جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

محمّد رضا الناصري القوچاني

جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

المؤلف:

محمّد رضا الناصري القوچاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

يخفى ، و (يظهر) عدم الاعتبار به (من طريقتهم) أي المعظم ، عدم ذكر الفقهاء له في مقام من المقامات (في كتبهم الاستدلاليّة في الفقه) سواء كان في أصل الاستدلال بالقياس ، أو الترجيح بالخبر به؟

(وحكى المحقّق قده في المعارج عن بعض ، القول بكون القياس مرجّحا) ثمّ (قال) المحقّق قده (ذهب ذاهب إلى أنّ الخبرين إذا تعارضا ، وكان القياس موافقا لما تضمّنه أحدهما) أي أحد الخبرين (كان ذلك) أي الموافق للقياس (وجها يقتضي) هذا الوجه (ترجيح ذلك الخبر) مثلا : لو فرض ورود خبر بحلية النبيذ وورود خبر آخر أيضا يدل على حرمته يرجح الأخير على الأول لموافقته مع الظن القياسي بعلة مستنبطة ، كما إذا قال : الخمر حرام ، فبالسبر والتقسيم يقال علّة الخمر ليس كونه مائعا ، لأنّ الماء أيضا مائع ، وليس احمراره ، لأنّ الدّبس أيضا أحمر ، وهكذا فعلة الحرمة هي الاسكار ، فالنبيذ والخمر مشتركان في الاسكار الموجب للحرمة ، لاشتراكهما في علّة الحكم.

(ويمكن أن يحتجّ لذلك) أي بمرجّحية القياس (بأنّ الحقّ) في صورة التعارض (في أحد الخبرين ، فلا يمكن العمل بهما) لتنافيهما (ولا طرحهما) لورود الروايات والاجماع على عدم سقوط الخبرين ، فلا بدّ من الأخذ باحدهما ، أمّا من حيث كونه راجحا على الخبر الآخر بمرجّح ، أو التخيير في الاخذ بأحدهما مع عدم المرجّح (فتعيّن العمل بأحدهما واذا كان التقدير) أي المفروض (تقدير التعارض ، فلا بدّ في العمل بأحدهما من مرجّح ، والقياس يصلح أن يكون مرجّحا) لأحد الخبرين (لحصول الظن به) أي بصدور ما وافق القياس (فتعيّن العمل بما طابقه).

(لا يقال : اجمعنا) أعني الإماميّة (على أنّ القياس) بعلّة مستنبطة محرّم ، و (مطروح في الشريعة) عدا ابن الجنيدرة من قدمائنا ، فأنّه كان يجوّز العمل بالقياس ، ثمّ أعرض عنه وافتى بعدم الجواز.

٣٦١

(لأنّا نقول : بمعنى أنّه ليس بدليل لا بمعنى أنّه) أي القياس (لا يكون مرجّحا لأحد الخبرين) فما جعلنا القياس دليلا ، بل مؤيّدا للدليل ، ومرجّحا له ففي الحقيقة الدليل هو الخبر ، لا القياس ، والنهي أنّما يدلّ على عدم الأخذ بالقياس مستقلا بحيث يكون دليلنا هو القياس ، وهنا دليلنا الخبر والخبر دليل شرعي (وهذا ؛ لأنّ فائدة كونه) أي القياس (مرجّحا كونه رافعا للعمل بالخبر المرجوح) ويكون دليلا لطرح الخبر المرجوح فأنّه في الحقيقة دفع للمزاحم فليس عملا به (فيعود) الخبر (الرّاجح كالخبر السليم عن المعارض فيكون العمل به) أي بالخبر الرّاجح (لا بذلك القياس ، وفيه نظر) اذ دليل عدم اعتبار القياس من الاخبار الناهية لا يختصّ في مقام الدليليّة فحسب ، بل أنّ الظاهر من الاخبار الناهية هو عدم الاعتماد به أصلا بوجه من الوجوه من حيث الدليليّة والمرجّحية معا ، اذ الترجيح أيضا عمل به لأنّ هذا الرفع أنّما يتصوّر لو كان حجية الخبر لأجل وصف الظن الفعلي حتّى يرتفع ذلك الظن عنه بموافقة القياس لمعارضه ، ولو لا القياس لم يحصل الظن من الموافق أيضا لفرض تساويهما ، فالعمل بالموافق عمل بالقياس ، لأنّه المحصّل لما هو مناط حجّية الموافق كما أنّ المصنّف قده يذكره بعده ذلك (انتهى) كلامه رفع مقامه.

(ومال الى ذلك) أي الى هذا القول إذا حصل الظن منه بمضمون الخبر الموافق للقياس (بعض سادة مشايخنا المعاصرين) لعلّ المراد به صاحب المناهل ره في كتابه الأصول ، وقد ينسب ذلك الى السيّد ابراهيم ره صاحب الضوابط ، حيث قال في مثل المقام أنّ الشهرة مرجّح ، وأن لم نقل بحجّيتها ، بل وظن القياس ونحوه.

(و) لكنّ (الحقّ خلافه) أي عدم الاعتبار به في مقام الترجيح (لأنّ رفع) وطرح (الخبر المرجوح بالقياس) والأخذ بالخبر الآخر الذي كان القياس موافقا له (عمل به) أي بالقياس (حقيقة كرفع العمل بالخبر السليم عن المعارض

٣٦٢

والرجوع معه) أي الخبر السليم (الى الأصول) سواء كانت لفظيّة كالعمومات والاطلاقات ، أو عمليّة فأنّ طرح الخبر المعتبر الذي من شأنه أن يخصّص العمومات وأن لا يرجع الى الأصل العملي مع وجوده طرحناه بسبب القياس ، وهذا بلا أشكال عمل بالقياس.

فحرمة العمل بالقياس أعمّ من أن يكون دليلا مستقلا على الحكم ، أو موجبا لطرح المعارض (وأيّ فرق بين رفع القياس) وقوله (لوجوب العمل) متعلّق بالرفع ، واللّام للتقوية أي رفع وجوب العمل (بالخبر السليم عن المعارض) بسبب القياس (وجعله كالمعدوم) يعني كما اذا فرض أنّ هذا الخبر السليم لم يوجد (حتّى يرجع الى الاصل ، وبين رفعه) أي رفع القياس وجواز العمل بالخبرين المتكافئين لأنّ الجميع من واد واحد.

فقوله قده (لجواز العمل) متعلّق برفعه (بالخبر المكافئ لخبر آخر) الذي كان مخالفا للقياس (وجعله كالمعدوم حتى يتعيّن العمل بالخبر الآخر) الذي يكون موافقا للقياس.

(ثمّ) أنّه لو سلّمنا أنّ الترجيح بالقياس ليس عملا به ألّا (أنّ الممنوع هو الاعتناء بالقياس مطلقا) سواء كان تمام المستند أو جزئه (ولذا) أي ولأجل أنّ القياس ممنوع مطلقا (استقرّت طريقة اصحابنا) الاماميّة بل حكى من بعض العامّة (على هجره) أي منعه وعدم جواز الركون اليه (في باب الترجيح) أيضا لغلبة مخالفتها للواقع لقوله عليه‌السلام : كان ما يفسده أكثر مما يصلحه (١) وقوله (ع) : ليس شيء أبعد عن عقول الرّجال من دين الله ، وغير ذلك (ولم نجد منهم) أي من الاصحاب (موضعا يرجّحونه) أعني الخبر (به) أي بالقياس ، وقد استفيد ذلك الاجماع من التتبع في طريقة القوم في كتبهم الاستدلاليّة في الفقه.

وما ذكره المحقّق قده في توجيهه ـ من مطروحيّة القياس في مقام الدليليّة

__________________

(١) المستدرك : كتاب القضاء ج ـ ٣ (ص ـ ١٧٤) الرواية : ١٤.

٣٦٣

لا مقام المرجّحية بزعم كونه رافعا للعمل بالخبر المرجوح ـ فيردّه :

أولا : أنّ ذلك مبنيّ على حجّية الخبر من باب الظن وهو خلاف التحقيق.

ثانيا : أنّ ذلك مستلزم لكون القياس رافعا للعمل بالخبر السليم عن المعارض أيضا (ولو لا ذلك) الهجر أي لو جوّزنا الترجيح بالقياس (لوجب تدوين) الاصوليّين (شروط القياس) وأحكامه (في الأصول) أي في كتبهم الاصوليّة لكثرة الحاجة اليه في مقام علاج التعارض (ليرجّح به في الفروع) فلا تأمّل في سقوطه عن درجة الاعتبار لعدم الدّليل ، بل الدّليل على العدم من الاجماع والنّواهي (١).

الأمر (الثّاني في) ملاحظة (مرتبة هذا) النحو من (المرجّح) الخارجي غير المستقلّ (بالنّسبة الى المرجّحات السّابقة) أعني المرجّحات الدلاليّة ، والمرجّحات من حيث الصدور وجهة الصدور.

(فنقول : أمّا الرجحان من حيث الدلالة ، فقد عرفت غير مرّة تقدّمه على

__________________

(١) منها ما في الاحتجاج : عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، أنّه قال لأبي حنيفة في احتجاجه عليه في أبطال القياس : أيّما أعظم عند الله؟ القتل ، أو الزنا؟ قال : بل القتل ، فقال عليه‌السلام : فكيف رضي في القتل بشاهدين ولم يرض في الزنا إلّا بأربعة؟

ثم قال له : الصلاة أفضل ، أم الصيام؟ قال : بل الصلاة أفضل ، قال عليه‌السلام : فيجب على قياس قولك على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام ، وقد أوجب الله عليها قضاء الصوم دون الصلاة.

ثمّ قال له : البول أقذر ، أم المنى؟ فقال : البول أقذر فقال : يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول دون المنى ، وقد أوجب الله تعالى الغسل من المني دون البول ، إلى أن قال عليه‌السلام : تزعم أنّك تفتي بكتاب الله ولست ممّن ورثه ، وتزعم أنّك صاحب قياس ، وأوّل من قاس ابليس ، ولم يبن دين الله على القياس ، الحديث (الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ٣٠) الرواية : ٢٨.

٣٦٤

جميع المرجّحات) سواء كان من حيث الصدور ، أو وجه الصدور ، أو المضمون ، لأنّ مع الجمع الدّلالي العرفي يرتفع التعارض ، فلا موضوع للترجيح والتخيير الذي تضمّنه الاخبار العلاجيّة ، فتقدّم الخاص ـ كلا تكرم النحاة ، مثلا ـ وساير الأقوى دلالة على العام ـ كأكرم العلماء مثلا ـ في تلك الموارد.

(نعم لو بلغ المرجّح الخارجي) بالنسبة الى الأضعف دلالة (الى حيث يوهن الأرجح دلالة) مثلا : اذا عمل المشهور بقوله : أكرم العلماء واعرضوا عن قوله : لا تكرم النحاة (فهو) أي المرجّح (يسقطه) أي الارجح (عن الحجية ، ويخرج الفرض عن تعارض الدليلين) لخروج الأرجح دلالة ، كلا تكرم النحاة ، عن الحجية ، والدليليّة ، ففي هذه الصورة نعمل بعموم : أكرم العلماء ونطرح الخاص.

(ومن هنا) أي من قوله قده نعم الخ (قد يقدّم العام المشهور ، والمعتضد بالامور الخارجيّة الآخر على الخاص) لأنّه يكشف عن قوّة دلالة ما تخيّل أنّه أضعف دلالة ، فيرجع الى الجمع الدّلالي فالاضعف يصير أقوى دلالة ، ويقدّم على معارضه ، فهذا نوع جمع دلالي.

(وأما الترجيح من حيث السند) أي من حيث الصدور المتعدّد أسبابه على الترجيح من حيث وجه الصدور (فظاهر مقبولة ابن حنظلة) الترتيب بين المرجّحات المذكورة ، و (تقديمه) أي تقديم الترجيح من حيث الصدور (على المرجّح الخارجي) حيث قدّم فيها الترجيح بصفات الراوي كالاعدليّة والأفقهيّة والأصدقيّة والأورعيّة على الترجيح بالشهرة التي هي من المرجّحات الخارجيّة.

(لكنّ الظاهر أنّ الأمر بالعكس) أي بتقديم المرجّحات الخارجيّة على الترجيح السندي (لأنّ رجحان السند أنّما أعتبر لتحصيل الأقرب الى الواقع) فصفات الراوي من حيث هي توجب الأقربيّة الى الواقع اذ الاقربية الى الصدور ، هو أقربيته الى الواقع (فان) خبر (الاعدل اقرب الى الصدق من) خبر

٣٦٥

(غيره) وهو العادل (بمعنى أنه لو فرض العلم بكذب أحد الخبرين) الصادرين من الاعدل والعادل (كان المظنون صدق الأعدل وكذب العادل) فاللازم تقديم قول الأعدل ، ألّا أن يعارض بما يوجب أقربيّة الآخر من جهة اخرى (فاذا) أخبر العادل بوجوب السورة مثلا والأعدل بعدم وجوبها ، و (فرض كون خبر العادل مظنون المطابقة للواقع) بسبب المرجّح الخارجي كعمل المشهور على طبق ما أخبره العادل (وخبر الاعدل مظنون المخالفة) للواقع ، لاعراض المشهور عنه (فلا وجه لترجيحه) أي ترجيح خبر الاعدل (بالاعدليّة ، وكذا الكلام في الترجيح بمخالفة العامة) يعني أنّ الترجيح بمخالفة العامة أنّما أعتبر لتحصيل الأقرب الى الواقع ، فاذا فرض كون الموافق للعامّة مظنون المطابقة للواقع للاعتضاد بالشهرة والمخالف مظنون المخالفة فلا وجه لترجيح الخبر المخالف بالمخالفة للعامة (بناء على أنّ الوجه فيه) أي في ترجيح المخالف (هو نفي احتمال التقيّة) لأنّه بناء على الوجه الثاني من الوجوه الأربعة المتقدّمة تكون مخالفة العامة من المرجّحات الخارجية أيضا ، وحيث تعارض مع مرجّح خارجي آخر يكون المدار على ما رجّح في نظر المجتهد.

هذا كلّه في بيان القسم الأوّل من المرجّحات الخارجيّة التي لم تكن حجّة في نفسه ، ولكن يقوي أحد الدليلين المتعارضين.

(وأمّا القسم الثاني) من المرجّحات الخارجيّة (وهو ما كان مستقلا بالاعتبار) كالأخبار الدالّة على الأخذ بموافق الكتاب ، والسنّة المتواترة (ولو خلى المورد عن الخبرين) المتعارضين ، اذ الاخبار الدالّة على الأخذ بموافق الكتاب على صنفين.

صنف منها يدلّ على الأخذ بما وافق الكتاب من الخبرين عند التعارض وقد عرفته.

٣٦٦

وصنف منها يدلّ على أنّ كلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف (١) فاضربوه على الجدار ، أو لم نقله وهو أعمّ من الصنف الأوّل لشموله مقام التعارض ، وغيره منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فانا قلته ، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله (٢) وبالجملة (فقد أشرنا الى أنّه) أي القسم الثّاني (على قسمين).

القسم (الأوّل : ما يكون معاضدا لمضمون أحد الخبرين) لاقربيته الى الواقع.

(و) القسم (الثّاني ما لا يكون كذلك) أي ما لا يكون معاضدا لأحد الخبرين (فمن) القسم (الأوّل الكتاب والسنة) المتواترة ، إذ الخبر الواحد يكون أيضا معارضا فيكون التعارض ثلاثيا ، فالمراد السنّة المتواترة (والترجيح بموافقتهما ممّا تواتر به الأخبار و) من جهة كون الترجيح بالكتاب مستفادا من هذه الأخبار (أستدلّ) المحقّق الحلّي قده (في المعارج على ذلك) أي على الترجيح الموافق للكتاب على المخالف له (بوجهين).

(أحدهما : أنّ الكتاب دليل مستقلّ) بالاعتبار ، ودليل معتبر في حدّ نفسه (فيكون) موجبا لقوّة أحد الخبرين ، و (دليلا على صدق مضمون الخبر) وهذا الدليل ناظر ، الى الصنف الأوّل بمعنى أنّ الخبرين المتعارضين دليلان تعارضا ونرجّح الموافق منهما للكتاب بالشاهد على صدق مضمونه.

(ثانيهما : أنّ الخبر المنافي) للكتاب (لا يعمل به لو أنفرد عن المعارض فما ظنّك به) أي بالخبر المنافي (معه) أي مع التعارض ، وهذا الدليل ناظر الى الصنف الثّاني ، بمعنى أنّ الخبر المنافي للكتاب خارج عن الحجية رأسا ، لاطلاق الأخبار المتواترة على طرح ما خالف كتاب الله فليس بدليل مع فقد المعارض ، فكيف يكون دليلا مع وجوده (انتهى) كلام المحقّق قده.

__________________

(١ و ٢) الوسائل : الجزء ١٨ ص ٧٩ (الرواية : ١٤ و ١٥).

٣٦٧

(و) التنافي المتوهّم بين دليليه حيث أنّ مفاد الأوّل بقائهما على كونهما دليلين متعارضين يقدّم موافق الكتاب منهما على المخالف ، ومفاد الثاني أنّ الخبر المخالف مطلقا ليس بحجّة ولا يشمله أدلة اعتبار الخبر.

مندفع : بأنّ (غرضه) أي المحقّق قده (الاستدلال على طرح الخبر المنافي) وعدم العمل بمقتضى الخبر المخالف (سواء قلنا بحجيته) وبقائه على الدليليّة (مع معارضته لظاهر الكتاب) كما هو مقتضى دليله الأوّل (أم قلنا بعدم حجيته) وخروجه عن الدليليّة كما هو مقتضى دليله الثاني (فلا يتوهّم التنافي بين دليليه).

وبعبارة أخرى : أنّ المدعي طرح الخبر المخالف سواء كان حجّة في نفسه ، وبترجيح الموافق طرحناه ، أم قلنا بأنّ الخبر المخالف مطلقا ، ولو بلا معارض لا يشمله أدلّة الاعتبار فالنتيجة واحدة.

(ثمّ أنّ توضيح الأمر في هذا المقام) أي في مقام معارضة الخبر مع الكتاب والسنّة المتواترة (يحتاج الى تفصيل اقسام ظاهر الكتاب ، أو السنة المطابق لأحد) الخبرين (المتعارضين ، فنقول أنّ ظاهر الكتاب اذا لوحظ مع الخبر المخالف فلا يخلو عن صور ثلث) أمّا أن يكون الخبر المخالف أخص مطلقا أو نصّا في مدلوله ، أو أظهر من الكتاب ولو كان عامين من وجه ، أو التباين أو العموم من وجه بلا أظهرية أحدهما عن الآخر.

الصورة (الأولى أن يكون على وجه لو خلى الخبر المخالف له) أي للكتاب (عن معارضة) الخبر (المطابق له) أي الكتاب (كان) الخبر المخالف (مقدّما عليه) أي على ظاهر الكتاب (لكونه) أي لكون الخبر المخالف (نصّا بالنسبة اليه) أي الى الكتاب والكتاب ظاهر (لكونه) أي الخبر المخالف (أخص منه) أي الكتاب وقد مرّ مرارا تقديم النصّ على الظاهر فيخصّص عموم الكتاب بالخبر الواحد ، اذ معرفة حكم المخالف على نحو العموم والخصوص المطلق

٣٦٨

مع عدم وجود المعارض من الرّجوع الى طريقة العرف حيث يجعلون الخاص المطلق أو الخاص الأظهر ، ولو كان من وجه قرينة صارفة بالنسبة الى العام (أو غير ذلك) مثلا اذا ورد في الكتاب : لا تكرم الفاسق ، وورد في الخبر : أكرم كلّ عالم ، وحيث أنّ الأوّل مطلق والثاني عام وضعي فلا أشكال في تقديمه على المطلق بملاحظة أنّ من شرائط الأخذ بالاطلاق عدم وجود البيان ، ولا أشكال في أنّ العام بيان وبه يرفع اليد من الاطلاق وهذا تقييد في معنى التخصيص (بناء على) جواز (تخصيص الكتاب بخبر الواحد فالمانع عن التخصيص) أي عن تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد المخالفة له (حينئذ ابتلاء الخاص بمعارضة مثله) وهو الخبر المطابق للكتاب الموجب لضعف الخبر المخالف (كما اذا تعارض : أكرم زيدا العالم ، ولا تكرم زيدا العالم ، وكان في الكتاب عموم يدلّ على وجوب : إكرام العلماء ، ومقتضى القاعدة) التي أسّست (في هذا المقام) أي فيما اذا كان هناك عام ، وورد له مخصّص ابتلى بما يعارضه كما في المثال (أن يلاحظ أوّلا جميع ما يمكن أن يرجّح به الخبر المخالف للكتاب على) الخبر (المطابق له) أي للكتاب (فان وجد شيء منها) أي من المرجّحات في الخبر المخالف بأن كان أشهر ، أو كان راويه أعدل ، أو أصدق ، ونحوها (رجّح) الخبر (المخالف به) أي بسبب هذه المرجّحات ، ويطرح الخبر الموافق (و) بعد ذلك (خصّص به) أي بهذا الخبر المخالف عموم (الكتاب ، لأنّ المفروض انحصار المانع عن تخصيصه) أي الكتاب (به) أي بهذا الخبر المخالف (في ابتلائه) أي الخبر المخالف (بمزاحمة الخبر المطابق للكتاب ، لأنّه) أي الخبر المخالف (مع الكتاب من قبيل النصّ والظاهر وقد عرفت) سابقا (أنّ العمل بالنصّ) وتقديمه على الظاهر (ليس من باب الترجيح) ـ لخروجه عن التعارض بسبب الجمع العرفي ـ (بل من باب العمل بالدّليل) لأنّه وارد على الأصل (و) من باب العمل ب (القرينة) أعني الخاص (في مقابلة أصالة الحقيقة)

٣٦٩

أي أصالة العموم أن كانت من باب أصالة عدم القرينة بل (حتى لو قلنا : بكونها) أي أصالة الحقيقة (من باب الظهور النوعي) لوجوب ارتفاع اليد عن الأصل على كلا التقديرين مع وجود القرينة لابتناء الكلام في المقام على جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد ولحكومة القرينة على الأصل المذكور ، وتقيّده قده من باب الظهور النوعي اشارة الى ما ذكره المصنّف قده في أوّل الكتاب في بحث التعادل والترجيح بأنّ أصالة الحقيقة ـ ومنها العموم ـ لو اعتبرنا في موضوعه عدم التعبّد بالقرينة فيكون دليل الوارد المتعبّد به ، واردا قطعا وبلا شبهة وأمّا اذا كان حجيته من باب الظن النوعي فالظاهر والمظنون القوي أنّ التعبد بالقرينة أيضا وارد ، فالفرق أنّ المبنى الأوّل يفيد القطع بورود القرينة على موضوع أصالة العموم والثاني بالظن القوي (فاذا عولجت المزاحمة بالترجيح) أي بترجيح الخبر المخالف أعني : لا تكرم زيدا العالم ، لكون راويه أعدل مثلا على الخبر الآخر أعني أكرم زيدا العالم (صار) الخبر (المخالف كالسليم عن المعارض) لخروج الموافق عن الحجية ولزوم طرحه (فيصرف) ولم يعمل بعموم (ظاهر الكتاب) أعني أكرم العلماء مثلا (بقرينة الخبر السليم) عن المعارض ، لأنّ اعتبار أصالة العموم أنّما هو من باب الأصل عدم القرينة على الخلاف ، فيكون مقيّدا بعدم خاص في قباله ، ومع وجوده كما هو المفروض في المقام لا يكون معتبرا (ولو لم يكن هناك مرجّح) بأن كانا متساويين من جميع الجهات (فان حكمنا في الخبرين المتكافئين بالتخيير ، أمّا لأنّه) أي التخيير هو (الأصل في) الخبرين (المتعارضين) من باب السببية فيكون نظير انقاذ الغريقين من جهة وجود المصلحة في كلا الطرفين ، وحيث لا نقدر ألّا بإنقاذ واحد منهما فالحكم هو التخيير (وأمّا لورود الأخبار بالتخيير) ولو على الطريقيّة تعبّدا (كان اللازم التخيير ، وأنّ له أن يأخذ بالمطابق) أي بالخبر المطابق للكتاب ، ويطرح الخبر المخالف فيبقى العام على عمومه ؛ ولكن إذا أخذنا من جهة التخيير الخبر

٣٧٠

المخالف فيخصّص الكتاب به فالصّورة الأولى لزوم الأخذ بالخبر المخالف والتخصيص ؛ وفي الثاني مشروط بعدم أخذ الموافق (وأن يأخذ بالمخالف فيخصّص به) أي بسبب الخبر المخالف (عموم الكتاب) هذا جواب عن سؤال مقدّر.

وتقدير السؤال أنّ أحد الخبرين اذا وافق الأصل العملي فليس هنا تخيير ، لأنّه يرجح فاذا طابق الأصل الخبر المخالف فليس له تخيير.

أجاب بأنّ الأصل مرجع لا مرجّح (لما سيجيء من أنّ موافقة أحد الخبرين) كالخبر المطابق (للأصل) وهو اصالة الحقيقة (لا يوجب رفع التخيير ، وأن قلنا بالتساقط أو التوقف) في المتكافئين بناء على الطريقيّة (كان المرجع) بعد تساقط كلا الخبرين (هو ظاهر الكتاب) أعني العام كما أنّ المرجع هو الأصل على القول بتساقط الخبرين المطابق أحدهما له ، فيكون مرجعا لا مرجّحا.

(فتلخّص : أنّ الترجيح بظاهر الكتاب لا يتحقّق بمقتضى القاعدة في شيء من فروض هذه الصورة) بمعنى أنّه في بعض الصور يقدّم الخبر المخالف على الكتاب من باب النصّ والظاهر ، فلا يبقى الكتاب مرجّحا بعمومه ، أو في صورة التساقط فنأخذ بظاهر الكتاب ، لكن من باب المرجعيّة لا المرجّحية لأحد الخبرين الموافق.

الصورة (الثانية : أن يكون على وجه لو خلى الخبر المخالف له) أي للكتاب (عن معارضه لكان مطروحا لمخالفته) أي الكتاب (كما اذا تباين مضمونهما) أي مضمون أحد الخبرين مع الكتاب (كلية كما لو كان ظاهر الكتاب في المثال المتقدّم) أي في صورة تعارض أكرم زيدا العالم ، مع لا تكرم زيدا العالم والحال أنّ ظاهر الكتاب (وجوب إكرام زيد العالم).

(و) معلوم أنّ خبر : لا تكرم زيدا العالم ، مباين مع ظاهر الكتاب وهو منشأ

٣٧١

سقوطه عن الاعتبار ، ولو لم يكن له معارض ، إذ : الحكم في هذه الصورة واضح كما أشار اليه بقوله قده أنّ (اللازم في هذه الصورة خروج الخبر المخالف عن الحجية) والدليليّة (رأسا) لمباينته للكتاب فأنّ من شرائط حجية الخبر ان لا يكون مخالفا تباينيا للكتاب ، فيبقى الموافق سليما عن المعارض (لتواتر الاخبار ببطلان الخبر المخالف للكتاب) والحكم بأنّ المخالف باطل ، وزخرف ، ومما لم أقله ، أو أضربه على الجدار (والمتيقن من المخالفة) للكتاب (هذا الفرد) أي المخالفة على وجه التباين المذكور (فيخرج الفرض عن تعارض الخبرين ، فلا مورد للترجيح في هذه الصورة) لأنّه يكون من باب تعارض الحجّة واللاحجّة لأنّ المخالف للكتاب ـ ولو بلا معارض ـ مطروح ، كخروج فرض الأوّل عن مورد هذا الترجيح (أيضا ، لأنّ المراد به) أي بالترجيح (تقديم أحد الخبرين) المتعارضين (لمزيّة فيه) أي في أحد الخبرين (لا لما يسقط الآخر) أعني الخبر المخالف له (عن الحجّية) رأسا ، ولو لم يعارضه الآخر حتّى يصير من قبيل تعارض الحجة واللاحجّة ، لأنّ سوق أخبار العلاج للترجيح بين الدليلين ، والتباين ، الكلي للكتاب ، موجب للخروج عن الدليلية قبل ملاحظة وجود المعارض له باخبار العرض.

ومورد جريان اخبار الترجيح انما هو في صورة تعارض الحجتين حتّى يتعيّن باحد المرجحات المذكورة الحجة الفعلى من المتعارضين والمفروض أنّ الخبر المباين للكتاب خارج عن الحجية بتاتا.

(وهذه الصورة عديمة المورد فيما بايدينا من الاخبار المتعارضة) لانّها منقحة مهذبة عن الاخبار المزيفة بالعيار ، ولنعم المعيار الكتاب المختار.

الصورة (الثالثة أن يكون) النسبة بين الخبر المخالف والكتاب ، العموم من وجه ، وكان الآخر موافقا للكتاب (على وجه لو خلى) الخبر (المخالف له) أي للكتاب (عن المعارض ، لخالف الكتاب ، لكن لا على وجه التباين الكلي ، بل) على وجه (يمكن الجمع بينهما) بتأويل أحد الظاهرين من الكتاب والخبر

٣٧٢

المباين له (بصرف احدهما عن ظاهره) كما لو كان مفاد الكتاب ، واحد الخبرين : وجوب إكرام كلّ عالم ، ومفاد المخالف : حرمة إكرام كلّ فاسق ، فأنّ مورد النزاع أنّما هو العالم الفاسق ، فإن اخذنا بعموم إكرام كلّ عالم وتصرّفنا في عموم حرمة اكرام كلّ فاسق ؛ واخرجناه عن ظاهره فيندرج العالم الفاسق تحت عموم اكرام كل عالم ، وأن أخذنا بعموم حرمة اكرام كلّ فاسق ، وتصرّفنا في عموم الآخر واخرجناه عن ظاهره فمادّة الاجتماع أيضا محرّم الإكرام.

(وحينئذ) أي وحين كان بينهما عموم من وجه ويصلح تخصيص كلّ واحد بالآخر (فإن قلنا بسقوط الخبر المخالف) للكتاب (بهذه المخالفة) الجزئيّة الحاصلة في العامين من وجه (عن الحجية ، كان حكمها) أي حكم الصّورة الثالثة ك (حكم الصّورة الثانية) في طرح المخالف (والّا) أي وإن لم نقل بسقوطه بهذه المخالفة عن الحجّية اندرج المفروض في الترجيح بموافقة الكتاب ، و (كان الكتاب مع الخبر المطابق ، بمنزلة دليل واحد عارض الخبر المخالف ، والترجيح حينئذ بالتعاضد) أي بتعاضد الخبر بموافقته للكتاب ، إذ ، الخبر الموافق للكتاب مشتمل على الترجيح المنصوص في أخبار الترجيح ، وهو موافقة الكتاب بناء على كون موافقة الكتاب من المرجّحات ، لا لبيان تعيين الحجّة عن اللاحجّة ، كما احتمله بل اختاره في الكفاية (١) فراجع.(و) أي مع (قطعية سند الكتاب فالترجيح) على هذا المسلك (بموافقة الكتاب منحصر في هذه الصّورة الأخيرة) لأنّ الصّورة الأولى كما ذكره المصنّف قده ليس بمورد الترجيح السندي ، لأنّه جمع دلالي ، والصورة الثانية قليل المورد بل عديم المورد ، فانحصر بالثالثة.

(لكن) بقي الكلام في مرتبة هذا المرجح بالنسبة إلى ساير المرجحات.

__________________

(١) ج ـ ٢ ص ـ ٤١٩.

٣٧٣

ومن المعلوم : أن (هذا الترجيح) في الصورة الثالثة (مقدم على الترجيح بالسند) فإذا كان الراوي في الخبر المخالف أعدل من الراوي في الخبر المطابق للكتاب ، لا يجوز طرح الموافق (لأن) طرحه ملازم لطرح الكتاب أيضا.

إذ : غاية ما يفيد (أعدلية الراوي في الخبر المخالف) كون خبر الأعدل مظنون الصدور ، و (لا تقاوم قطعيّة سند الكتاب الموافق للخبر الآخر) المظنون الصدور أيضا في حدّ ذاته ، وإن كان الظن الحاصل بصدور خبر الأعدل أقوى من هذا الظنّ.

وحاصل الكلام : أنّ الخبرين المتعارضين أحدهما مشتمل على الترجيح بالصّفات ، كالأعدليّة ، والآخر أيضا مشتمل على الترجيح بموافقة الكتاب ، وهذا الترجيح مقدّم على ساير المرجّحات عدا الشهرة كما سيجيء.

(و) أيضا هذا الترجيح مقدّم (على الترجيح بمخالفة العامة ، لأنّ) ذلك الترجيح إنّما كان لاحتمال (التقيّة) في الموافق لهم ، وهذا الاحتمال وإن كان قائما في نفس الخبر الموافق للعامّة ، ولكن موافقة الكتاب يدفع هذا الاحتمال.

إذ : التقية (غير متصوّرة في الكتاب الموافق للخبر الموافق للعامة) للزوم تقيّته سبحانه وتعالى من العامة ، وهذا أمر غير معقول.

(و) أيضا هذا الترجيح مقدّم (على المرجّحات الخارجية ، لأنّ الامارة المستقلة المطابقة للخبر) المخالف للكتاب قوله (الغير المعتبرة) ـ صفة للامارة ـ (لا تقاوم الكتاب المقطوع الاعتبار) لأنّه قطعي الصدور.

(ولو فرضنا) أنّ (الامارة المذكورة) أي المستقلّة غير المعتبرة بنفسها كالشهرة (مسقطة لدلالة الخبر) أي خبر وجوب اكرام العلماء (و) أيضا مسقطة لدلالة (الكتاب المخالفين لها) أي للامارة قوله قده (عن الحجية) متعلّق بمسقطة ، أن قلنا باعتباره من باب الظهور النّوعي بشرط عدم قيام الظن الشخصي على خلافه كما قيل ، والقائل هو صاحب هداية المسترشدين قده ،

٣٧٤

وقد مضى في باب ظواهر الكتاب كما أشار إليه بقوله قده (لأجل القول بتقييد اعتبار الظواهر بصورة عدم قيام الظن الشخصي على خلافها).

وحيث أفادت الامارة ذلك الظن (خرج المورد عن فرض التعارض) لخروج ظاهر الكتاب على هذا الفرض عن الحجّية ، ويخرج بذلك ظاهر الخبر المطابق للكتاب أيضا أعني وجوب إكرام العلماء عنها ، فيبقى الخبر المخالف أعني حرمة اكرام كل فاسق سليما عن المعارض ، فيخرج عن ما نحن فيه أي مقام ترجيح الخبرين.

(ولعلّ ما ذكرنا) من تقديم الترجيح بموافقة الكتاب في هذه الصّورة على جميع المرجّحات (هو الدّاعي للشيخ) الطّوسي (قده ، في تقديم الترجيح بهذا المرجّح) يعني الترجيح بموافقة الكتاب (على جميع ما سواه من المرجّحات ، وذكر الترجيح بها) أي بهذه المرجّحات (بعد فقد هذا المرجّح) أعني موافقة الكتاب ، فبناء على مسلكه قده يقدّم موافقة الكتاب على سائر المرجّحات ، ويطرح الخبر المخالف ، فإن لم يوافق كتاب الله فهناك يأتي المرجّحات على مراتبها.

(إذا عرفت ما ذكرنا) من اختصاص مورد الترجيح بموافقة الكتاب والسنة القطعيّة بالصورة الثالثة القليلة الوجود في الأخبار المتعارضة ، ومن أنّ الترجيح بالكتاب مقدّم على الترجيح من حيث الصدور وجهة الصدور والمضمون (علمت توجّه الاشكال) في مقامين.

الأوّل : (فيما دلّ من الأخبار العلاجية على تقديم بعض المرجّحات على موافقة الكتاب كمقبولة ابن حنظلة) حيث ذكر فيها الترجيح بصفات الراوي وبشهرة إحدى الروايتين قبل الترجيح بموافقة الكتاب.

وأشار إلى الثّاني بقوله قده (بل ، و) يرد الاشكال (في غيرها) أي في غير المقبولة (مما) أي من الأخبار الّتي (أطلق فيها) أي في الأخبار البالغة إلى حدّ التواتر (الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة) القطعيّة مطلقا ، أي سواء كان هناك

٣٧٥

معارض ، أم لا؟ (من حيث أنّ الصّورة الثالثة) أعني كون المخالفة على نحو العموم والخصوص من وجه ـ الّتي علم من البيان السابق انحصار حصول الترجيح فيها دون غيرها ـ (قليلة الوجود في الأخبار المتعارضة) ولا يناسب ذلك مع تلك الضابطة الكلّية (والصّورة الثانية) أعني كون المخالفة على وجه التباين (أقل وجودا) من الثالثة (بل معدومة الوجود ، فلا يتوهّم حمل تلك الأخبار عليها) إذ حمل المطلق على الفرد النادر ، بل المعدوم مستهجن (وان لم تكن) موافقة الكتاب (من باب ترجيح أحد المتعارضين) بل لبيان تمييز الحجّة وتعيينه لأنه لا بدّ في حجية الخبر أن لا يكون مخالفا للكتاب والسنّة القطعيّة (لسقوط المخالف عن الحجية مع قطع النظر عن التعارض) أيضا.

(ويمكن) دفع الايراد عن الثاني ، أعني دفع اشكال قلّة المورد بالتعميم في مورد الأخبار حتّى يشمل جميع صور الموافقة للكتاب والمخالفة.

وعليه فالصّورة الأولى ، أعني ما كان من قبيل العام والخاص المطلق أيضا مشمول لتلك الأخبار. وسيأتي قريبا توضيحه في الكتاب.

وهذا هو المراد بقوله ويمكن (التزام دخول الصّورة الأولى) أعني كون المخالفة على نحو العموم المطلق (في الأخبار الّتي أطلق فيها الترجيح بموافقة الكتاب) سواء فرض له معارض ، أم لا؟ (فلا يقلّ موردها).

(وما ذكر من ملاحظة الترجيح بين الخبرين المخصّص أحدهما لظاهر الكتاب ممنوع ، بل نقول : أنّ ظاهر تلك الأخبار) التي أطلق فيها الترجيح بموافقة الكتاب (ولو بقرينة لزوم قلّة المورد ، بل عدمه ، وبقرينة بعض الروايات الدالّة على رد بعض ما ورد في الجبر والتفويض بمخالفة الكتاب ، مع كونه) أي كون الكتاب (ظاهرا في نفيهما) أي الجبر والتفويض ، فإنّ قوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ)(١) وقوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ، وَمَنْ جاءَ

__________________

(١) البقرة : ٢٨٦.

٣٧٦

بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها)(١) ظاهران في نفي الجبر والتفويض ، لا نصّان ، فإذا كان القرآن ظاهرا ، والرواية نصّا يجب طرح النّص لأجل مخالفته للكتاب ، لأنّ المراد من طرح المخالف والأخذ بالموافق لا يكون كثيرا ، إلّا في الصّورة الأولى ، لأنّ الثانية والثالثة أما غير موجودة ، أو نادرة ، فمعنى الأخذ بالموافق طرح المخالف الأخصّ وإن كان نصّا ، وتقديم النّص على الظاهر يكون في غير مورد الكتاب.

وعلى هذا (أنّ الخبر المعتضد بظاهر الكتاب لا يعارضه خبر آخر ، وإن كان) الخبر الآخر (لو انفرد) أي كان المخالف بلا معارض (رفع اليد به) أي بهذا الخبر (عن ظاهر الكتاب) فنخصّص الكتاب به ـ بناء على جواز تخصيص الكتاب بالخبر ، كما مرّ مرارا.

(وأمّا الأشكال) الأوّل (المختص بالمقبولة من حيث تقديم بعض المرجّحات على موافقة الكتاب ، فيندفع بما أشرنا إليه سابقا من أنّ الترجيح بصفات الراوي فيها) أي المقبولة (من حيث كونه) أي الراوي (حاكما) لا من حيث كونه راويا (وأوّل المرجّحات الخبريّة) من حيث الرواية لا من حيث الحكم (فيها) أي في المقبولة (هي شهرة احدى الروايتين ، وشذوذ الأخرى ، ولا بعد في تقديمه) أي في تقديم الشهرة (على) اعتبار (موافقة الكتاب) لأنّ الموافق للمشهور أن كان موافقا للشهرة الفتوائيّة يسقط الآخر ، للأعراض ، وإن كان موافقا للشهرة في الرواية فإن بلغت الشهرة حدّ الاجماع بأن أجمع كلّهم الّا الشاذ على نقل تلك الرواية يخرج الآخر عن الحجية ، لأنّه لا داعي على اتفاق الكلّ على الرواية إلّا العمل بها ، وإلّا فلا داعي على أطباقهم على نقلها وترك الشاذ ، فهنا أيضا يخرج الشاذ عن الحجية ، لأنّ العمل على خلافه وإن كان بمعنى المعروفية قل أو كثر ، لا الاطباق ، مقابل نقل واحد للخبر الآخر فتقديمها

__________________

(١) الأنعام : ١٦٠.

٣٧٧

على موافقة الكتاب من باب أنه أول المرجحات المذكورة في المقبولة بعد حمل صدرها على مورد الحكومة ، بمعنى أن ما ذكر في المقبولة من الترجيح بالصفات مختص بالحكمين ، وأول المرجحات الخبرية فيها هي شهرة احدى الروايتين وشذوذ الأخرى ، هذا مضافا بأن الأشكال المذكور من تقديم بعض المرجحات على الترجيح بموافقة الكتاب إنما يرد لو كان الترتيب بين المرجحات المذكورة في المقبولة باعتبار أولوية ترجيح المقدم على المؤخر وأما إن كان الغرض من ذكر المرجحات فيها تعدادها ، لا تقديم المقدم على المؤخر يرتفع الأشكال رأسا.

(ثم) أعلم : (أن حكم الدليل المستقل) غير الكتاب (المعاضد لأحد الخبرين ، حكمه حكم الكتاب والسّنة) القطعيّة (في الصّورة الأولى) كما إذا قام الاجماع المنقول وبنى على حجّيته على الحكم العام وهو وجوب : إكرام العلماء ، ثمّ ورد : أكرم زيدا العالم ، وورد خبر آخر : لا تكرم زيدا العالم ، فحكمه حكم الكتاب ، بمعنى أنّه يلاحظ أوّلا الترجيح بين الخاصين المذكورين ، فإن كان في الخبر الموافق للعام ما يوجب ترجيحه على معارضه يطرح الخبر الآخر ويبقى عموم معقد الاجماع المزبور على حاله ، ولو كان الأمر بالعكس وكان الخبر المخالف للعام ذا ترجيح ، فحينئذ يطرح : أكرم زيدا العالم بسبب ترجيح معارضه عليه وبعد ذا يخرج العلماء الّذي انعقد الاجماع على وجوب إكرامه بعمومها بالتخصيص من ناحية خبر : لا تكرم زيدا العالم.

إذ : مقتضى القاعدة أنّ الخاص يقدّم على العام في صورة الأخذ به.

نعم في صورة مخالفة الخاص للعام الكتابي لا يلحظ هذه القاعدة لأنّا حملنا المخالفة على الصّورة الأولى.

إذ لا يمكننا الحمل على الصّورة الثانية ، والثالثة ، وقد أمرنا بالأخذ بالموافق فلا نعتبر الترجيح الابتدائي بينه وبين خبر : لا تكرم.

٣٧٨

وأمّا هنا فليس الدليل الدّال على العموم ، الكتاب حتّى يجب علينا ابتداء طرح الخاص المخالف ، فهذا مراد المصنّف قده.

ثمّ أنّ حكم الدّليل المستقلّ المعاضد لأحد الخبرين ، حكمه حكم الكتاب والسّنة في الصّورة الأولى ، يعني فيما ذكره سابقا من ملاحظة الترجيح بين الخبرين ، ومراعاة الأرجح منهما ، لا ما ذكره أخيرا من لزوم الأخذ بالموافق بلا لحاظ الترجيح بين الخبرين.

والسّر فيه : أنّه ليس هنا عموم كتابي حتّى نكون مأمورين بأخذ الموافق كيفما كان.

وقوله قده (وأمّا في الصورتين الأخيرتين) وهما صورة كون المعارضة بالتباين أو العموم من وجه ، مع الدليل المستقلّ ، بمعنى أن يكون هناك خبران متعارضان ، أحدهما موافق لمعقد الاجماع ، والآخر خلافه والمخالفة على انحاء ثلاثة.

الأولى : مخالفته بالخصوص بمعنى أن يكون الخبر خاصا مطلقا.

والثانية : أن يكون المخالفة بنحو التباين.

والثالثة : بنحو العموم من وجه.

أمّا الصّورة الأولى فقد مرّ حكمه وكلامنا الآن في الصّورتين الأخيرتين (فالخبر المخالف له) أي للدليل المستقلّ (يعارض مجموع الخبر الآخر ، والدليل المطابق له) أي للخبر الآخر (والترجيح هنا بالتعاضد لا غير) لأنّ معقد الاجماع والخبر الاثباتي ليسا بمقطوعي الصدور حتّى يكون ترجيح آخر من جهة قطعيّة الصدور ، كما كان في صورة موافقة الكتاب.

(وأمّا القسم الثاني ، وهو : ما لا يكون معاضدا) ومقويا (لأحد الخبرين) أي لمضمون أحد الخبرين (فهي) مبتدأ خبره لفظة (عدة أمور) والتأنيث باعتبار الخبر.

(منها) أي من الأمور الّتي لا ترجع إلى الترجيح من حيث الصدور

٣٧٩

والجهة ، والمضمون (الأصل) فمن البيّن أنّ موافقة الأصل للخبر لا يوجب قوّة الظن ، لا في السند ، ولا في المضمون ، ولا في الدّلالة.

أمّا بالنسبة إلى السند ، فلعدم السنخيّة بين الأصل العملي ، وبين سند الموافق.

وأمّا بالنسبة إلى الدّلالة والمضمون ، فلانّ ذلك فرع حصول الظن من الأصل العملي ، وهو غير حاصل ، لأنّ الأصل العملي موضوعه سترة الواقع ، وعدم الوصول إلى الواقع ، فلا يمكن أن يكون مرجّحا ، لأنّ الأصل العملي فرع عدم كشف الواقع ، فكيف يكشف عن الواقع صدورا ، أو جهة ، أو دلالة ، أو مضمونا ، كما قال قده (بناء على كون مضمونه) أي الأصل (حكم الله الظاهري) الثابت للشيء بعنوان كونه مجهول الحكم ، فإذا ورد خبر مثلا : بحليّة الغراب الأسود ، والآخر بحرمته ، وحيث أنّ المكلّف متحيّر ، فالأصل في مرتبة الظاهر ، يقول بلسان الحال : أيّها المتحيّر ليس لك العلم ، لا ظنّا ، ولا علما ، وبما أنّ الواقع مستور عليك يجب عليك الأخذ بالبراءة العقليّة ، ففي الحقيقة صار الأصل بعد تساقط الخبرين مرجعا لا مرجّحا (إذ لو بنى على إفادة) الأصول الثلاثة (الظن بحكم الله الواقعي) ومن الامارات الاجتهادية (كان من القسم الأوّل) بكون موافقتها أي الأصول من المرجّحات (ولا فرق في ذلك) أي في كون الأصل مرجعا لا مرجّحا (بين الأصول الثلاثة أعني أصالة البراءة والاحتياط والاستصحاب) مطلقا ، شرعيّة كانت ، أو عقليّة؟

إذ : على هذا التقدير يكون الأصل من الأدلّة الاجتهادية المثبتة للحكم بالنّسبة إلى نفس الموضوع من دون اعتبار ادخاله في عنوان مجهول الحكم.

(لكن يشكل الترجيح بها) أي بهذه الأصول الثلاثة (من حيث أنّ مورد الأصول ما إذا فقد الدّليل الاجتهادي المطابق) للخبر (أو المخالف له) لأنّ الأصل دليل حيث لا دليل ، والمفروض وجود الدليل الاجتهادي ، فكيف يكون الأصل حجّة حتّى يكون مرجّحا للخبر الموافق له؟ (فلا مورد لها) أي للأصول

٣٨٠