ السندان معا ويؤوّل الظاهر ان (غير جار هنا) كما في قوله : أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق ، فانهما من سنخ واحد ، لان كل واحد منهما جمع محلي باللام ، فليس هناك ظاهر واظهر ، او نص وظاهر (اذ لو جمع بينهما) أي بين الدليلين (وحكم باعتبار سندهما) بان كانا ظنيين ، فمعناه أخذ باحدهما لا بعينه (وبان أحدهما) أي أحد السندين (لا بعينه مأول لم يترتب على ذلك) أي على التعبد بصدور كل منهما أثر عملي (أزيد من الأخذ) والتعبّد (بظاهر أحدهما) صدورا كي يعمهما أدلة حجية الخبر حتى يصح أن يقال : أن الأصل في الدليلين الأعمال لأن أصالة الظهور في كليهما متعارضان والأخذ بأحدهما دون الآخر ، ترجيح بلا مرجح فيعرض الإجمال بسبب تساقط أصالتي الحقيقة المتعارضتين فحيث صار مجملا ، فلا دليل في المقام ، فيرجع الى قاعدة : أن الدليل اذا لم يجر في الموضوع يرجع الى الأصل العملي الموافق لأحدهما أو يدخل في الاخبار العلاجية لعدم إمكان الجمع ، فنأخذ أحدهما ونطرح الآخر من باب أن : الأصل مرجح لا مرجع.

(أما من باب عروض الاجمال لهما) أي للخبرين ، أن قلنا باعتبار الظواهر من باب الطريقية كما هو المختار ، فبمقتضى القاعدة يحكم (بتساقط اصالتي الحقيقة في كل منهما) أي من الخبرين (لأجل التعارض) لخروج الطريق من كونه طريقا بمزاحمة مثله ، لاستحالة حصول القطع بالمتناقضين ، لأن اعتبار خبر الواحد من باب الطريقية ، معناه تنزيله منزلة العلم (فيعمل) في موردهما (بالاصل الموافق لاحدهما) أن كان أحدهما موافقا له ، كما اذا ورد خبر بحرمة الغراب الأسود ، والآخر بحليته يتساقطان ، فنعمل بالاصل الموافق للحلية ، وهو كل شيء لك حلال ، فيكون الاصل مرجعا بعد التساقط.

(وأما من باب التخيير في الأخذ بواحد من أصالتي الحقيقة) أن قلنا باعتبار

٦٣

الظواهر من باب السببية والموضوعية (١) (على أضعف الوجهين في حكم تعارض الاحوال اذا تكافأت) الاحوال ، يعني لو لم يكن مرجح في البين.

(وعلى كل تقدير) المراد التقديرين السابقين أعني التساقط والرجوع الى

__________________

(١) توضيح ذلك : أن حجية الاخبار ، أما أن يكون من باب الطريقية المحضة ، أو يكون من باب السببية والموضوعية ، وقد مر في باب الظواهر ما يناسب هنا ، وهو : أن جعل الامارات على ثلاثة أوجه.

الأول : تخصيص الحكم بالعالمين في الواقع ، وإن ليس الواقع إلّا مؤدى الامارات ، وهذا تصويب اشعري لأن الحكم الواقعي من جهة اختصاصه بالعالم موقوف على العلم ، والعلم موقوف على المعلوم ، فيلزم الدور ، وهذا التصويب محال.

الثاني : عدم توقف الواقع علي ، العلم ، وعدم اختصاص الاحكام بالعالمين بها ، بل في صورة عدم قيام الامارة أصلا ، أو قيام الامارة الموافقة للحكم الواقعي موجود فلا يتوقف على العلم ، نعم في صورة قيام امارة المخالفة ينقلب الواقع إلى مؤدي الامارة ، فهذا تصويب معتزلي ممكن ، ولكن قام الاجماع على عدم صحته.

الثالث : مسلك الشيخ عليه الرحمة أن حجيتها من باب الطريقية ، فلا حكم فعلي الا في الواقع فإن أصابت الامارة فهو وإلّا فلا حكم فعلى حسب مؤدي الامارة ، وحينئذ يلزم من أمر الشارع بسلوك الامارة تفويت الواقع والمصنف قده في مقام الرد على ابن قبة صور صورة لا يلزم فيها ذلك ، وهو أن المصلحة في سلوك الامارة وتطبيق المؤدي منزلة الواقع يتدارك بها مصلحة الواقع الفائتة بقدر ما فات فإن كان الدليل قائما على وجوب الجمعة وفي الواقع كان الظهر واجبا فإن مضى وقت فضيلة الظهر فانكشف الخلاف ، فالمصلحة السلوكية تجبر مصلحة الفضل في أول الوقت ويجب عليه الاعادة من باب الطريقية وان فاته في الوقت فالمصلحة السلوكية تجبر مصلحة الادائية ، ولكن يجب القضاء عليه في خارج الوقت لأجل الطريقية ايضا ، وأما الطريقية المحضة بلا انجبار فلا تقول به الامامية فإيراد ابن قبة مندفع عنهم وإنما أشكاله وارد على الطريقية المحضة بلا انجبار ، ولا يقول أحد من الامامية به.

٦٤

ما وافق الاصل ، أو العمل بالتخيير على موجب الاخبار العلاجية (يجب طرح أحدهما) أي أحد المتعارضين ، والعمل بمقتضى الآخر فيسقط القول باولوية الجمع من الطرح.

(نعم تظهر الثمرة) باولوية الطرح من الجمع هنا (في اعمال المرجحات السندية) كالاعدلية ، والاوثقية ، والاورعية ، ونحوها من مرجحات صفات الراوي ، أو من قبيل مرجحات الرواية كالشهرة الروائية ، وموافقة الكتاب ، ومخالفة العامة ، ونحوها (في هذا القسم) الثالث اذا كان هناك مرجح (اذ على اعمال قاعدة الجمع) مهما أمكن أولى من الطرح (يجب أن يحكم بصدورهما ، واجمالهما كمقطوعي الصدور) فانه لو ورد أكرم العلماء ، وورد أيضا لا تكرم العلماء ، وثبتا بالتواتر كان صدور كل منهما قرينة صارفة للتخصيص في الآخر ، لاستحالة التناقض ، فلا بدّ من صرف ظاهر كلّ منهما بصريح الآخر ، فاذا كان أكرم العلماء صريحا في الانبياء عليهم‌السلام والعدول ، وظاهرا في غيرهما ، وكان قوله : لا تكرم العلماء صريحا ونصا في الكفار والفساق مثلا ، كان كل منهما في قبال الآخر من قبيل الخاص في مقابل العام (بخلاف ما اذا ادرجناه) أي أدخلنا هذا القسم الثالث (فيما لا يمكن الجمع) أعني بالقسم الأول (فانه يرجع فيه) أي فيما فرضناه أنه لا يدخل في القسم الثالث (حينئذ) أي حين التعارض والتساوي (الى المرجحات) التي ذكرنا آنفا.

(وقد عرفت أن هذا) يعني الأخذ بأحدهما سندا ودلالة ، وطرح الآخر رأسا ، والرجوع الى المرجحات أولى من الأخذ بالسندين وطرح الظهورين حتى لا نعمل ، وهو خلاف التعبد في قسمي الثالث والأول بل في الأول بطريق أولى (هو الأقوى) لانا أن أخذنا بالسندين وطرحنا الظهورين فصارا مجملين وحينئذ لا معنى لصدورهما (و) الحال (أنه لا محصل للعمل بهما) أي بسندين من دون الأخذ بظاهرهما ، لعدم إمكانه اذا لم يعلم المراد كما قال : (على أن يكونا

٦٥

مجملين ويرجع) في هذه الموارد (الى الاصل الموافق لاحدهما) مثلا : لو ورد خبر على وجوب صلاة الجمعة ، وآخر على وجوب الظهر ، ومقتضى الاستصحاب وجوب الجمعة لو قلنا بحجيته في المقام (ليكون حاصل الامر بالتعبد بهما ترك الجمع بينهما ، والاخذ بالاصل المطابق لاحدهما) (١) لأن الأصل مرجع ، حيث لم يكن دليل ، فاذا عرض الاجمال ، فلا دليل ، فيتساقط الدليلان ، فنرجع الى الاصل الذي هو وظيفة لمن لم يكن له الدليل.

(ويؤيد ذلك) أي طرح أحدهما والأخذ بالآخر (بل يدل عليه) أي على ذلك (أن الظاهر من العرف دخول هذا القسم) أعني : العموم والخصوص من وجه ، ولم يكن أحدهما أظهر من الآخر (في الأخبار العلاجية الآمرة بالرجوع الى المرجّحات) فاذا ورد أغتسل يوم الجمعة ، وورد أيضا ينبغي غسل الجمعة بناء على ظهور : ينبغي ، في الاستحباب.

فان كان احدهما أشهر ، أو كان راوي أحدهما أعدل ، أو أصدق نأخذ به ونطرح الآخر.

وان كانا متساويين من جميع الجهات فالتخيير (لكن يوهنه) أي الرجوع الى المرجحات اعتمادا على الاخبار العلاجية (ان اللازم حينئذ) أي حين كون الدليلين المتعارضين ، ولم يكن اظهر (بعد فقد المرجحات التخيير بينهما) أي بين الدليلين (كما هو) أي التخيير (صريح تلك الاخبار) العلاجية مع فقدان المرجح (مع أن الظاهر من سيرة العلماء) عملا (عدا ما سيجيء من الشيخ قده في النهاية ، والاستبصار) قوله : (في مقام الاستنباط) متعلق بالسيرة ، قوله : (التوقف) خبر ، لأن (والرجوع الى الاصل المطابق لأحدهما) ففي المقام بعد إسقاط الخبرين لو شك في حلية الغراب الأسود وحرمته ، لا يعملون بالتخيير بل يعملون بخبر الحلية لوجود المرجح معه ، وهو أصالة براءة التكليف من الحرمة

__________________

(١) من : ليكون إلى هنا ، نسخة بدل.

٦٦

فليسوا بمخالفين ، لاخبار العلاج ، نظرا الى انها تدل على التخيير عند عدم المرجح ، وهاهنا المرجح موجود.

اللهم (إلا أن يقال : أن هذا) أي الرجوع الى الأصل المطابق لأحدهما (من باب الترجيح بالأصل) بمعنى كون الأصل ، البراءة ، باعتقاد القدماء من الامارات المفيدة للظن ، فعدم اختيار التخيير لأجل المرجح ، وليس هنا مقام التخيير ، و (يعملون بمطابق الاصل منهما) أي من أحد الخبرين و (لا) يجعلون الأصل مرجعا بمعنى لا يطرحون الروايتين حتى يعملوا (بالاصل المطابق لاحدهما) أي إحدى الروايتين ، فلا يأخذون برواية الحرمة لكون الأصل موافقا لرواية الحلية فتترجح على رواية الحرمة (ومع مخالفتهما) أي الخبرين (للاصل) مثلا ورد صل الجمعة في الغيبة وورد رواية أخرى لا تصل الجمعة في الغيبة ، ففي هذه الصورة دوران الامر بين الوجوب والحرمة ، ولا يمكن الموافقة القطعية ، ولا المخالفة القطعية ، لأن الأصل عدم الوجوب ، وأن الأصل عدم الحرمة ، اذ : المكلف في مقام العمل ، أما تارك ، وأما فاعل (فاللازم) عقلا (التخيير على كل تقدير) سواء قلنا بأولوية الجمع والرجوع الى الأصل المطابق لأحدهما ، أو قلنا بالطرح واندراج ما نحن فيه في الأخبار العلاجية.

أما على الأول : فلأن الرجوع الى الأصل الموافق ـ مرجعا كان ، أو مرجحا ـ أنما هو مع وجود الأصل المطابق ، والمفروض عدمه ، فلا مناص عن التخيير.

وأما على الثاني : فلأن مفاد الأخبار الرجوع الى الترجيح ، ومع عدم وجود المرجحات التي منها الاصل المطابق لاحدهما بالفرض يتعين التخيير لا محالة (غاية الأمر أن التخيير شرعي) على القول به (أن قلنا بدخولهما) أي بدخول الخبرين المتعارضين (في عموم الاخبار) العلاجية (وعقلي) محض كما هو المشهور (على القول به) أي بالتخيير ، ولم نقل بتقديم جانب الحرمة متعينا ، استدلالا بأيام الاستظهار بترك العبادة مع احتمال أنها حائض أو مستحاضة ، إذا

٦٧

تجاوزت عن العشرة (في مخالفي الأصل) (١) (ان لم نقل) بدخولهما في عموم الأخبار ، بل من باب دوران الامر بين المحذورين ، يحكم العقل بالتخيير.

(وقد يفصل) في تعارض الظاهرين بين ما إذا كانت النسبة بينهما عموما من وجه ، وبين ما إذا كانت النسبة بينهما تباين كلي ، بأولوية الجمع على الطرح في الأول ، وبأولوية الطرح على الجمع في الثاني ، كما قال : فرق (بين ما إذا كان لكل من الظاهرين مورد سليم عن المعارض ، كالعامين من وجه) نظير : أكرم العلماء ، ولا تكرم الفساق (حيث أن مادة الافتراق في كل منهما سليمة عن المعارض) إذ : من المعلوم بأن العالم العادل واجب الإكرام ، والجاهل الفاسق محرم الإكرام (وبين غيره) أي غير عامين من وجه ، وهو التباين (كقوله أغتسل للجمعة) بناء على أن صيغة الأمر للوجوب (وينبغي غسل الجمعة) بناء على ظهور هذه المادة في الاستحباب (فيرجح الجمع على الطرح في الأول) أعني عامين من وجه (لوجوب العمل بكل منهما) أي من الظاهرين (في الجملة) يعني في مادتي الافتراق (فيستبعد الطرح) بان نأخذ بالسندين بل نتوقف (في مادة الاجتماع) أعني العالم الفاسق (بخلاف الثاني) وهو المتباينين ، لأن غسل الجمعة شيء واحد لا يقبل التبعيض ، فنأخذ بأحدهما سندا ودلالة ، ونطرح الآخر رأسا ترجيحا أو تخييرا.

(وسيجيء تتمة الكلام إن شاء الله تعالى ، بقي في المقام) شيء ، وهو : انه قد يكون اجراء قاعدة الجمع في ادلة الموضوعات كما كانت في أدلة الاحكام ، إذ قد لا يمكن الاخذ بمفاد الدليلين والحكم بتحقّقه في عالم الخارج ، وأنّما يجمع بينهما في مقام العمل كتعارض الدعوى في الاموال كما (أن شيخنا الشهيد الثاني (قده) فرع في تمهيده على قضية أولوية الجمع) بين الدليلين مهما أمكن (الحكم بتنصيف دار ، تداعياها وهي) أي الدار (في يدهما أو لا يد

__________________

(١) من : على القول إلى هنا ، نسخة بدل.

٦٨

لأحدهما ، وأقاما بينة) فانه قده جعل من فروع الجمع بين الدليلين أعمال البينتين القائمتين على مالكية رجلين ، يعني اذا قامت بينة على كون جميع الدار ـ مثلا ـ لزيد ، وبينة أخرى على كون جميعها لعمرو ، يحكم بالتبعيض في مدلول كل منهما ، فيصدق بينة زيد في نصفها ، وبينة عمرو في نصفها الآخر.

ولا فرق في ادعاء كل منهما المجموع بين أن تكون الدار المتداعي فيها في يدهما ، أو لم يكن يد أحدهما عليها.

وهذا الوجه وأن كان مستلزما للمخالفة القطعية ، لكن مع ذلك بني عليه في خصوص باب القضاء جمعا بين حقوق الناس (انتهى المحكي عنه) أي عن الشهيد قده.

وقد استشكل المحقق القمي قده بكلام الشهيد قده ما حاصله : أن الحكم بالتنصيف ، ليس لأجل الجمع ، بل أنما هو : لأجل تقديم البينة الداخلة على الخارجة ، أو بالعكس ، حيث أن كلا من المتداعيين بالاضافة الى نصف المشاع من الدار داخل ، وبالنسبة الى نصفها الآخر خارج فلا يقبل بينة كل منهما إلا في نصفها المشاع ، فيحكم بذلك باستحقاقه للنصف ، لا التمام ، سواء قلنا بترجيح بينة الداخل أو الخارج.

وننقل أيضا تيمنا بعض الفاظه بعينها ، فانه قده قال في القوانين (١) بعد نقل كلام الشهيد قده ، والتحقيق فيه : أن ذلك يصح بعد ملاحظة التراجيح في البينتين وانتفائها وتعادلهما وكيف كان فيمكن القدح في ذلك التفريع لامكان استناد التنصيف الى ترجيح بينة الداخل فيعطى كل منهما ما في يده أو ترجيح بينة الخارج فيعطى كل منهما ما في يد الآخر ، اذ : دخول اليد وخروجها ، أعم من الحقيقي والاعتباري ، كما حقق في محله.

ويمكن استناده الى التعارض والتساقط والتحالف فينصف بعد التحالف ،

__________________

(١) (ج ٢ ـ ص ـ ٢٧١ وفي بعض النسخ ص ـ ٢٧٩).

٦٩

فيجري مجرى ما لو ثبت يداهما عليهما ولم يكن هناك بينة كما هو المشهور ، انتهى كلامه رفع مقامه.

قال المصنف قده هذا الايراد مختص بصورة الأولى ، أعني اذا كانت الدار المتداعي فيها في يدهما ، ويشعر بذلك اختصاص ما ذكره بصورة وجودهما كما يدل عليه توجيه التنصيف على تقدير تساقط البينتين.

واليه أشار بقوله : (ولو خص) الشهيد قده (المثال بالصورة الثانية) أعني ما اذا كانت الدار خارجا عن أيديهما (لم يرد عليه) أي على الشهيد قده (ما) أي الاشكال الذي (ذكره المحقق القمي قده وأن كان ذلك) أي الصورة الثانية (أيضا لا يخلو عن مناقشة) غير إيراد الذي ذكره المحقق القمي قده.

والمناقشة (تظهر بالتأمل) وهي : ان الحكم بالتنصيف في الصورة الثانية ـ لأجل تساقط البينتين ـ لأجل التعارض ، فيكون كصورة تداعيهما مع عدم بينة لأحدهما ، ولا يد.

فتحالف كل منهما على نفي استحقاق الآخر ، واقتسماه بالسوية ، لان زيدا يدعى بان جميع الدار لي ، فيحلف أن نصف الدار التي تحت يده ليس له ، فنصدقه باليمين ، وهكذا يقول : عمرو ، فإن الحكم حينئذ غير متوقف على تبعيض البينة ، واعتبار قاعدة الجمع ، فلا يتفرع عليها.

(وكيف كان ، الأولى التمثيل بها) أي بالصورة الثانية (وبما اشبهها مثل حكمهم) أي الفقهاء (بوجوب العمل بالبينات في تقويم المعيب والصحيح) يعني لو تعددت القيم لاختلاف المقومين اخذت قيمة واحدة من النصف أو الثلث ، وهكذا من أصل الثمن باعتبار الأرش متساوية النسبة الى جميع القيم ، فمن القيمتين يؤخذ نصفها ، ومن الثلاث ثلثها ، وهكذا.

ولا فرق بين اختلاف المقومين في قيمته صحيحا ومعيبا ، أو في إحداهما فقط ، كما لو قالت إحدى البينات : أن قيمته ثلاثون صحيحا وعشرون معيبا ، وقالت بينة الاخرى أربعون صحيحا ، وعشرون معيبا ، وقالت : بينة الثالثة

٧٠

خمسون صحيحا وعشرون معيبا ، فمجموع الصحيحة مائة وعشرون ، ومجموع المعيبة ستون ، والتفاوت بينهما بالنصف ، فلو فرض : أن أصل الثمن اثنا عشر فيرد من أصل الثمن نصفه الى المشترى وهو ستة.

(وكيف كان فالكلام) هاهنا (في مستند اولوية الجمع بهذا النحو ، أعني العمل بكل من الدليلين في بعض مدلولهما المستلزم للمخالفة القطعية لمقتضى الدليلين) لان المفروض شهادة كل من البينتين بجميع الدار فالجمع بينهما في التبعيض في تصديق كل منهما في نصف الدار بتأويل ظاهر المتعارضين موجب لطرح كلا البينتين ، فيلزم المخالفة القطعية ، ومع ذلك يجري كيفية الجمع في تعارض البينات ، لأنه قابل للتبعيض ، بخلاف الاخبار (لان الدليل الواحد لا يتبعض في الصدق والكذب ، ومثل هذا) الجمع بالمعنى المقرر (غير جار في ادلة الاحكام الشرعية) لان الجمع في ادلة الاحكام ، أنما هو في القول الصادر من الامام لا في صدور القول الخاص وعدمه ، فانه اذا ورد في أحدهما : أكرم العلماء ، وفي الآخر : لا تكرم الفساق ، لم يكن نظير تعارض البينتين في ملكية الدار لواحد من الرجلين ، لان المفروض في الخبرين المتعارضين كونهما ظاهرين في مؤداهما ، فيمكن الجمع بينهما بالتأويل في ظاهريهما ، بل ينحصر وجه الجمع في ذلك اذ لا يعقل التبعيض في تصديق كل من الخبرين بالنسبة الى الصدور الذي هو متعلق اخبارهما ، ولا يعقل تعبد الشارع لنا بالبناء على صدور نصف الكلام الذي يحكيه أحدهما عن المعصوم عليه‌السلام ، لكونه سفها وعبثا لأنه لا يفيد حكما ، إذ : التعبد بصدور : أكرم ، فقط ، أو : العلماء ، فقط غير واقع ولم يترتب عليه فائدة.

(والتحقيق أن العمل بالدليلين) قوله (بمعنى الحركة والسكون) كناية عن الأمر والنهي ، لأن الأوامر نظير صيغة أفعل ـ مثلا ـ محرك نحو المطلوب ، وهو : في اللغة بمعنى الحتم والالزام ، وفي الاصطلاح عبارة عن : الطلب الانشائي ، والنهي على ما هو المشهور بين الاصوليين عبارة عن الطلب الانشائي المتعلق

٧١

بترك الشيء وعدمه ، فمعنى : لا تشرب الخمر ، اكفف وأسكن نفسك عن شربه.

وبالجملة أن الجمع بين الدليلين المتنافيين كتعارض الامر والنهي على موضوع واحد أو كتعارض البينتين والعمل (على طبق مدلولهما) المطابقي بحيث لا يلزم هناك طرح من وجه (غير ممكن مطلقا) سواء كان ذلك في الاحكام الكلية التي هي موارد الادلة الشرعية كالاخبار أو في الموارد الجزئية ، أعني الموضوعات كالبينة (فلا بد على القول بعموم القضية المشهورة) أعني الجمع مهما أمكن أولى من الطرح (من العمل على وجه يكون فيه) أي في العمل (جمع بينهما) أي بين الدّليلين (من جهة ، وان كان) هذا الجمع (طرحا من جهة اخرى ، في مقابل طرح أحدهما رأسا ، والجمع في أدلة الاحكام عندهم) أي عند الاصوليين (بالعمل بهما) أي بالدليلين (من حيث الحكم بصدقهما) فاذا ورد صلاة الجمعة واجبة ، وورد أيضا صلاة الجمعة محرمة ، فنحن نصدق كلتا الروايتين (وأن كان فيه) أي في هذا التصديق (طرح لهما) أي للخبرين (من حيث ظاهرهما) لان العمل بكلا الخبرين سند أو دلالة لا يمكن ، كما أن طرحهما سند أو دلالة لا يجوز.

ولذا نأخذ السندين ونتصرف في ظهوريهما ، بان قلنا الوجوب في عصر الحضور ، والحرمة في عصر الغيبة ، والحال أنهما مطلقان (وفي مثل تعارض البينات لما لم يمكن ذلك) أي لا يمكن العمل فيها بتلك القاعدة ، أعني التصرف في دلالتهما (لعدم تأتي التأويل في ظاهر كلمات الشهود) لأن كلام البينتين نصف لا يقبل التأويل ، فمن أخبر كلها لزيد ، صريح على الملكية بعنوان الاستيعاب لا بالنصف ، وهكذا من أخبر كلها لعمرو (فهي) أي البينات يعني البينتين المتعارضتين المعلوم إجمالا بكذب أحدهما (بمنزلة النصين المتعارضين) غير قابل للتأويل في دلالتهما ، وإلّا لم يكونا متعارضين.

ولذا (انحصر وجه الجمع) بين الحقين في البينات على تقدير اعتبار

٧٢

قاعدة الجمع (في التبعيض فيهما) أي في البينتين (من حيث التصديق) من كل منهما في بعض ما قامت عليه من الحق من باب الجمع بين الحقين ، اذ : ان الظن في نفسه ليس بحجة ، فان لم يدل دليل على حجية البينة ما كنا نأخذ بتمامها ولا بعضها ، ولكن حصر الشارع الحجية في النصف ـ في امثال المقام ـ وان كان مراد الشاهد الجميع قطعا ، وهذا أمر معقول (بان يصدق كل من) البينتين (المتعارضين في بعض ما يخبر به فمن أخبر) أي البينة التي قامت (بان هذا الدار كله لزيد ، نصدّقه في نصف الدار) وهكذا من أخبر بملكيتها لعمرو لدلالة البينة على الملكية وحيث لا نعلم بعدم كون كل واحد منهما صاحب حق ـ ولا مرجح في أصل الملكية لأحدهما على الآخر ـ يحكم بالشركة لرفع التحكم.

(وكذا) يحكم بالتنصيف إذا اشترى شيئا من بائع ، فظهر بعضه معيبا ؛ وهو كلما زاد أو نقص عن أصل الخلقة عينا كان أو صفة.

فالمعروف أنه يجوز أخذ الأرش ، وهو نسبة التفاوت بين القيمتين ، فيؤخذ ذلك التفاوت من الثمن ، إذا اختلفت البينات في القيم ، فلو اختلفت البينتان نصدقهما أيضا في النصف.

وعلى هذا (من شهد) أي المقوم (بأن قيمة هذا الشيء صحيحا كذا) مثلا اثنا عشر ، فقد شهد بأن كل نصف منه صحيحا منضما إلى نصفه الآخر أي في حال انضمامه إلى الآخر ستة (ومعيبا كذا) مثلا عشرة ، يعني كل نصف منه معيبا في حال انضمامه إلى النصف الآخر خمسة ، فنصدقه في النصف منهما أعني ستة صحيحا وخمسة معيبا.

وهكذا حال الشاهد الثاني ، أي إذا قالت البينة الأخرى ثمانية صحيحا وستة معيبا ، وهو مراد ما ذكره المصنف قده ، بقوله : (نصدقه) أي البينة الأولى (في أن قيمة كل نصف منه) أي الشيء (منضما) أي في حال اتصاله (إلى نصفه

٧٣

الآخر) فإذا صدقنا كلا منهما في (نصف القيمة) صحيحا ومعيبا تكون قيمته صحيحا عشرة الحاصلة من انضمام ستة إلى أربعة ، ومعيبا ثمانية الحاصلة من انضمام خمسة إلى ثلاثة ، ونسبة المعيبة أعني ثمانية إلى الصحيحة أعني العشرة هو الخمس وهو مقدار الأرش الذي يرد من أصل الثمن.

فلو فرض أن أصل الثمن خمسة عشر ، فيرد خمس من أصل الثمن إلى المشترى وهو الثلاثة.

(وهذا النحو) أي تصديق كل منهما في النصف (غير ممكن في الأخبار) إذ وجه العمل بها منحصر في التصرف في دلالتي المتعارضين منها مع التصديق والتعبد بصدور كليهما إذا أمكن التصرف في دلالتهما كما إذا كانا ظاهرين.

ومع عدم امكانه لا مورد لتلك القاعدة (لأن مضمون خبر العادل أعني صدور هذا القول الخاص من الامام عليه‌السلام غير قابل للتبعيض) لما ذكرنا آنفا من أنه لا يعقل صدور نصف الكلام عن المعصوم عليه‌السلام ، لأنه لا يمكن صدور «ا ك» من دون «ر م» وهكذا الخ (بل هو) أي الجمع في التبعيض في الأخبار (نظير تعارض البينات في الزوجية) فإنه إذا قامت بينة على زوجية امرأة لرجل ، والأخرى على زوجيتها لرجل آخر ، أو قام إحداهما على بنوة طفل لزيد ، والأخرى على بنوته لعمرو.

فكما أن الزوجية (والنسب) لا يقبلان التبعيض ، هكذا التبعيض في الأخبار أيضا غير معقول ، بل المرجع حينئذ إلى قاعدتي التعادل والترجيح المستفادين من الأخبار العلاجية.

فإن كان لاحدهما مرجح معتبر يؤخذ به ويطرح الآخر ، وإلا فالتخيير بينهما.

(نعم قد يتصور التبعيض في ترتيب الآثار على تصديق العادل) لا التبعيض في الصدور.

وذلك فيما (إذا كان كل من الدليلين عاما ذا افراد) كما في المتباينين

٧٤

(فيؤخذ بقوله) أي بقول الراوي (في بعضها) أي الأفراد (وبقول) الراوي (الآخر في بعضها ، فيكرم بعض العلماء ، ويهين بعضهم فيما إذا ورد أكرم العلماء ، وورد أيضا أهن العلماء ، سواء كانا نصين) كالمثال المذكور (بحيث لا يمكن التجوز في احدهما) بمعنى اختيار البعض دون البعض وإن كان كلهم عدول أو كون جميعهم فساق (أو) كانا أعني أكرم وأهن (ظاهرين) متساويين (فيمكن الجمع بينهما) أي بين الدليلين المذكورين (على وجه التجوز) بمعنى : عدم التخصيص في أفراد العام ، ولكن يتصرف في هيئة الأمر ، بمعنى : حمل ظاهر أكرم على الرخصة دون الوجوب الذي هو معنى حقيقي ، وحمل : أهن ، على المبالغة في الكراهة فيكون النتيجة جواز اكرام العلماء ، لكن مع كراهة شديدة ، هذا معنى التجوز (وعلى طريق التبعيض) بحمل : أكرم ، على بعض الأفراد ، وهم العدول ، وأهن ، على بعض الأفراد ، وهم : الفساق ، وفي بعض النسخ مكتوب على وجه التجوز على طريق التبعيض ، فيكون عطف تفسير ، فالمراد المجاز بالتخصيص ، وهو : استعمال العام في الخاص ، بأن يراد من : أكرم العلماء العدول ، ومن : أهن العلماء ، الفساق (إلّا أن) التبعيض مستلزم للمخالفة القطعية ، لأنه إن صدر أكرم العلماء فقط يجب اكرام كلهم ، وإهانة الفساق لا يجوز ، وإن صدر : أهن العلماء فقط ، فاكرام العدول لا يجوز ، وحيث أنا نكرم بعضا ونهين بعضا آخر فنقطع بمخالفة القطعية كترك القصر والاتمام في موارد اشتباه الحكم.

و (المخالفة القطعية في الاحكام الشرعية لا يرتكب في واقعة واحدة) أو موضوع واحد.

وبعبارة أخرى : المخالفة القطعية دفعية لا تدريجية مثلا إذا دار الأمر بين حرمة امرأة محتملة للأجنبية والزوجية ، فلو كانت أجنبية ، يحرم وطيها ، ولو كانت زوجة دائمة يجب في أربعة أشهر مرة ، فلو كرر بمعنى أنه ترك في أربعة ،

٧٥

وفعل في أربعة ، فقد خالف قطعا ، لأنها إن كانت زوجة فترك في أربعة أشهر ، وإن كانت أجنبية ففعل الحرام (لأن الحق فيها) أي في الأحكام الشرعية (للشارع ولا يرضى) الشارع (بالمعصية القطعية مقدمة للعلم بالاطاعة) كما إذا دار الأمر بين رجل مهدور الدم والآخر محقون الدم ، فلو قتلهما مقدمة للاطاعة القطعية ، استلزم ذلك مخالفة القطعية أيضا ، لأنه ـ وإن قتل مهدور الدم وامتثل أمر الشارع ـ إلا أنه قتل محقون الدم أيضا ، والشارع لا يرضى بذلك فلا يجوز التبعيض في التصديق أيضا ، كالتبعيض في الصدور.

فالجمع في الأخبار وإن كان متصورا بأحد الوجهين من التأويل والتبعيض في الآثار ، إلا أنه لما كان فيه محذور المخالفة القطعية (فيجب اختيار أحدهما وطرح الآخر ، بخلاف حقوق الناس ، فإن الحق فيها) أي في حقوق الناس (لمتعدد) «المتعدد خ ـ ل» لأن الحق مشترك بين الشخصين ، فلا ينبغي حرمان أحدهما محضا ، لاحتمال كون الحق معه فيجمع بين الحقين باعطاء مقدار منه.

وبالجملة (فالعمل) في البينات على أقسام ثلاثة.

الأول : هو العمل بكلتا البينتين باعطاء جميع الدار لزيد ، وكلها أيضا لعمرو ، لا بعنوان الشركة بل بالاستقلال فهو محال.

الثاني : هو العمل (بالبعض) بقاعدة العدل والانصاف (في كل منهما) أي من البينتين فيعطي نصف الدار لزيد ونصفها لعمرو (جمع بين الحقين) بمقتضى البينتين المتساويتين (من غير ترجيح لأحدهما على الآخر) قوله (بالدواعي النفسانية) متعلق بالترجيح كما إذا كان احدهما صديقا له ، أو من ارحامه (فهو) أي الجمع بين الحقين باعطاء النصف لكل منهما (أولى) من القسم الثالث (من الاهمال الكلي لأحدهما) بأن لا يعطي شيئا من الدار بأحدهما يعني لا يطرح البيّنتان ، ولا يبطل الحقّان.

(وتفويض تعيين ذلك) أي اختيار أحدهما تماما (إلى اختيار الحاكم

٧٦

ودواعيه النفسانية الغير المنضبطة في الموارد) التي تتفق عنده من مراجعة ذوي الحقوق من حقوق الآدميين ، وقد يتفق فيهم عدوله أو صديق وحيث لم يكن له استقلال في العمل بحيث لا يمكنه اجراء دواعي النفسانية ـ والعياذ بالله ـ على فرض تمايله وقصده ، فالحاكم من هذه الجهة بريء عن التهمة ، وهذا أيضا من مرجحات قانون الجمع بين الحقين في حقوق الآدميين عند التعارض.

(ولأجل هذا يعد الجمع) بين الحقين (بهذا النحو) من الحكم بالتنصيف (مصالحة) قهرية شرعية (بين الخصمين عند العرف) فالعرف محكّم بترتيب آثار الملكية لهما بمقتضى توارد اليدين على وجه الصحة تصديقا للبينتين ، وبمقتضى حمل فعل المسلم على الصحة (وقد وقع التعبد به) أي بهذا النحو من الجمع بين الحقين (في بعض النصوص أيضا) كدرهم الودعي ، فإن درهم الباقي نعلم اجمالا اما تمامه لأحدهما ، أو تمامه لغيره فما معنى التنصيف؟ فهنا يأتي كلام المصنف قده من باب الجمع بين الحقين.

(فظهر مما ذكرنا أن الجمع في أدلة الأحكام بالنحو المتقدم من تأويل كليهما) أي كلا الخبرين (لا أولوية له) أي الجمع (اصلا على طرح احدهما) أي أحد الخبرين (والأخذ بالآخر ، بل الأمر بالعكس) يعني أن الطرح أولى من الجمع نظرا إلى الأدلة المذكورة بالأخذ بأحد الدليلين ، وطرح الآخر بسبب الترجيح أو العمل على أحدهما من باب التخيير لو لم يحصل مرجح ، لأنه يمكن أن لا يكون كل واحد منهما مرادا للشارع ، إذ : من المحتمل صدور أحدهما تقية فيجب الغائها رأسا.

(وأما الجمع بين البينات في حقوق الناس) بالتبعيض بينهما جمع بين الحقين، لأن الحق فيه لمتعدد (فهو) أي هذا الجمع (وإن كان لا أولوية فيه) أي الجمع (على طرح أحدهما) أي أحد البينتين (بحسب ادلة حجية البينة لأنها) أي أدلة حجية البينة (تدل على وجوب الأخذ بكل منهما) أي من البينتين (في تمام

٧٧

مضمونه) يعني تعبدنا الشارع بتصديق قول العادل بقوله : صدق العادل ، فإذا قام البينة بملكية هذا الدار لزيد ، ولم يكن لها معارض ، نصدق البينة في تمام الدار لا في نصفها ، ولكن في صورة تعارض البينتين دار الأمر بين العمل في احدى البينتين في تمام المدلول ، وطرح الآخر ، وبين الأخذ بكل منهما لا في تمام مضمونه.

وكيف كان العمل بكل واحد من الطريقين مخالف لكلا البينتين (فلا فرق في مخالفتهما) أي مخالفة البينتين (بين الأخذ لا بكل منهما) والحكم بالتبعيض (بل) الأخذ(بأحدهما) أي احدى البينتين وطرح الأخرى ، بأن يعطي جميع الدار لزيد مثلا بالقرعة (أو) الأخذ(بكل منهما) أي من البينتين ، ونجمع بينهما (لا في تمام مضمونه) أي كل منهما (بل في بعضه) أي بعض كل منهما بأن يعطي نصف الدار لزيد مثلا ونصفها لعمرو.

وعلى كلا التقديرين يلزم المخالفة القطعية للحكم الظاهري ، وهو : أعمل بالبينة وما عملنا بالبينة في كلتا الصورتين ، أما الأولى فظاهر لطرح احد البينتين رأسا ، وأما الثانية لأنا ما عملنا بالبينتين بل عملنا بكلتا البينتين في الجملة (إلا أن ما ذكرناه من الاعتبار) من أن في حقوق الناس يكون الحق فيها لمتعدد (لعله) أي ما ذكر (يكون مرجحا للثاني) وهو : الجمع بين الحقين (على الأول) وهو الطرح.

(ويؤيده) أي ما ذكرناه من الحكم بالتبعيض (ورود الأمر بالجمع بين الحقين بهذا النحو في رواية السكوني) (١) وهو : وإن كان من علماء العامة على المشهور ، لأنه يقبل رواية الامام عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يقبل رأي الامام عليه الصلاة والسلام لكن الرواية (المعمول بها) بين الأصحاب ـ لأن الرواية كلما ازدادت ضعفا إذا عمل بها المشهور ، ازدادت

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٣ (الباب : ١٢) ص ـ ١٧١ ـ الرواية : ١.

٧٨

صحة ، وبالعكس كلّما ازدادت صحة إذا أعرض عنها المشهور ، ازدادت ضعفا ـ (فيمن أودعه رجل درهمين و) رجل (آخر) أودعه (درهما فامتزجا) دراهمهما الثلاثة (بغير تفريط ، وتلف احدها) أي أحد الدراهم عند الأمين فحكم الامام عليه‌السلام في هذه الواقعة على ما نقل ، بأن يعطي لصاحب الدرهمين درهما ونصفا ، ولصاحب الدرهم نصف درهم لأن لصاحب الدرهمين درهم واحد كامل ، وانما الشك في أن الدرهم الآخر هل هو لصاحب درهم واحد أو لصاحب الدرهمين ، فدرهم واحد كامل لذي الدرهمين ، والدرهم الموجود نصفه لأبي الدرهمين ونصفه الآخر لأبي درهم واحد ، كما أن التالف نصفه تلف من ذي درهمين ونصفه الآخر تلف من أبي درهم.

ولذا أمر الامام عليه‌السلام بتنصيف ما بقي وما ذهب ، كما قد ذكره قده في مبحث القطع ، ما هذا لفظه : منها حكمهم فيما لو كان لأحد درهم ، والآخر درهمان ، فتلف أحد الدراهم من عند الودعي ، بأن لصاحب الاثنين واحدا ونصفا ، وللآخر نصفا.

(هذا ولكن الانصاف) حيث كان اعتبار البينة على المختار من باب الطريقية يتعين (أن الأصل) والقاعدة (في موارد تعارض البينات وشبهها) أي شبه البينات كتعارض اليدين ، أو كتعارض الاقرارين ، ونحوهما (هي القرعة) لأنها لكل أمر مشكل ، وقد قيل بأن القرعة غالبا تطابق الواقع كما في القرعة الجارية على يونس النبي على نبينا وآله وعليه‌السلام.

(نعم) قد تقدم نظير ذلك ، في باب تعارض الاستصحاب مع القرعة فراجع.

ولكن (يبقى الكلام في كون القرعة مرجحة للبينة) قوله (المطابقة) صفة للبيّنة (لها) أي القرعة (أو) كانت القرعة (مرجعا) يعني (بعد تساقط البينتين) يرجع اليها.

وبعبارة أخرى إن كانت القرعة مرجعا فتسقط البينتين ، وان كانت مرجحا

٧٩

فالعمل بالبينة (وكذا) يبقى (الكلام في عموم موارد القرعة) بمعنى تجري القرعة ولو كان في البين اصل موجود (أو اختصاصها) أي القرعة (بما) أي بموارد التي (لا يكون هناك أصل عملي) كالعلم الاجمالي في موطوءة الغنم ، فإنه يجري فيه قاعدة القرعة ، ولا يجري فيه الأصل ، لتعارض الاستصحابات وسقوطها.

ولكن مع وجوده نعمل به (كاصالة الطهارة مع احدى البينتين) يعني إذا قامت البينة بطهارة هذا المكان ، وقالت اخرى بأنه ليس بطاهر بل نجس تساقطا معا ويرجع إلى اصالة الطهارة ، وهو كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر ، فنحكم بطهارة هذا المكان.

وتظهر الثمرة في هذا المورد ، يعني أن أخذنا القرعة فجاء القرعة بنجاسة هذا المكان ، لا نعتني ، بل نحكم بطهارته ، لأنه موافق لاصالة الطهارة.

(وللكلام مورد آخر) يعني ليس هنا مجال البحث في قاعدة القرعة واحكامها بل له مقام آخر.

(فلنرجع إلى ما كنا فيه) وهو أولوية الطرح على الجمع (فنقول حيث تبين عدم تقدم الجمع على الترجيح) بحسب الدلالة مع وجوده كالنصوصية مع الظهور ، أو الأظهرية معه (ولا) يقدم الجمع الدلالي (على التخيير) مع فقدان المرجح في صورة تعارض الظاهرين ، سواء كان بنحو تباين الكلى ، أو عموم وخصوص من وجه.

(فلا بد من الكلام في المقامين الذين ذكرنا أن الكلام في احكام التعارض يقع فيهما) أي في المقامين.

لأنه في صورة التعارض ، أما أن يساوي الخبرين في المرجحات ، أو يكون لأحد المتعارضين مزية على الآخر.

(فنقول) المراد بالمتعارضين المبحوث عنهما هنا المتكافئان منهما ، لا مطلق المتعارضين كما قال.

(المقام الأول في المتكافئين) الذين لا ترجيح لأحدهما على الآخر والمراد تكافئهما من جميع الجهات يعني بحسب السند والدلالة وجهة الصدور.

٨٠