جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

محمّد رضا الناصري القوچاني

جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

المؤلف:

محمّد رضا الناصري القوچاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

لا تكرم الفساق ، وكان الأوّل موافقا للعامّة ، فإنّ مورد النزاع إنّما هو العالم الفاسق فإن أخذنا بعموم : لا تكرم الفساق ، وطرحنا عموم : أكرم العلماء ، فمادّة الاجتماع أعني : العالم الفاسق ، أيضا محرّم الاكرام ، وأن أخذنا بعموم : أكرم العلماء وابقيناه على عمومه ، وتصرّفنا في عموم : لا تكرم الفساق ، واخرجنا عن ظاهره ، فيخرج العالم الفاسق عن تحت : لا تكرم الفساق ، ويبقى مندرجا تحت عموم : أكرم العلماء ، فيجب اكرامه ، وقس على ذلك أمثلة أخرى.

(مثلا : إذا ورد الأمر بغسل الثوب) أي إذا فرضنا أنّ الخبر ورد بوجوب غسل الثوب (من أبوال ما لا يؤكل لحمه) (١) وهذا عام من حيث شموله الطير وغير الطير ، ولكنّه خاصّ من حيث عدم شموله أبوال مأكول اللّحم (وورد) أيضا خبر آخر (كلّ شيء يطير لا بأس بخرئه وبوله) (٢) وهذا عام من حيث شموله الطيور مطلقا مأكول اللحم وغيره ، ولكنّه خاصّ من حيث عدم شموله غير الطيور مطلقا مأكول اللّحم وغيره ، فيتعارضان في مادّة الاجتماع والمفروض أنّ الخبر الثاني موافق للعامّة (فدار الامر بين حمل) الخبر (الثاني) أعني كلّ شيء يطير لا بأس بخرئه وبوله (على التقيّة) وطرحه رأسا ، حتّى في مادّة الاجتماع فيحكم بنجاسة الخرء والبول من الطيور المحرّمة الأكل (وبين الحكم بتخصيص أحدهما لا بعينه) بأن أخذنا بعموم الأوّل ، وخصّصنا الثّاني ، بما يؤكل لحمه حتّى يحكم بنجاسة الخرء والبول من الطيور المحرّمة الأكل ، وان أخذنا بعموم الثاني وخصّصنا الأوّل بغير الطير فيحكم بطهارة الخرء والبول من الطيور المحرّمة الأكل (فلا وجه لترجيح التقيّة لكونها) أي التقيّة (في كلام الأئمة عليهم‌السلام أغلب من التخصيص) كما ادعاه صاحب المعالم قده ، مع أنّه قيل مبالغة : ما من عامّ الّا وقد خصّ منه ، بل الرّاجح التوقف في مورد الاجتماع (فالعمدة في الترجيح بمخالفة العامّة بناء على ما تقدّم من جريان هذا المرجح

__________________

(١ و ٢) الوسائل : الجزء ٢ (ص ـ ١٠٠٨ وص ـ ١٠١٣) الرواية : ٢ و ١.

٣٢١

وشبهه) من المرجّحات (في هذا القسم من) الخبرين (المتعارضين ، هو ما تقدّم من وجوب الترجيح لكون مزيّة في احد المتعارضين وهذا) الترجيح (موجود فيما نحن فيه لأنّ احتمال مخالفة الظاهر قائم في كلّ منهما) أي الخبرين (و) الخبر (المخالف للعامّة مختصّ بمزيّة مفقودة في) الخبر (الآخر ، وهو) أي المرجّح الّذي يختصّ بالخبر المخالف عبارة عن (عدم احتمال الصدور لأجل التقية) بالدّليل الذي ذكرنا وهو الريب الاضافي ، كما ذكرناه مرارا ، ففي المثال المذكور نأخذ بخبر النجاسة ، لا بالخبر الآخر الحاكم بالطهارة.

(فتلخص مما ذكرنا أن الترجيح بالمخالفة من أحد وجهين على ما يظهر من الأخبار).

(أحدهما) أي أحد الوجهين (كونه) أي كون مخالفة العامّة (أبعد من الباطل واقرب) من حيث المضمون (إلى الواقع ، فيكون مخالفة الجمهور) أعني مخالفة العامّة (نظير موافقة المشهور من المرجّحات المضمونية على ما يظهر من أكثر اخبار هذا الباب) أي باب التقيّة.

وبالجملة فالحمل على التقيّة أولى من الأخذ بأحد الظاهرين ، وتخصيص الآخر ، لأنّ الريب الذي في الخبر الموافق وهو احتمال الصدور تقيّة اقرب من التأويل في المخالف.

(والثاني : من جهة كون المخالف ذا مزية ، لعدم احتمال التقية ويدلّ عليه ما دلّ على الترجيح بشهرة الرواية ، معلّلا بأنّه) أي الخبر المخالف ممّا (لا ريب فيه بالتقريب المتقدّم سابقا) من كون المراد من نفي الريب في الرواية عدم الريب الاضافي ، لا عدم الريب المطلق ، فيكون ما لا ريب فيه ممّا يقطع بصدوره ، إذ يخرج عن موضوع التعارض لعدم معارضة ـ مع الاحتمال ، وكيف يفرض أنّ الراوي يتردّد بالأخذ بأحدهما؟.

(ولعلّ الثمرة بين هذين الوجهين) ـ مضافا على ما ذكرنا ـ (يظهر لك فيما يأتي إن شاء الله ، بقي في هذا المقام أمور).

٣٢٢

الأمر (الأوّل : أنّ الخبر الصادر تقيّة) (١) (يحتمل أن يراد به) أي بالخبر الصادر تقيّة (ظاهره) أي الخبر إذ العرف يفهم ظاهر اللّفظ دون ما قصد (فيكون من الكذب المجوّز لمصلحة) أن لم يقصد التورية من القول الصّادر تقيّة ، لأنّه

__________________

(١) ولا يخفى بأنّ التقيّة تارة تكون في مقام الفتوى بمعنى أنّ الامام (ع) اتقى ، اذ حين بيانه كان أحد من المخالفين حاضرا في مجلسه ، فقال (ع) : يجوز المسح على الخفين ، مثلا ، فحكم بالحكم الموافق لهم تقية على نفسه ، وهذا غير الامر بالتقية بمعنى : يجب عليك التقية على نفسك بان تغسل رجلك في الوضوء.

وبعبارة اخرى : أنّ الامام عليه‌السلام حكم حين لم يكن أحد من المخالفين حاضرا عنده ، إلا أنّه (ع) حكم بخلاف الواقع ، ليعمل العامل به ، اذا كان عنده أحد من المخالفين مراقب له ، كأمره (ع) عليّ بن يقطين ، بما أمر به بأن كتب الامام موسى ابن جعفر عليهما‌السلام إلى عليّ بن يقطين ؛ أن يتوضأ على طريقتهم مطلقا ـ سواء كان في داره أم لا؟ ـ اتقاء ، وامره في غسلات الوضوء بالثلث ، مع أنّه يتحقّق الامتثال بغسلة واحدة لانها هي الفرض والثانية سنة على الاشهر والثالثة غير مشروعة وغسل الرجلين وتبطين اللحية اي تخليل شعر اللحية حتى يصل الماء الى البشرة ـ انما هو لعدم الامن في داره ايضا كما يدل عليه قصته وكتبه (ع) ثانيا الآن يا عليّ بن يقطين توضأ كما أمر الله تعالى اغسل وجهك مرة فريضة ، واخرى اسباغا ـ اسبغ الوضوء ابلغه مواضعه ، وفي كل عضو حقه واسبغ الله النعمة اتمها ـ واغسل يديك من المرفقين كذلك ، وامسح بمقدم رأسك وقدميك من فضل نداوة وضوئك ، فقد زال ما كنا نخاف عليك.

اذا عرفت هذا فاعلم : ان المراد من حمل الخبر على التقية في المقام هو حمله على التقية من حيث القول لا العمل لانه يرجع الى بيان الحكم الواقعي الاضطراري ، فالمراد من الحمل على التقية فتوى الامام عليه‌السلام تقية على نفسه ، مثلا قال أنّ المني طاهر فحكم بما حكم به الشافعي ، واحمد بن حنبل ـ كما في كتاب الفقه على المذاهب الاربعة ج ١ الطبعة الخامسة ص ١٧) راجع القصة المذكورة في الوسائل : الجزء ١ ص ٣١٣.

٣٢٣

لا ضير في إرادة الكذب منها ، إذ هو جائز عند الضرورة فإنّ الكذب المتضمّن لانجاء نبيّ مثلا ، لا غبار في جوازه.

(ويحتمل أن يراد منه) أي من الخبر الصّادر تقيّة (تأويل مختف على المخاطب ، فيكون من قبيل التورية ، وهذا اليق بالامام عليه‌السلام) أي بشأنه «ع» (بل هو اللّائق إذا قلنا بحرمة الكذب مع التمكن من التورية).

ووجهه : اختلفوا أنّ الكذب هل هو عدم مطابقة ظاهر الكلام للواقع ، أو عدم مطابقة المراد للواقع ، فعلى الثاني فالتورية صدق لمطابقة المراد للواقع الذي ورّى فيه ـ تورية در او واقع شده ـ بخلاف الصّورة الأولى لأنّ الظاهر والمراد كلاهما مخالف للواقع.

نعم : على الأوّل يكون اليق بالامام عليه‌السلام التورية ، فإرادة معنى مطابق للواقع ، وإن لم يكن موجبا لصدق الكلام من جهة أنّ الظاهر مخالف للواقع ، فحينئذ ارادة الامام عليه‌السلام معنى موافق للواقع يكون أخفّ الكذبين.

الأمر (الثاني أنّ) المشهور عند الأصحاب اعتبار كون أحدهما موافقا للعامّة ، والآخر مخالفا لهم في مقام الحمل على التقيّة حتّى يصحّ حمل الخبر الموافق لهم على التقيّة فإذا لم يكن الخبر موافقا لهم ، لا يجوز الحمل عليها ، لأنّه قد مرّ أنها في الاصطلاح بيان الحكم على طبق مذهب العامّة مع عدم كونه موافقا للواقع ، فإذا أحرز عدم الموافقة لهم كيف يجوز الحمل على التقيّة في مقام الترجيح؟ فمع موافقتهما أو مخالفتهما لا يمكن الترجيح إلّا بما مر من موافقة ميل الحكّام والقضاة في صورة موافقتهما لهم.

نعم يمكن الترجيح إذا علم عدم صدور احدهما تقيّة واحتمل ذلك في الآخر بناء على ما سيجيء من الأخبار من أنهم «ع» قد يلقون الخلاف بين الشيعة والحال لم يكن كلّ من الخبرين موافقا لهم بل يلقون الخلاف بينهم لئلّا يعرفوا بمذهب واحد ، فيأخذوا به.

٣٢٤

ولكن (بعض المحدّثين كصاحب الحدائق قده ، وان لم يشترط في التقيّة موافقة) مضمون (الخبر لمذهب العامّة) يعني يجوز الحمل على التقيّة ولو في صورة مخالفة الكل للعامّة (لاخبار ، تخيّلها) أي الاخبار (دالّة على مدعاه) حال كونها (سليمة عما هو صريح في خلاف ما ادعاه) يعني ليس هناك ما يدل على عدم اعتبار مثل هذا التقية ، وهو جعل الخلاف بينهم ، ولو كانوا مخالفين جميعا للعامّة.

(ألّا أنّ الحمل على التقيّة في مقام الترجيح) أي في مقام ترجيح أحد الخبرين على الآخر (لا يكون ألّا مع موافقة أحدهما) أي أحد الخبرين للعامّة (اذ لا يعقل حمل أحدهما) أي الخبرين (بالخصوص على التقيّة وان كانا مخالفين لهم ، فمراد المحدّث المذكور) بعدم اشتراطه في التقيّة موافقة الخبر لمذهب العامّة (ليس الحمل على التقيّة ، مع عدم الموافقة في مقام الترجيح) حتّى يقال : أنّ التقية اعتبرت لأجل ترجيح الخبر الذي هو الحقّ على الذي ليس بحق ورشد ، على ما يظهر من الأخبار ، وما عليه الفقهاء ، فاذا لم يكن موافقا لمذهب أحد من العامّة فبأيّ نحو يعرف أنّه هو التقية؟ (كما أورده) أي الأشكال (عليه) أي على المحدّث المذكور (بعض الأساطين) وهو الوحيد البهبهاني قده في محكىّ فوائده (في جملة المطاعن ، على ما ذهب اليه من عدم اشتراط الموافقة في الحمل على التقية ، بل المحدّث المذكور لما أثبت في المقدّمة الأولى من مقدّمات الحدائق خلوّ الأخبار عن الأخبار المكذوبة لتنقيحها وتصحيحها) أي الأخبار (في الأزمنة المتأخرة) اذ قد روي أنّه عرض على الإمام الصادق عليه‌السلام كتاب عبيد الله بن عليّ الحلبي ، فاستحسنه وصحّحه ، وأيضا عرض على الإمام العسكري عليه‌السلام كتاب يونس بن عبد الرّحمن ، وكتاب فضل بن شاذان فأثنى ـ المدح ـ عليهما (بعد أن كانت مغشوشة مدسوسة) أي من الأخبار التي دسّ فيها المعاندون من فطحىّ ، وواقفيّ ، وزيدي ، وعاميّ ، وكذّاب وغال ونحوهم ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّة

٣٢٥

الوداع : قد كثرت عليّ الكذّابة (١) وكقول ابي عبد الله عليه‌السلام : أنّا أهل بيت صادقون لا تخلو من كذاب يكذب علينا ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند النّاس ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصدق البريّة لهجة وكان مسيلمة يكذب عليه (٢) وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أصدق من برأ الله من بعد رسول الله (ص) وكان الذي يكذب عليه ويعمل في تكذيب صدقه بما يفتري عليه من الكذب عبد الله بن سبإ لعنة الله (٣).

والحاصل : أنّ مراده قده مجرّد بيان أنّ الأخبار كلّها صحيحة صادرة عنهم ، وليس فيها غثّ مدسوس وتنويعها الى الأنواع الأربعة المشهورة أعني الصحيح ، والحسن ، والموثّق ، والضعيف ، كما أسّسه العلّامة قده ، ليس في محلّه بعد ما أثبت كون الأخبار الواردة في الكتب المعتمدة قطعيا ، ولم يتفطّنوا نور الله ضرائحهم الى أنّ هذه الأحاديث التي بأيدينا أنّما وصلت الينا بعد أن سهرت العيون في تصحيحها ، وذابت الأبدان في تنقيحها ، وقطعوا في تحصيلها من معادنها البلدان الى آخر ما أثبت به (٤) فبعد تصحيح هذه الأحاديث قال المحدّث المذكور (صحّ للقائل ، أن يقول :) أن كان كلّها مقطوعة وصحيحة ـ كما يريه جماعة من الأخباريين (فما بال هذه الأخبار المتعارضة) عن أئمتنا المعصومين عليهم‌السلام (التي لا تكاد تجتمع)؟ وليس هذا الاختلاف ألّا

__________________

(١) بحار الانور ج ٢ (ص ـ ٢٢٥) الرواية : ٢ ط ـ الحديثة.

(٢) الطالقاني باسناده عن محمد بن عمّارة قال : سمعت جعفر بن محمد عليهما‌السلام يقول : ثلاثة كانوا يكذبون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو هريرة ، وانس بن مالك وامرأة ـ يعني عائشة ـ بحار الأنوار ج ٢ (ص ـ ١١٧) الرواية ١١ ط ـ الحديثة.

(٣) بحار الانوار ج ـ ٢ (الطبعة الحديثة ص ـ ٢١٧). الرواية : ١٣.

(٤) الحدائق الناضرة ج ـ ١ (ص ـ ٩).

٣٢٦

بسبب التباس غثّها بسمينها ، فلا بدّ من تنويعها الى الأنواع الأربعة (فبيّن في المقدّمة الثانية دفع هذا السؤال بأنّ معظم الاختلاف) في أخبارنا أنّما جاء (من جهة اختلاف كلمات الأئمّة عليهم‌السلام مع المخاطبين ، وأنّ الاختلاف) والقاء الخلاف (أنّما هو منهم عليهم‌السلام) من جهة التقيّة لا من جهة دسّ الأخبار المكذوبة حتّى يحتاج الى هذا الاصطلاح ، وأنّ التقيّة لا تنحصر فيما كان هنا قول من العامّة موافق للخبر ، لأنّ الخبر كما أنّه قد يصدر عنهم عليهم‌السلام خوفا من العامّة المتوقف دفع ضررهم على موافقتهم ، كذلك كانوا يتّقون عنهم أحيانا بالقاء الخلاف بين شيعتهم ، وكانوا (ع) يجيبون في المسائل بما هو خلاف الواقع وأن لم يكن على وفق مذهب أحد من العامّة لما يريه من المصلحة في ذلك.

(وأستشهد على ذلك باخبار) ومن جملتها : ما عن الكافي (١) في الموثّق عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال سألته عن مسئلة فاجابني ، ثمّ جاءه رجل آخر فسئله عنها فاجابه بخلاف ما اجابني ، ثمّ جاء رجل آخر فاجابه بخلاف ما اجابني واجاب صاحبي ، فلمّا خرج الرجلان قلت : يا بن رسول الله رجلان من العراق من شيعتكم قدما يسألان ، فاجبت كلّ واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه فقال : يا زرارة أنّ هذا خير لنا ، وأبقى لنا ولكم ، ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدّقكم الناس علينا ، ولكان أقل لبقائنا وبقائكم قال : ثمّ قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : شيعتكم لو حملتموهم على الأسنّة (نيزه) أو على النّار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين (٢) ، قال : فاجابني بمثل جواب أبيه ، فانظر الى صراحة هذا الخبر في اختلاف اجوبته عليه‌السلام في مسئلة واحدة في مجلس واحد وتعجب زرارة ولو كان الاختلاف أنّما وقع لموافقة العامّة

__________________

(١) في باب اختلاف الحديث ج ١ ص ٦٥ الرواية : ١٥ ط ـ الآخوندي).

(٢) بحار الانور : ج ٢ ص ـ ٢٣٦ ، الرواية : ٢٤.

٣٢٧

لكفى جواب واحد بما هم عليه ، ولما تعجب زرارة من ذلك لعلمه بفتواهم عليهم‌السلام أحيانا بما يوافق العامة تقية.

وبالجملة أورد المحدث المذكور قده من هذا القبيل أخبارا (زعمها) أي الاخبار (دالّة على أنّ التقية كما يحصل ببيان ما يوافق العامّة كذلك يحصل بمجرد القاء الخلاف بين الشيعة كيلا يعرفوا) بمذهب واحد (فيأخذوا برقابهم) (١) ولعلّ السرّ في ذلك : أنّ الشيعة اذا خرجوا عنهم مختلفين كلّ ينقل عن أمامه خلاف ما ينقله الآخر سخف مذهبهم في نظر العامة وكذبوهم في نقلهم ونسبوهم الى الجهل ، وعدم الدّين وهانوا في نظرهم ، بخلاف ما اذا اتفقت كلمتهم وتعاضدت مقالتهم ، فانهم يصدقونهم ويشتد بغضهم لهم ولإمامهم ومذهبهم ويصير ذلك سببا لثوران (برانگيختن) العداوة.

والى ذلك يشير قوله (ع) : ولو اجتمعتم على أمر واحد لقصدكم الناس ، ولكان أقلّ لبقائنا وبقائكم (٢).

فحمله الأخبار على التقية ليس من باب الترجيح بين المتعارضين بل هو لرفع شبهة الاختلاف المنبئ عن عدم استقرار المذهب على شيء وبهذا اعتراض على المشهور في اعتبارهم وجود قول من العامة في الحمل على التقية.

وعلى هذا فهو حسن لا يرد عليه شيء من الايرادات ، لأنّ مراده بيان مسئلة : علميّة فتبيّن اندفاع الطّعن الذي ذكره بعض الاساطين بما ذكرناه (و) لكن (هذا الكلام) من المحدث المذكور (ضعيف) ولا يدّل على مدعاه (لأنّ الغالب اندفاع الخوف باظهار الموافقة) أي موافقة احد الخبرين (مع الاعداء ، وأما) ما ذكره المحدّث قده في كلام المتقدّم وهو (الاندفاع بمجرّد رؤية الشيعة مختلفين) وغير مجتمعين على رأي واحد (مع اتّفاقهم على مخالفتهم) للعامة

__________________

(١ و ٢) بحار الانوار : ج ـ ٢ (ص ـ ٢٣٦) الرواية : ٢٣ و ٢٤ (ط ـ الحديثة).

٣٢٨

(فهو وأن أمكن حصوله أحيانا لكنّه) فرض (نادر جدّا فلا يصار اليه في جلّ الأخبار المختلفة) اذا الغالب في الحمل على التقية كون أحد الخبرين موافقا للعامّة (مضافا الى مخالفته) أي مخالفته كلام المحدّث المذكور (لظاهر قوله عليه‌السلام في الرواية المتقدّمة : ما سمعت منّي يشبه قول الناس ففيه التقية ، وما سمعت منّي لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه) والحال أنّ المحدّث المذكور يحمل ما لا يشبه قول النّاس على التقية ، وهو خلاف هذه الرواية ، لأنّه يستفاد من هذه الرواية بأنّ الإمام عليه الصلاة والسّلام في مقام اعطاء الضابطة بكون التقية مشروطا على موافقة احد الخبرين للعامّة ، حيث أنّه يدّل على عدم التقية فيما لا يشبه قولهم ، فاذا كان الخبران كلاهما مخالفين للعامّة فهو خارج عن تحت هذه القاعدة.

(فالذي يقتضيه النظر على تقدير القطع بصدور جميع الاخبار التي بأيدينا على ما توهمه بعض الاخباريين أو الظن) القوى (بصدور جميعها ألّا قليل في غاية القلة كما يقتضيه الانصاف ممّن أطلع على كيفيّة تنقيح الأخبار ، وضبطها في الكتب).

قوله : (هو أن يقال) خبر لقوله : فالذي يقتضيه النظر (أنّ عمدة الاختلاف أنّما هي كثرة إرادة خلاف الظواهر في الأخبار) يعني يكون صدور الأخبار عنهم عليهم‌السلام على وجه يتصرّف في دلالته لوجود القرينة (اما بقرائن متصلة اختفيت علينا من جهة تقطيع الاخبار) من أرباب الكتب بذكرها في الأبواب المتفرّقة فقد يذكر التقييد أو التخصيص في باب الآخر كما لو ورد خبر بوجوب شيء ، والآخر بعدم وجوبه ، وهذان الخبران وان كانا متنافيين معا بظاهرهما ، ولكن اذا قام القرينة بأنّه أريد من الوجوب الاستحباب المؤكد ارتفع التنافي بينهما (أو) من جهة (نقلها) أي الاخبار (بالمعنى) ولذا ظهر الاختلاف في الأخبار (أو) بقرائن (منفصلة مختفية من جهة كونها) أي القرائن (حاليّة معلومة

٣٢٩

للمخاطبين) مثلا : إذا ورد في خبر أنّه يجوز القراءة والتكلّم عند سماع صوت قارئ القرآن فهو معارض لقوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) فحينئذ نقول أنّ الرواية (١) ـ المفسّرة للآية بقوله (ع) : يعني القراءة خلف الإمام أعني قراءة الإمام والمأموم ـ قرينة على ارادة خلاف الظاهر من الآية فحينئذ يجمع بين العمل بالرواية الأولى ، وظاهر القرآن بحمله على القراءة خلف الامام في الصلاة ، لا مطلق القراءة فيجوز التكلّم والقراءة عند قراءة القرآن في غير خلف الامام (أو) من جهة كونها (مقالية اختفيت) علينا (بالانطماس) طمسته طمسا محوته ـ والشيء استأصلت اثره ، ومنه فاذا النجوم طمست (٢) كما في القاموس ، وبالفارسية اثرش از بين رفته ، فما افاده قده من ارادة خلاف الظواهر في الاخبار حتى مع وجود القرينة باقسامها ـ متصلة كانت أو منفصلة ـ الظاهر هو الذي تكون للفظ مع قطع النظر عن الالتفات الى القرينة ، اذ وجود القرينة يوجب ظهورا للفظ على خلاف ما كان اللفظ ظاهرا فيه مجردا عن القرينة ، وهذا الظهور الجائي من قبل القرينة ظهور متبع مراد للمتكلم بحسب الظاهر ، مثلا : لفظة أسد له ظهور بانفراده وهو الحيوان المفترس ، ولكن عند قيام القرينة مثل كلمة يرمى يحصل له ظهور آخر وهو الرجل الشجاع ، فما نفاه المصنّف قده من عدم ارادة خلاف الظاهر في الاخبار هو المعنى الأوّل أعني الظهور بلا التفات الى القرينة وأمّا مع التوجّه اليه فهذا ظهور ثانوي مراد للمتكلّم (وأمّا) ان يراد خلاف الظاهر (بغير القرينة لمصلحة يراها) أي المصلحة (الامام عليه

__________________

(١) وهي صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : أن كنت خلف الامام فلا تقرأن شيئا في الاوّلتين ، وانصت لقراءته ، ولا تقرأنّ شيئا في الاخيرتين فان الله عزوجل يقول للمؤمنين : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ) ، يعني في الفريضة خلف الامام (فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ، فالاخيرتان تبعا للاولتين (الوسائل الجزء ـ ٥ ص ٤٢٢) الرواية : ٣.

(٢) المرسلات : ٨.

٣٣٠

السّلام من تقية على ما اخترناه من أن التقية ، على وجه التورية) بان يراد من الالفاظ المذكورة المعاني البعيدة مثل ما روي عن الصادق عليه‌السلام حين سئل في مجلس الخليفة عن الشيخين ، فقال (ع) : هما إمامان عادلان قاسطان كانا على الحقّ فماتا عليه ، عليهما رحمة الله يوم القيمة فلمّا قام من المجلس تبعه بعض اصحابه (ع) ، وقال : يا بن رسول الله قد مدحت أبا بكر وعمر هذا اليوم ، فقال (ع) : انت لا تفهم معنى ما قلت ، فقال بيّنه لي فقال (ع) : أمّا قولي إمامان فهو اشارة الى قوله تعالى (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)(١) (وأمّا المراد من قوله (ع) عادلان فهو العدول لا العدالة التي هي المعنى القريب ، فالمعنى انهما راجعان وعادلان عن الحق الى الباطل) وأمّا قولي قاسطان فهو المراد من قوله عزّ من قائل : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)(٢) وأمّا قولي كانا على الحق فهو من المكاونة أو الكون ومعناه أنّهم كانوا على حق غيرهما لأنّ الخلافة حق عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وكذا ماتا عليه فأنّهم لم يتوبوا بل استمروا على افعالهم القبيحة الى أن ماتوا وقولي : عليهما رحمة الله ، المراد به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدليل قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)(٣) فهو الحاكم والقاضي والشاهد على ما فعلوه يوم القيمة فقال فرّجت عنّي فرّج الله عنك (أو غير التقية من المصالح الآخر).

وملخّص الفرق بين حمل صاحب الحدائق قده ، وحمل شيخنا الانصاري قده هو أنّ صاحب الحدائق قده يحمل الأخبار المتعارضة على المخالفة الواقعية ، ولكن يجعل ذلك من باب جعل الامام (ع) حقنا لدماء الشيعة ، لئلا يعرفوا بمذهب واحد ، والمصنف قده ينكر المخالفة ولو بالحمول الشرعية ،

__________________

(١) القصص : ٤١.

(٢) الجن : ١٥.

(٣) الانبياء : ١٠٧.

٣٣١

ويخرج الاخبار التي في الكتب المعتبرة من المخالفة الواقعية.

(والى ما ذكرناه) من ارادة خلاف الظاهر (ينظر ما فعله الشيخ قده في الاستبصار من اظهار إمكان الجمع بين متعارضات الاخبار باخراج احد المتعارضين) عن ظاهره ، مثلا : أن ورد يستحب الاقامة ، وورد ايضا : أقم ، فنحمل صيغة : أقم ، على الاستحباب ، فيرتفع الاختلاف (أو كليهما) أي كلا المتعارضين (عن ظاهره الى معنى بعيد) نظير : ثمن العذرة سحت ، ولا بأس ببيع العذرة ، بحمل الأوّل على عذرة الانسان ، والثاني على عذرة مأكول اللحم ، فصار التصرّف في ظاهر كلا الخبرين لتقييد اطلاق كلّ منهما ، وهو خلاف ظاهر الاطلاق.

(وربّما يظهر من الاخبار محامل وتأويلات أبعد بمراتب ، مما ذكره الشيخ قده ، تشهد بأنّ ما ذكره الشيخ قده من المحامل غير بعيد عن مراد الامام عليه‌السلام ، وأن بعدت عن ظاهر الكلام أن لم يظهر فيه) أي الكلام (قرينة عليها) أي على التأويلات.

(فمنها) أي ممّا أستدلّ للتقية على نحو التورية في كلامهم (ع) (ما روي عن بعضهم صلوات الله عليهم لمّا سأله بعض أهل العراق ، وقال كم آية تقرأ في صلاة الزوال فقال (ع) : ثمانون ، ولم يعد السائل) السؤال ، ولم يقل ما فهمت المراد (فقال عليه‌السلام : هذا يظن) أنّه رجل فهيم ، و (أنّه من أهل الادراك) ويزعم أنّه فهم كلام الإمام عليه الصلاة والسلام بدون التفسير ، ولذا سكت ولم يعد السؤال (فقيل له (ع) ما أردت بذلك) الجواب (وما هذه الآيات؟ فقال (ع) أردت منها) أي من هذه الآيات (ما يقرأ في نافلة الزوال) (١) لا ما يقرأ في نفس الزوال أي عند الفرائض (فأنّ) سورتي (الحمد ، والتوحيد لا يزيد على

__________________

(١) الوسائل : الجزء ٤ (ص ـ ٧٥٠) الرواية : ٣.

٣٣٢

عشر آيات) باسقاط البسملة عن السورتين ، كما هو مذهب بعض العامة (١) وألّا فهما اثنتا عشرة آية (ونافلة الزوال ثمان ركعات) فاذا ضربنا هذه الآيات العشر في الثمانية تحصل ثمانون آية.

(ومنها : ما روي من أنّ الوتر) بالمعنى الأعمّ أعني صلاة الليل (واجب ، فلمّا فرغ السائل) عن السؤال (واستفسر قال عليه‌السلام إنّما عنيت) واردت (وجوبها) أي صلاة الليل (على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (٢) أن الله عزوجل يقول : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ)(٣).

(ومنها : تفسير قولهم (ع) لا يعيد الصلاة فقيه بخصوص الشك بين الثلث

__________________

(١) قيل : أنّ المذاهب في البسملة في اوائل السور المصدرة بها اربعة.

الأوّل : أنّ البسملة في جميع سور القرآن ليس جزء منها حتى في الحمد ، بل هي آية مستقلة من القرآن انزلت للفصل بها بين السور ، وهو مختار متأخري الفقهاء الحنفية.

الثاني : انها ليست من القرآن اصلا ، وأنّما يأتي بها التالي والكاتب تيمنا وتبركا.

الثالث : كونها جزء من كلّ منهما وهو مذهب اصحابنا الامامية قدس الله اسرارهم ، وقد وردت به روايات متضافرة من الأئمة عليهم الصلاة والسلام ، وعليه فقهاء مكة وكوفة وقرائها سوى حمزة ووافقهم الزهري وسعيد بن جبير ، وقالون ، وابن المبارك من قراء المدينة وبه قال اكثر الشافعية.

الرابع : أنّ البسملة في جميع سور القرآن ليس جزء منها الا في الحمد وحده ، وبه قال قليل من الشافعية.

وربما نقل قول خامس ايضا وهو أنّها آيات من القرآن بعدد السور المصدرة بها من غير ان يكون شيء منها جزء بشيء منها (مشكاة المصابيح ص ـ ١٥٤).

(٢) الوسائل : الجزء ٣ ص ـ ٤٩ (الرواية : ٦).

(٣) الاسراء : ٧٩.

٣٣٣

والاربع) (١) والحال أنّ قاعدة الاحتيال عامّة في جميع صور الشكوك ، فتخصيصها بخصوص الشك بين الثلث والاربع ، لا يفهم بلا تفسير من الامام عليه‌السلام (ومثله : تفسير وقت الفريضة في قولهم عليهم‌السلام لا تطوّع) أي لا يصح النّافلة (في وقت الفريضة في قولهم عليهم‌السلام لا تطوّع) أي لا يصح النّافلة (في وقت الفريضة بزمان قول المؤذن قد قامت الصلاة) (٢) يعني مع سعة الوقت اذا قال المؤذن بعد الآذان قد قامت الصلاة ، وكان عليه صلاة ادائية واجبة لا تشرع النافلة والظاهر منها أي من قوله (ع) : لا تطوّع في وقت الفريضة ولو لم يكن هناك انعقاد جماعة بل يعمّ في جميع سعة الوقت فما دام لم يؤدّ الفريضة لا تشرع له النافلة و (الى غير ذلك ممّا يطّلع عليه المتتبع) كما ورد من خرج من الحمّام فليكن عليه اثره (٣) أي أثر الحمّام من الحناء والنورة مثلا ، ولكن ليس المراد ما يستفاد من ظاهره بل يفسّر بلسان المعصوم (ع) بأنّ المراد : من خرج من الحمّام فليصلّ أحدكم الصلاة شكرا ، أي لأجل الشكر بأنّه خرج سالما ، ومثل ما رواه في عيون الاخبار (٤) عن الصادق عليه‌السلام ، قال : أن الله يبغض بيت اللحم واللحم السمين قال : فقيل له : أنّا لنحبّ اللحم ، وما تخلو بيوتنا منه فقال : ليس حيث تذهب أنّما بيت اللحم الذي تؤكل فيه لحوم الناس بالغيبة ، وأمّا اللحم السمين فهو المتبختر المتكبر المختال في مشيه ، ونظائرهما وكلّ هذه خلاف الظاهر لا يعلم المراد إلا بتفسير الإمام عليه‌السلام.

(ويؤيّد ما ذكرنا من أنّ عمدة تنافي الأخبار) كثرة ارادة خلاف الظواهر ، و (ليس لاجل التقية) التي ذكرها صاحب الحدائق قده بانّ المراد جعل المخالفة

__________________

(١) الوسائل : الجزء ٥ ص ـ ٣٢٠ (الرواية : ٣).

(٢) الوسائل : الجزء ٤ (ص ـ ٦٧٠) الرواية : ١.

(٣) الوسائل : الجزء ١ (ص ـ ٣٩٥) الرواية : ٤.

(٤) الوسائل : الجزء ٨ (ص ـ ٦٠١) الرواية : ١٧.

٣٣٤

الواقعية وارادة المخالفة حقنا للدماء ، بل لا خلاف إلّا صوريا فليس الإمام عليه‌السلام أراد حكما من خبر ، وحكما آخر مخالفا له (ما ورد) في أخبارنا (مستفيضا من) وجوب التصديق بكلّ ما يرد علينا من جانبهم عليهم‌السلام و (عدم جواز رد الخبر) بل ورد كون الرد كفرا (وأن كان ممّا ينكر ظاهره حتى اذا قال للنّهار أنّه ليل ، ولليل أنّه نهار) (١) وجب القبول (معلّلا ذلك بأنّه يمكن أن يكون له محمل لم يتفطن السامع له) أي المحمل (فينكره) أي الخبر (فيكفر من حيث لا يشعر) فهذه تدلّ على جواز ارادة خلاف الظاهر من غير نصب قرينة (فلو كان عمدة التنافي) بين الاخبار (من جهة صدور الاخبار المنافية بظاهرها لما في أيدينا من الأدلة تقية ، لم يكن في انكار كونها من الامام (ع) مفسدة فضلا عن كفر الراد (٢)) وهذا الكلام من المصنف قده رد على صاحب الحدائق قده ، فأنّ من حمل الاخبار المخالفة على التقية لا يرد الخبرين بل يصدق بالخبرين ، وأنّ الامام عليه‌السلام اراد من جعل الخلاف حقن الدماء فليس فيه مفسدة ولا ردّ حتى يكون ذلك الرد كفرا.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ـ ٢ (ص ـ ١٨٧) الرواية : ١٤ ، ط الحديثة.

(٢) أقول فيه نظر ، أما أوّلا : فلأنّ الظاهر أنّ المراد من الانكار ما يرجع إلى الايراد على الامام «ع» وانكار امامته لا مجرّد إنكار كون الخبر منه «ع» إذا كان ظنيا ، ومع كونه قطعي الصدور ، فلا يعقل انكار كونه منه «ع» وعلى فرضه لا يوجب الكفر قطعا ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المحمل هو التقية أو إرادة خلاف الظاهر.

وأما ثانيا : فلانّ الراد إنما يرد الخبر بملاحظة ظاهره.

وبعبارة أخرى : ينكر كون المضمون الظاهر من الخبر صادرا عن الامام «ع» ولا بتفاوت في كون هذا متضمنا للمفسدة أو الكفر أو عدمه بين أن يكون عدم ارادة الظاهر من جهة التقية في أصل الصدور ، أو من جهة التأويل في الظهور.

فلنا أن نقول لو كان عمدة التنافي إرادة خلاف الظواهر ، لم يكن في إنكار كونه من الامام «ع» مفسدة وكيف كان فظهر أنّ الحق ما ذكره صاحب الحدائق قده ، من أنّ ـ

٣٣٥

الأمر (الثالث : أنّ التقيّة قد يكون من فتوى العامّة) وبملاحظة أقوالهم (وهو الظاهر من اطلاق) ترك (موافقة العامّة في الأخبار) كقوله «ع» : خذ ما خالف القوم ، أو العامة.

(وأخرى) قد يكون (من حيث اخبارهم) أي العامّة (الّتى رووها) وان لم تكن معمولا بها بينهم (وهو المصرّح به في بعض الأخبار ، لكن الظاهر أن ذلك محمول على الغالب من كون الخبر مستندا للفتوى) فيكون التقية في جميع الموارد من حيث الفتوى ، وأمّا التقية في الرواية فمن حيث دلالتها على فتواهم فليس هنا قسمان.

(وثالثة) قد يكون (من حيث عملهم) بملاحظة ميل قضاتهم وحكّامهم (ويشير إليه قوله «ع» في المقبولة المتقدّمة) ينظر إلى (ما هم إليه أميل قضاتهم وحكّامهم ، ورابعة) قد يكون (بكونه) أي الخبر (أشبه بقواعدهم وأصول دينهم) من الأمور الراجعة إلى الجبر أو التفويض (وفروعه) أي فروع دينهم ، كتعظيم الصحابة ، وأنّهم عدول ، واخيار ، وحرمة لعن بعضهم ذكروا رواية عن النبيّ «ص» يا ربّ من لعنته فاجعل اللّعنة (١) رحمة لأنّي بشر ، أو شباهته لأقوالهم في كيفية البيان من اشتماله على وجه استحساني ، أو قياسي ، أو نحو ذلك (كما يدلّ

__________________

ـ تتمة الهامش من الصفحة ٣٣٥

عمدة الاختلاف هي التقية وأنّها لا تختص بصورة الموافقة للعامة ، وإن كان الحمل عليها في مقام الترجيح لا يكون الّا مع موافقة أحد الخبرين لهم وليس غرضه أن الحمل عليها في مقام الترجيح لا يشترط بموافقة العامة ، فلا وقع لما أورده عليه بعض الأساطين وهو الوحيد البهبهاني قده ، بل لا وقع لسائر ما أورد على هذا الكلام فراجع فوائده الجديدة رسالة التعادل والتراجيح للسيد صاحب العروة قده (ص ٢٤٩).

(١) عن تاريخ الطبري قد رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا سفيان مقبلا على حمار ومعاوية يقود به ، ويزيد ابنه يسوق به ، قال : لعن الله القائد والراكب والسائق (الغدير : ج ـ ١٠ ص ـ ١٣٩).

٣٣٦

عليه الخبر المتقدّم) ما سمعت منّي يشبه قول النّاس الخ (وعرفت سابقا قوّة احتمال التفرّع على قواعدهم الفاسدة ، و) ربّما (يخرج الخبر حينئذ عن الحجّية ولو مع عدم المعارض كما) لو دلّ خبر على ثبوت الجبر والتفويض مثلا ، ولم يكن له معارض.

و (يدلّ عليه) أي على خروجه من الحجّية (عموم الموصول) إذ الموصول عند عدم العهد يفيد العموم ، فما أشبه كلامهم سواء كان له معارض ، أم لا؟ وهذا مراد قوله : يحمل على العموم ، أي سواء عارضه خبر آخر ، أم لا؟

الأمر (الرابع) هل يعتبر في ترجيح مخالفة العامّة على الموافق لاحتمال التقية فيه موافقة اقوال جميعهم ، أو الأكثر؟ بحيث يصدق الاستغراق العرفي ، أو الّذين يعاصرون الامام عليه‌السلام المروي عنه أو يعاشرون ذلك الراوي فانهم مختلفون في المسائل جدّا ، وكان التقية مختلفة بملاحظة مذاهبهم فلا بدّ من ملاحظة حال الامام عليه‌السلام وزمانه «ع» ، وزمان المتقي عنه ، ومكانه وان يلاحظ حال الراوي والمروي عنه إلى غير ذلك ، وفي المسألة وجوه.

أحدها : (أنّ ظاهر الاخبار كون المرجّح موافقة جميع الموجودين في زمان الصدور ، أو) موافقة (معظمهم) أي الموجودين (على وجه يصدق الاستغراق العرفي).

ان قلت : (فلو وافق بعضهم) أي بعض العامّة (بلا مخالفة الباقين فالترجيح به) أي بكفاية موافقة البعض ، والباقون أمّا ساكتون عن الفتوى ، أو لم يحرز حالهم فلا يرجّح مخالفة العامّة ـ لأنّ المصنّف قده ، جعل الموافق للجميع في باب الترجيح ولا يصدق هنا أنّ الخبر موافق للجميع أو المعظم ـ فكيف يعتبر هذا في المرجّحات من باب الحمل على التقية؟

قلت : أنّ الترجيح هنا من جهة أخرى غير موافقة المعظم ، بل (مستند إلى الكلية المستفادة من الأخبار من الترجيح بكلّ مزية) وهذا داخل في مسئلة اللّاريبة الاضافية ، بمعنى أنّ المخالف لا ريب فيه ذلك الريب الذي في

٣٣٧

الموافق («وربّما يستفاد» من قول السائل ـ في المقبولة قلت : يا سيّدي هما معا موافقان للعامّة ـ أنّ المراد بما وافق العامّة أو خالفهم) أي العامّة (في المرجّح السابق) المذكور في كلام الامام «ع» (يعمّ ما وافق البعض أو خالفه) أي البعض فكان هذا المستفيد ردّ على شيخنا الانصاري قده بأنّ قول السائل في المقبولة كلاهما موافقان للعامة هذا يلازم مع كفاية موافقة البعض ، فلا يعتبر موافقة الجميع أو المعظم ، فيكون قرينة على أن ترجيح الامام صلوات الله عليه في كلامه السابق بموافقة العامة لا يعتبر فيه موافقة العموم أو المعظم وإلّا فكيف يتصوّر السائل أن يكون الخبر ومعارضه المخالف كلاهما موافق للعامة؟

فأجاب المصنّف قده بقوله : (و) لكن (يردّه) أي يردّ وجه الاستفادة المذكور من جهة (أنّ ظهور الفقرة الأولى) أعني قوله «ع» : ذر ما وافق العامة ، باق على عمومه (في اعتبار الكلّ) بأن يكون مراد السائل من التعبير المذكور (أقوى من ظهور هذه الفقرة) أي كلاهما موافقان للعامة (في كفاية موافقة البعض) بكون كلّ من الخبرين المتعارضين موافقا لبعض العامّة (فيحمل) هذا السؤال (على ارادة صورة عدم وجود هذا المرجّح في شيء منهما) أي من المتعارضين (وتساويهما من هذه الجهة لا صورة وجود هذا المرجّح في كليهما) أي كلا المتعارضين (وتكافؤهما من هذه الجهة) مثلا لو دلّ خبر على وجوب شيء ، والآخر على حرمته وكلّ منهما مطابق لبعض من العامّة فلا مرجّح في هذه الصورة ، لا أنّ موافقة البعض مرجّح بمعنى أنّ المرجّح وهو موافقة العامّة ليس موجودا فينتقل إلى مرجّح آخر ، لا أنّ هذا كاشف عن كون المرجّح السّابق هو موافقة البعض ، بل نحفظ ظهور المرجّح على العموم ، ونحمل هذا على عدم وجود المرجّح ، لا وجود المرجّح في الطرفين.

(وكيف كان فلو) لم يكن الخبر مخالفا لجميع العامة بل (كان كلّ واحد) من الخبرين المتعارضين (موافقا لبعضهم) أي العامّة (مخالفا لآخرين منهم)

٣٣٨

ولكن كان أحدهما مشهورا بينهم بحيث تكون مخالفته مظنّة الضرر (وجب الرّجوع إلى ما يرجح في النظر ملاحظة التقية منه).

(وربّما يستفاد ذلك) أي وجود المرجّح (من أشهرية فتوى أحد البعضين) على الآخر (في زمان الصدور) بحيث يكون القول الآخر ملحقا بالمعدوم (ويعلم ذلك) أي أشهرية أحدهما (بمراجعة اهل النقل والتاريخ) فانّه ربّما يحتمل في بدو النظر كون الخبر موافقا لفتوى بعض العلماء من العامّة ، ويرتفع الاحتمال بعد ملاحظة حال الامام «ع» وزمانه «ع» وزمان المتّقي عنه ، ومكانه ، وحال الراوي ، والمروي عنه ، إلى غير ذلك ، فإنّه إذا قال الامام عليه‌السلام بما يوافق لبعض العامة ، لا ريب أنّه يحتمل التقية فإذا لوحظ الحال وظهر أنّ زمان الامام «ع» مقدّم على زمان ذلك البعض بكثير ، يرتفع الاحتمال ، وكذا لو ظهر بعد مكانهما وعدم وجود الدّاعي إلى تقيّته «ع» منه ، فلا بدّ من ملاحظة فتاوى العامة في زمان صدور الرواية وأن قضاتهم وحكّامهم إلى أيّ فتوى كانوا أميل ، وأيّ فتوى كانت مشهورة فيما بينهم ويحصل الاطّلاع على ذلك من كتبهم وتواريخهم (فقد حكى عن تواريخهم) أي العامّة (أن عامّة أهل الكوفة) في عصر الامام الصّادق عليه‌السلام (كان عملهم على فتوى أبي حنيفة ، وسفيان الثوري ، ورجل آخر) ويحتمل أن يكون ابن شبرمة ، أو ابن أبي ليلى (و) مدار (أهل مكة على فتاوى ابن أبي جريح ، وأهل المدينة على فتاوى مالك) (١)

__________________

(١) في شرحي الوافية للسيّد الصدر ، والفاضل الكاظمي زيادة ورجل آخر بعد مالك ، وكذا لفظ عثمان بدل عمان ، وزيادة ـ وسعيد الربيع من فقهائهم ـ بعد ذكر سوادة ، وزيادة ـ مرو ـ بعد خراسان ، وزيادة ـ وسفيان بن عيينة ـ بعد ربيعة الرأي ، وقالا بعد ذكر محمّد بن شهاب الزهري ، وكلّ واحد من هؤلاء أمام قوم برأسه ليس تابعا لغيره ، وكانت المذاهب الأربعة كغيرها إلى أن مال هارون الرّشيد إلى الحنفية وغيره ، إلى غيرها ، ولكن لم تترك المذاهب الأخر إلى أن استقرّ رأيهم بحصر المذاهب فحصروها في الأربعة في سنة خمس وستّين وستمائة كما قيل فصارت أشهر من غيرها بتوسط ـ

٣٣٩

(وأهل البصرة على فتاوى عمان ، وسوادة ، وأهل الشام على فتاوى الأوزاعي ، والوليد وأهل مصر على فتاوى الليث بن سعيد ، وأهل خراسان على فتاوى عبد الله بن المبارك الزهري ، وكان فيهم) أي في العامّة (أهل الفتاوى من غير هؤلاء كسعيد بن المسيب ، وعكرمة ، وربيعة الرأي) أستاذ مالك بن أنس (ومحمّد بن شهاب الزهري) وهكذا كانوا مختلفين باختلاقات شتّى (إلى أن استقرّ رأيهم بحصر المذاهب في الأربعة سنة خمس وستّين وثلاثمائة كما حكى) فلا بدّ من التأمّل في حمل الرواية على التقية ، ولا يجوز المبادرة الى حملها على التقية بمجرّد مشاهدة موافقتها لبعض العامّة على أيّ نحو يكون ، بل لا بدّ من ملاحظة عدم وجود مناف أو مبعد للحمل على التقية.

(وقد يستفاد ذلك) أي رعاية موافقة البعض (من الامارات الخاصة مثل قول الصادق عليه‌السلام ـ حين حكى له فتوى ابن أبي ليلى في بعض مسائل الوصيّة ـ وأمّا قول ابن أبي ليلى فلا أستطيع ردّه) (١) فيستفاد أنّه إذا وافق أحد الخبرين لفتوى ابن أبي ليلى ، فالامام «ع» يراعي موافقته تقية.

(وقد يستفاد) ذلك (من ملاحظة أخبارهم المرويّة في كتبهم ، ولذا أنيط الحكم في بعض الروايات بموافقة أخبارهم) بمعنى أنّه إذا وافق أحد الخبرين مثلا لرواية عائشة ، فيستفاد أنّ رأيهم على طبق الرّواية فبالأخرة يرجع إلى موافقة فتواهم ، لأنّ رواية أمّ المؤمنين عندهم من أصحّ الرّوايات.

الأمر (الخامس قد عرفت) فيما سبق (أن الرجحان بحسب الدلالة لا يزاحمه الرّجحان بحسب الصّدور) فيخصّص عموم اكرم العلماء بلا تكرم النّحاة ولو كان راوي العام أصدق أو أعدل من راوي الخاص (وكذا لا يزاحمه)

__________________

ـ السلاطين والامراء واشتهر البعض الآخر بتوسط ما ذكر ، ولكونه أقرب إلى الصواب من غيره كمذهب الشافعي انتهى (أوثق الوسائل ص ـ ٦٢٩).

(١) الوسائل : الجزء ١٣ (ص ـ ٤٧٨) الرواية : ٢.

٣٤٠