جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

محمّد رضا الناصري القوچاني

جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

المؤلف:

محمّد رضا الناصري القوچاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

الخبر المعتبر على حرمة شيء يكون الدليل المخصص واردا ، لأنه يرفع موضوع الشك حقيقة ، ولا يجري البراءة ، وهكذا بالنسبة الى ساير الأصول.

(وأن كان مؤداه) أي الاصل (من المجعولات الشرعية ، كالاستصحاب) فان الماء المعين مثلا الطاهر بحسب أصل الخلقة أن شك في طهارته ونجاسته يحكم عليه باستمرار الطهارة بحكم الاستصحاب (ونحوه) كالبراءة والاشتغال الشرعيين (كان ذلك الدليل) الاجتهادي كقيام الدليل على نجاسة العصير بعد الغليان (حاكما على الأصل) الاستصحابي (بمعنى أنه يحكم عليه) أي الأصل (بخروج مورده) أي الدليل (عن مجرى الأصل ، فالدليل العلمي المذكور ، وأن لم يرفع موضوعه) أي الأصل (أعني الشك ، إلا أنه) أي الدليل (يرفع حكم الشك أعني الاستصحاب).

وذلك : لأن الادلة الدالة على حجية الأمارة القائمة على نجاسة العصير بعد الغليان مفادها الغاء احتمال الخلاف ، يعني لست شاكا تنزيلا.

وأنما لم يذكر المصنف قده الاستصحاب العقلي لأنه ثبت حجيته من باب الاخبار كما أن التخيير الشرعي لم يثبت عنده لما ذكره في مبحث أصل البراءة (وضابط الحكومة) كما ذكرنا (أن يكون أحد الدليلين) يعني الحاكم (بمدلوله اللفظي ، متعرضا لحال الدليل الآخر) أعني المحكوم (ورافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر) وهو : المحكوم (عن بعض افراد موضوعه) أي المحكوم (فيكون) الحاكم (مبينا) وشارحا (لمقدار مدلوله) أي المحكوم حال كونه (مسوقا لبيان حاله) أي دليل المحكوم (متعرضا عليه) أي على الدليل المحكوم ، بنحو التوسعة ، نظير : كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر (١) فإنه يوسع دائرة الشرط ، ويجعله ، أعم من الواقع والظاهر أو التضييق (نظير الدليل الدال على أنه لا حكم للشك في النافلة أو) لا شك (مع كثرة الشك أو) لا شك للمأموم (مع حفظ

__________________

(١) الوسائل : الجزء ٢ ص ١٠٥٤. (الرواية : ٤).

٢١

الامام أو) لا شك للإمام مع حفظ (المأموم (١) أو) لا شك (بعد الفراغ من العمل فإنه) أي الدليل النافي للتكليف (حاكم على الادلة المتكفلة لأحكام المشكوك) مثلا إذا ورد في الشك بين الثلث والاربع ، البناء على الأربع وإضافة ركعة واحدة قيامية ، أو ركعتين ، فهذا الحكم ساقط عن كثير الشك ، بل يبني على الصرفة ، أي يبني على الأكثر ويتم الصلاة ويسقط عنه إتيان صلاة الاحتياط (فلو فرض أنه) أي الشأن (لم يرد من الشارع حكم المشكوك) بمعنى لو لم يجعل الشارع للشكوك أحكاما (لا عموما) نظير : إذا شككت بين الأقل والأكثر فابن على الأكثر (ولا خصوصا) نظير إذا شككت بين الثلث والأربع ، واعتدل وهمك فانصرف وصلّ ركعتين جلوسيتين (٢) (لم يكن مورد للادلة النافية لحكم الشك في هذه الصور (٣)) بل يصير أدلة النافية لغوا وعبثا فما ذكره قده من الحكومة

__________________

(١) الوسائل : الجزء ٥ ص ٣٣٨ (الرواية : ١).

(٢) الوسائل : الجزء ٥ ص ٣١٦ (الرواية : ١).

(٣) لا شبهة في تقديم الامارات على الأصول ، إنما الكلام في وجه التقديم وقد قال جمع بأنه من باب الحكومة ، كما صرح بذلك المصنف قده.

ولكن في معنى الحكومة وحقيقتها خلاف بين الاعلام.

والذي يظهر من الشيخ قده بل صرح به فيما ذكر أن ضابط الحكومة أن يكون دليل الحاكم ناظرا بمدلوله اللفظي إلى دليل المحكوم ، ومبينا لمقدار دلالته بحيث لو لم يكن دليل المحكوم ، لكان دليل الحاكم لغوا وبلا مورد.

وبعبارة واضحة : الحكومة على هذا المعنى بمنزلة قرينة معينة ، ومعلوم أنه لو لم يكن هناك قبل القرينة كلام لا معنى لاقامة القرينة على تفسيره وبيان مدلوله ، وقد مثل لذلك في الكتاب بأمثلة المذكورة منها : الشك في حكم النافلة إلى آخر ما ذكره هذا وأورد على تفسير الحكومة بهذا المعنى بعض المحققين ، وقال ما هذا لفظه : ويشكل بأن الضابط المذكور لا ينطبق على دليل حجية الأمارات والادلة ولا على ساير الموارد التي جعلت تقديمها من باب الحكومة كدليل لا ضرر ، ولا ضرار ، ولا شك لكثير ـ

٢٢

__________________

ـ تتمة الهامش من الصفة ٢٢

الشك ، ودليل نفي الحرج ، وأمثال ذلك ، إذ ليس واحد منها بمدلوله اللفظي ناظرا إلى مدلول دليل آخر ، بل يحكى كل واحد منها عن الواقع ، ولذا لو لم يكن في البين إلا هذه القواعد التي جعلت حاكمة على ساير القواعد لم يلزم كونها بلا مورد ، إلى أن قال : ولنقدم الكلام في بيان ضابط الحكومة بما عندنا إلى أن قال : المراد من قولنا دليل كذا حاكم على كذا ، إنه يقدم عليه من دون ملاحظة الأخصية والأظهرية ، بل يقدم بواسطة أدنى ظهور انعقد له.

إذا عرفت هذا فنقول : ان كل دليل يكون متعرضا للحكم المستفاد من الدليل الآخر ، وان لم يكن متعرضا له بعنوان أنه مدلول ذلك الدليل سواء كان تعرضه لذلك الحكم ابتداء ، أم كان بلسان تنزيل الموضوع؟ فهو مقدم عليه عند العرف ، وان لم يكن اخص بل كانت النسبة بينهما عموما من وجه ، كما إذا قال المتكلم : أكرم العلماء ، ثم قال في مجلس آخر ما حكمت أولا أحكم باكرام الفاسق قط ، فأنا نرى أن أهل العرف يجعلون الكلام الثاني قرينة على الأول ، ويحكمون بأن المراد من العلماء العدول منهم مع كون النسبة بين الكلامين ، عموما من وجه وإن لم يكن الكلام الثاني بمدلوله اللفظي شارحا للكلام الأول ، ولذا لو لم يكن الأول أيضا لكان الثاني تاما في مفاده إلى آخر ما أفاده.

وحاصل ما استشكله قده على الشيخ قده يرجع إلى أمرين.

أحدهما : أن دليل الحاكم لا يلزم أن يكون بمدلوله اللفظي ناظرا إلى دليل المحكوم.

ثانيهما : عدم لزوم اللغوية في دليل الحاكم ، وكونه بلا مورد لو لم يكن هناك دليل المحكوم.

ويظهر كلا الاشكالين من مثال ذكره قده ، وهو قوله : أكرم العلماء ولا أحب إكرام الفاسق قط ، إذ : من المعلوم أن دليل الثاني ليس ناظرا بمدلوله اللفظي إلى مفاد أكرم العلماء ، وكذا لا يكون لغوا وبلا مورد لو لا وجوب اكرام العلماء ، مع أنه حاكم على دليل وجوب اكرام العلماء ، إذ : العرف بعد الجمع بين الدليلين يحكم بأن مراد المتكلم من العلماء الذين أوجب إكرامهم هو العدول منهم ، بقرينة لا أحب اكرام ـ

٢٣

والأمثلة التي أوردها أنما هي من باب حكومة نفس الدليل على الدليل الآخر بمعنى أن دليل الحاكم مع قطع النظر عن دليل اعتباره يفسّر مورد المحكوم ويبيّنه.

(و) من هنا ظهر (الفرق بينه) أي الحكومة (وبين المخصص) المنفصل فانه ليس بحيث يوجب ظهور العام من اختصاص الحكم المعلق عليه بغير مورد التخصيص ، بل العام معه ايضا ظاهر في تعميم الحكم بالنسبة الى ذلك المورد.

وانّما يقدّم الخاص ، لترجيح ظهوره على ظهور العام ، بل ولو كان الشك في المخصّص المنفصل ، فلا شبهة في وجود المقتضى ، وهو الظّهور في العام واحتمال المخصّص ح مانع عن جواز العمل ، لاحتمال وجود المعارض ، ولا يجوز ح دعوى مدخليّتها في أصل الظّهور ، فالعام والخاصّ متعارضان ، ألّا أنّ التّرجيح للخاصّ ، فيقدّم عليه لذلك ، بخلاف الحاكم والمحكوم عليه ، فانّ المحكوم عليه لا ظهور له في عموم الحكم بالنسبة الى مورد الحاكم ، حتى يتعارضان ، بل هي قرينة مفسّرة لمدلول المحكوم ، ولا تعارض بين المفسّر والمفسّر.

والحاصل أنّ الحاكم من حيث هو يقدّم على المحكوم كذلك دائما ، بخلاف الخاصّ فأنّه لا يقدّم على العام من حيث هو ، بل بملاحظة رجحان ظهوره على ظهوره ، فعليه : مدار التقديم.

__________________

ـ تتمة الهامش من الصفحة ٢٣

الفاسق قط ، فالحكومة الموجودة بين هذين الدليلين لا ينطبق عليها الضابط المذكور في كلام الشيخ قده في معنى الحكومة ، والمقصود الاشارة إلى وجود الخلاف في معنى الحكومة ، ومن شاء مزيد التوضيح فليراجع إلى درر الفوائد (ج ـ ٢ ص ـ ١٣٨).

٢٤

والسّر في ذلك (أنّ كون التخصيص) نحو : لا تكرم النّحاة ، مع العام ، نحو : اكرم العلماء بحسب مدلولي الدّليلين متعارضان ، لأنّ النّحاة مع كونهم من العلماء مسلوب الاكرام ، ولكن بقانون المحاورة ، العام حجّة ما لم يرد مخصّص ، واذا ورد مخصّص ، فهو وارد على العام أن كان قطعيا ، وحاكم أن كان ظنّيا ، فيكون التّخصيص (بيانا للعام بحكم العقل الحاكم بعدم جواز ارادة العموم ، مع العمل بالخاصّ) ولكن (هذا) الدّليل الحاكم (بيان بلفظه ، للمراد ومفسّر للمراد من العام) أي المحكوم (فهو) أي الحاكم (تخصيص في المعنى بعبارة التفسير) وهذا بخلاف لا تكرم النّحاة ، لأنّه لا يفسّر أكرم العلماء وليس له نظر بل مخصّص له.

والشاهد أنّه لو أنفرد لا تكرم النّحاة كان صحيحا ، ولو لم يكن هناك عام مثل أكرم العلماء ، بخلاف : ما جعل عليكم في الدّين من حرج ، فانّه لو لا أدلة إثبات التكاليف لكان انفراده لغوا.

(ثم) شرع في بيان تفصيل الفرق ، فقال : أنّ (الخاصّ أن كان قطعيّا) دلالته ، نظير حرمة الصّدقة الواجبة على بني هاشم ، أن قام التّواتر على حرمتها كما هو ضرورة مذهبنا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّا أهل بيت لا تحلّ لنا الصّدقة (١) والعام نحو (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ)(٢) وأن كان الجمع المحلّى بال يفيد العموم ، لكنّه ظنّي الدّلالة وأن كان قطعي السّند.

ولذا (تعيّن طرح عموم العام) لأنّ التّواتر يفيد العلم وحجيّته ذاتيّة (وأن كان) الخاصّ (ظنّيا) كما هو الغالب بحسب الدّلالة أيضا (فدار الأمر بين طرحه وطرح العموم) كما اذا دلّ دليل بحرمة الغراب الأسود (٣) ودليل آخر دلّ على حلّيته (ويصلح كلّ منهما) أي العام والخاص (لرفع اليد بمضمونه)

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١ ص ـ ٣٤٣ الرواية : ٤.

(٢) التوبة : ٦٠.

(٣) الوسائل : الجزء ١٦ ص ـ ٣٢٩ (الرواية : ٣).

٢٥

أي كل منهما (على تقدير مطابقته للواقع عن الآخر) لأنّ كلّ واحد منهما يكشف عن الواقع ، ويقول بلسان الحال أرفع اليد عن الآخر (فلا بدّ من الترجيح) لجانب الخاص لرجحانه لأنّه الأظهر (بخلاف الحاكم فأنّه يكتفي به في صرف المحكوم عن ظاهره ، ولا يكتفى بالمحكوم في صرف الحاكم عن ظاهره بل) رفع اليد عن المحكوم (يحتاج الى قرينة أخرى) غير وجود الحاكم (كما يتضح ذلك بملاحظة الأمثلة المذكورة).

وبالجملة أن الحاكم مع ظهوره مفسر للمحكوم ، وموجب لظهور المحكوم في اختصاص الحكم الذي تضمنه بغير مورده ، فيدور تقديمه عليه مدار بقاء ظهوره من دون توقف على أمر آخر ، بخلاف الخاص فانه بمجرد ظهوره لا يوجب صرف العام حتى يكون مقدما عليه ، بل مع رجحان ظهور الخاص يوجب صرف ظهور العام.

(فالثمرة بين التخصيص والحكومة تظهر في) الدليلين (الظاهرين حيث لا يقدم المحكوم) أبدا على تقدير كون أحدهما حاكما على الآخر (ولو كان الحاكم) يعني من حيث الظهور (أضعف منه) أي من المحكوم ، مثلا اذا فرض ان الظهور في المحكوم اقوى من الظهور في الحاكم ، كما اذا كان نكرة في سياق النفي ، ودخلت عليه : من.

فقد قيل بأنها نصّ في العموم ، أو اظهر أي ليس فيه خلل من حيث الظهور فحينئذ اذا لم تكن قرينة خارجية تسقط الحاكم عن الظهور ، فيحفظ ظهوره ويتصرف في ظهور المحكوم (لان صرفه) أي الحاكم (عن ظاهره لا يحسن بلا قرينة أخرى) قوله (مدفوعة) صفة للقرينة (بالاصل) بمعنى اذا كان الحاكم قام على خلاف ظاهره قرينة لا يؤخذ بظهوره ، ولا يكون حاكما ، لكن المفروض ان الاصل عدم تلك القرينة.

(وأما الحكم بالتخصيص ، فيتوقف على ترجيح ظهور الخاص وإلّا) اي

٢٦

وان لم يكن ترجيح لظهور الخاص (امكن رفع اليد عن ظهوره) أي الخاص (وإخراجه) أي الخاص (عن الخصوص بقرينة صاحبه) وهو العام ، مثلا اذا قام القرينة بصدور لا تكرم زيدا العالم تقية ، نعمل بعموم اكرم العلماء ، ونحو ذلك ، من التصرفات في المادة ، او الهيئة ، مثل : ارادة الكراهة من النهي مجازا مع ، البناء على أن الامر بمعنى الترخيص ، وهو : لا ينافي الكراهة ، مثلا اذا قال : يجوز اكرام العلماء ، وورد الخاص لا تكرم زيدا ، فيمكن أن يحمل لا تكرم على الكراهة ، فلا تعارض جواز أكرم العلماء لأن كل مكروه جائز.

(فلنرجع الى ما نحن بصدده ، من ترجيح حكومة الادلة الظنية على الاصول)

وقد مر توضيح الحكومة بكلا قسميه (فنقول قد جعل الشارع مثلا للشيء) كالعصير بعد الغليان (المحتمل للحل والحرمة حكما شرعيا أعني الحل) وهو الحلية الظاهرية ، بحكم الاصل أعني استصحاب الحالة السابقة قبل الغليان ، أو قاعدة الحل (ثم حكم) الشارع (بأن الامارة الفلانية كخبر العادل الدال على حرمة العصير) قبل ذهاب الثلثين (حجة ، بمعنى أنه لا يعبأ) ولا يعتني (باحتمال مخالفة مؤداه) أي مؤدّى خبر العادل (للواقع) بعد ورود الامارة وحكم الشارع بعدم ترتيب الاثر على احتمال مخالفة مؤداة للواقع.

ولا يبقى مجال للعمل بالاصل ، أيّ أصل كان ، اذ : معنى حكم الشرع بعدم الاعتناء ، عدم ترتيب الآثار العقلية والشرعية على هذا الاحتمال وهو احتمال خلاف الامارة ، والاثر العقلي للاحتمال ، مثلا قبح العقاب بلا بيان ، والاثر الشرعي مثلا ابقاء الحالة السابقة في الاستصحاب.

وهذان الاثران بعد حكم الشرع بعدم الاعتناء باحتمال المخالفة لا يترتبان على موضوعهما ، وهذا من باب حكومة دليل اعتبار الامارة بمعنى ان دليل الاعتبار يوجب حكومة الامارة على الاصول مثلا بعد ورود قوله عليه‌السلام اذا

٢٧

نش العصير او غلا حرم (١).

(فاحتمال حلية العصير) بحكم الاستصحاب ، أو قاعدة الحل (المخالف للامارة) قوله (بمنزلة العدم) خبر للاحتمال و (لا يترتب عليه) أي الاحتمال (حكم شرعي) أعني الاستصحاب (كان يترتب عليه لو لا هذه الامارة وهو) الحكم الظاهري الشرعي بالحلية لو لا الامارة ، وهو المراد من قوله (ما ذكرنا من الحكم بالحلية الظاهرية) بكل شيء حلال (فمؤدى الامارات بحكم الشارع كالمعلوم لا يترتب عليه) أي المعلوم (الاحكام الشرعية المجعولة للمجهولات).

(ثم أن ما ذكرنا من الورود والحكومة جار في الاصول اللفظية ايضا) والاصول اللفظية راجعة الى اثبات ظهور اللفظ ، وظهور اللفظ من باب الدليل كأصالة عدم الوضع ، واصالة عدم الاشتراك ، واصالة عدم النقل ، واصالة عدم الاضمار ، واصالة عدم التخصيص ، واصالة عدم التقييد ، واصالة الظهور ، واصالة الحقيقة ، واصالة العموم ، واصالة الاطلاق ، وغيرها.

وأما الاصول العملية ، فهي : الحكم الظاهري في صورة عدم قيام الدليل ، وأنما يرجع الى وظيفة العمل ، كأصالة البراءة ، والاشتغال ، والتخيير ، والاستصحاب ، واصالة الطهارة ، واصالة الصحة والفساد ، وغيرها.

قيل : سئل الشيخ الاعظم الانصاري قده لم لم تكتب مباحث الالفاظ.

قال : لما نظرت كتاب هداية المسترشدين ، في شرح معالم الدين صرفت النظر عن كتابة مباحث الالفاظ.

والحاصل : أن الاصول اللفظية ادلة اجتهادية ، بالنسبة الى مؤدياتها ، لا احكام ظاهرية (فان اصالة الحقيقة ، أو العموم معتبرة) في صورة عدم القرينة الصارفة عنهما و (اذا لم يعلم هناك قرينة على المجاز) أو على التخصيص (فان)

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٧ ص ـ ٢٢٩. (الرواية : ٤).

٢٨

كانت القرينة موجودة ، ان (كان) من قبيل المجاز ، و (المخصص مثلا دليلا علميا) ايضا من جميع الجهات ، فهو بنفسه رافع لموضوعها و (كان) المخصص ، أو المجاز (واردا على الاصل المذكور) وهو : اصالة الحقيقة والعموم ، فلو ورد اكرم العلماء ، وقام التواتر على حرمة اكرام النحاة (فالعمل بالنص القطعي) وهو الخاص القطعي سندا ودلالة (في مقابل الظاهر ، كالعمل بالدليل العلمي في مقابل الأصل العملي).

فكما أنه وارد على الأصل العملي ، كذلك يكون واردا على الأصل اللفظي (وان كان المخصص ظنيا معتبرا) مراده من حيث الصدور ، وأما من جهة الظهور فسيأتي فرض ذلك (كان) الخاص (حاكما على الأصل) وهو : العموم ، فاذا ورد خبر بعدم جواز اعطاء الزكاة لشارب الخمر مثلا ، فلا يراد من قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) هذا الفرد ، اذ : بمقتضى ادلة اعتبار سنده يكون كمقطوع الصدور ، من حيث ايجابه لرفع حكم تلك الاصول ، واعتبارها عن موردها وان لم ترفع موضوعها وهو الشك في شموله لشارب الخمر.

لأنّا لو لا ورود الخاص والتعبد بسنده ، حكمنا باستحقاق الفقير الشارب للخمر ، ولكن بعد جعل خبر العادل بمنزلة القطعي ، لا نعمل بالعموم في مورد شاب الخمر (لأن معنى حجية الظن) في جانب الخاص (جعل احتمال مخالفة مؤداه للواقع ، بمنزلة العدم في عدم ترتب ما كان يترتب عليه) أي على احتمال مخالفة المؤداة (من الاثر) من حيث احتمال الشمول (لو لا حجية هذه الامارة) أعني الخاص (وهو) أي لو لا هذه الامارة تعين (وجوب العمل بالعموم).

أن قلت : اذا وجد عام يحتمل وجود المخصص في الواقع في الاخبار التي لم يصل الينا.

قلنا : (فان الواجب) علينا (عرفا وشرعا) هو (العمل بالعموم (١) عند

__________________

(١) من : فان الواجب إلى هنا نسخة بدل.

٢٩

احتمال وجود المخصص وعدمه) أي عدم وجود المخصص بعد اليأس عنه ولا يعتنى باحتمال المخصص ، ولكن اذا وجد المخصص (فعدم العبرة باحتمال عدم التخصيص) لا يعتبر بل يعتبر وجود التخصيص ، وانه (الغاء للعمل بالعموم فثبت) من جميع ما ذكر (ان النص) اي الخاص في مفروض كلامنا أي كون الظن في السند لا في الدلالة (وارد على اصالة الحقيقة) والعموم (اذا كان) النص (قطعيا من جميع الجهات) سندا ودلالة (وحاكم عليه) أي على الاصل المذكور (اذا كان) النص (ظنيا) من حيث السند اذ : مع ظنية الخاص يحتمل بقاء العموم بحاله وعدم اجراء التخصيص تحفظا لجريان الاصول اللفظية كل في موردها عند الشك ، لكن دليل اعتبار الخاص يحكم بالغاء الاحتمال وعدم ترتيب الاثر عليه.

ومعنى هذا عدم جواز الرجوع الى اصالة العموم ونظائره من الاصول اللفظية ، اذ : هذه الاصول آثار للشك في مواردها ، وبعد حكم الشرع بعدم ترتيب الاثر ، يقدم دليل الخاص على الاصل اللفظي فقد اتضح الحكومة بكلا قسميه من حكومة الدليل بنفسه على دليل آخر كما سبق تفصيلا او باعتبار دليل اعتباره يكون حاكما كما ذكرنا آنفا.

قوله : (في الجملة) أي من بعض الجهات كالسند ، وأن قوله : (كالخاص الظني السند مثلا) أنما هو من باب المثال ، بمعنى أنه اذا كنا نقطع بالمخصص ، لا يجوز التمسك بالعام هكذا ظنك كالقطع.

ثم : ان الحكومة كما عرفت ، مبنية على كون موضوع الاصل احتمال وجود القرينة ، وعدمها في الواقع ، واما لو كان موضوع الاصل العقلائي الشك في التعبد بالقرينة ، وعدم التعبد كان دليل اعتبار الخاص واردا على اصالة العموم ، اذ بعد ورود الخاص يقطع بوجود التعبد ، كما قال (ويحتمل ان يكون الظن ايضا واردا ، بناء على كون العمل بالظاهر عرفا وشرعا معلقا على عدم

٣٠

التعبد بالتخصيص ، فحالها) أي حال الاصول اللفظية كأصالة العموم والاطلاق (حال الاصول العقلية) في كون الظن المعتبر واردا عليها فكما أنه لو شككنا في ثمانية فراسخ ملفقا في أنه هل يجب علينا القصر أو الاتمام.

وحيث أن العلم الاجمالي كالتفصيلي بيان بمناط دفع الضرب المحتمل ، فيجب الجمع بين القصر والاتمام ، ولكن اذا قام الخبر المعتبر مثلا ولم يكن له معارض بان الواجب في هذه الصورة هو القصر ، فلا يجب الاحتياط ، لانه مؤمن ، فلا يحتمل الضرر الذي هو موضوع وجوب الاحتياط ، كذلك نسبة الخاص الى العام ، فيكون التعبد بسند قطعي الدلالة رافعا لموضوع بناء العقلاء على اصالة ظهور العام في العموم.

وبالجملة : هنا تعبيران ، اصالة العموم حجة اذا لم يظفر على المخصص ، أو أصالة العموم شرعا وعرفا حجة أن لم يتعبد بالمخصص ، فالتقدم في الاول على نحو الحكومة ، وفي الثاني على نحو الورود.

قوله : (فتأمل) اشارة الى تضعيف ما ذكره لاحتمال كون حجية الظهور عقلائية أي مطلقا لا مقيدا بعدم ورود القرينة شرعا أو عرفا.

(هذا كله على تقدير كون اصالة الظهور من حيث اصالة عدم القرينة) لان المخصص والناسخ والمقيّد ، قرينة لعدم ارادة العام والمنسوخ والمطلق ، بمعنى أننا نجعل الاصول اللفظية عدمية ، كاصالة عدم التقييد وعدم القرينة وعدم التخصيص وأما اذا جعلنا الاصول اللفظية امور وجودية من جهة ظهور اللفظ في الحقيقة وظهور العموم الموجب للظن من باب الغلبة فالخاص يكون واردا عليه كما قال (واما اذا كان) الوجه فيه هو (من جهة الظن النوعي الحاصل بارادة الحقيقة).

قوله : (الحاصل من الغلبة) صفة للظن ، وهو الحاق المشكوك بالغالب لان الظن يلحق الشيء بالاعم الاغلب ، لغلبة ارادة المعنى الحقيقي (أو من

٣١

غيرها) أي غير الغلبة كالوضع فانه مقتض لظهور اللفظ في المعنى الموضوع له ، او من ظهور اتباع الواضع في المحاورة (فالظاهر) في هذه الصورة (ان النص وارد عليه) أي العموم (مطلقا) يعني (وأن كان النص ظنيا) من حيث الصدور فقط لا من حيث الدلالة بقرينة قوله فيما بعد نعم لو فرض الخاص ظاهر الخ لان اعتبار الظواهر عند العقلاء معلق على عدم قيام دليل معتبر على القرينة والتخصيص ، فبعد قيامه يرتفع موضوع هذا الاصل كما في البينة ، فان ظهور النوعي مقيد بعدم الاقرار ، فالاقرار وارد على البينة ، وهنا الخاص الظني السند وارد على الظن الحاصل من الغلبة.

نعم بعض الامارات غير معلق كالاقرار ، فلا امارة حاكمة على الاقرار كما قال : (لان الظاهر ان دليل حجية الظن الحاصل بارادة الحقيقة الذي هو مستند اصالة الظهور ، مقيد بصورة عدم وجود ظن معتبر على خلافه) لان الناس يتكلمون بالاوضاع مع عدم نصب القرينة.

وبعبارة اخرى يكون الظهور كاشفا عن كونه هو المراد النفس الامري ولكن بناء العقلاء على حجية الظهور من باب الغلبة ، مقيد بما اذا لم يكن في البين حجة أقوى توجب بطلان اقتضاء الظهور للحجية (فاذا وجد) ظن معتبر على خلافه (ارتفع موضوع ذلك الدليل ، نظير ارتفاع موضوع الاصل بالدليل) كما ان موضوع الاستصحاب هو نقض اليقين بالشك ، واذا قام البينة على خلاف الحالة السابقة ، فهو ليس نقضا بالشك ، بل نقض باليقين.

وحاصل الكلام : الفرق بين الوجهين في اعتبار اصالة الظهور ، مما لا يكاد يخفي ، فانه بناء على كون المدرك في اعتبارها اصالة عدم القرينة ، يمكن ان يقال : ان الخبر الخاص بنفسه لا يكون قرينة ، بل قرينيته باعتبار كونه مثبتا للمؤدى بتوسط التعبد بالسند ، فلا يتم فيه الورود لانه لا يوجب اليقين ، وانما يورث الظن ، ويحتمل أن يكون الخلاف المحتمل هو الواقع.

٣٢

وأما بناء على كون المدرك في اعتبار اصالة الظهور هو جهة كشفه وإراءته ولو نوعا عن المراد النفس الامري ، فلا محيص عن كون الخاص واردا على اصالة الظهور ، ورافعا لموضوعها ، فان القطع بدلالة الخاص بضميمة التعبد بصدوره يقتضي بطلان كاشفية الظهور ، وإراءته عن المراد النفس الامري.

(ويكشف عما ذكرنا) من كون حجية اصالة الظهور من باب الظن النوعي (انا لم نجد) الى الآن (ولا نجد) بعده (من انفسنا موردا يقدم فيه العام من حيث هو على الخاص ، وان فرض كونه) اي الخاص (اضعف الظنون المعتبرة) سندا كما اذا وقع النص الظني الصدور في مقابل الظاهر القطعي الصدور ، ومن افراده مسئلة تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، ولا يقدح تخصيص الكتاب بالخبر ، لما ذكرنا من الورود على تقدير ظن النوعي الحاصل من الغلبة.

وبالجملة : المراد في المقام ، هو : بيان الاستدلال على ورود النص على الظاهر ، وما ذكر من العام والخاص ، مثال عن كل نص وظاهر (فلو كان حجية ظهور العام غير معلق على عدم الظن المعتبر على خلافه) أي العام بمخصص ظني الصدور لزم تقديم العام ، اذا كان اظهر على الخاص ، او سقوط العام والخاص ، اذا كانا متكافئين ، او الاخذ باحدهما ، ولكن القوم ما بنوا على ذلك ، فيكشف ان الظهور النوعي ليس بمطلق ، بل مقيد بعدم ورود دليل معتبر.

قوله : (لوجد مورد) جواب لقوله فلو كان (نفرض فيه) أي المورد (اضعفية مرتبة ظن الخاص ؛ من ظن العام حتى يقدم) العام (عليه) اي على الخاص ، لان الظن بارادة العموم ، اقوى (او) عطف على الاضعفية (مكافئته) العام (له) اي للخاص (حتى يتوقف) فيما كان الظنيان متساويين (مع انا لم نسمع موردا يتوقف في مقابله العام ـ من حيث هو ـ و) يتوقف في مقابلة (الخاص) من حيث هو لا من الجهات الخارجية ، كالاجماع والشهرة ونحوهما (فضلا عن ان

٣٣

يرجح) ظهور العام (عليه) أي على صدور الخاص.

قوله : (نعم) استدراك من الكلام السابق ، لان ما ذكر قبل نعم ، كان الظن من جهة السند ، فاستدرك بقوله : نعم ، صورة تعارض الظهورين ، فقال : (لو فرض الخاص ظاهرا) من حيث الدلالة (خرج عن النص ، وصار من باب تعارض الظاهرين).

(فربما يقدم العام) على الخاص اذا كان اظهر بحسب الدلالة ، فينهض الاظهر قرينة على ان المراد من الظاهر خلافه ، نظير : رأيت اسدا يرمى ، فان : يرمى ، بظاهره في متفاهم العرف ، قرينة على التجوز في الاسد بارادة الرجل ـ وهذا ايضا ظهور يقال له الظهور الثانوي قبالا للظهور الاولى المخصوص بالحقايق ـ مع قيام احتمال ارادة الخلاف الظاهر فيهما معا ، ففي : الاسد بارادة الرجل الشجاع ، وفي ؛ يرمى بارادة رمى التراب ، وليس ذلك إلّا لكون : يرمى ، اظهر في ارادة رمى السهم من الاسد في ارادة المفترس.

قوله : (وهذا) متفرع على الكلام السابق اي ما قبل نعم ، أي ما ذكر من تقدم النص على الظاهر ، يكون (نظير ظن الاستصحاب على القول به) من ان ما تحقق وجوده ، ولم يظن عدمه ، فهو مظنون البقاء (فانه لم يسمع مورد يقدم الاستصحاب على الامارة المعتبرة المخالفة له) أي للاستصحاب كما مرّ في مبحث الاستصحاب من تقديم اليد عليه سواء كانت اليد من الامارات او كانت من الاصول التعبدية من غير فرق في تقديم اليد على كلا التقديرين بين كون الاستصحاب مأخوذا من باب التعبد ، وبين كونه مأخوذا من باب الظن ، حيث ان الظاهر كون ما في اليد ملكا لذي اليد.

كما أن بعض الامارات مقدم على بعضها كتقدم الاقرار على البينة ، (فيكشف) هذا المطلب (عن أن افادته) أي الاستصحاب (للظن) يعني اذا كان عقليا مبنيا على الظن النوعي المطلق ، كما نسب الى المشهور (أو اعتبار ظنه)

٣٤

أي الاستصحاب (النوعي مقيد بعدم ظن) شخصي (آخر على خلافه) (١) كما يستفاد من كلام العضدي.

(فافهم) لعله اشارة الى ان تقدم ادلة الامارات على ادلة الاستصحاب ، من باب الحكومة ، وفي المقام يقتضي كونه من باب الورود.

(ثم ان التعارض على ما عرفت) سابقا (من تعريفه) عبارة عن تنافي مدلولي ، الدليلين ، بحيث ينتهي الامر الى التكاذب ، ويشترط ان يكون كل منهما واجدا لشرائط الحجية ، ولهذا لا تعارض بين الخبرين قد اخبرهما الفاسقان مثلا اذا اخبر فاسق بحرمة الغراب الاسود والآخر بعدم حرمته ، لا تعارض بينهما ، لان التعارض فرع الحجية ، وكل منهما لا يثبت مؤداه حتى يعارض الآخر.

وبالجملة : فالوجه المتصور في الدليلين المتعارضين تبلغ عشرة اقسام.

١ ـ ان يكونا قطعيين.

٢ ـ ان يكونا ظنيين بالظن الشخصي.

٣ ـ القطع مع الظن الشخصي.

٤ ـ القطع مع الظن النوعي المطلق.

٥ ـ القطع مع الظن النوعي المقيد.

٦ ـ الظن الشخصي مع النوعي المقيد.

٧ ـ الظن الشخصي مع النوعي المطلق.

٨ ـ الظن النوعي المقيد مع مثله.

__________________

(١) وقد ادعى المصنف قده في باب الاستصحاب الاجماع القطعي على عدم تقيده بعدم كون الظن الشخصي على خلافه على تقدير استفادته من الأخبار ، لأن الشك في الأخبار ، مقابل لليقين ، فالشك عبارة عن عدم اليقين سواء كان هناك شك متساوي الطرفين أو ظن بالوفاق أو ظن بالخلاف؟

٣٥

٩ ـ الظن النوعي المطلق مع مثله.

١٠ ـ الظن النوعي المطلق مع المقيد.

وفي الصور الستة الاولى يمتنع التعارض فيها.

وفي الباقي يمكن التعارض فيها ، والمصنف قده ذكر المهم منها وقال : (لا يكون) التعارض (في الادلة القطعية ، لان حجيتها) أي الادلة القطعية من التواتر ، والاجماع المحصل ونحوها (انما هي) أي الحجية (من حيث صفة القطع) بان يكون قطعيا من جميع الجهات لا يكون معارضا للآخر (و) حصول (القطع بالمتنافيين) اذا كانا قطعيين (او) القطع (باحدهما) أي باحد المتنافيين (مع الظن بالآخر) بان اجتمع القطع مع الظن الشخصي (غير ممكن).

اما عدم امكان تعارض القطعيين فواضح ، لان المدار في الدليل القطعي على صفة القطع ، وصفة القطع انكشاف الواقع ، وحصوله من كلا المتعارضين ينجر بحصول القطع باجتماع النقيضين ، مثلا لو قام التواتر على وجود رستم ، والتواتر الآخر ينهض بعدم وجوده ، فهو محال.

نعم : لا تنافي في صورة التعارض القطعي مع الظن النوعي ، لان الاقتضاء الشأني يجتمع مع القطع بالمانع ، فهناك لا يكون الظن حجة ، لان القطع وارد عليه ، لان حجيته مقيدة بعدم القطع على الخلاف.

وايضا لو تعارض الظنيان النوعيان فهو متصور ايضا ، إلّا انه يجب الترجيح ، وهكذا في باقي الصور الممكنة.

(ومنه) أي مما ذكر (يعلم عدم وقوع التعارض بين الدليلين يكون حجيتهما باعتبار صفة الظن الفعلي لان اجتماع الظنين) الشخصيين (بالمتنافيين محال ، فاذا تعارض سببان للظن الفعلي) كما اذا اخبر العادل وحصل منه ظن فعلي بالحكم ، فان اخبر عادل بوجوب الجمعة مثلا والآخر بحرمتها (فان بقي الظن) الفعلي (في احدهما) بان كان ظنك الشخصي ايضا بالوجوب مثلا (فهو

٣٦

المعتبر) ويسقط الآخر (وإلا) أي وان لم يحصل الظن من احدهما ، كما اذا كان عدلان متساويان في الصدق والورع ، فلا يحصل الظن ابدا (تساقطا) معا (والمراد بقولهم ان التعارض لا يكون إلّا في الظنين ، يريدون به الدليلين المعتبرين من حيث افادة نوعهما الظن) بمعنى ان العلماء واهل اللسان متفقون على حجية الظواهر بمناط الظن النوعي.

(وانما اطلقوا القول في ذلك) ولم يقيدوه بالنوعي (لان اغلب الامارات بل جميعها عند جلّ العلماء ، بل ما عدا جمع ممن قارب عصرنا) وهو صاحب الفصول واخوه قدس‌سرهما قوله (معتبرة) خبر ، لان (من هذه الحيثية) وهي الظن النوعي (لا لافادة الظن الفعلي) (١) الذي اشترطه صاحب الفصول قده (بحيث يناط الاعتبار به) اي بالظن الفعلي كما ذهب اليه بعض من قارب عصرنا ، وهو صاحب الفصول قده ، يقول : باشتراط الحجية بالظن الفعلي على وفقه ، وقال صاحب هداية المسترشدين قده ، ان الظن الفعلي على الخلاف مانع.

والى ما ذكر اشار المصنف قده ، في باب حجية الظواهر ما لفظه : ثم انك

__________________

(١) الظن الشخصي أو الفعلي : عبارة عن صفة تنقدح في النفس ، كالعلم والشك ، وهو حجة ، لاستقلال العقلاء بحجيته ، والمعروف في نتيجة دليل الانسداد ، هو الظن الشخصي ، ولا يجوز الأخذ بالظن النوعي في مقابله لكونه ملحقا بالشك في نظر العقل في البعد عن الواقع بالنسبة إلى الظن الشخصي ، نعم لو انسد باب الظن الشخصي بالاحكام تعين الرجوع إلى الظن النوعي لأنه أقرب إلى الواقع من الشك ، الظن النوعي أو الشأني : وقد يسمى بالظن الطبيعي أيضا ، وهو ما من شأنه أن يظن غالبا ، فعدم ظن بعض لا يضر وهو كون الكلام بحيث يفيد بنفسه الظن بالمراد ، كظهور أسد في المفترس ، وقد يكون بالقرينة كظهور : الأسد الرامي في الرجل الشجاع.

٣٧

قد عرفت ان مناط الحجية والاعتبار في دلالة الالفاظ ، هو الظهور العرفي ـ أي الظن النوعي ـ وهو كون الكلام بحيث يحمل عرفا على ذلك المعنى ولو بواسطة القرائن المقامية المكتنفة بالكلام.

فلا فرق بين افادته الظن بالمراد وعدمها ، ولا بين وجود الظن الغير المعتبر على خلافه وعدمه ، لان ما ذكرنا من الحجة على العمل بها جار في جميع الصور المذكورة ، انتهى محل الحاجة.

وبالجملة : اذا ورد اكرم العلماء ، فهو بظاهره يشمل الفساق ، ولكن اذا ابتلى بالمعارض ، وورد ايضا.

لا تكرم الفساق ، فهو مانع من العمل بالظن الشأني في كليهما ، فلا بد من التأويل اذا كان احدهما اظهر او نصا نتأوّل الآخر بما يرجح يعني النص ، وإلّا فالتساقط على الطريقية.

(ومثل هذا) التقسيم في الظن الى الشخصي والنوعي (في القطعيات غير موجود) بل حجية القطع منحصر في الشخصي (اذ ليس هنا) أي في القطعيات (ما يكون اعتباره من باب افادة نوعه القطع ، لان هذا) يعني لو قلنا : بافادة القطع شأنا لا يكون حجة بنفسه ، بل (يحتاج الى جعل الشارع ، فيدخل حينئذ في الادلة الغير القطعية ، لان الاعتبار في الادلة القطعية من حيث صفة القطع ، وهي) اي صفة القطع (في المقام منتفية ، فيدخل في الادلة الغير القطعية) كالروايتين الظنيين بالظن النوعي ، فيكون قابلا لجعل الحجية من الشارع.

(اذا عرفت) جميع (ما ذكرناه) من الورود ، والحكومة ، والفرق بينهما وبين التعارض ، وبان لا يكون التعارض بين الدليل والاصل (فاعلم : ان الكلام في احكام التعارض يقع في مقامين ، لان) الدليلين (المتعارضين ، اما ان يكون لاحدهما مرجح) ويكون سببا لتقديم احد المتقابلين (على الآخر) كالاعدلية ، والاوثقية ، ونحوهما من المرجحات الآتية إن شاء الله ، فلا بد من الاخذ بذي المزية وطرح الآخر.

(وأما ان لا يكون) لاحدهما مرجح على الآخر (بل يكونان متعادلين) يعني (متكافئين) في المزايا والخصوصيات ، بان كان راوي احد الخبرين زرارة ،

٣٨

والآخر محمد بن مسلم ، وهما متساويان في الرتبة مثلا.

(وقبل الشروع في بيان حكمهما) أي حكم صاحب المزية والمتكافئين (لا بد من الكلام في القضية المشهورة) بين الفقهاء والاصوليين (وهي) أي القضية المشهورة (ان الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح).

والمراد بالجمع هو الجمع بحسب الدلالة بين الخبرين بناء على صدور كليهما ، وفرضهما كمقطوعي الصدور ، والتصرف في كلتا الدلالتين او الاخذ باحدى الدلالتين والتصرف في الاخرى ، بحيث يرتفع التنافي بينهما.

وهذا القسم من الجمع ، انما هو في طرق الاحكام ، وسماه بالجمع الدليلي ، والدلالي ، والعرفي ، اذ العرف يرجحون الجمع ، فيكون اعتبار سندهما في نظر اهل العرف قرينة على التصرف في ظاهرهما ، كما اذا ورد : لا تأكلوا الجبن ، وورد خبر آخر لا بأس بأكل الجبن ، فان : لا تأكل نص في المرجوحية ، ولكنه ظاهر في الحرمة ، و : لا بأس ، نص في الجواز وظاهر في الاباحة ، فنأخذ النص من كل منهما ، ونتصرف في ظهور الآخر ، فالحكم المستفاد منهما هو الكراهة ، او يتصرفون في العام بما يوافق الخاص نظير : اكرم العلماء ، ولا تكرم النحاة ، والمراد من الامكان هو الامكان العرفي على وجه لا يوجب الجمع بين الدليلين خروج الكلام عن قانون المحاورات العرفية فلا بد من الجمع بين الدليلين على وجه لا يبقى العرف متحيرا في استكشاف المراد من الدليلين من ان يكون احدهما واجد المزية تكون قرينة عرفية على التصرف في الآخر.

والمراد بالاولوية هنا انما هو التعين واللزوم ، لا الرجحان ، كقوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ)(١) وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم غدير خم : ألست أولى بكم من انفسكم (٢).

__________________

(١) الأنفال : ٧٥.

(٢) الغدير ج ١ ص ٢١٧ ـ الطبعة الثالثة.

٣٩

(والمراد بالطرح) هنا (على الظاهر المصرح به) الطرح (في كلام بعضهم) أي بعض الاصوليين (وفي معقد اجماع بعض آخر اعم من طرح احدهما ، لمرجح في الآخر) يعني سواء كان في صورة التكافؤ والتعادل ، او في صورة الترجيح والاخذ بالمرجح؟ (فيكون الجمع مع التعادل) اعني مع فقد المرجح (أولى من التخيير و) يكون الجمع (مع وجود المرجح ، أولى من الترجيح).

نعم : اذا لم يمكن الجمع العرفي في الدلالة ، بل بقي العرف متحيرا في حكمهما ـ وحينئذ ـ فان كان في أحدهما رجحان ، اخذ ذلك سندا ودلالة ، ويطرح الآخر رأسا ، وان لم يكن مرجح في البين ، فالقاعدة تقتضي التساقط على الطريقية ، وأما التخيير فبناء على السببية او الرجوع الى اخبار العلاج على ما سيأتي إن شاء الله ، ولكن تخيل ابن ابي الجمهور في هذا المورد جريان قاعدة الجمع ، وردّه المصنف قده.

وتفصيل قوله ، هو : انه (قال الشيخ) محمد بن علي بن ابراهيم (ابن ابي جمهور الاحسائي في عوالي اللئالي) (١) (على ما حكى عنه ان كل حديثين

__________________

(١) قال العلامة النوري قده في مستدرك الوسائل في الفائدة الثانية من الخاتمة في شرح حال الكتب ومؤلفيها : ما هذا لفظه :

بقي التنبيه : وهو أن المعروف الدائر في السنة أهل العلم ، والكتب العلمية الغوالي ، بالغين المعجمة ، ولكن حدثني بعض العلماء عن الفقيه النبيه المتبحر الماهر الشيخ محمد حسن خنفر طاب ثراه ـ الذي كان معاصر الصاحب الجواهر قده ـ وكان من رجال علم الرجال ، أنه بالعين المهملة فدعاني ذلك إلى الفحص فتفحصت فما رأيت من نسخ الكتاب وشرحه ، فهو كما قال ، وكذا في مواضع كثيرة من الاجازات التي كانت بخطوط العلماء الاعلام ، بحيث اطمأنت النفس بصحة ما قال ، ويؤيده أيضا أن المحدث الجزائري قده ، سمى شرحه : الجواهر الغوالي ـ في شرح عوالي اللئالي ـ فلاحظ ، والله العالم ج ـ ٣ ص ٣٦٥.

٤٠