جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

محمّد رضا الناصري القوچاني

جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

المؤلف:

محمّد رضا الناصري القوچاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

أي لا يزاحم الرّجحان بحسب الدّلالة (هذا الرجحان أي الرجحان من حيث جهة الصدور) بل الرّجحان من حيث الدلالة مقدّم على جهة الصدور أيضا (فإذا كان الخبر الأقوى دلالة) كلا تكرم النحاة مثلا (موافقا للعامة قدّم على) الخبر (الأضعف) كأكرم العلماء مثلا (المخالف) للعامة (لما عرفت من : أنّ الترجيح بقوّة الدّلالة من الجمع المقبول) بتخصيص العام بالخاص (الذي ، هو) أي الجمع (مقدّم على الطرح) لأنّ الأصل بمقتضى ادلّة اعتبار الاخبار هو التعبّد بصدور كلّ من الخبرين المتعارضين.

وإنّما احتجنا إلى الترجيح بواسطة تنافي مدلولهما ، وعدم امكان الجمع بينهما فحيثما أمكن الجمع بينهما على وجه مقبول عند أهل اللسان لا يبقى مجال للترجيح ، لا من حيث الصدور ، ولا من حيث جهة الصدور وحيث لم يمكن الجمع المقبول والتجأنا إلى طرح احدهما لأجل وجود مرجّح في الآخر فإن كان هذا المرجّح سالما من معارضة مرجّح آخر في الطرف الآخر فهو.

و (أمّا لو زاحم الترجيح بالصدور الترجيح من حيث جهة الصدور بأن كان الأرجح صدورا) ككون راوي أحد الخبرين أعدل (موافقا للعامة) وكون الآخر عادلا لكنّه مخالف للعامّة (فالظاهر تقديمه) أي تقديم الترجيح من حيث الصدور (على غيره) أي على الترجيح من حيث جهة الصدور (وان كان) الغير (مخالفا للعامّة) لتفرّعها على نفس الصدور ، فلا معنى لملاحظة جهة الصدور قبل ملاحظة نفس الصدور ، فإذا أخذنا بالخبر المرويّ عن الأعدل ، وطرحنا الخبر المروي عن العادل ، لا يبقى محل لملاحظة جهة الصدور ، فإنّا لا ننكر كون الحمل على التقية من المرجّحات ، ولكن فرض هذا الترجيح تكافؤ الخبرين من حيث الصدور فهما بمنزلة الخبرين المتواترين لا بدّ أن يؤخذ بالمخالف لبعده عن التقية وأمّا إذا كان الموافق للتقية راويه أصدق أو أعدل فلا تصل النّوبة إلى الترجيح بالمخالفة ، فلا بدّ أن يؤخذ بالأصدق وإن كان موافقا للعامّة (بناء على

٣٤١

تعليل الترجيح بمخالفة العامّة باحتمال التقية في الموافق) يعني بناء على أن يكون الترجيح بها لأجل كشفها عن صدور الموافق تقيّة ، كما هو الوجه الرّابع من الوجوه المتقدّمة الذي قلنا أنّها باعتباره تدخل في المرجّحات من حيث جهة الصدور ، وأمّا بناء على أن يكون الترجيح بمخالفة العامة ، لأجل كشفها عن أقربية مضمون المخالف إلى الحق ، فقد عرفت أنّها بذلك الاعتبار من المرجّحات المضمونيّة ، وسيأتي من المصنّف قده تقديمها على المرجّحات الصدوريّة.

فحكمه قده هنا بتقديم المرجّحات الصدورية عليها ، مبنيّ على كونها من المرجّحات من حيث الصدور (لأنّ هذا الترجيح) أي الترجيح من حيث جهة الصدور (ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما).

فوصف الصدور لبيان الواقع أو لغيره تقية أو لغيرها من مصالح اظهار خلاف الواقع بصورة الواقع ، لا يعقل الّا أن يكون صادرا ، وهذا الاعتبار يقتضي أن يكون الترجيح من حيث جهة الصدور ملحوظا بعد الفراغ عن أصل صدور كلا الخبرين المتعارضين (قطعا كما في المتواترين) فلو فرض حصول العلم بصدور خبرين ، وعلم كون احد الخبرين موافقا للعامّة ، وجب العمل بالآخر ولا بدّ من حمل الموافق على التقية والغائه من حيث العمل (أو تعبّدا) أي شرعا (كما في الخبرين) بمعنى حجية كلا الخبرين بالفعل لو لا المعارض لأجل وجود المقتضى للتعبّد في كلّ منهما على حدّ سواء (بعد) فرض (عدم امكان التعبّد) للترجيح (بصدور) خصوص (أحدهما) أي أحد الخبرين معيّنا (وترك التعبّد بصدور الآخر) كذلك بأن دار الأمر بينهما في الأخذ والطرح ، لأجل تنافي مدلولهما ، وعدم إمكان الجمع بينهما ، إذ مع امكان التعبّد باحدهما معيّنا وطرح الآخر كذلك لو حمل احدهما على التقيّة لزم ملاحظة جهة الصدور قبل نفس الصدور.

ومن المعلوم : أنّ التعبّد بجهة الصدور قبل التعبّد بأصل الصدور لغو ،

٣٤٢

وخال عن الفائدة لأنّها نظير الدّلالة لا يترتب عليها شيء إلّا بعد الفراغ عن صدور المتن.

وبعبارة أخرى : معناه هو التعبّد بعدم كونه صادرا لبيان خلاف الواقع ، وهذا بمجرّده لا يترتّب عليه حكم أصلا بل إنّما ينفع بعد الفراغ عن اثبات أصل صدوره قطعا ، أو تعبّدا فلا بدّ من المصير أوّلا إلى الصدور ثمّ بعد انقطاع اليد عن المرجّحات الصدورية إلى المرجّحات من حيث جهة الصدور (وفيما نحن فيه يمكن ذلك) أي التعبّد بصدور أحدهما وترك الآخر (بمقتضى أدلّة الترجيح من حيث الصدور) أي الكلام في مورد البحث هو الكلام في الخبرين القطعيين من جهة الصدور ، فكما أنّ في الخبرين القطعيين من حيث الصّدور حيث لا يمكن التعبّد بكليهما يقدّم المخالف للعامّة على الموافق فكذلك المقام يقدّم ما كان أرجح صدورا كخبر الاصدق مثلا على غيره ، فلم يحكم بصدور غير الأصدق وإن كان مخالفا للعامة.

(فان قلت :) أنّ الترجيح من حيث جهة الصدور أقوى من الترجيح الصدوري ، لأنّ دليل حجّية خبر العدل يقتضي صدورهما تعبّدا فهما بمنزلة الخبرين المتواترين ، وحينئذ فالترجيح بمخالفة العامة ولا يلاحظ الأصدقيّة إذ المفروض (أنّ الأصل في الخبرين الصدور) لأنّ دليل الحجّية يقتضي صدور ما أخبر به العادل وتنزيل الظن منزلة العلم فكأنّهما بمنزلة الخبرين المتواترين (فإذا تعبّدنا) الشارع (بصدورهما) أي الخبرين (اقتضى ذلك) التعبّد (الحكم بصدور الموافق) للعامّة (تقية كما يقتضي ذلك) أي أعمال المرجّحات الصدورية في النّص والظاهر ، أو الأظهر والظاهر بمعنى عدم جواز المصير إلى المرجحات الصدورية أولا بل يجب المصير أوّلا بأصالة التعبّد بظهورهما ثمّ الى الترجيح لقوّة الدّلالة بالنصوصية أو الأظهرية و (الحكم بإرادة خلاف الظاهر في أضعفهما دلالة) وهو الظاهر لأنّ مع الجمع العرفي يرتفع التعارض والترجيح من ناحية الصدور مفروض في موضوع التعارض ، فكما أنّ الجمع الدلالي مقدّم فهنا

٣٤٣

الحمل على التقية مقدّم لدلالة دليل الحجية على تصديقهما معا (فيكون هذا المرجّح) من حيث جهة الصدور (نظير الترجيح بحسب الدلالة مقدّما على الترجيح بحسب الصدور) فكما أنّه إذا ورد : أكرم العلماء ، و : لا تكرم النحاة يجمع بينهما ، ولا يطرح الخاص وإن كان راوي العام اصدق من راوي الخاص كذلك المقام يقدّم ما كان ارجح من حيث جهة الصدور. (١)

__________________

(١) ولتوضيح المقام لا بأس بالاشارة إلى ما وقع بين المتأخّرين من الخلاف في المسألة.

فنقول : ـ بعد ما علمنا أنّ المرجّحات المذكورة في الروايات على انحاء مختلفة بعضها راجعة إلى الصدور ، وبعضها إلى ترجيح جهة الصدور ، وبعضها إلى المضمون ـ اختلفوا في الترتيب بين المرجّحات على قولين.

الأوّل : عدم الترتيب بين المرجّحات ، وأنّ جميعها في عرض واحد يوجب تقديم ذي الترجيح وطرح الآخر سواء كان الرجحان في السند أو في المتن ، أو في الجهة ، مثل مخالفة العامة.

الثّاني : لزوم الترتيب بين المرجّحات ، وهذا أيضا على قولين.

الأوّل : تقديم مرجّحات الجهة على غيرها اختاره الوحيد البهبهاني قده في محكى فوائده ، والمحقّق الرشتي قده في بدائعه.

الثاني : تقديم مرجّحات غير الجهة على المرجّحات من حيث جهة الصدور واختار هذا القول الشيخ الأعظم قده في فرائده.

ولتوضيح المقال ورفع التكلف عن الطالب نشير إلى جملة ممّا أفيد في وجه الأقوال المذكورة.

فنقول : أمّا ما أفاده الشيخ قده فيظهر ممّا ذكرناه مع ما أشرنا إليه من التوضيح في الكتاب.

وأمّا ما أفاده المحقّق الرشتي قده وفاقا للوحيد البهبهاني قده ، فقد ذكر في بدائعه ما هذا لفظه : ولعمري أنّ تقديم الصفات على مخالفة العامّة من حيث القاعدة ، لا لأجل التعبّد بالأخبار إلى أن قال : بل الأمر في المقام دائر بين الأمرين ، أمّا عدم ثبوت ـ

٣٤٤

(قلت : لا معنى للتعبّد بصدورهما) أي بصدور الخبرين (مع وجوب حمل احدهما المعيّن على التقية).

إذ معنى البناء على الصدور ، هو العمل به وترتيب الأثر عليه.

ومعنى الحمل على التقية أنّه لا يعمل بالخبر الموافق للعامّة فليس مضمونه حكم الله الواقعي فلا معنى للحجية والتعبّد ، وهذا معنى قوله : (لأنه الغاء لأحدهما في الحقيقة) لأنّ معنى الحمل على التقيّة الغاء الخبر الموافق من حيث العمل فلا يعمل به وحينئذ يصير مضمون الخبر الموافق كسراب بقيعة ليس حكما واقعيّا.

فدعوى : أنّ الأصل في الخبرين الصدوران كانت مع قطع النظر عن ورود

__________________

ـ تتمة الهامش من الصفحة ٣٤٤

هذا المرجّح في الظنيين رأسا ولو لم يكن له معارض من المرجّحات ، أو تقديمه على مرجّحات السند قطعا لوضوح أنّ الخبر الموافق للعامّة لا يخلو في الواقع ونفس الأمر أمّا صادر عن الامام «ع» فيدخل تحت قوله عليه‌السلام : ما سمعت منّي يشبه قول الناس ففيه التقية ، وأما غير صادر فلا معنى للتعبّد بالكاذب غير الصّادر ، فكيف يتعقّل العمل به عند التعارض.

وتوضيح المقام : أنّ موافقة العامة أمّا من المرجّحات الخارجيّة بناء على غلبة الباطل في اخبارهم واحكامهم ، أو من المرجّحات الجهتيّة الباعثة على حمل الكلام الصادر من الامام «ع» على التقية ، ولا اشكال في تقديمها على الصفات الخ ، وحكى عن الوحيد البهبهاني قده ـ بعد ما اختار تقديم مرجّح الجهة على غيرها ـ أنّه جعل من جملة عيوب المقبولة ذكر مخالفة العامّة بعد الصفات ، حيث كان فساده عنده من الواضحات التي توجب سقوط الخبر عن الاعتبار هذا مع استقرار طريقة العلماء فيما عثرناه على خلافه ، لأنّهم يقدّمون مخالفة العامة على موافقتهم من غير ملاحظة المرجّحات السندية وجود أو عدما حتى لو كان الخبر مستفيضا يحملونه على التقية عند التعارض.

وحاصل ما أفيد في وجه هذا القول : أنّ وجود المرجّح في الجهة يدخل ذيها في ـ

٣٤٥

دليل على اعتبارهما فهي متّضحة ، إذ معه يكون الأصل عدم الصدور ، حتّى في النّص والظاهر ، والظاهر والأظهر أيضا ، وإن كانت بالنظر إلى دليل اعتبارهما الذي هو غير اخبار الترجيح أو التخيير وهو الدليل الأول ، فهي مسلمة في النص والظاهر والظاهر والأظهر ، دون الظاهرين ، لأنّ مؤدّاه إنّما هو التعبّد بكل خبر على وجه التعيين ، وهو غير ممكن في الظاهرين ، معا لأدائه إلى التعبّد بالمتناقضين ، ولو تعبّدنا الشارع بمدلولهما معا أيضا أو إلى الاجمال على تقدير عدم تعبّده بمدلولهما معا فلا يريد التعبّد بصدورهما معا على عدم التعبّد بصدورهما فائدة ، فيلغي التعبّد بصدورهما معا على وجه التعيين مطلقا.

والتعبّد بأحدهما معيّنا دون الآخر لا يقتضيه ذلك الدّليل ، لفرض دخولهما

__________________

ـ تتمة الهامش من الصفحة ٣٤٥

أقوى الدّليلين من حيث الدّلالة ويصير كالنّص والظاهر أو الأظهر والظاهر ، كالعام والخاص ، أو المطلق والمقيد ، ولا شبهة في تقديمه على سائر المرجّحات بل في نظيرها لا يلاحظ المرجّحات أصلا كما يقدّم الخاصّ على العام بلا كلام ولا ينظر إلى وجود المرجّح في أحد الطرفين ، وأنت خبير بأنّ مرجّح الجهة أيضا من المرجّحات التي ذكرت في أخبار الترجيح ، ومعنى الترجيح بها الأخذ بذيها وطرح المعارض رأسا.

وعليه إذا تعارض هذا المرجّح مع ساير المرجّحات مثل أن يكون الخبر الموافق للعامّة اعدل وأوثق من المخالف ، فحيث أنّ الأعدلية ونظائرها أيضا من المرجّحات فلا محالة يقع التعارض بين هذين المرجّحين.

وبعبارة أخرى : تقديم المرجّح الجهة بالمعنى الذي ذكروه أوّل الكلام حيث أنّه لا يستفاد من أخبار الترجيح سوى لزوم الترجيح بالمرجّحات المذكورة بانحائها المختلفة ، وأمّا أنّ أيها يقدّم أو يؤخّر فليس من التقديم أو التأخير في الأخبار عين ولا أثر ، وإلى هذا ينظر من أنكر وجود الترتيب بين المرجّحات وأنّ الجميع في عرض واحد وهو القول الثالث من الأقوال الثلاثة الذي اختاره صاحب الكفاية قده ، ومن أراد التفصيل فليراجع إلى كفاية الأصول ج ـ ٢ ص ٤١٤.

٣٤٦

فيه على حدّ سواء ، إذ التعبّد بكليهما تخييرا ليس من مدلوله مع أنّ المدعي التعبّد بصدور كليهما معا وقد عرفت ما فيه.

(ولذا لو تعيّن حمل خبر غير معارض على التقيّة على تقدير الصدور) أي صدور هذا الخبر فيما لو فرض كان خصوص هذا الخبر متعلّقا للأمر بالتعبّد به (لم يشمله) أي الخبر ، أدلّة اعتبار الخبر أعني (أدلّة التعبّد بخبر العادل) إذ معنى التعبّد تصديق العادل ، والعمل بمضمونه ومعنى التقية أنّ مضمونه ليس حكم الله الواقعي ، فكما إذا فرضنا ورود رواية على طهارة المنى ، ولم يرد خبر على نجاسته ، فهنا لا عمل على التقيّة قطعا ، لما ذكرنا من أنّ الحمل على التقية معناه عدم العمل به فينافي مع تصديق العادل في المضمون الموافق.

(نعم : لو علم بصدور الخبرين) المتعارضين أحدهما موافق للعامة والآخر مخالف لهم (لم يكن بدّ) «چاره اى» (من حمل) الخبر (الموافق) للعامة (على التقية والغائه ، وأما إذا لم يعلم بصدورهما كما فيما نحن فيه من) الخبرين (المتعارضين) وحيث كان مناط الحجية في كليهما موجودا ، والّا لا يتحقّق المعارضة بينهما (فيجب الرّجوع إلى المرجّحات الصدورية) لوجوب الترجيح بها قبل ملاحظة الترجيح من حيث وجه الصدور (فإن أمكن ترجيح أحدهما) أي أحد الخبرين (وتعيّنه من حيث التعبّد بالصدور) كما إذا كان أحدهما أصدق (دون الآخر تعيّن) الأخذ به وطرح الآخر الّذي يكون غير أصدق ، وإن كان مخالفا للعامّة (وان قصرت اليد عن هذا الترجيح) أي لم يكن أحدهما أرجح صدورا من الآخر (كان عدم احتمال التقية في أحدهما مرجحا) في الأخذ بالخبر المخالف.

وبعبارة أخرى : إذا دار الأمر بين خبرين أحدهما مخالف للعامّة ، والآخر موافق لهم ، مع فرض تساويهما في ساير الجهات ، فنحن انّما نتعبد بالمخالف ولا نتعبد بالموافق أصلا (فمورد هذا المرجح) أعني الترجيح من حيث جهة الصدور (تساوي الخبرين من حيث الصدور أما علما كما في) الخبرين

٣٤٧

(المتواترين) فالصدور في هذه الصورة يقيني ، وليس هناك بناء وترتيب أثر تعبدا (أو تعبّدا كما في) الخبرين الظنّيين (المتكافئين من) أخبار (الآحاد) والرجوع إلى التقيّة في هذه الصورة من جهة اللابدية ، إذ لا يجوز طرح أحدهما المعيّن بحسب الصدور لفرض تكافئهما وبطلان الترجيح بلا مرجّح ، ولا طرح كليهما لعدم الموجب مع شمول ادلّة حجية الخبر بحسب الصدور ، فلا بدّ من الرّجوع إلى التقية وأمّا مع الترجيح بحسب الصدور فليس هناك لابدية بل لا محيص فيه عن الرجوع إلى الترجيح بحسب الصدور دون مرجّح جهة الصدور.

(وأمّا ما وجب فيه التعبّد بصدور احدهما المعيّن) كالاعدليّة مثلا (دون الآخر ، فلا وجه لاعمال هذا المرجّح) من جهة الصدور (فيه لأنّ) التعبّد بصدور واحد من المتعارضين في الظاهرين بمقتضى دليل الاعتبار للتعبّد بصدوره لأجل الأصدقيّة والأعدلية ونحوهما يمنع من التعبد بالآخر ولكن ـ بعد تساويهما ، صدورا ـ يلاحظ ما كان مخالفا للعامّة فجهة الصدور بمجرّدها لا يترتب عليها شيء ولا فائدة فيها من دون احراز صدور المتن ، فلزوم المصير إلى (جهة الصدور متفرّع على أصل الصدور) وبعد الفراغ عنه.

(والفرق بين هذا الترجيح) أي الترجيح من حيث وجه الصدور (والترجيح في الدّلالة المتقدّم على الترجيح بالسند ، أنّ التعبد بصدور الخبرين على أن يعمل بظاهر أحدهما) أي الخبرين كالخاص ، نحو : لا تكرم البصريّين (وبتأويل) الخبر (الآخر) كالعام ، نحو : أكرم النّاس (بقرينة ذلك الظاهر ، ممكن غير موجب لطرح دليل ، أو أصل) يعني قاعدة ، لأنّ ارادة خلاف الظاهر لأجل وجود قرينة من نصّ أو أظهر ليس مخالفا للقاعدة ، وإنّما المخالف لها ارتكاب خلاف الظاهر من دون وجود قرينة ، فمع وجود المرجّح من حيث الدّلالة لا مورد للمرجّحات الصدورية أصلا ، لاختصاصها بما لم يمكن الجمع بين المتعارضين عرفا ، وأمّا مع امكانه كما هو المفروض والمتحقّق في النّص والاظهر مع الظاهر

٣٤٨

فلا مساس لها بوجه (بخلاف التعبّد بصدورهما) أي الخبرين (ثمّ حمل أحدهما) المعيّن (على التقيّة الذي هو في معنى الغائه) من حيث العمل (وترك التعبّد به) إذ لا معنى للتعبّد بصدور خبر يتعيّن طرحه لخلوّه عن الفائدة.

(هذا كلّه على تقدير) لحاظ نفس الخبرين من حيث الصدور وتقديمه في الرتبة على الترجيح بمخالفة العامة ، كما لو جوّزنا العمل بمقبولة عمر بن حنظلة التي ظاهرها ذلك ، لكون احتمال عدم صدور خبر غير الأعدل الّذي لا يتطرّق فيه احتمال التقية أقوى من الآخر الّذي يتطرّق فيه احتمال التقية ، فحينئذ لا بدّ من (توجيه الترجيح بالمخالفة) للعامّة (باحتمال التقيّة) في الموافق.

(أما لو قلنا : بأنّ الوجه في ذلك) أي المراد من المخالفة هو من حيث المضمون إلى الواقع (كون المخالف أقرب إلى الحقّ ، وأبعد من الباطل ، كما يدلّ عليه جملة من الأخبار ، فهي من المرجّحات المضمونية) إذا كان كلامنا من حيث الصدور ، وأمّا بناء على بعض الأخبار المعلّل للحمل على التقية بأن مضمونه خلاف الحكم الواقعي فيدخل هذا المرجّح أي الأخذ بالمخالفة في المرجّح المضموني (وسيجيء حالها) أي حال تعارض المرجّحات الخارجيّة المضمونيّة (مع غيرها) أي مع المرجّحات الثلاثة الداخليّة أعني الصدور وجهة الصدور والدّلالة.

(أما المرجّحات الخارجيّة) (١) أعني ما يرجّح المدلول (فقد أشرنا) في

__________________

(١) في بعض نسخ الفرائد تكون العبارة هكذا : المقام الثالث في المرجّحات الخارجيّة ، وقد أشرنا إلى أنها على قسمين.

هذا ، ولكن فيه ما لا يخفى ، لأنّك ان تفحصت الكتاب من أوّل الخاتمة التي عقدها في التعادل والترجيح ، والمقام الرابع الذي عقده لبيان المرجّحات ، لم تجد لهذا المقام الثالث أوّلا ، ولا ثانيا مذكورين كما هنا.

اللهمّ ألّا أن يقال : لعلّه مقام ثالث لما خطر بباله قده ، أنّ بيان المرجّحات يتمّ في ـ

٣٤٩

المقام الرّابع (إلى أنّها على قسمين).

القسم (الأوّل : ما يكون) المرجّح امارة مستقلّة ، و (غير معتبر بنفسه) وغير بالغ مرتبة الحجية لعدم الدّليل على اعتباره بحيث لو لم يكن في البين دليل لم يرجع إليه كالاستقراء والاجماع المنقول والشهرة الفتوائية على القول بعدم حجيتهما بالخصوص.

(و) القسم (الثاني : ما يعتبر) ذلك الأمر المستقلّ (بنفسه) وبالغا مرتبة الحجية (بحيث لو لم يكن هناك دليل كان هو المرجع) بمعنى ولو مع عدم ملاحظة الأخبار العلاجيّة يكون الكتاب أو الأصل العملي دليلا مستقلا ، فلو ورد : يحرم شرب التتن ، وورد أيضا : يحلّ شربه ، فالثاني يرجّح على الأوّل ، لموافقته لظاهر قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ،) أو موافقته للاستصحاب ، ولكن بخلاف المرجّح الدّاخلي فإنّه عبارة عن كلّ مزية غير مستقلّ في نفسه ، بل متقوّم بالخبر ، لا استقلال له في الوجود ، لأنّه أمّا راجع إلى صدور الخبر سواء كان متعلّقا بسنده كالوثاقة ، أو بمتنه كالأفصحيّة ، أو يراجع إلى وجه الصدور من التقية ونحوها ، أو راجع إلى مضمونه كالنقل باللّفظ ، والنقل بالمعنى ، فانّ الراوي إذا كان ديدنه وعادته على النقل باللّفظ فهو أقوى صدورا من الناقل بالمعنى ، وأمّا ما يكون غير معتبر لوجود الدّليل على عدم اعتباره كالقياس ونحوه ، فسيجيء الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

وبالجملة : المرجّح الدّاخلي هو ما يرجّح الدليليّة بحيث يكون الدليل الدّال على الحجية والدليليّة أقوى (فمن الأوّل) أي ممّا يكون غير معتبر بنفسه (شهرة أحد الخبرين أما من حيث روايته بأن اشتهر روايته بين الرواة) ولما كانت

__________________

ـ تتمة الهامش من الصفحة ٣٤٩

طيّ مقامات ، الأوّل في بيان المرجّحات الدلالية فقد مضى ، والثاني في بيان المرجّحات الداخلية وقد مضى أيضا فالمقام الثالث الباقي في بيان المرجّحات الخارجية.

٣٥٠

نفس شهرة أحد المتعارضين رواية عند عدم وصولها إلى حد المتواتر من المرجّحات الداخليّة غير المستقلّة ، لا الخارجيّة لأنّ الشهرة في الرواية متقوّمة بها وأيضا لا تكون من المرجّحات المضمونية بل الصدورية.

ولأجل ذلك قال قده (بناء على كشفها) أي كشف هذه الرّواية من حيث الشهرة (عن شهرة العمل) فهي راجعة إلى شهرة الفتوى وشهرة الفتوى من المرجّحات المستقلة غير المعتبرة ، لأن الشهرة الفتوائية ليست حجة خاصة (أو) شهرة أحد الخبرين من حيث (اشتهار الفتوى به) أي اشتهار الفتوى بطبق مضمونه (ولو مع العلم بعدم استناد المفتين إليه) بمعنى أنّهم افتوا بحكم صادف مضمون الخبر ، لا أنّهم عملوا بالخبر.

(ومنه) أي ومن قبيل القسم الأوّل (كون الرّاوي له) أي لأحد المتعارضين (أفقه من راوي) الخبر (الآخر في جميع الطبقات ، أو في بعضها) أي الطبقات ، بأنّ الأفقه اسم تفضيل من الفقه أي أكثر فقها ، ويكون من المرجّحات الخارجيّة ولا دخل لها بصدور الخبر (بناء على أنّ الظاهر عمل الأفقه به) أي الخبر فنفس فتوى الأفقه ، أو الأورع من المرجّحات ، فعمل الفقيه ولو لم يكن حجّة لفقيه آخر فهو غير معتبر لكنّه مرجّح للخبر بالترجيح الخارجي.

(ومنه) أي ومن قبيل القسم الأوّل (مخالفة أحد الخبرين للعامّة بناء على) ما يستفاد من (ظاهر الأخبار المستفيضة الواردة في وجه الترجيح بها) أي بالأخذ بمخالف العامّة من كون مضمون المخالف أقرب إلى الحقّ ، وأبعد عن الباطل ، لأنّ معاوية لعنة الله عليه قد غيّر كثيرا من الأحكام (ومنه كلّ امارة مستقلّة) يعني ما لا يوجب العلم كالشهرة الفتوائيّة و (غير معتبرة) أي مع قطع النظر عن الخبرين ، ولكن أن (وافقت مضمون احد الخبرين) فيصير ذلك الخبر المفتي به أقوى حجّة من معارضه (إذا كان عدم اعتبارها) أي الامارة (لعدم الدّليل) على اعتبارها كالاجماع المنقول ولم ينه عن العمل بها بالخصوص كالقياس وخبر

٣٥١

الفاسق كما قال قده : و (لا) يكون عدم اعتبارها (لوجود الدّليل) الخاصّ (على العدم) أي على عدم اعتبارها مع قطع النظر عن اصالة حرمة العمل بما وراء العلم (كالقياس) وهو كما في الفصول (١) في اللّغة التقدير ، يقال : قست الأرض بالذراع أي قدّر تهابه ، وقد يطلق على الأخذ بطريق المساواة كقولهم لا يقاس فلان بفلان ، أي لا يؤخذ على وجه المساوات معه ، وهو راجع إلى المعنى الأوّل.

وقد يطلق في الاصطلاح على معنيين.

الأوّل : القضايا المستلزمة لذاتها قضيّة أخرى ، وهذا المعنى متداول عند أهل الميزان.

الثاني : الحاق الفرع بالأصل في حكم ، لقيام علته به عند المجتهد وهذا هو المقصود به هنا.

والمراد بالأصل : معلوم الحكم ، وبالفرع : مجهولة فإنّ القياس غير معتبر في باب الترجيح بالنصوص والاجماع ، كقوله عليه‌السلام : أنّ دين الله لا يصاب بالمقاييس (٢) وأيضا في الرواية (٣) السّنة إذا قيست محق الدّين.

__________________

(١) ص ـ ٣٨٠.

(٢) الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ٢٧ (الرواية : ١٨).

(٣) وهي صحيحة أبان بن تغلب ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة كم فيها؟ قال : عشرة من الابل ، قلت : قطع اثنتين ، قال : عشرون ، قلت : قطع ثلاثا ، قال : ثلاثون ، قلت : قطع أربعا ، قال : عشرون ، قلت : سبحان الله يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون؟ أن هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممن قاله ، ونقول : الذي جاء به شيطان ، فقال : مهلا يا أبان هذا حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ المرأة تعاقل الرّجل إلى ثلث الدية ، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف ، يا ابان انّك أخذتني بالقياس ، والسنّة إذا قيست محق الدّين (الوسائل : الجزء ١٩ ص ٢٦٨) الرواية : ١.

٣٥٢

ويؤيد الاجماع على عدم الاعتبار به عدم ذكر الفقهاء له في مقام من المقامات في كتبهم الاستدلاليّة ، وأنّه لو كان معتبرا وجب تدوين الأصوليّين له في كتبهم الأصوليّة ، وذكر شرائطه وأحكامه لكثرة الحاجة اليه في مقام علاج التعارض ، فلا ينبغي التأمل في عدم الاعتبار به في مقام الترجيح فليس حاله حال الظنون الأخر الحاصلة من مثل الشهرة ونحوها.

(ثمّ) يمكن إقامة (الدّليل على) جواز (الترجيح بهذا النّحو من المرجّح) أعني الترجيح بالأمور الخارجيّة بوجوه ثلاثة : الأخبار ، والاجماع ، والعقل.

أمّا الأوّل : فهو (ما يستفاد من) التعليل في (الأخبار) الآمرة بالأخذ بمخالف العامّة (من الترجيح بكلّ ما يوجب اقربيّة أحدهما) أي أحد المتعارضين (إلى الواقع ، وان كان) ذلك الموجب (خارجا عن الخبرين) مثل المرجّحات المضمونيّة الخارجيّة كموافقة الكتاب (بل يرجع هذا النّوع من المرجّح إلى المرجّح الدّاخلي ، فإنّ أحد الخبرين) المتعارضين (إذا طابق امارة ظنّية) كالأولويّة ، والاجماع المنقول (فلازمه الظن بوجود خلل في) الخبر (الآخر أمّا من حيث الصدور) بأن لا يكون الآخر صادرا (أو من حيث جهة الصدور) بأنّه صادر من باب التعبّد ، أو لمصالح أخر تقتضي اخفاء الواقع (فيدخل الرّاجح فيما لا ريب فيه ، والمرجوح فيما فيه الريب ، وقد عرفت أنّ المزية الداخليّة قد تكون موجبة لانتفاء احتمال في ذيها) أي في ذي المزيّة الاحتمال الّذي (موجود في) الخبر (الآخر كقلّة الوسائط) فقليل الوسائط يقدّم على كثيرها ، لأنّ البعد الّذي يكون في الخبر الكثير الوسائط لا يكون في ذي المزيّة أعني الخبر القليل الوسائط (ومخالفة العامّة) فهو مقدّم على الخبر الّذي يكون موافقا لهم (بناء على الوجه السابق) وهو المعنى الثّاني من أخذ المخالفة العامّة (وقد توجب) أي المزيّة الداخليّة (بعد الاحتمال الموجود في ذيها) أي في ذي المزيّة (بالنسبة إلى الاحتمال الموجود في الآخر) يعني بعد احتمال عدم الصدور ـ الّذي هو في

٣٥٣

معارضه ـ في ذي المزية ، فلا يحتمل في ذي المزية (كالأعدليّة والأوثقيّة) ذلك الاحتمال (والمرجّح الخارجي من هذا القبيل) فإنّ عمل المشهور مثلا إذا طابق أحد الخبرين فلازمه الظن بوجود خلل في الآخر حيث لم يعملوا به.

(غاية الأمر عدم العلم تفصيلا بالاحتمال القريب في أحدهما البعيد في الآخر) أنّه هل كان من جهة الصدور ، أو من جهة وجه الصدور أو من جهة الدلالة (بل ذو المزيّة) أي الخبر المقترن بهذه المزيّة (داخل في الأوثق المنصوص عليه في الأخبار ، ومن هنا) أي ومن جهة ارجاع هذا النّوع من المرجّح إلى المرجّح الدّاخلي فيشمله قوله عليه‌السلام في المرفوعة : خذ بما يقول أعدلهما عندك ، واوثقهما في نفسك ، بعد ملاحظة أنّ الأوثقيّة لم تعتبر في الرّاوي إلّا من حيث حصول صفة الوثاقة في الرواية (يمكن أن يستدلّ على المطلب بالاجماع) ان سلّم شمول معقد الاجماع المنقول (المدّعي في كلام جماعة على وجوب العمل بأقوى الدليلين) من حيث الاقتران بالامارة الخارجيّة كما يشمل الأقوى من حيث الاقتران بالمرجّح الدّاخلي المعبّر عنه بالأقوى بنفسه ثبت الترجيح في المقام بنفس شمول معقد الاجماع له.

وأمّا (بناء على عدم شموله) أي الاجماع (للمقام من حيث) وبملاحظة (أنّ الظاهر من الأقوى) أي أقوى الدليلين في معقد الاجماع (أقواهما في نفسه ، ومن حيث هو) فيكون من قبيل الصفة بحال الموصوف (لا مجرّد) أي لا الأقوى بمجرّد (كون مضمونه أقرب إلى الواقع ، لموافقة امارة خارجيّة) فإنّ الشهرة مثلا ، وإن كانت خارجة لكنّها تصير سببا لخلل الموجود القائم بالخبر المرجوح ، ويكون جهة الصدور أو أصالة الجهة قويّة في الخبر الموافق للشهرة ، وهذا صفة قائمة بالموصوف ، وهو الخبر (فيقال في تقريب الاستدلال) في ما نحن فيه بعد ذلك الاستلزام (أنّ الامارة موجبة لظن) أي للظن الاجمالي بوجود (خلل في) الخبر (المرجوح) أمّا في صدوره أو جهة صدوره وهو (مفقود

٣٥٤

في) الخبر (الرّاجح فيكون الرّاجح) يعني يصير المقترن بالامارة الخارجيّة (أقوى اجمالا من حيث نفسه) وإن لم يعلم تفصيلا أنّه من أيّ جهة يكون أقوى ، أهو من حيث الدّلالة؟ أو من حيث الصدور؟ أو من حيث جهة الصدور؟ فالأقوى بنفسه أعمّ من الأقوى بنفسه تفصيلا ، أو إجمالا ، فيرجع إلى الأقوى بنفسه ، لأنّا أرجعنا المرجّح الخارجي إلى المرجّح الداخلي.

(فان قلت :) أوّلا (انّ المتيقّن من النّص ومعاقد الاجماع اعتبار المزيّة الداخليّة القائمة بنفس الدّليل) كالأصدقيّة أي يكون اقوائيّته لا بسبب خارجي وما نحن فيه كان اقوائيّة أحد الدليلين في الدليليّة من جهة المرجّح الخارجي ، فلا يشمله معقد الاجماع (وأمّا) اعتبار المزيّة (الحاصلة من الامارة الخارجيّة التي دلّ الدّليل على عدم العبرة بها) أي بالامارة الخارجيّة (من حيث دخوله فيما لا يعلم ، فلا اعتبار بكشفها) أي الامارة (عن الخلل في المرجوح) فاذا ورد خبران ، وكانت الشهرة الفتوائية موافقا لأحدهما ، لا يكون موجبا لترجيحه على الآخر ، إذ لا يشمله معقد الاجماع ، لأنّ المجمع عليه ما كان أقوى بلا سبب خارجي وهو الامارة غير المعتبرة ، ولازمه أنّه لا اعتبار بكشف الامارة عن الخلل في المرجوح فيكون كالقياس (ولا فرق بينه) أي بين ما لم يعلم دليل على اعتباره (وبين القياس) الّذي قام الدّليل على عدم اعتباره (في عدم العبرة به في مقام الترجيح كمقام الحجية) فكما أنّ القياس لا يكون حجّة فلا يكون مرجّحا ، هكذا المقام ، إذ : غاية الفرق بينهما أنّ القياس دلّ الدّليل على عدم دليليته والشهرة مما لم يقم دليل على دليليته وعدم الدليل على الدليليّة غير قيام الدليل على عدم الدليليّة.

وبعبارة أخرى : أنّ القياس من حيث النهي عن العمل به لا يكون موجبا لخلل في الخبر الآخر المستلزم لطرحه ، فإنّ هذا من العمل بالقياس المنهى عنه ، ولكن في المقام حيث أنّ المرجّح الخارجي غير معتبر وكان اقوائية الدّليل

٣٥٥

لا بنفسه فلا يكون مرجّحا ولا يورث الظن بوجود الخلل في الطرف المقابل (هذا).

وثانيا : (مع أنّه لا معنى لكشف الامارة) الخارجيّة (عن الخلل في المرجوح) على القول باعتبار الخبر من باب الطريقيّة مع فرض تساويهما في جميع ما له مدخل في الطريقيّة كما هو المفروض في التكلّم في كلّ مرجّح بملاحظة نفسه ، وغاية ما يفيده الامارة أقربيّة المضمون إلى الواقع والطريقيّة لم تكن منوطة بتلك الأقربيّة ، لأنّ الطريق إنّما يكون بأن يكون الراوي عادلا لشمول مفهوم : أن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا ، وأما كون الحكم مظنون أنّه الواقع لا ربط له بالطريقيّة.

وبتعبير آخر : أنّ الظن إنّما يتعلّق بالمدلول ، لا بالدّليل (لأنّ الخلل في الدّليل من حيث أنّه دليل قصور في طريقيته) أي الدّليل (و) هو خلاف الفرض ، فلا معنى لذلك الكشف ، إذ(المفروض تساويهما في جميع ما له مدخل في الطريقيّة) من كونه عادلا وثقه ، أو صادقا (ومجرّد الظن بمخالفة خبر للواقع لا يوجب خللا في ذلك) أي الطريقيّة (لأنّ الطريقيّة ليست منوطة بمطابقة الواقع) بل بقوّة الدّليل.

(قلت : أما النّص فلا ريب في عموم التعليل في قوله «ع» : لأنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وقوله «ع» : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).

قوله قده (لما نحن فيه) متعلّق بعموم التعليل ، إذ : مقتضى عموم التعليل في النصوص اعتبار الظن من حيث أنّه ظن ، لا في خصوص مقام الترجيح بين الخبرين المتعارضين ، فإنّه كما أنّ معنى قولنا : الخمر حرام لأنّه مسكر ، أنّ كلّ مسكر حرام والخمر من جزئياته ، كذا معنى قولنا ـ خذ بالمجمع عليه لأنّه أقلّ ريبا ـ أنّ كلّ ما كان أقلّ ريبا يجب الأخذ به ، والمجمع عليه من جزئياته.

وكذا الكلام في ساير التعليلات في النصوص ، لأنّ معنى : الأخذ به ، جعله طريقا ، وأخذه دليلا ، لا اعتبار مطابقة الواقع وعدم مطابقة الواقع (بل قوله

٣٥٦

«ع» : فإنّ الرّشد فيما خالفهم) إذ المراد أنّ كون الرشد في خلافهم يقتضي أبعدية الموافق عن الحق ، وأقربية المخالف إليه ، من حيث أنّه أحد محتملات خلافهم الّذي فيه الحق.

(وكذا التعليل في رواية الأرجاني لم أمرتم بالأخذ بخلاف ما عليه العامة ، وأرد في المرجّح الخارجي) الخاصّ ، وهو مخالفة العامّة (لأنّ مخالفة العامة نظير موافقة المشهور).

فكما أنّ الكتاب والسنة والشهرة مرجّحات مستقلّة بنفسها ، كذلك مخالفة العامة.

لا يقال : أنّ المرجّح هو مخالفة الخبر للعامة وصفة المخالفة ليست من الأمور المستقلّة بنفسها.

لأنّا نقول : أنّ هذا الكلام جار في سائر المرجّحات الخارجيّة كموافقة الكتاب والسنّة والشهرة فالمعتبر في عدّ المرجّح خارجيا كون ذات المرجّح كذلك مع قطع النظر عن صفة الموافقة والمخالفة.

(وأما معقد الاجماع فالظاهر) كما يظهر من التتبع في كلماتهم (أنّ المراد منه) ترجيح ما هو (الأقرب إلى الواقع والارجح مدلولا) والمرجّحات الخارجيّة محصّلة لتلك الأقربيّة ، فتندرج بنفسها في معقد الاجماع ، فكيف يدّعي أنّ المتيقّن من معاقد الاجماع اعتبار خصوص المزيّة الداخليّة؟ فكما أنّه وقع الاجماع بحلية النظر إلى أمّ الزوجة هكذا قام الاجماع بأنّه كل ما كان أقرب للواقع يرجّح به.

ومن الواضح : أنّ الخبر الّذي موافق للكتاب فهو مقدّم على الآخر الّذي لا يكون مطابقا له ، فيقدّم الأرجح من حيث المدلول (ولو بقرينة ما يظهر من العلماء) أي من كلماتهم في مقامات متعدّدة (قديما وحديثا من إناطة الترجيح بمجرّد الأقربيّة إلى الواقع ، كاستدلالهم على الترجيحات بمجرّد الأقربيّة إلى الواقع) مثل قولهم في لزوم تقليد الأعلم بأنّه أقوى وأرجح ، واتّباعه أولى وأحق ،

٣٥٧

فالنّظر إلى الواقع لا إلى الطريق و (مثل ما سيجيء من كلماتهم في الترجيح بالقياس).

ومن المعلوم ليس المراد أنّه يجوز الترجيح بالقياس ، بل الكلام في مفهوم هذه الكلمة أعني الترجيح بالقياس ، ولا إشكال أنّ القياس على تقدير كونه مرجّحا ، مرجّح خارجي يحصل الظن به إلى الواقع ، لا أنه يقوّي الدّليل ، غاية الأمر أنّا لا نعمل بالقياس في مقام الترجيح ، وليس الكلام في حكمه من حيث الحرمة والجواز بل معنى هذه الكلمة فقط ، ولا إشكال أنه مرجح خارجي ، لا مرجح صدوري ، وهكذا مثل الأولوية والشهرة الفتوائية ، فإنه لا يتقوّى به الدليل بل ناظر ، إلى المدلول ، والحكم الواقعي فإذا وافق القياس مع أحد الخبرين فهو مورث للظن الفعلي ، لا من حيث الدليلية بل من حيث المدلول وهو الحكم الواقعي إلّا أن يقوم دليل على عدم كونه مرجّحا ، كما أنّه ليس بدليل.

(ومثل الاستدلال على الترجيح بموافقة الأصل بأن الظن في الخبر الموافق له أقوى) مثلا : إذا فرضنا وردت روايتان بحرمة أكل الغراب وحليته ، فنأخذ بالثّاني للأصل ، وهو كل شيء لك حلال (و) نظير الاستدلال (على الترجيح بمخالفة الأصل) ففي المثال المذكور أصل البراءة العقليّة أو النقليّة ناظر ، إلى الحكم الواقعي ، ولو كان ثانويّا وليس مؤيّدا للدليل الدال على الحليّة من حيث الصدور أو جهة الصدور (بأنّ الغالب تعرّض الشارع لبيان ما يحتاج إلى البيان) وهو جانب الحرمة وأمّا الموافق للأصل فلا يحتاج إلى البيان (واستدلال المحقّق قده على ترجيح أحد) الخبرين (المتعارضين بعمل أكثر الطائفة بأنّ الكثرة إمارة الرجحان والعمل بالراجح واجب) فإنّ حكم المشهور إنّما يكون أقرب لقلّة احتمال الخطأ الموجود في فتوى النادر ، وهذا ليس ناظرا إلى حيث الطريقية والسند ، بل من حيث نفس الحكم الواقعي (وغير ذلك مما يجده المتتبّع في كلماتهم) كموافقته للأولوية الظنّية والغلبة (مع أنّه يمكن دعوى حكم العقل بوجوب العمل بالأقرب إلى الواقع فيما كان حجّيتهما) أي الخبرين

٣٥٨

(من حيث الطريقيّة) لأنّ الطريق إذا كان بجعل العقل ، فلا يبقى ريب في حكمه بوجوب الأخذ بالرّاجح.

ولا يخفى : أنّ القائل بالطريقيّة أيضا قائل بالتعبّد ، إلّا أنّه يقول إنما تعبدنا الشارع بالاخبار لغلبة إيصالها إلى الواقع فهي الداعية إلى جعل هذا الطريق ، ولا يعتبر ـ في كونه طريقا ـ ظن الوصول إلى الواقع بالظن الفعلي (فتأمّل) إشارة إلى أنّا قد ذكرنا أنّ الأصل ـ بناء على الطريقيّة في الامارات ـ التساقط والرجوع إلى الأصل ، لا الترجيح بمرجّح لا يرجع إلى جهة الطريقيّة والدليليّة ، والمفروض أنّ المرجح الخارجي إنّما يثبت كون المدلول مطابقا للواقع بلا نظر إلى حيثية الطريقيّة.

وعند التعارض فالأصل : هو تساقطهما ، لا الترجيح بما لا يرجّح الطريق من حيث الصدور ، ويحتمل أن يكون اشارة إلى أنّ العقل لو فرض أنّه مستقلّ في تقديم أقوى الدليلين ، فنظره إلى أقواهما من حيث الدليلية ، لا إلى أمر خارج من حيث الدليلية.

وأمّا الأخبار فهي إنّما تدلّ على حجية الخبر من حيث الصدور ، ومن حيث الطريقية إلى مراد المتكلّم ، لا من حيث المضمون.

والمرجّح الخارجي ليس كذلك ، إذ : ليس مرجّحا من جهة الطريقية ، والّا لكان مرجحا سنديا لا مضمونيا.

فعلى القول بحجيته ـ من باب العقل ، أو من باب الأخبار ـ فلا يعبأ بالترجيح الخارجي.

ولمّا وقع الفراغ عن ذكر المرجّحات الاعتبارية والمرجّحات الّتي لم يقم دليل على اعتبارها.

(بقي في المقام أمران ، أحدهما : أنّ الامارة التي قام الدليل على المنع

٣٥٩

عنها بالخصوص كالقياس) (١) لأجل ورود الأخبار النّاهية عن العمل به (هل هي من المرجّحات) للأخبار المتعارضة (أم لا؟) يظهر من بعضهم ، الأوّل ولعلّ نظر المجوّز لذلك ، هو دعوى دلالة دليل الانسداد الدّالة على حجّية مطلق الظن عليه ، كما أشار إلى ذلك المصنّف قده في بحث الانسداد ، فراجع من دلالته على الترجيح بالقياس وحمل الأخبار النّاهية عن العمل بالقياس على العمل به ، أو حملها على زمان الانفتاح ، فلا ينصرف إلى العمل به من جهة الترجيح ولكن (ظاهر المعظم العدم) أي عدم جواز العمل به ترجيحا أيضا لأنّ أدلّة التعدي عن المنصوصات لا تشمله قطعا ، لانصراف الأخبار عنه وعدم وجود بناء العقلاء بعد النهي عنه بالخصوص ، حتّى قيل :

ولا تقس ولو بأولويّة

إلّا إذا نصّ على العليّة

فليس حاله حال الظنون الآخر الحاصلة من مثل الشهرة ونحوها (كما) لا

__________________

(١) القياس في الاصطلاح عبارة عن تعدية الحكم من موضوع الى موضوع آخر ، بسبب مشاركته معه في علة ذلك الحكم فيطلق على الموضوع الأول الأصل والمقيس عليه ، وعلى الثاني الفرع والمقيس وعلى الجهة التي بها يحكم بتعدية الحكم الملاك والعلة المشتركة. ثم أن العلة المشتركة أن لم يصرح بها في الكلام بل كانت مظنونة مستخرجة منه ظنا يطلق عليه القياس المستنبط علته وهو التمثيل المنطقي فإذا ورد أن الخمر حرام وحصل لنا الظن بأن العلة في حرمتها هو الاسكار الموجود في العصير مثلا يكون تعدية حكم الحرمة من الخمر إلى العصير من قبيل القياس المستنبط علته. وأما العلة المشتركة إن كانت مصرحة بها في الكلام فهو القياس المنصوص العلة فإذا ورد لا تشرب الخمر لأنه مسكر يكون تعدية الحكم من الخمر إلى النبيذ المسكر قياسا منصوص العلة والقياس الباطل عندنا الذي قيل فيه : وليس من مذهبنا القياس. أول من قاس هو الخناس ، إنما هو الأول دون الثاني فإنه صحيح معمول به على المشهور (اصطلاحات الأصول بتوضيح منا رقم ٧٩).

٣٦٠