جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

محمّد رضا الناصري القوچاني

جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

المؤلف:

محمّد رضا الناصري القوچاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

ظاهرهما التعارض ، يجب عليك أولا البحث عن) استفادة (معناهما وكيفية دلالة الفاظهما) على أي شيء تدل ، هل المراد عموم او خصوص؟ (فان امكنك التوفيق بينهما) بان تجمع بين الدليلين (بالحمل على جهات التأويل ، والدلالات فاحرص عليه) أي على هذا الجمع (واجتهد) «كوشش كن» (في تحصيله) الجمع (فان العمل بالدليلين مهما أمكن).

والمراد على ما يظهر من كلامه هو الامكان الاعم من العقلي (خير من ترك احدهما وتعطيله) قوله : (باجماع العلماء) متعلق بخير ، فاذا ورد اكرام العالم واجب ، ومن تركه دخل النار ، وورد ايضا : اكرام العالم محرم ، ومن فعله دخل النار ، يؤخذ بكلا الدليلين ، ويحمل احدهما على العالم العادل ، والآخر على العالم الفاسق مثلا.

وهذا جمع عقلي ويسمى جمعا تبرعيا أيضا (فاذا لم تتمكن من ذلك) الجمع (ولم يظهر لك وجهه ، فارجع الى العمل بهذا الحديث (١) ، واشار بهذا) أي بقوله هذا الحديث (الى مقبولة عمر بن حنظلة ، انتهى) كلام الحاكي عن ابن ابي الجمهور.

وهذا كما ترى تصريح بقيام الاجماع على وجوب الجمع على الوجه الذي قرره.

(واستدل) مبني للمفعول (عليه) أي على أولوية هذا الجمع بوجهين (تارة : بان الاصل في) كل واحد من (الدليلين) هو (الاعمال) لان الاصل حجية قول العادل ، وصدق العادل ، يشمل كلا الخبرين وحيث لا يمكن العمل بهما بمدلولهما المطابقي ، يعمل بهما بحسب الامكان ، وهو يحصل بالجمع بينهما بما امكن ، لانه مقتضى الاصل المذكور (فيجب الجمع بينهما مهما امكن) لانه لو لا وجوب الجمع بينهما مهما امكن ، للزم اما طرحهما وهو خلاف الاصل ، او

__________________

(١) عوالي اللئالي ؛ ج ـ ٤ ص : ١٣٦.

٤١

طرح احدهما وترجيح الآخر بلا مرجح ، وهو خلاف العقل (لاستحالة الترجيح من غير مرجح) فيجب الجمع بينهما مهما أمكن.

(و) استدل على اولوية هذا الجمع مرة (اخرى) بقول العلامة قده ، في محكى النهاية (بان دلالة اللفظ على تمام معناه اصلية ، وعلى جزئه تبعية) (١) (وعلى تقدير الجمع يلزم اهمال) وترك (دلالة تبعية ، وهو اولى مما يلزم على تقدير عدمه) أي عدم تقدير الجمع (وهو : إهمال دلالة اصلية) بمعنى دوران الامر بين رفع اليد عن ظاهر دليل : لا تكرم العلماء مثلا ، بالكلية اصلا وتبعا أعني الطرح والاخذ بالآخر ، وبين رفع اليد عن خصوص الدلالة الاصلية فيهما أعني ابطال الاصلين من دليل : اكرم العلماء ودليل لا تكرم العلماء ، والعمل بدلالة التبعية فيهما بحملهما على المجاز بعد القرينة الصارفة بحمل احدهما على العدول ، والآخر على الفسّاق ، ولا ريب ترك دلالة تبعية أولى من ترك دلالة اصلية ، لانه اذا انتفت الاصلية ، تتبعها التبعية لا محالة في الانتفاء.

وبعبارة اخرى اكرم العلماء دلالته الاصلية ، تقتضي اكرام كلا النوعين العدول والفساق ، فالاخذ بالتبعية أي حمل العلماء على العدول أولى من ترك

__________________

(١) المشهور على ما بين في المنطق ، أن الدلالة الوضعية اللفظية على اقسام ثلاثة ، الأول : المطابقة أو دلالة القصد ، الثاني : التضمن أو دلالة الحيطة ، الثالث : الالتزام أو التطفل ، وقال بعض بأن الدلالة الوضعية تنقسم إلى قسمين ، الدلالة الأصلية ، وهي تكون في الألفاظ التي لأجلها مباشرة وضعت لمعانيها ، والتبعية كما استدل الكاتبي وشارح حكمة الاشراق بأن التضمن والالتزام تابعتان للمطابقة ، ويسمونهما تبعية ودلالة المطابقة أصليّة ، قال الحكيم السبزواري قده في المنظومة :

دلالة اللفظ بدت مطابقة

حيث على تمام معنى وافقة

وما على الجزء تضمناً وسم

وخارج المعنى التزام أن لزم

واستلزما الأولى بلا عكس كما

بينهما بالذات لاتلازما

٤٢

الاصلية بتاتا أي بكلا نوعيها.

(و) فيه ما (لا يخفى) من الوهن ، اذ مجرد امكان التأويل لا يوجب اولوية الجمع بذاك المعنى و (ان العمل بهذه القضية على ظاهرها) يعني ان القول بوجوب الجمع بمجرد الامكان العقلي ، وارتكاب التأويلات البعيدة من دون دليل وشاهد ونظر عرفي (يوجب سد باب الترجيح) في الاخبار وساير الادلة (و) يوجب (الهرج في الفقه) كما سنذكره قريبا. واحداث فقه جديد (كما لا يخفى) على المتأمل (ولا دليل عليه) أي على هذا الجمع (بل الدليل) قام (على خلافه من الاجماع والنص).

فهنا دعويان ، الاول : عدم الدليل عليه ، والثاني : نهوض الدليل على خلافه ، من الاجماع والنص (اما عدم الدليل عليه ، فلان ما ذكر) في هذه القضية (من : ان الاصل في الدليلين الاعمال) فهو (مسلم لكن) المراد من الامكان في قولهم : الجمع بين الدليلين مهما امكن اولى من الطرح كما مر ، هو الامكان العرفي ، بحيث يساعد عليه نظرهم ويعملون به ، وهو الموافق للقاعدة فليس المراد من الامكان ، هو الامكان العقلي : فانه ما من دليلين متعارضين الا ويمكن الجمع بينهما عقلا ، فينسد باب الترجيح والتخيير ، لان (المفروض عدم امكانه) أي الجمع (في المقام) بحيث يبقى العرف متحيرا في مقام العمل (فان العمل بقوله عليه‌السلام ثمن العذرة سحت (١) ، وقوله عليه‌السلام : لا بأس ببيع العذرة) (٢) (على ظاهرهما غير ممكن) لان العذرة لها ظهور واحد يعمهما (وإلّا) أي وأن لم نقل بعدم امكانه ، بل قلنا بامكان الجمع فيهما عرفا (لم يكونا متعارضين) نظير النص والظاهر والاظهر ، او العام والخاص المطلق.

(واخراجهما عن ظاهرهما ، بحمل الاولى على عذرة غير مأكول اللحم) كعذرة الهرة ، ونحوها (و) بحمل (الثانية على عذرة مأكول اللحم) كعذرة الشاة

__________________

(١ و ٢) الوسائل : الجزء ١٢ ص ـ ١٢٦. (الرواية : ١ و ٢).

٤٣

ونحوها (ليس عملا بهما) من وجهين.

الاول لانه اذا انفتح باب امكانات العقلية ، ففيهما احتمالات كثيرة ، فمنها : مضافا على ما ذكره قده ما يمكن ان يقال : بان المراد من الاولى في الليل ومن الثانية في النهار.

ومنها ما يمكن ان يقال : بان المراد من الاولى في حال السقم ، ومن الثانية في حال الصحة.

ومنها ما يمكن ان يقال : بان المراد من الاولى في الشتاء ومن الثانية في الصيف ، وهكذا ، وهذا جمع عقلي غير منضبط لا شاهد له.

الثاني : لا بد لتمامية كل واحد من الخبرين والعمل بكل منهما من اصول اعني قواعد ثلاثة : من حيث السند والدلالة ، وجهة الصدور ، والمفروض ان الكلام في تعارض الظاهرين على وجه التباين ، ولم يكن هناك قرينة يرتفع بها التنافي ، فان قلنا : باعمال كل منهما بحسب السند والدلالة وجهة الصدور ينجر الى العلم بان الشارع امر باجتماع المتناقضين ، وهو محال ، وحيث ان جهة الصدور فيهما مفروغ عنه ، فيدور الامر بين مراعاة التعبد بصدور المتعارضين ، ورفع اليد عن ظهورهما بالتأويل ، كما قاله ابن ابي الجمهور ، وبين الاخذ باحدهما سندا ودلالة ، وطرح الآخر رأسا سندا ودلالة.

والاول ليس باولى من الثاني (اذ : كما يجب مراعاة السند في الرواية ، والتعبد بصدورها اذا اجتمعت شرائط الحجية) بان كانت الرواية صحيحة ، او حسنة ، او موثقة ، او مسندا ، لا مرسلا ، ولا مرفوعا ، ولا موقوفا (كذلك يجب التعبد بارادة المتكلم ، ظاهر الكلام المفروض وجوب التعبد بصدوره اذا لم يكن هناك قرينة صارفة).

نعم : ان كان هناك قرينة صارفة مثلا : لو فرضنا انه قام الاجماع بان المراد من الاولى العذرة النجسة ، ومن الثانية العذرة الطاهرة ، فصح الحمل عليه (ولا

٤٤

ريب) على كلا القولين يلزم طرح اصلين ، اما طرح الظهورين الذي هو مقتضى الجمع ، واما طرح الآخر بحسب السند الذي لازمه عدم العمل بظاهره ، و (ان التعبد بصدور احدهما) أي أحد الدليلين (المعين اذا كان هناك مرجح) كما اذا كان راوي الخبر الاول اعدل مثلا يؤخذ به من باب المتيقن (و) التعبد بصدور أحدهما (المخير اذا لم يكن) ترجيح لاحد الطرفين ، فان التعبد (ثابت على تقدير الجمع و) على تقدير (عدمه) أي عدم الجمع (فالتعبد بظاهره) أي أحدهما (واجب) لأنّه متفرّع على التعبّد بصدوره (كما أنّ التعبد بصدور الآخر أيضا واجب) من جهة اقتضاء دليل الحجية (فيدور الامر بين عدم التعبد بصدور ما عدا الواحد المتفق على التعبد به) الذي هو مفاد الطرح أما تعيينا أو تخييرا (وبين عدم التعبد بظاهر الواحد المتفق على التعبد به) الذي هو نتيجة الجمع.

ملخصه : انه لا مناص عن الاخذ باحد الخبرين المتعارضين لما مرت الاشارة اليه ، ومن المعلوم : ان الذي وجب الاخذ به فيهما ، لا يعقل ان يعارض سنده سند الآخر ، بل التعارض : انما يقع بين ظاهر ذلك ، وبين سند الآخر لدوران الامر حينئذ بين التصرف في ظاهره ، والاخذ بسند الآخر ، ودلالته ، وبين طرح سند الآخر ، وظاهر الآخر لا يعارض ظاهره لعدم صلاحيته لذلك ، فان ادلة اعتبار الظواهر انما يقتضي اعتبار الظواهر بعد الفراغ عن سنده ، والمفروض عدم احرازه بعد في المقام ، لان المراد من التعبد بالظاهر التعبد بظاهر ما صدر من المعصوم فلا يعقل تحقق الظاهر اذا حكم بعدم الصدور فلا يكون طرحه مع الشك في صدور مثله مخالفا لذلك الدليل حتى يقع التعارض بينه ، وبين ذلك المتيقن الاخذ.

وبالجملة : ذلك الدليل انما يشمل ظهور الواحد المتيقن الاخذ به دون ظهور الآخر ، فيقع التعارض حقيقة بين ذلك الدليل وبين دليل اعتبار سند الآخر (ولا اولوية للثاني) الذي رجح به صاحب عوالي اللئالي فيكون اختياره ترجيحا

٤٥

بلا مرجح ، فان الدلالة الاصلية ما لم يحرز سنده لا يكون طرحه مخالفا للاصل ، حتى يختار التأويل الذي هو دلالته بنفسه فرارا عنه ، فظهر انه لا دليل على القاعدة المذكورة مع قطع النظر عن الادلة المتقدمة المشار اليها المانعة عن المصير اليها.

ولا يخفى : ان هذا انما هو بالنظر الى الاخبار العلاجية حيث انهما بمجموعهما بعد عدم سقوط المتعارضين كليهما عن الحجّية في مؤداهما ، وكونهما كان لم يكونا بالنسبة الى مؤداهما ، وإلّا فمقتضى الاصل كما ستعرف إن شاء الله تعالى ، بناء على اعتبار الاخبار من باب الطريقية كما هو المختار انما هو سقوط المتعارضين منهما عن الحجية ، وعدم كون شيء منهما حجة فعلا في مؤديه (بل قد يتخيل العكس) ويتوهم أولوية الطرح على الجمع (من حيث أن في الجمع) يلزم مخالفة الاصلين ، وهو : (ترك التعبد بظاهرين و) لكن في الطرح ليس إلّا مخالفة اصل واحد فقط ، مراعاة للعمل بسند الآخر ، وظاهره لان (في طرح احدهما) أي أحد الدليلين يلزم (ترك التعبد بسند واحد) دون ظهوره ، فيبقى الظهوران مع صدور الآخر بحاله ، لان عدم العمل بظاهر المطروح ليس مخالفا للأصل.

(لكنه) أي هذا الخيال (فاسد) لانه اذا قلنا : بعدم صدور الخبر عن الامام عليه الصلاة والسلام ، فلا يفيد ظهوره من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، لعدم كلام صادر حتى يؤخذ بظهوره.

توضيحه : (من حيث ان ترك التعبد بظاهر ما) أي الخبر الذي (لم يثبت التعبد بصدوره) أي الغير المقطوع الصدور (ولم يحرز كونه صادرا عن المتكلم) أعني المعصوم صلوات الله وسلامه عليه (وهو) أعني سقوط الظاهر (ما عدا الواحد المتيقن ، العمل به) أي الواحد.

قوله : (ليس مخالفا للأصل) خبر ، لان ، في مرتبة المتعارضين حتى

٤٦

يصلح أن يكون مرجحا للطرح على الجمع (بل التعبد) بظهوره مع طرح سنده (غير معقول اذ) يبقى العرض بلا معروض ، وهو غير ممكن ، فالظاهر : انما يكون معتبرا مع الاخذ بالصدور و (لا ظاهر) يعني الظاهر لا يكون حجة (حتى يتعبد به) أي بهذا الصدور (وليس) الطرح (مخالفا للأصل وتركا للتعبد بما يجب التعبد به) يعني انما يتعبد بالظاهر بعد التعبد بالسند ، وإلّا لم يكن مخالفا للأصل.

وعلى القول به ، أيضا يلزم مخالفة الاصلين.

(ومما ذكرنا) هذا شروع في بيان فساد جملة من الاعتراضات التي اوردوها على منع اولوية الذي اشار اليه ، بقوله : (يظهر فساد توهّم) الذي يساعد مسلك ابن ابي الجمهور.

وجه التوهم عبارة من : (انه اذا عملنا بدليل حجية الامارة فيهما) أي في الخبرين (وقلنا بان الخبرين معتبران سندا فيصيران كمقطوعي الصدور) بمعنى أن دليل حجية الأمارات يجعل مظنون الصدور بمنزلة مقطوع الصدور.

(ولا اشكال ولا خلاف في أنه اذا) كان الدليلان مقطوعي الصدور (وقع التعارض بين ظاهري مقطوعي الصدور ، كآيتين) كما في قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ)(١) حيث قرء بالتشديد ، من التطهر الظاهر في تحصيل الطهارة ، وهو الاغتسال ، فيحرم المقاربة قبل الغسل ، وقرء بالتخفيف من الطهارة الظاهرة في حصول الطهارة ، وهو النقاء عن الحيض ، فيجوز المقاربة بمجرد انقطاع الدم وان لم تغتسل ، والمفروض ان الآية قرأت على وجهين فقط ، وانهما متواتران عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكونان قرآنا واقعيا فيكونان كآيتين متعارضتين.

(او) خبرين (متواترين) كما لو فرضنا تواتر الروايتين ثمن العذرة سحت ،

__________________

(١) البقرة : ٢٢٢.

٤٧

ولا بأس ببيع العذرة ، فلا بد ايضا من التصرف في الظاهرين (وجب تأويلهما) أي تأويل ظاهري مقطوعي الصدور (والعمل بخلاف ظاهرهما) لعدم امكان رفع اليد عن السند مع كونه مقطوعا.

اما التأويل في الخبرين المتواترين ، فلما مر بحمل احدهما على مأكول اللحم ، والآخر على غير مأكول اللحم. واما التأويل في الآيتين ، فانه يمكن ان نقول : يطهرن ، بالتخفيف أي يطهرن من الحدث فتكون موافقا مع قراءة : يطهرن ، بالتشديد ، او نجعل آية يتطهّرن ، بالتشديد من المزيد الذي هو بمعنى المجرد ، مثل تقدم من قدم فينطبق مع آية : (يَطْهُرْنَ) من الدم فيكون معنى : يتطهرن يطهرن (فيكون القطع بصدورهما عن المعصوم) صلوات الله عليه ، او ما عن الله تعالى في كتابه لا محالة (قرينة صارفة لتأويل كل من الظاهرين).

فكما ان القطع بصدورهما قرينة عرفية على ارتكاب التأويل فيهما ، كذلك القطع باعتبار الخبرين شرعا ، فحكم مظنون الصدور ، حكم مقطوع الصدور ، في جميع ما ذكر.

وحينئذ ينتج باولوية الجمع على الطرح (و) لكن هذا قياس مع الفارق (توضيح الفرق ، وفساد القياس ، ان وجوب التعبد بالظواهر لا يزاحم القطع بالصدور) في المقيس عليه ، لكون السند قطعيا ، ولا دوران هناك (بل القطع بالصدور قرينة على ارادة خلاف الظاهر) في الدليلين من المقيس عليه ، ولا يمكن العكس ، فان طرح السند القطعي في قبال الظاهر غير معقول (و) هذا بخلاف المقام ، لكون دليل اعتبار ظاهرهما صالح لمعارضة دليل اعتبار سندهما ، لان (فيما نحن فيه يكون وجوب التعبد بالظاهر مزاحما) أي معارضا ، اذ : المراد من التزاحم هنا معناه اللغوي (لوجوب التعبد بالسند) ولحصول الدوران فيه بين الاخذ بظاهر متيقن الاخذ بصدوره ، وبين الاخذ بسند الآخر ،

٤٨

لكون السند ظنيا كالدلالة ، ولا مزية لاحدهما على الآخر.

(وبعبارة أخرى) ان الامر في الخبرين المتعارضين يدور بين امور أربعة.

احدها البناء على صدور كليهما والاخذ بظاهر كل منهما.

وثانيها : البناء على عدم صدور شيء منهما.

وثالثها : البناء على صدور احدهما المعين والاخذ بظاهره وطرح الآخر رأسا.

ورابعها : البناء على صدور كليهما والتصرف في ظاهرهما.

والامران الاولان غير محتملين فيما نحن فيه.

اما اولهما فلعدم امكانه عقلا ، وإلّا لم يكونا متعارضين ، لان (العمل بمقتضى ادلة اعتبار السند ، والظاهر بمعنى الحكم بصدورهما) أي بصدور الدليلين (وارادة ظاهرهما) أي الدليلين (غير ممكن).

وأما ثانيهما : فلعدم امكانه شرعا ، نظرا الى قيام الاجماع وتواتر الاخبار العلاجية بحجية احدهما ، فيبنى على عدمهما في كل منهما لكن المقيس عليه له خصوصية زائدة وهي صفة القطع بالصدور فينتفى احتمال الامر الثالث ايضا ، فينحصر فيه الامر الرابع ، ويتعين الاخذ به ، وهذه الخصوصية مفقودة في المقيس حتى يوجب نفي ذلك الاحتمال أيضا.

(و) الحاصل : (الممكن من هذه الامور الاربعة اثنان لا غير) وهما عبارة (اما) من (الاخذ بالسندين) مع طرح الظهورين ، وهو مفاد الجمع (وأما الاخذ بظاهر وسند من احدهما) وطرح الآخر رأسا ، وهو مفاد الطرح (فالسند الواحد منهما متيقن الاخذ به وطرح احد الظاهرين وهو ظاهر الآخر الغير المتقين ، الاخذ بسنده ليس مخالفا للاصل) المستفاد من الاجماع (لان المخالف للاصل ارتكاب التأويل في الكلام بعد الفراغ عن التعبد بصدوره).

حاصل مراده قده : ان المقام نظير العلم الاجمالي ، فكما اذا علمنا

٤٩

بنجاسة احد الكأسين ، واشتبه الإناءان ، لا يجوز الحكم بنجاسة أحدهما المعين ، بل الاحتمال في كل منهما على حد سواء كذلك فيما نحن فيه.

نهاية ما قيل : دوران الامر بين الجمع والطرح ، ولا يتعين الاخذ باحدهما المعين ، كما قاله : ابن ابي الجمهور (فيدور الامر بين مخالفة احد اصلين) اعني (اما مخالفة دليل التعبد بالصدور في غير المتيقن التعبد) أي الطرح (وأما مخالفة الظاهر في متيقن التعبد) أي الجمع (و) لا ترجيح في تقديم احدهما على الآخر ، ولا يكون احدهما مسببا عن الآخر لان (احدهما) أي أحد الاصلين (ليس حاكما على الآخر ، لان الشك فيهما) أي في الاصلين (مسبب عن ثالث) وهو العلم الاجمالي بكذب واحد من دليلي السند والظهور (فيتعارضان) ولا رجحان لاحدهما على الآخر.

نعم لو فرض قيام دليل على نفي احدهما تعين الاخذ بالآخر من باب ان انتفاء أحد طرفي المنفصلة المانعة الخلو ، مستلزم لثبوت الطرف الآخر.

(ومنه) أي من أن الشك فيهما مسبب عن أمر ثالث (يظهر فساد قياس ذلك) أعني ما نحن فيه ، وهو تعارض الظاهرين (بالنص الظني السند مع الظاهر حيث يوجب الجمع بينهما) أي بين النص الظني السند والظاهر (بطرح ظهور الظاهر ، لا سند النص) يعني ان كان التعارض على وجه العموم والخصوص مطلقا ، فان كان الخاص نصا ، فدليل اعتبار سنده حاكم على ظهور العام ، لانه قرينة على التصرف في العام أن كان العام معتبرا من باب التعبد المطلق أو الظن النوعي مثلا اذا ورد اكرم العلماء ، وورد أيضا لا تكرم النحاة ، لانه يدخل فاعله في النار ، فان الخاص نص في الحرمة ، ولا يحمل على الكراهة ، فهو مقدم على العام اذ يكون كتقدم الاصل الجاري في الشك السببي على الاصل الجاري في الشك المسببي ، سواء كان الاصل لفظيا أم عمليا؟

فكما لو هل هلال شوال ، وجب الفطرة على المولى فيما كان العبد

٥٠

حاضرا ، فاذا صار غائبا وشك في حياته وموته شك في بقاء الموجب ، فيستصحب بتقديم الاصل السببي ، وهو استصحاب الحياة على المسببي وهو : اصالة عدم الوجوب في الشبهة الموضوعية.

كذلك حكومة الخاص على العام أعني كون الشك في ارادة العموم من العام ، وعدمها مسببا وناشيا من وجود الخاص ، فان دليل السند كما يقدم على دليل الظاهر في هذا القسم ، فليقدم دليل السند على دليل الظاهر في الظاهرين ايضا ، لان وجه التقديم في الفرض الاول ليس إلّا حكومة دليل السند مع كونه ظنيا على دليل الظاهر ، وهذا بعينه موجود في الفرض الثاني ، لانه ـ مع الاغماض عن تلك الادلة ـ مقتضى الاصل ، والقاعدة أنما هو لزوم الاخذ بالسندين والتصرف في احدهما ، أو في كليهما ، فان الشك في جواز التأويل في أحد الظهورين أو كليهما مسبب وناش من الشك في صدور كليهما.

فحينئذ يكون دليل اعتبار سند ما عدا المتيقن الاخذ به حاكما على دليل اعتبار ظهور المتيقن الاخذ به ، لان الدليل الظني ـ على تقدير ثبوته ـ قرينة على تأويل الظاهر ، ولو كان قطعي السند فلا بد حينئذ من الجمع دون الطرح.

ولكن هذا قياس فاسد (توضيحه) أي توضيح فساد القياس ، هو أنه لا تصح مقايسة ما نحن عليه ، لان شرط العمل بظواهر الالفاظ مقيد بعدم مجيء القرينة ، والمفروض وجود القرينة مع تسليم اعتبار الخبر الخاص ، كما اذا قام نص ظني السند على عدم جواز اعطاء الزكاة للفاسق ، وفي الكتاب الذي هو قطعي السند قام الظهور على جواز الاعطاء ، لقوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ)(١) فظهوره يعم الفاسق فالمقيس عليه مسلم يؤخذ بالسندين ويطرح التعبد بظهور الكتابي ، لان قطعي السند وهو قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ) الخ لا يزاحم دلالة نفسه ، ولا دلالة ظن الخاص ، ولا سند الخاص ، اذ على

__________________

(١) التوبة : ٦٠.

٥١

تقدير ثبوت الخاص بوجوب تصديق العادل يثبت النص وهو قرينة على تخصيص العام الكتابي ، ولا ريب ان ظهور العام ، موضوعه عدم القرينة على التخصيص ، فيكون الدليل الخاص الظني على تقدير ثبوته رافعا لموضوع ظهور العام ، بخلاف ما نحن فيه ، فان الاصلين لا حكومة بينهما ، اذ الاخذ بالواحد المتيقن من باب الترجيح ، او التخيير يقتضي الاخذ به بظهوره فيجري : التعبّد بالظهور ، وهو : يقتضي طرح الخبر الآخر سندا ، لانه لو تم سنده كان معارضا بظهور الاخذ بالمتيقن ، فيدور الامر هنا بين التعبد بالظهور أي ظهور المتيقن وبين : التعبد بالسند في غير المتيقن ، لان مع وجوده لا يمكن التعبد بظهور ذلك المتيقن.

عدم تعارض قطعى الصدور مع ظنى السند فوجه فساد القياس ، هو : (ان سند الظاهر) أي القطعي الصدور ، نحو : انما الصدقات للفقراء (لا يزاحم دلالته) أي دلالة نفسه (بديهة ، ولا) يزاحم العام اعني الظاهر (سند النص) لامكان صدوره من الامام عليه‌السلام ، فيكون المخصص ثابتا ، ويحكّم على عموم الكتاب (ولا دلالته) أي دلالة النص ، اذ دلالته على العموم منوط بعدم وجود المخصص ، وبعد ورود الخاص يصير لدى العرف بمنزلة ما لو قال : يجب اعطاء الزكاة لغير الفاسق (واما سند النص ودلالته) أي دلالة ظهور الخاص المذكور في المثال مع العام الكتابي (فانما يزاحمان) أعني السند والدلالة (ظاهره) أي ظاهر العام (لا سنده) أي العام لكونه قطعيا (وهما) أعني سند النص ودلالته (حاكمان على ظهوره) أي العام (لان من آثار التعبد به) أي بسند النص ودلالته (رفع اليد عن ذلك الظهور) في العام (لان الشك فيه) أي في ذلك الظهور أعني ظهور الكتاب (مسبب عن الشك في التعبد بالنص) لان النص على فرض ثبوته مخصص وظهور العام مقيد بعدم ورود المخصص ، فاذا تعبدنا بالنص الظني بمقتضى صدق العادل ، فثبت المخصص شرعا ، فارتفع موضوع حجية ظهور العام ، بخلاف ما نحن فيه ، لان هنا يجب

٥٢

الاخذ بواحد منهما على سبيل القدر المتيقن ، فلازمه وجوب التعبد بظاهره.

فاذا اخذنا غير المتيقن سندا فيزاحم ظهور ذلك القدر المتيقن ، والتعبد بالظهور يمنع عن ذلك.

واذا اخذنا بالتعبد بظهور المتيقن فهو يمنع عن التعبد بذلك الزائد على المتيقن ، فنعلم اجمالا اما لزوم مخالفة الظهور ، او مخالفة الاخذ بالصدور.

ثم شرع بالاعتراض الثالث ، بقوله : (واضعف مما ذكر) في الاعتراض الثاني (توهم قياس ذلك) أعني ما نحن فيه وهو تعارض الظاهرين (بما اذا كان خبر بلا معارض لكن ظاهره) أي ظاهر الخبر (مخالف للاجماع) (١).

مثلا : اذا قام خبر ظاهره ، وجوب الاذان ، كقوله (ع) اذا اردت ان تصلي فأذّن واقم (٢) وقام الاجماع على عدم وجوب الاذان (فانه) أي الشأن (يحكم بمقتضى اعتبار سنده) أي سند الخبر (بارادة خلاف الظاهر من مدلوله) أي الخبر الظني ، فلا نطرح السند بل نأخذ به ، ونؤوّل ظاهره بسبب قيام الاجماع.

ولكن ما نحن فيه لا يقاس على ما ذكره المتوهم ، لان ما ذكره المتوهم لا يمكن فيه الاخذ بظاهر الخبر وطرح الاجماع ، لانه قطعي ، وما نحن فيه ليس كذلك اذ : يمكن ان نعمل وجوب التعبد في ظاهر المتيقن ، ونطرح سند الآخر ، وبالعكس كما قال قده.

(لكن) هذا التوهم ليس في محله لانه (لا دوران هناك) أي في كلام

__________________

(١) ومن الأدلة الأربعة الاجماع ، وهو على قسمين قولي ، وعملي ، أما القولي فهو عبارة عن اتفاق الفقهاء في مقام الفتوى والحكم بشيء كاطباقهم على أن كل نجس منجس مثلا ، وأما العملي فهو عبارة عن اتفاق الفقهاء في مقام البناء والعمل بشيء كاتفاقهم على العمل بخبر الواحد وان اختلفوا في حجيته من حيث الفتوى والاجماع هنا قولي.

(٢) الوسائل : الجزء ٤ ص ٦٥٧ (الرواية : ٣) وفي بحار الأنوار ج ـ ٨٤ ص ـ ١٠٨.

٥٣

المتوهم (بين طرح السند والعمل بالظاهر ، وبين العكس) أعني الاخذ بالظهور وترك المعارض ، بخلاف ما نحن فيه وهو الاخذ بالظهور وطرح السند (اذ : لو طرحنا سند ذلك الخبر ، لم يبق مورد للعمل بظاهره) أي بذلك الخبر ، لان الظهور فرع صدور الكلام من الامام عليه‌السلام ، فاذا كان الامام عليه‌السلام لم يتكلم بشيء فاين ظهور كلام حتى نتعبد به؟ فنأخذ بالمتيقن وظهوره ، او بالعكس فيتعارضان.

والسرّ فيه : أنّ الكلام فيما نحن فيه صورة كون المتعارضين ظني السند ، بخلاف مثال المتوهم ، لان احد المتعارضين هو الاجماع القطعي سند او دلالة ، كما قال : (بخلاف ما نحن فيه ، فانا اذا طرحنا سند احد الخبرين) مع ظهوره (امكننا العمل بظاهر الآخر) مع الاخذ بسنده ، وبالعكس ، واذا اخذنا بظاهر المتيقن بظهوره وسنده فلا بد ان نطرح الآخر سندا وظهورا (ولا مرجح لعكس ذلك) وهو تقديم الجمع على الطرح.

واما وجه اضعفية هذا الاعتراض ، من الاعتراض السابق ، هو : ان الاجماع سند او دلالة قطعي فاين التعارض؟

هذا تمام الكلام في عدم الدليل على اولوية الجمع على الطرح غاية الامر مساواتهما بملاحظة الاصل الاولى (بل الظاهر) على ما سنبينه آنفا (هو) اولوية (الطرح) على الجمع (لان المرجع والمحكّم) بالفتح (في الامكان الذي قيد به وجوب العمل بالخبرين) بقوله : الجمع مهما امكن أولى من الطرح (هو) الامكان بحسب (العرف ، ولا شك في حكم العرف ، واهل اللسان) في المحاورة (بعدم امكان العمل بقوله : اكرم العلماء ، ولا تكرم العلماء) لانه لا يأتي الجمع الدلالي ، مع تساوي المتعارضين في جهات التأويل.

(نعم : لو فرض علمهم) أي علم أهل اللسان (بصدور كليهما ، حملوا امر الآمر بالعمل بهما) أي أكرم ، ولا تكرم (على ارادة ما يعم العمل ، بخلاف ما

٥٤

يقتضيانه بحسب اللغة والعرف) بمعنى انه مع العلم بصدور كليهما يتصرفون في ظاهرهما ، ويأولون كليهما ، لان كلا منهما نص من وجه ، وظاهر من وجه آخر ، فان الاول نص في الجواز وظاهر في الوجوب ، ولا تكرم نصّ في المرجوحيّة وظاهر في الحرمة ، فنتصرف في كليهما ، وتكون النتيجة كراهة اكرام العلماء.

(ولاجل ما ذكرنا) من ان المراد من الامكان ، هو الامكان العرفي لا العقلي.

والدليل على ذلك وجوه.

الاول : (وقع من جماعة من اجلاء الرواة) كزرارة ، ومحمد بن مسلم ، وامثالهما (السؤال عن حكم الخبرين المتعارضين) كما في المرفوعة الآتية : يأتي عنكم الخبران ، او الحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟ الخ وتحيرهم من حيث كيفية العمل بهما الداعي الى السؤال ، لانه يمكن العمل بهما ، ولو بالحمل على ما لا يظهر فيه اللفظ ، كالجمع التبرعي ، فانه لو كان مقتضى القاعدة هو الجمع العقلي ، لكانت تلك القاعدة مركوزة في اذهانهم ايضا ، فانها على تقدير اعتبارها متخذة من بناء العرف والعقلاء والراوي منهم ، ولم يبق لهم تحير حينئذ لكونها رافعة له على تقدير اعتبارها.

ولذا قال : (مع ما هو مركوز في ذهن كل واحد) من الرواة (من ان كل دليل شرعي يجب العمل به ، مهما امكن فلو لم يفهموا عدم الامكان في المتعارضين ، لم يبق وجه للتحير الموجب للسؤال) بل يعملون بكليهما مع حمل كلّ واحد منهما على خلاف الظاهر.

الثاني : (مع انه لم يقع الجواب) عن الائمة المعصومين صلوات الله عليهم اجمعين (في شيء من تلك الاخبار العلاجية) الآتية (بوجوب الجمع) بينهما مهما امكن (بتأويلهما معا) بل الجواب أما بالرجوع الى الترجيح ، أو الى التخيير ، أو الى التوقف.

ان قلت : ان موارد تحيرهم وسؤالهم انما هو فيما اذا كان المتعارضان

٥٥

نصين في مؤداهما ، بان يقال : ان مرادهم من قولهم : يجيئنا خبران احدهما يأمرنا ، والآخر ينهانا ، انما هو الخبر ان النصان في الوجوب والحرمة ، لا مطلق ما يدل عليهما ، فجوابهم عليهم‌السلام بالرجوع الى الترجيح ، او الى التخيير ، او الى التوقف ، ناظر بموارد لا يمكن الجمع العقلي فيها.

قلت : (وحمل مورد السؤال على صورة) نادرة ، وهو : ما اذا كان التعارض بين النصين الذين لا يحتمل فيهما الخلاف ، بحيث (تعذر تأويلهما ولو) تعذرا (بعيدا).

قوله (تقييد) خبر لحمل (بفرد غير واقع في الاخبار المتعارضة ، وهذا) الجواب عنهم عليهم الصلاة والسلام (دليل آخر على عدم كلية هذه القاعدة) أعني اولوية الجمع على الطرح.

(هذا كله مضافا الى) الوجه الثالث على اولوية الطرح (مخالفتها) أي هذه القاعدة (للاجماع) العملي (فان علماء الاسلام من زمن الصحابة الى يومنا هذا لم يزالوا) أي يثبوا (يستعملون المرجحات في الاخبار المتعارضة بظواهرها).

قوله : (ثم) بيان لاستعمال المرجحات ، يعني يأخذون بالارجح ويطرحون المرجوح ، كما قال : (اختيار احدهما) أي احد المتعارضين (وطرح الآخر) أما بالترجيح أو التخيير (من دون تأويلهما معا ، لاجل الجمع).

(واما ما تقدم من عوالي اللئالي) في معنى الجمع بان المراد هو الامكان العقلي (فليس نصا بل ولا ظاهرا في دعوى تقديم الجمع بهذا النحو على الترجيح والتخيير) فيما لو كان المتعارضان متساويين في الظهور.

(فان الظاهر) والمتبادر (من الامكان في قوله : وان امكنك التوفيق بينهما هو الامكان العرفي) لا العقلي بحيث يساعد العرف على جعل كل منهما قرينة على التصرف في الآخر كما اذا كان احد الدليلين نصا في مدلوله والآخر ظاهرا ، نحو : اكرم العلماء ولا تكرم النحاة ، ومن الموارد التي تندرج في النصوصية ما اذا كان احد الدليلين اخص من الآخر نظير العموم والخصوص المطلق يحكم

٥٦

بتقديم الخاص على العام من جهة قوة دلالته بالنسبة الى العام ، او اذا كان احدهما ظاهرا والآخر اظهر نحو : لا تكرم فاسقا ، ولا تدع من عالم حتى تكرمه ، فان الاخير اظهر من الاول (في مقابل الامتناع العرفي) بحيث بقي العرف متحيرا في حكمهما كما في ثمن العذرة سحت ، ولا بأس ببيع العذرة (بحكم أهل اللسان فأنّ حمل اللّفظ على خلاف ظاهره ، بلا قرينة غير ممكن عند أهل اللسان بخلاف حمل العام والمطلق على الخاص والمقيد) فاذا ورد : اعتق رقبة ، وورد ايضا : اعتق رقبة مؤمنة ، فيحمل المطلق على المقيد ، لان العرف يحكم بقرينية المقيد والخاص.

والحاصل : ان الجمع في الدلالة قد يحصل بتأويلهما معا ، فهو غير جائز ، كما في ثمن العذرة سحت ، ولا بأس ببيع العذرة.

وقد يحصل بالتأويل في أحدهما المعين كالعام والخاص المطلق ونحوهما ، فهو واجب.

وقد يحصل بالتأويل في احدهما الغير المعين بالامكان العقلي ، كما في العامين من وجه ، ففيه اشكال ويأتي تفصيل تلك الاقسام آنفا.

وصاحب عوالي اللئالي موافق للمشهور ، لان الامكان الذي وقع في كلامه هو الامكان العرفي.

(ويؤيده) أي ويؤيد بانه اراد الامكان العرفي (قوله : أخيرا ، فاذا لم يتمكن من ذلك ، ولم يظهر لك وجهه ، فارجع الى العمل بهذا الحديث فان مورد عدم التمكن) العقلي (نادر جدا) فانه منحصر في اليقين.

فارجاع ابن ابي جمهور في صورة عدم التمكن من التأويل الى الاخبار العلاجية ، يشعر بان مراده من عدم التمكن ، انما هو مورد تلك الاخبار ، وهو عدم التمكن العرفي دون العقلي ، اذ : لولاه لزم حمل اخبار الترجيح على الموارد النادرة ، مع ان اهتمام الصحابة في السؤال يأبى عن ذلك ، اذ : لا يقال كثرة الاهتمام بهذه المثابة في السؤال واستعلام حكم ما هو نادر في

٥٧

الغاية ، فلا بدّ من حملها على مورد عدم التمكن العرفي لكونه كثيرا.

(وبالجملة فلا يظن بصاحب العوالي ، ولا بمن هو دونه) من حيث مرتبة العلم والفضل (ان يقتصر في الترجيح على موارد لا يمكن تأويل كليهما) عقلا (فضلا عن دعواه الاجماع على ذلك).

فالاجماع ايضا ناظر بالجمع الدلالي ، وبعد التأمل يعلم ان مراد العلامة قده بالجمع حيث استدل عليه بان دلالة اللفظ على تمام معناه اصلية ، وعلى جزئه تبعية ، انما هو الجمع بحسب الدلالة.

وقوله : ترك دلالة تبعية أولى من ترك دلالة أصلية ، جار في صور امكان الجمع العرفي ، ولا يتوجه عليه الرد كما في المتعارضين بين العام والخاص ونحوه من صور تعارض النص والظاهر ، أو الاظهر والظاهر ، لان الجمع هنا لا يستلزم إهمال الدلالة الاصلية في كل من المتعارضين ، بل في خصوص الظاهر.

(والتحقيق الذي عليه أهله أن الجمع) في الدلالة (بين الخبرين المتنافيين بظاهرهما على اقسام ثلاثة) ـ والحصر استقرائي ـ.

(احدها : ما يكون متوقفا على تأويلهما معا) وهذا يتصور في المتباينين نظير : ثمن العذرة سحت ، ولا بأس ببيع العذرة بان يقال ان المراد من الأولى عذرة غير مأكول اللحم ، ومن الثانية عذرة مأكول اللحم.

(والثاني : ما يتوقف على تأويل أحدهما) أي احد المتنافيين (المعين).

(والثالث ما يتوقف على تأويل أحدهما لا بعينه) نظير : تزوج هندا أو أختها (أما الأول : فهو الذي تقدم) على ما نسب الى صاحب عوالي اللئالي من الجمع العقلي ، وقد مضى (أنه مخالف للدليل و) مخالف (النص والاجماع) اذ : يلزم ـ على تقدير الجمع ـ حمل أخبار العلاج على الموارد النادرة.

(وأما الثاني : فهو تعارض النص والظاهر) مع ظنية سنديهما (الذي تقدم انه ليس بتعارض في الحقيقة) بين الدليلين اذا كان احدهما أخص مطلقا ، أو

٥٨

كان نصا أو أظهر بالقياس الى الآخر.

وأول من صرح به شيخ الطائفة قده ، في محكى العدة حيث علل ـ في مسئلة بناء العام على الخاص تقديم الخاص على العام ـ بان الترجيح والتخيير ، فرع التعارض الذي لا يأتي في العام والخاص ، ثم تبعه من تبعه ممن تأخر.

وبالجملة : اخبار الترجيح والتخيير مسوقة لبيان حكم المتحير على فرض صدورهما ، ولا تحير بين العام والخاص المطلق ، وكذا بين النص والظاهر ، او الظاهر والاظهر ، لما عرفت من بناء العرف فيه على الجمع بترجيح النص أو الاظهر على الظاهر ، وأن كان ظاهر العام بالنظر البدوي معارضا للمخصص ، لأن العام في معنى الايجاز ، بمعنى : اكرم العلماء بمنزلة أن يقال : اكرم زيدا العالم ، واكرم عمروا العالم ، وهكذا الخ واذا ورد لا تكرم زيدا العالم ، فيكون وجوب اكرامه مما تعارض فيه الدليلان.

ولكن العرف لا يرى بينهما تعارضا ، لأنه اذا القى للسامع لا يبقى متحيرا في مقام العمل.

(وأما الثالث) فهو ينقسم على قسمين.

القسم الأول : (فمن أمثلته) أن يكون الظاهر ان (العام والخاص من وجه ، حيث يحصل الجمع بتخصيص أحدهما مع بقاء الآخر على ظاهره) كما لو ورد : أكرم العلماء ، وورد أيضا لا تكرم الفسّاق ، وحيث أن الجمع المحلي بال يفيد العموم ، فلا تعارض بينهما : في مادتي الافتراق وهما : وجوب إكرام العالم العادل ، وحرمة إكرام الجاهل الفاسق ، وأنما التعارض في مادة الاجتماع وهو العالم الفاسق ، فان اطلاق الاول قاض بوجوب إكرامه ، وينافيه إطلاق الثاني ، فدار الأمر بين العمل باطلاق أكرم العلماء ، وتخصيص الثاني فالعالم الفاسق يجب إكرامه ، أو نعمل باطلاق الثاني ونخصص الأول ، فالعالم الفاسق محرم الاكرام حتى ينقلب الى عموم وخصوص مطلق فيجري حكمه فيمكن أن الامام عليه‌السلام اراد أحدهما ، ولم يرد الآخر ولا ترجيح عندنا.

٥٩

(و) القسم الثاني : (مثل قوله) أي قول الراوي بان كانتا متباينين وظاهرين ، نظير : (أغتسل يوم الجمعة) (١) (بناء على أن ظاهر الصيغة) للأمر (الوجوب ، وقوله) أي الآمر (ينبغي غسل الجمعة بناء على ظهور هذه المادة) أي ينبغي (في الاستحباب ، فان الجمع يحصل برفع اليد عن ظاهر أحدهما) ففي صورة كون الدليلين ظاهرين ، سواء كانا من قبيل العامين من وجه ، أو متباينين ، فان كان أحدهما نصا أو أظهر قدم على الظاهر أو غير الأظهر ، فيرجع الى القسم الثاني حكما ، بمعنى تعين التصرف في غير الأظهر والنص.

(وحينئذ) أي حين جواز رفع اليد عن ظاهر أحدهما (فان كان) الظاهران متساويين. فتقديم أحدهما على الآخر ترجيح بلا مرجح ، فهو مما لا يرضى به العرف.

وأن كان (لاحد الظاهرين مزية وقوة على الآخر) بحسب الدلالة لأن الجمع العرفي مقدم على الترجيح بمرجحات السند بان يصلح أحد الظاهرين أن يكون قرينة لصرف الآخر عن ظاهره (بحيث لو اجتمعا في كلام واحد ، نحو رأيت أسدا يرمى ، أو اتصلا في كلامين لمتكلم واحد) كما اذا كان أحد الكلامين أظهر مثل : أن يقول أكرم العلماء ، ولا تكرم أحدا من الفساق ، أو كان أفراد العلماء العدول قليلا جدا ، فقال أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق ، بدون من.

ففي المثال الأول ، من حيث أن كلمة : من الزائدة في سياق النفي ـ على قول سعد الدين التفتازاني ـ فيكون أظهر مما ليس فيه كلمة من.

وفي المثال الثاني : حيث أن حمل أكرم العلماء على أفراد العدول نادر جدا يشبه الاستهجان ، فيكون نصا في العموم ، بخلاف لا تكرم الفسّاق ، فان حمله على غير العالم كثير الافراد جدا ، فلو صدرا في المثالين عن متكلم

__________________

(١) الوسائل الجزء ٢ ص ـ ٩٤٥ (الرواية : ١١).

٦٠