جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

محمّد رضا الناصري القوچاني

جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

المؤلف:

محمّد رضا الناصري القوچاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

(الّا بعد فرض تساقط المتعارضين ، لأجل التكافؤ).

ولكن لا تكون الأصول مرجعا أيضا في صورة التكافؤ (إذ المفروض أنّ الأخبار المستفيضة دلّت على التخيير) وعدم التساقط ، ولا يضرّ التردّد بين كونه هذا الخبر ، أو ذاك ، بعد العلم بوجوب الأخذ بأحدهما (مع فقد المرجّح ، فلا مورد للأصل في تعارض الخبرين رأسا) لا بنحو المرجّحية ولا بنحو المرجعية (فلا بدّ من التزام عدم الترجيح بها) أي بالأصول.

ان قلت : قد يرى من الفقهاء في الكتب الاستدلاليّة من الترجيح بالاستصحاب وأصل البراءة.

قلت : (وانّ الفقهاء إنّما رجّحوا بأصالة البراءة والاستصحاب في الكتب الاستدلاليّة من حيث بنائهم على) اعتبارهما من باب (حصول الظنّ النّوعي بمطابقة الأصل) بأن يقال : إذا تعارض الخبر ان فكلّ منهما يفيد الظن النّوعي بأنّ الواقع كذا ، وإذا كان أحدهما موافقا للأصل فيكون الأخذ به أرجح من حيث كشفه عن الواقع ، فيؤكّد الواقع في صورة موافقة الأصل.

وبعبارة أخرى : فحكمهم صحيح على مبناهم من افادة البراءة والاستصحاب الظن بالواقع ، ولكن حيث أثبتنا أنّ مبناهم غير صحيح وأنّ البراءة والاستصحاب لا يفيد ان الظن بالواقع ، فلا يكون الأصل مرجّحا بل مرجعا.

(وأمّا الاحتياط) أن كان أحد الخبرين موافقا له (فلم يعلم منهم) أي من الفقهاء (الاعتماد عليه إلّا في مقام الاستناد) أي في مقام المرجعيّة (لا في مقام الترجيح) أي في مقام الكشف عن الواقع ، لأنّ الاحتياط لا يحصل منه الظن النّوعي ، ولا الشخصي بكون الخبر الواقع على طبقه هو الموافق للحكم الواقعي ، فإذا ورد خبر بوجوب الصّلاة عند رؤية الهلال والآخر بعدم وجوبها ، فلا يجب الاحتياط ، ولا يكون مرجّحا لما وافقه من الخبر.

٣٨١

(وقد يتوهّم : أنّ ما دلّ على ترجيح) (١) (التخيير مع تكافؤ الخبرين معارض بما دلّ على الأصول الثلاثة) لأنه إذا شك في زمان الغيبة في وجوب صلاة الجمعة ، فمقتضى الاستصحاب معاملة الوجوب.

وورد خبران أحدهما وجوب صلاة الجمعة ، والآخر عدم وجوبها ، فمقتضى التخيير جواز الأخذ برواية عدم الوجوب ، فهذا يعارض دليل الاستصحاب أعني : لا تنقض اليقين بالشك.

وهكذا إذا ورد خبران أحدهما حرمة الغراب الأسود ، والثاني حلّيته فمقتضى قاعدة التخيير الأخذ بأحد الخبرين فنأخذ بخبر الحرمة ، وهذا معارض مع دليل البراءة وهو : كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام (فانّ مورد الاستصحاب) هو الحكم ببقاء الحالة السابقة المتقدّمة مع (عدم اليقين بخلاف الحالة السابقة ، وهو) أي اليقين والشك (حاصل مع تكافؤ الخبرين) فكيف نلتزم بعدم الترجيح بالأصول الثلاثة؟ فالأخذ بقاعدة التخيير المعارضة لأدلّة الأصول ، ترجيح بلا مرجّح.

(ويندفع) هذا التوهم (بان ما دل على التخيير حاكم على الأصل) لأنّ دليل التخيير يعيّن الأخذ بأحد الدليلين ، ونتيجته ثبوت الدليل على الحكم ، وهذا حاكم على موضوع الأصول ، لأنّ موضوعها عدم الدليل (فإنّ مؤدّاه) أي

__________________

(١) وقد علّق بعض المحشين ره هنا ما هذا لفظه ـ لفظ الترجيح هنا حري بالسقوط ولكنّه موجود في النسخة الاخرى ـ ولعل الوجه في أولوية سقوطه عدم وجود معنى صحيح للترجيح هنا ، إذ المعارضة إنّما هو بين اخبار التخيير ، وأدلّة الأصول ، ولا دليل على رجحان الأولى على الثانية ، فعلى هذا لا يبقى معنى لمعارضة ما دل على ترجيح التخيير بما دل على الأصول.

نعم سيأتي في كلام المصنّف قده وجوه لترجيح التخيير على أدلّة الأصول ولكنّها وجوه اعتبارية غير ثابتة الاعتبار ، ولا معنى لمعارضتها مع أدلة الأصول.

٣٨٢

التخيير (جواز العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة) وهو الأخذ بالخبر الدال على عدم وجوب صلاة الجمعة ، المخالف للاستصحاب (و) جواز (الالتزام بارتفاعها) أي ارتفاع الحالة السابقة أعني عدم وجوبها (فكما أنّ ما دلّ على تعيين العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة مع) أي في صورة (سلامته عن المعارض) مع عدم حصول العلم الوجداني من الخبر بارتفاعها (حاكم على دليل الاستصحاب ، كذلك يكون الدليل الدال على جواز العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة المكافئ لمعارضه) مع عدم حصول العلم الوجداني من ذلك الدليل (حاكما) عليه (أيضا من غير فرق اصلا).

وحيث كان الملحوظ حكومة ما دلّ على وجوب العمل بالخبر السليم عن المعارض عينا ، مع عدم حصول العلم منه ومقايسة ما دلّ على وجوب العمل بالخبر المشغول بمعارضة تخييرا ، فعليه لا يبقى مجال لتوهم الفرق بينهما ، بأنّ الأوّل سليم عن المعارض ، والثاني مشغول به ، هذا أوّلا.

وثانيا : ؛ (مع) تسليم عدم الحكومة (أنّه لو فرض التعارض المتوهّم) بين أخبار الاستصحاب والتخيير (كان أخبار التخيير أولى بالترجيح وإن كانت النّسبة) بينهما (عموما من وجه).

فمادّة الاجتماع تعارض الخبرين مع كون أحدهما موافقا لأصل منها فادلّة التخيير تدلّ على جواز الأخذ بما يخالف الأصل ، وأدلّة الأصول تقتضي تعيين الأخذ بما يطابقها ، ومادّة افتراق أدلّة التخيير تعارض الخبرين مع عدم موافقة أصل لواحد منهما ، ومادّة افتراق ادلّة الأصول في مورد لم يرد فيه خبران متعارضان ، كما شككنا في وجوب صلاة الجمعة وعدمها ، ولم يرد خبران متعارضان في ذلك الحكم وفي مادّة الاجتماع كما يمكن اعمال اخبار التخيير ، فيبقى الأصول من غير مورد ، وكذا يمكن أعمال أدلّة الأصول فيبقى أخبار التخيير من غير مورد.

ولكن أخبار التخيير أولى بالترجيح (لأنّها) أي لأنّ أخبار التخيير (أقل

٣٨٣

موردا) من أدلّة الأصول.

وقد عرفت سابقا أنّ العام الأقل موردا عن العام الآخر ، يعامل معه معاملة الخاص المطلق عند أهل العرف ، ويخصّص به ما يكون أدلّته أكثر موردا (فتعيّن تخصيص أدلّة الأصول).

وثالثا (مع) تسليم عدم الفرق فيما كانا عامين من وجه بين كون احدهما أقلّ موردا من الآخر في نظر أهل العرف ، وبقائهما في نظرهم على التعارض (أنّ التخصيص في أخبار التخيير) باخراج ما وافق الاصل منها (يوجب إخراج كثير من مواردها) أي أخبار التخيير (بل) يوجب تخصيص (أكثرها) فأنّه لا يبقى على هذا التقدير تحت اخبار التخيير ألّا أقلّ قليل ، ويمكن أن يكون الباقي تحت أخبار التخيير صورة الشك قبل الفحص ، فلا يجري الأصول ، لأنّ الأصول في الاحكام الكليّة لا تجري مع عدم الفحص (بخلاف تخصيص أدلة الأصول) بالمتعارضين ، والحكم بالتخيير فيها ، لأنّه لا يلزم من تخصيصها تخصيص الأكثر ، لأنّ جريان الأصول في الموارد التي لا يتحقق فيها خبران متعارضان كثيرة ، نظير الحلية في شرب التتن فانه لم يرد فيه خبران متعارضان.

وبعبارة أخرى : موارد الشك ، في مواد ما لا نصّ فيه ، وإجمال النصّ ، والشبهات الموضوعيّة.

ورابعا (مع أنّ بعض أخبار التخيير ورد في مورد جريان الأصول مثل مكاتبة عبد الله بن محمّد الواردة في فعل ركعتي الفجر في المحمل) (١) حيث أنّ ظاهرها

__________________

(١) وهي صحيحة عليّ بن مهزيار ، قال قرأت في كتاب لعبد الله بن محمّد إلى أبي الحسن عليه‌السلام اختلف اصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في ركعتي الفجر في السفر ، فروي بعضهم أن صلّهما في المحمل ، وروى بعضهم أن لا تصلّهما إلّا على الأرض ، فاعلمني كيف تصنع أنت لاقتدى بك في ذلك؟ فوقع عليه‌السلام موسع عليك بأيّة عملت (الوسائل : الجزء ٣ ص ـ ٢٤٠) الرواية : ٨.

٣٨٤

التخيير بين فعل صلاة النافلة : على الأرض ، وبين فعلها في المحمل (ومكاتبة) محمّد بن عبد الله بن جعفر (الحميري) الى مولانا صاحب الامر (ع) عجّل الله تعالى فرجه الشريف (المرويّة في الاحتجاج) (١) (الواردة في التكبير في كلّ انتقال من حال الى حال من أحوال الصلاة) فوقع عليه‌السلام في آخر كلامه في مقام الجواب هذه الجملة : وبأيّهما أخذت من جهة التسليم كان صوابا ، حيث حكم عليه الصلاة والسّلام فيهما بالتخيير ، مع أنّ مقتضى الأصل أعني الاشتغال في الأولى هو الصّلاة على الأرض ، ومقتضى الأصل أعني البراءة في الثانية :عدم وجوب التكبير ، فهذه المكاتبة والمكاتبة السابقة كانتا دالتين على حكم المسألة بالصراحة.

ويظهر منهما : ان لا اعتناء في نظر الشارع بالاصل في المتعارضين وأنّ الحكم فيهما هو التخيير.

(وممّا ذكرنا ظهر فساد ما ذكره بعض من عاصرناه) الذي قد عبّر عنه بالمتوهم في عبارته السابقة

(في تقديمه الموافق للاصل على المخالف) من وجوه.

الأوّل : (من أنّ العمل بالموافق موجب للتخصيص فيما دلّ على حجّية المخالف ، والعمل بالمخالف مستلزم للتخصيص) أي مستلزم للتخصيصين تخصيص دليل الحجية (فيما دل على حجية الموافق وتخصيص آخر) أعني الأصل (فيما دل على حجية الأصول).

وبعبارة أخرى : أنّ العمل بالخبر الموافق للأصل موجب لتخصيص واحد فقط ، وهو طرح المخالف ، ولكنّ العمل على طبق الخبر المخالف موجب لطرح الأصل والخبر ، وارتكاب تخصيص واحد أهون من ارتكاب تخصيصين.

(و) الثاني : وهو (أنّ الخبر الموافق يفيد ظنّا بالحكم الواقعي ، والعمل

__________________

(١) ج ـ ٢ ص ـ ٣٠٤.

٣٨٥

بالاصل يفيد الظن بالحكم الظاهري) أي الحكم المضروب على الشك (فيتقوى به) أي بسبب الظنين (الخبر الموافق) بمعنى أنّ الخبر الموافق للأصل فيه ظنان ، ظن بالحكم الواقعي بحسب الخبر ، وظن بالحكم الظاهري وهو مقتضى الأصل ، فيتقوّى الظن بالحكم الواقعي فهو راجح ولا يجوز ترك الراجح والاخذ بالمرجوح.

(و) الثالث : (أنّ الخبرين يتعارضان ، ويتساقطان ، فيبقى الاصل سليما عن المعارض).

وفيه : أمّا في الوجه الأوّل ، فليس المقام مقام التعارض حتى يحكم بتخصيص واحد ، أو تخصيصين ، بل أدلة التخيير والترجيح حاكمة على الأصل ، لأنّ نتيجتها الأخذ بالدليل ، أمّا تخييرا أو ترجيحا ومع وجود الدليل لا يجري الأصل ، لأنّ موضوعه عدم الدليل فلا تعارض بينهما.

وفي الثاني : أنّ الاصل حكم ظاهري ليس حجيته من باب الظن حتّى يتقوّى الظنان ، بل موضوعه الشك وهو سترة الواقع ، فليسا في مرتبة واحدة حتى نقول برجحان احد الخبرين على الآخر.

وفي الثالث : ليس الاصل في الاخبار التساقط ، بل هو التخيير أو الترجيح ، فلا مرجع للأصل.

(بقي هنا شيء ، وهو أنّهم) أي الاصوليّون (اختلفوا) في الكتب الاصوليّة (في تقديم المقرّر وهو) الخبر (الموافق للاصل ، على الناقل وهو الخبر المخالف له) أي الاصل وسمّي الخبر الموافق لأصل البراءة وأصل العدم الأزلي الأوّلي مقرّرا لأنّه يقرّر ويثبت حكم الأصل ، والمخالف بالناقل لأنّه ينقل ويبدل حكم الأصل ، ولعلّ ذكر هذا بعد بيان حكم الترجيح بالاصل وعدمه من باب ذكر الخاص بعد العام ، لكون المراد بالاصل هنا ما كان عقليا لا شرعيا ، كما سيصرح به ، والوجه في تخصيصه بالذكر كونه محل نزاع برأسه (والاكثر من

٣٨٦

الاصوليين) المتقدّمين (منهم العلّامة قده وغيره على تقديم الناقل) فلو ورد خبر على حرمة الغراب الاسود ، فهو مخالف لأصل البراءة ، والآخر على حليّته ، فهو موافق للأصل ، قالوا بتقديم الناقل (بل حكى هذا القول) أي تقديم الناقل (عن جمهور الاصوليين معلّلين ذلك بأنّ الغالب فيما يصدر من الشارع الحكم بما يحتاج الى البيان) فلا يجب على الشارع الحكم بما دلّ عليه الاصل المركوز في اذهان الناس ، والمنصوب في أعينهم لأنّ الحكم الجديد لا يستفاد ألّا من المخالف ، فحرمة الغراب الاسود مثلا لم يعلم ألّا من المخالف.

(و) لذا (لا يستغنى عنه) أي عن البيان (بحكم العقل) بخلاف المقرر ، لأنّ حكمه معلوم من الأوّل بالعقل لكونه موافقا للأصل ، وكان كالمستغنى عن ذكره بحكم الاصل.

وحمل كلام الشارع على حكم جديد أولى ، ولهذا يقال : التأسيس خير من التأكيد (مع أنّ الذي عثرنا) واطلعنا (عليه في الكتب الاستدلالية الفرعية الترجيح بالاعتضاد بالاصل) وهو عبارة عن تقديم المقرر (لكن لا يحضرني الآن مورد لما نحن فيه ، أعني المتعارضين الموافق أحدهما للأصل العقلي) أعني قبح العقاب بلا بيان ، حتى نقول بتقديم المقرر على الناقل (فلا بد من التتبع) اذ عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود (ومن ذلك) أي من تقديم الناقل او المقرر (كون أحد الخبرين متضمنا للاباحة) بمعنى الاعم أعني عدم الحرمة (والآخر مفيدا للحظر) أعني الحرمة ، بمعنى أنّ المطابق للأصل مرجوح صدورا لأنّ الشارع له أن يكتفي بالأصل الشرعي أو العقلي ، وأنّما المحتاج الى البيان الحظر فهو الرّاجح ، والتأسيس خير من التأكيد ، كما ذكره صاحب المعالم قده.

وذهب بعض إلى تقديم المبيح كما سيجيء إن شاء الله تعالى في كلامه قده ، وكيف كان فالمسألة ثلاثية الاقوال ، تقديم الحاظر ، وتقديم المبيح ، والتوقف ، وهو مختار المصنّف قده (فأنّ المشهور تقديم الحاظر على المبيح بل يظهر من

٣٨٧

المحكي عن بعضهم) أي بعض الاصوليين (عدم الخلاف فيه ، وذكروا في وجهه) أي وجه تقديم الحاظر (ما لا يبلغ حدّ الوجوب ؛ ككونه متيقّنا في العمل) يعني تقديم الحاظر موافق للاحتياط ، لأنّ الفعل أن كان محظورا ، فقد تخلّص بتركه من اللوم والعقاب ، وان كان مباحا لم يكن عليه في تركه حرج ، ولا كذلك العمل بالاباحة ، لأنّه قد يقدم على فعله فيقع في مخالفة الواقع و (استنادا) في ذلك (الى قوله (ع) : دع ما يريبك الى ما لا يريبك (١)) ومرجعه الى أنّ الترك ممّا لا يريبك ، والفعل ممّا يريبك ، ويجب ترك ما يريب والاخذ بما لا يريب (وقوله (ع) : ما اجتمع الحلال والحرام إلّا غلب الحرام الحلال (٢)) فلو أجتمع في العين الواحدة حظر واباحة ، كالمتولّد بين ما يؤكل وما لا يؤكل ، قدّم التحريم ، وكذلك في موارد الشبهة المحصورة التحريميّة.

ثمّ قال المصنّف قده (وفيه) ما لا يخفى من الضعف في الاستدلال بكلا الخبرين.

بيان ذلك (أنّه لو تمّ هذا الترجيح لزم الحكم باصالة الحرمة عند دوران الأمر بينها) أي بين الحرمة (وبين الاباحة) عند عدم ورود الخبرين.

ولازم ذلك الحكم بحرمة شرب التتن ، ولا يلتزم بذلك احد سوى الاخباريين ، وايضا يلزم ان يحكم في الشبهة الموضوعية بالاجتناب من مائع مردّد بين كونه خمرا أو ماء ، مع أنّه مجرى البراءة باجماع الاصوليين والاخباريين.

ان قلت : ان الكلام في تقديم التحريم على التحليل فيما لا نصّ فيه ، وهنا مفروض في ورود الخبرين فيهما.

قلنا (لأنّ وجود الخبرين المذكورين لا مدخل له في هذا الترجيح) أي

__________________

(١) عوالي اللئالي : ج ـ ٣ ص ٣٣٠ الرواية : ٢١٤.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢ (ص ـ ٢٧٢) الرواية : ٦ (ط ـ الحديثة).

٣٨٨

الترجيح من جهة الناقل (فأنّه) أي ما ذكروا في مسئلة ما لا نصّ فيه (من مرجّحات أحد الاحتمالين) أعني الحرمة والاباحة سواء كان هناك خبران متعارضان ، أو لم يكن (مع أنّ المشهور تقديم الاباحة على الحظر) في الشبهة الحكميّة من دون تعارض الخبرين ، فكيف يقولون بتقديم الناقل فيما نحن فيه بالدليل الذي ذكروه في الاحتمالين.

(فالمتجه) بعد تضعيف دلالة الخبرين على تقديم الحاظر (ما ذكره الشيخ قده في العدة من ابتناء المسألة) أي مسئلة تقديم المبيح او الحاظر (على أنّ الاصل في الاشياء الاباحة ، او الحظر ، او التوقف) فيعمل كلّ على أصله ، فمن قال بان الاصل الاباحة ، يحكم بالحظر لما تقدّم من أنّ التأسيس خير من التأكيد ، ومن قال : بالعكس بأنّ الاصل في الاشياء الحظر ، فقاعدة التأسيس خير من التأكيد لزم تقديم المقرر ففي الحقيقة النزاع صغرويّ في أنّ الاصل ما ذا؟ فكلّ خبر موافق للأصل يطرح لعدم اللزوم بذكره ، لأنّه تأكيد ويؤخذ بالآخر لأنّه تأسيس.

وأشار الى مختاره من التوقف بما ذكره المصنّف قده بقوله (حيث قال) شيخ الطائفة : (وأما ترجيح أحد الخبرين على الآخر من حيث أنّ أحدهما يتضمّن الحظر والآخر الاباحة والاخذ بما يقتضى الحظر أو الاباحة) بسبب أن يكون أحد الخبرين حاضرا ، والآخر مبيحا (فلا يمكن الاعتماد عليه) أي على ترجيح أحد الخبرين (على ما نذهب اليه من الوقف ، لأن الحظر والاباحة جميعا عندنا مستفادان من الشرع) ولا يستقل العقل باثباتهما (ولا ترجيح بذلك) أي بالأخذ باحدهما وطرح الآخر ـ لم يكن علّة لعدم جواز الترجيح بالاصلين بل يكون علّة للوقف ـ ولذا قال : (وينبغي لنا التوقف) في الفتوى (بينهما جميعا ، أو يكون الانسان مخيّرا في) مقام (العمل) بعد فقد المرجّحات (بأيّهما شاء).

وبعبارة أخرى : أمّا نعمل باخبار التوقف عند التكافؤ ، أو التخيير بالاخذ

٣٨٩

بأحدهما باخبار التخيير (انتهى) مختار شيخ الطائفة قده وذلك لنفيه الاباحة والحظر العقليّين ، بناء على ما اختاره من التوقف وحصره لهما في الشرعيّين فلا ترجيح له بذلك الحكم العقلي.

ويرد على الشيخ الطّوسي قده أنّ الرواية المرجّحة اعتبرت الترجيح بموافقة الاحتياط ، والحظر موافق للاحتياط ، فينبغي ترجيح الحاظر على المبيح.

وأما قول شيخ الطائفة قده المرجع هو التوقف ، أو التخيير في صورة التكافؤ وقد جعل موافقة الاحتياط مرجّحة للأخذ بالحاظر.

وأشار المصنّف قده اليه بقوله (ويمكن الاستدلال لترجيح الحظر بما دلّ على وجوب الاخذ بالاحتياط من الخبرين) فاذا كان أحد الخبرين حاظرا والآخر مبيحا قدّم الأوّل من جهة كونه منصوصا في رواية الترجيح بقوله : خذ ما وافق الاحتياط ، كما نقلها عوالي اللئالي فيكون موافقة الاحتياط في عداد المرجّحات ، ومع الترجيح لا توقف ولا تخيير.

(و) على هذا يحسن (إرجاع ما ذكروه من الدليل) أي بما قالوا بأنّ هذا متيقّن (الى ذلك) أي الى أنّه جعل الشارع العمل بالمتيقّن وهو الاحتياط مرجّحا فيجب الأخذ بالمرجّح لا من حيث نفسه فقط (فالاحتياط وان لم يجب الأخذ به) أي بالاحتياط (في الاحتمالين المجردين عن الخبر ألّا أنّه يجب الترجيح به) أي بالاحتياط (عند تعارض الخبرين) للأمر به عنده في بعض الأخبار العلاجيّة كالمرفوعة برواية عوالي اللّئالي.

(و) لكن (ما ذكره الشيخ قده) في العدّة من عدم الترجيح بين الحاظر والمبيح ، فأنّه لا ترجيح على أصله ، وهو : التوقف ولزوم استفادة كلّ من الحظر والاباحة من الشرع ، لأنّ كلّ واحد منهما حكم شرعي لا بدّ أن يؤخذ من الشرع وما تعيّن عندنا أنّ الشرع أيّ الحكمين عيّنه ممّا لا يخفى.

٣٩٠

أمّا أوّلا : فلأنّه (أنّما يتم لو أراد الترجيح بما يقتضيه الأصل) أي القاعدة الاوليّة من أنّ الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة ، فاختار هو أنّ الأصل الأوّلى يقتضي التوقف أو التخيير (لا بما ورد التعبّد به من الاخذ باحوط الخبرين) يعني بعد ما وردت الرواية أنّ الموافقة للاحتياط مرجّح ، فلا معنى للتوقف أو التخيير.

وأمّا ثانيا : (مع أنّ ما ذكره من استفادة الحظر أو الاباحة من الشرع لا ينافي ترجيح احد الخبرين بما دلّ من الشرع على اصالة الاباحة مثل قوله (ع) : كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي) (١) فالقائل بالاخذ بما يوافق أصل الاباحة يعتمد على قوله عليه‌السلام : كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي ، معناه ما لم يعلم ورود النهي فحكمه الاخذ بطرف الاباحة (أو) دلّ من الشرع (على اصالة الحظر مثل : دع ما يريبك الى ما لا يريبك) فبهذا الحديث تقدّم جانب الحظر أي الرواية الدالة على الحرمة فالاخذ بها لا ريب فيه ، لانّا اذا اخذنا بمضمونها تركنا الفعل فان كان محرّما واقعا فقد تركناه ، وان كان مباحا فلا يحرم ترك المباح ، فهذا يكون مرجّحا.

وأمّا ثالثا : (مع أنّ مقتضى التوقف على ما اختاره لما كان وجوب الكفّ عن الفعل على ما صرّح هو به) أي بوجوب الكفّ (وغيره) أي غير الشيخ الطّوسي قده (كان اللازم بناء على التوقف العمل بما يقتضيه الحظر) لأنّ وجوب التوقف له معنيان.

أحدهما التوقف عن الفتوى بالحكم الواقعي الذي هو مضمون كلّ واحد من الخبرين ، وعلى هذا ، الحق مع الشيخ قده لأنه تقوّل بلا علم. وأمّا المعنى الآخر الذي يوجب التوقف هو التوقف العملي مجرّد الترك في الخارج ، فالحقّ مع من يقول بتقديم رواية الحاظر اذ نتيجته هو التوقف العملي ، فكيف ينكر

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٨ ص ١٢٧ (الرواية : ٦٠).

٣٩١

على كلا الفريقين (ولو ادعى ورود اخبار التخيير) عند فقد المرجّحات (على ما يقتضيه التوقف جرى مثله) أي اخبار التخيير (على القول باصالة الحظر) أيضا ، فلا اعتراض له على من يعتقد تقديم الحاظر ، لأنّ هذا ايضا يقول بالتوقف العملي.

(ثمّ أنّه يشكل الفرق بين ما ذكروه من الخلاف في تقدّم المقرّر على الناقل) بأنّ الأصوليين عنونوا مسئلة الناقل والمقرّر وذكروا فيها الخلاف (وان حكى عن الاكثر تقدّم الناقل) وعن بعضهم تقدّم المقرّر وهو الاقلّ منهم.

وذكروا ايضا مسئلة الحاظر والمبيح (و) لكن ظاهر كلماتهم (عدم ظهور الخلاف في تقدّم الحاظر على المبيح) فخلافهم في الاولى ينافي وفاقهم في الثانية.

وبعبارة أخرى : يرد الاشكال على المشهور من حيث أنّ في مسئلة الناقل والمقرر لم يكن الاخذ بالناقل اجماعيا ، وفي مسئلة المبيح والحاظر يدّعون الاجماع على تقديم الحاظر فيقولون في المسألة الاولى ان الناقل مقدّم ، ويقولون هذا فتوى المشهور ، وفي مسئلة الحاظر والمبيح يقولون أنّ تقديم الحظر اجماعي فكيف التوفيق؟ مع أنّ هذه المسألة أعني مسئلة الحاظر والمبيح من جزئيات مسئلة الناقل والمقرّر.

(ويمكن) دفعه ورفع الاختلاف والمنافاة بينهما بأنّ (الفرق) بين المسألتين (بتخصيص المسألة الأولى) أعني مسئلة النّاقل والمقرّر (بدوران الأمر بين الوجوب وعدمه) أي بين الوجوب وغير الحرمة من الاباحة أو الاستحباب ، ومسئلة الحظر والاباحة في غيره ، فلا منافاة حينئذ بين كون المسألة الأولى باطلاقها خلافيّة ، وكون مسئلة تقديم الحاظر على المبيح وفاقيّة ، فإنّ هذه المسألة على هذا التقدير ليست من جزئيات تلك المسألة بل هي مسئلة أخرى أجنبية عنها.

٣٩٢

(ولذا) أي لأجل أنّ نظرهم في الشبهة الوجوبيّة أي ما دار الأمر بين الوجوب وغير الحرمة لا الشبهة التحريمية استدلّوا بوجوب الاحتياط فيعلم أنّ محط نظرهم في مسئلة الناقل والمقرّر دوران الأمر بين الوجوب واللاحرمة (يرجّح بعضهم الوجوب على الاباحة والندب ، لأجل الاحتياط لكن فيه مع جريان بعض أدلّة تقدّم الحظر) وهو قوله «ع» : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (فيها) ـ في المسألة الأولى ـ أي ولكن المصنّف قده لم يرتض بهذا التوجيه لوجهين.

أحدهما : أنّ دليل الحاظر يأتي في الشبهة الوجوبيّة أيضا فالمجمعين في الحاظر لا بدّ أن يجمعوا في المسألة الأولى أيضا.

والثاني : بأنّ المسألتين لا فرق بينهما و (اطلاق كلامهم فيها) أي في مسئلة الناقل والمقرّر (وعدم ظهور التخصيص في كلماتهم) ولم يقيّدوا بالشبهة الوجوبيّة فيأتي في المسألة الحاظر والمبيح أيضا ، فاللازم أن يكون هذه المسألة كالمسألة السابقة فالتفصيل لا معنى له.

(ولذا) أي ولاطلاق كلامهم في مسئلة الناقل والمقرّر (اختار بعض سادة مشايخنا المعاصرين) في المفاتيح على ما حكى عنه (تقديم الاباحة على الحظر) واختيار الاباحة باعتبار أنّه مقرّر (لرجوعه) أي لرجوع تقديم الاباحة على الحظر (إلى تقديم المقرّر على الناقل الذي اختاره) السيّد محمد قده في المفاتيح (في تلك المسألة ، هذا مع أنّ دعوى الاتفاق على تقديم الحظر غير ثابت ، وأن ادعاه) أي دعوى الاتفاق (بعضهم والتحقيق هو ذهاب الأكثر وقد ذهبوا) على ما نسب اليهم (إلى تقدّم الناقل أيضا في المسألة الأولى) فلا فرق بين المسألتين من جهة ذهاب المشهور ، يعني ليست مسئلة تقديم الحاظر اجماعيا.

وقال بعض بأنّ الأكثر ان كانوا من العامة فعذرهم في ترك الحكم بالتخيير

٣٩٣

واضح لعدم قولهم بحجّية اخبار التخيير ، وإن كانوا من الخاصة وقالوا بحجية الأخبار من باب التعبّد والظن الخاص ، فلا عذر لهم في ذلك (بل حكى عن بعضهم تفريع تقديم الحاظر على تقديم الناقل) بمعنى أنّ المشهور ذهبوا إلى تقديم الناقل على المقرّر ، ثمّ فرّع عليه تقديم الحاظر على المبيح فلو كان مسئلة الحاظر غير تلك المسألة وكانت اجماعية فلا معنى للتفريع (ومن جملة هذه المرجّحات) الّتي لا تعاضد ، أحد الخبرين مع كونها مستقلّة بالاعتبار ولو خلى المورد عن الخبرين (تقديم دليل الحرمة على دليل الوجوب عند تعارضهما) مع خلوّ المقام عن المرجّحات المنصوصة ، أو عمّا هو في قوّة الظن النوعي ، ومصبّ هذا المرجّح هو ما كان المتعارضان كلاهما ناقلين عن الأصل ، إلّا أن أحدهما بالتزام الفعل والآخر بالتزام الترك فقيل بترجيح الثاني.

(واستدلّوا عليه) أي على تقديم الخبر الدال على الحرمة على الخبر الدّال على الوجوب (بما ذكرناه مفصّلا في مسائل أصالة البراءة عند تعارض احتمالي الوجوب والتحريم) وذكر في مسئلة أصالة البراءة وجوها.

الأوّل : أنّ العلماء بين قائل بالتخيير بالأخذ بالاحتمالين وجماعة عيّنوا جهة التحريم فيدور الأمر في وجوب الأخذ بالاحتمالين جانب التعيين وهو التحريم أو التخيير فالاحتياط يقتضي الأخذ بجانب التحريم لأنّه موافق لكلا القولين.

الثّاني : أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، إذ الغالب في الحرمة دفع مفسدة ملازمة للفعل وفي الوجوب تحصيل لمصلحة لازمة للفعل ، واهتمام الشارع والعقلاء بدفع المفسدة أتم.

الثّالث : الاستقراء فانّ الغالب في موارد اشتباه مصاديق الواجب والحرام تغليب الشارع لجانب الحرمة كما في أيّام الاستظهار والماء المشتبه بالنجس.

ولكن ضعف الكلّ واضح.

٣٩٤

أمّا الأوّل : فلأنّه لا أصل لأصالة التعيين عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، بل مقتضى أصالة البراءة عن كلفة التعيين هو التخيير سلّمنا تلك الأصالة لكنه ثابت حيث لم يرد من الشارع بيان.

وأمّا الثّاني : فلأنّ الغلبة لو كانت مسلّمة لكن حكم العقل أو الشرع بأولويّة دفع المفسدة المحتملة على نحو الوجوب الّذي هو محلّ الكلام ممنوع ، بل كيف يسلّم ذلك مع الحكم بالاباحة في الشبهة التحريمية الخالية عن احتمال الوجوب وعدم العلم الاجمالي ، كما ذكره الشيخ قده سابقا.

وأمّا الثالث : فلأنّ ترك العبادة في أيّام الاستظهار بعد العادة ليس على سبيل الوجوب ، سلّمنا لكن لعلّه من باب مراعات اصالة بقاء الحيض وحرمة العبادة لا لترجيح جهة الحرمة على الوجوب ، وأمّا ترك العبادة في أوّل رؤية الدم أعني قبل العادة فلو لا اطلاقات النصوص وقاعدة ما أمكن أن يكون حيضا فهو حيض لكان المرجع أصالة الطهارة وعدم الحيض ووجوب العبادة فالترك للدّليل الوارد لا لترجيحه ، وأمّا حرمة استعمال الماء المشتبه بالنجس عند دخول وقت مشروط بالطهارة فلعلّه لثبوت البدل عن الطّهارة المائيّة وهو التيمم عند الاشتباه الّذي منع الشارع عن استعماله حينئذ ، وعلى فرض تسليم ترجيح جهة الحرمة في المثالين لا يحصل منهما غلبة توجب الحاق ما نحن فيه (والحق هنا التخيير) كما هو مضمون الأخبار العلاجيّة الّتي هي قريبة من التواتر (وإن لم نقل به) أي بالتخيير (في الاحتمالين) أي في غير مورد تعارض النصّين أعني مورد ما لا نصّ فيه ، واجمال النصّ والشبهة الموضوعيّة في الوجوب والتحريم (لأنّ المستفاد من الروايات الواردة في تعارض الأخبار على وجه لا يرتاب فيه) أي فيما يستفاد (هو لزوم التخيير مع تكافؤ الخبرين) المتعارضين (وتساويهما من جميع الوجوه) أي من حيث الدّلالة والصدور والجهة ولم يرجّح أحدهما بالمرجحات المنصوصة ، وعلى المسلك الآخر وسيشير إليه قده عند تساويهما في الدّلالة وعدم اقتران

٣٩٥

أحدهما بما يوجب أقربيّته إلى الواقع فإذا كان في أحد الخبرين مزيّة من الوجوه (الّتي لها مدخل في رجحان أحد الخبرين) بأن كان أحدهما أعدل أو أصدق مثلا يقدّم على الآخر ولا تصل النّوبة إلى التخيير.

قوله قده (خصوصا) قيد لقوله : والحق هنا التخيير (مع عدم التمكن من الرجوع إلى الامام عليه‌السلام).

قوله قده : (الّذي) صفة لعدم التمكن (يحمل عليه أخبار التوقف والارجاء) أي تأخير الأمر من وقت إلى آخره حتّى يحصل الملاقاة مع الامام عليه الصلاة والسّلام (بل لو بنينا على طرح أخبار التخيير في هذا المقام أيضا) أي في مقام موافقة الأصل أمّا الناقل أو المقرّر وجعلناه مرجّحا فاين موارد التخيير؟ لأنّه لا بدّ أن يكون أحد الخبرين موافقا للأصل ، فيكون حمل هذه الأخبار الكثيرة التي تكون قاعدة كلية نادر المورد ، أو بلا مورد وهو المراد من قوله قده : لو لم نقل بالتخيير (بعد الترجيح بموافقة الأصل لم يبق لها) أي لأخبار التخيير (مورد يصلح لحمل الأخبار الكثيرة الدّالة على التخيير عليه) الضمير راجع إلى المورد (كما لا يخفى على المتأمّل الدقيق ، فالمعتمد وجوب الحكم بالتخيير إذا تساوى الخبران من حيث القوّة) والدّلالة (ولم يرجّح أحدهما بما يوجب اقربيّته) أي أقربية أحدهما (إلى الواقع ولا يلتفت إلى المرجّحات الثلاثة الأخيرة) أعني كون أحدهما ناقلا أو حاضرا أو محرّما ، والآخر مقرّرا أو مبيحا أو موجبا بناء على قاعدة دفع الضرر أولى من جلب المنفعة.

قوله قده : (الراجعة) صفة للمرجّحات (إلى ترجيح مضمون أحد الخبرين مع قطع النظر عن كونه) أي كون ما دلّ عليه المرجّح حتّى يكون أقوى الدليلين (مدلولا له) حتّى يصير أقوى الدليلين (لحكومة أخبار التخيير على جميعها) أي على جميع المرجّحات الثلاثة (وان قلنا بها) أي بالمرجّحات الثلاثة (في تكافؤ الاحتمالين) يعني في غير مورد التعارض.

٣٩٦

(نعم يجب الرجوع إليها) أي إلى المرجّحات الثلاثة (في تعارض غير الخبرين من الأدلّة الظنية) كما إذا فرضنا تعارض الشهرتين أو تعارض الاجماع المنقول مع الشهرة ، بناء على حجّية تلك الامارات من باب الظن الخاص (إذا قلنا بحجّيتها) أي الامارات (من حيث الطريقيّة المستلزمة للتوقف عند التعارض ، لكن ليس هذا) أي تقديم هذه المرجّحات الثلاثة (من) باب (الترجيح في شيء) بل من باب المرجعية لما سيذكره المصنّف قده من أنّ الترجيح في ذلك يرجع إلى تساقط المتعارضين أو سقوط ما ارتفع الظن منه في الحجّية.

وأمّا أن قلنا بحجيتها من باب السببية فعلى مذاقه قده ، من كون المتعارضين حينئذ من باب الواجبين المتزاحمين استقل العقل بالحكم بالتخيير ، فلا مجرى للأصول كما قال.

(نعم : لو قلنا بالتخيير في تعارضها) أي في تعارض ساير الامارات (من باب تنقيح المناط) القطعي أي من باب السببيّة بتخيّل أنّ حكم الشرع أو العقل بالتخيير بين الخبرين إنّما هو لأجل كونهما امارتين تعارضتا ، ولا مرجّح لإحداهما على الأخرى ، وهذا المناط موجود في تعارض ساير المرجّحات أيضا (كان حكمها) أي ساير الامارات (حكم الخبرين) فالعقل يحكم بالتخيير حيث ما أحرز المناط الواقعي ، وإنّ أيّ المناطين أقوى في الواقع (لكن فيه تأمّل) إذ الظاهر من أدلّة حجية الامارات الطريقيّة لا السببيّة (كما) أنّ ذلك التأمّل حاصل (في اجراء التراجيح المتقدّمة في تعارض الأخبار ، وإن كان الظاهر من بعضهم عدم التأمّل في جريان جميع أحكام الخبرين) والمراد (من) جميع الأحكام (الترجيح فيها) أي في ساير الامارات (باقسام المرجّحات مستظهرا عدم الخلاف في ذلك) الترجيح (فإن ثبت الاجماع على ذلك) أي على جريان أحكام الخبرين في غيرهما من الأدلّة (أو أجرينا ذلك) أي إجراء أحكام الخبرين (في الاجماع المنقول) فقط (من حيث أنّه خبر) وساير الامارات كالشهرة الفتوائيّة

٣٩٧

والغلبة والأولويّة لا تندرج تحت عنوان الخبر ، وانّ الظاهر من الخبر هو الاخبار عن حسّ ، لا عن حدس كما تقدّم في مبحث الاجماع المنقول (فيشمله) أي مورد الامارات (حكمه) أي حكم الخبر من التخيير أو الترجيح عند التعارض مع مثله (فهو والّا) أي وان لم ندرجه تحت عنوان الخبر (ففيه) أي في نفي الاجراء في ساير الامارات حتّى في الاجماع المنقول (تأمّل) لأنّ الترجيح والتخيير إنّما هو في الخبرين ، والّا فالقاعدة التساقط (لكنّ التكلّم في ذلك) أي في مورد الامارات (قليل الفائدة ، لأنّ الطرق الظنّية غير الخبر ، ليس فيها ما يصحّ للفقيه دعوى حجيته من حيث أنّه ظن مخصوص سوى الاجماع المنقول بالخبر الواحد) وسوى الشهرة على زعم من زعم شمول قوله (ع) خذ بما أشتهر بين أصحابك ، لها.

وأمّا الكتاب فهو خارج من المقام لكونه من الطرق القطعيّة سنده (فان قيل بحجيتها) أي تلك الطرق الظنّية من الاستقراء والشهرة بناء على عدم شمول الحديث لها كما هو التحقيق (فإنّما هي من باب مطلق الظن ، ولا ريب أنّ المرجع في تعارض الامارات المعتبرة على هذا الوجه) أي على وجه عدم حجّيته من باب الظنّ الخاصّ (إلى تساقط المتعارضين ان ارتفع الظنّ من كليهما) لأنّ حجية الظن حينئذ من باب الظن المطلق الانسدادي ، وحيث فرض عدم حصول الظن فلا موضوع للحجّية (أو سقوط احدهما) أي أحد الخبرين (عن الحجّية ، وبقاء الآخر بلا معارض أن ارتفع الظن عنه) أي عن أحدهما فيكون هناك تعارض الحجّة واللاحجّة ، فلا يرتبط بباب التعادل والترجيح.

(وأمّا الاجماع المنقول) أي تعارض إجماعين منقولين (فالترجيح بحسب الدّلالة من حيث الظهور والنصوصيّة جار فيه) أي في مورد تعارض الاجماعين (لا محالة) فيقدّم ما هو أقوى دلالة على ما هو أضعف منها.

(وأمّا الترجيح من حيث الصدور أو جهة الصدور فالظاهر أنّه كذلك) يعني

٣٩٨

يرجّح أن جعلنا الاجماع المنقول من أقسام الخبر.

قوله قده : (وان قلنا) شرطيّة (بخروجه) أي الاجماع المنقول (عن الخبر عرفا ، فلا يشمله اخبار علاج تعارض الأخبار) إذ الأخبار العلاجيّة ظاهرة في الأخبار المتعارضة ، دون غيرها من الأدلّة الظنية (وأن شمله) أي الاجماع المنقول (لفظ النبأ) في قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) (في آية النبأ) لأنّ النبأ أعمّ من الخبر المصطلح ، فيشمل الحدسي ، والحسّي.

قوله قده : (لعموم التعليل) علّة لقوله فالظاهر أنّه كذلك ، (المستفاد من قوله (ع) : فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وقوله : لأنّ الرشد في خلافهم) بناء على أنّ المراد بلا ريب فيه هو الريب بالنسبة إلى معارضه ، بمعنى كون احتمال خلاف الواقع فيه أقل من معارضه فيجري فيه الترجيح لأنّه يدخل في عموم قوله (ع) : فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه مضافا إلى أنّ قوله (ع) : لأنّ الرشد في خلافهم ، إذا كان معناه أنّ أكثر الأحكام الموجودة عندهم مخالف للواقع حيث أنّ بناء أكثر الأحكام عندهم القياس والاستحسان والآراء الظنية ونظائرها ، مضافا إلى ما مرّ من الحديث المرويّ في صفحة ١٦٥ وأنهم كانوا يخالفون الحجّة في ما علم فيما استفتوهم منه (ع) ، وقد مرّ في الكتاب قصّة مخالفة أبي حنيفة للامام الصادق عليه‌السلام ، حتّى في فتح عينه في السجود ، فمع الالتفات إلى جميع هذه الأمور يتّجه تقديم الاجماع المنقول المخالف للعامة عن الاجماع المنقول الموافق لهم حيث أن الرشد في خلافهم (لان خصوص المورد) أي مورد التعليل وهو الخبر المصطلح (لا يخصصه) أي لا يخصص العام فيكون كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجواب عن وقوع قذر في بئر قضاعة ، خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء (١).

فلا يكون لخصوصية المورد مخصصا بل كل ماء كذلك وهنا مثله.

__________________

(١) كتاب الطهارة للمحقق الهمداني قده ص ـ ٣٢.

٣٩٩

(ومن هنا) أي ومن أجل عموم التعليل الوارد في الأخبار المذكورة وشموله لجميع الامارات الشرعيّة وان لم يكن خبرا مصطلحا (يصحّ اجراء جميع التراجيح المقرّرة في الخبرين).

قوله قده : (في الاجماعين المنقولين) متعلّق بالاجراء (بل غيرهما من الامارات) الشرعيّة (الّتي يفرض حجّيتها من باب الظن الخاص) كالأولويّة والغلبة والاستقراء ، لما عرفت من أن عموم التعليل لا يخصّص بمورده ولا يحتاج إلى شمول الأخبار العلاجيّة لهذه الامارات.

(وممّا ذكرنا) من أعمال المرجّحات مع فرض الاجماع المنقول مصداقا للخبر (يظهر حال) تعارض (الخبر مع الاجماع المنقول ، أو غيره) أي غير الاجماع المنقول (من الظنون الخاصّة لو وجد) يعني ظن خاص غير الاجماع المنقول كالشهرة الفتوائيّة والأولوية الظنّية.

فالنتيجة أنّ كلّ ما قلناه من وجوه جريان الترجيح وعدمه يأتي هنا الحمد لله أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا.

وقد وقع الفراغ من تبييض هذه النسخة من المسودّة على يد شارحه : محمّد رضا (ابن الحاج محمّد حسين) الناصري القوچاني في اللّيلة ـ التاسعة من شهر شوّال المكرّم من سنة سبع وتسعين بعد الألف وثلاثمائة ـ (١٣٩٧) ـ من الهجرة النبويّة على هاجرها وآله الصلاة والسّلام.

٤٠٠