جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

محمّد رضا الناصري القوچاني

جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

المؤلف:

محمّد رضا الناصري القوچاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

النحاة ، فإن الحصر حقيقي ، ولا داعي على الحمل على الاضافي في مطلق العام ، ويجب إكرام الصرفي وكل ما عداه من غير النحويين.

(ويؤيد ذلك) بأنه لو خصصنا الضمان بالدرهم والدينار حملنا الضابط على الفرد النادر والأندر ، لأن عارية الدرهم والدينار في غاية الندرة والشذوذ ، بل وقوعهما في الخارج اتفاقي ، بخلاف المصوغ من الذهب والفضة كالحلى ، لأنه هو الذي يستعار للزينة واستعارته شايع جدا.

وعلى هذا (ان تقييد الذهب والفضة بالنقدين) أي بالدرهم والدينار (مع غلبة استعارة المصوغ) يلزم تقييدهما بالفرد النادر في مقام العارية ، وهو (بعيد جدّا) ويأباه أهل المحاورة.

(ومما ذكرنا : يظهر النظر في مواضع ، مما ذكره صاحب المسالك قده في تحرير وجهي المسألة) أعني القولين في خروج الذهب والفضة غير المسكوكتين عن الضمان ، والقول الآخر دخولهما في الضمان كما ذهب إليه صاحب المسالك قده ، فإن ما استظهره قده مبتن على كون الاستثناء مخصصا منفصلا ، وعلى القول الآخر وهو الصحيح : أنه مخصص متصل ، فأكثر كلامه قده يكون باطلا لأن العقد السلبي ، وهو : لا ضمان ، فيما عدا الدرهم والدينار بينه ، وبين العقد الايجابي ، وهو : أنه في الذهب والفضة ضمان ، عموم من وجه فلا معنى لتخصيص أحدهما بالآخر.

(وان كانت النسبة بين المتعارضات مختلفة ، فإن كان فيها) أي في المتعارضات (ما يقدم على بعض آخر منها) أي من المتعارضات لترجيحه عليه.

وهو (أما لأجل الدلالة كما في النص والظاهر ، أو الظاهر والأظهر) فإنه يقدم النص أو الأظهر على الظاهر ، لأنه جمع عرفي مقدم على المرجحات السندية.

(وأما لأجل مرجح آخر قدم ما حقه التقديم ، ثم لوحظ النسبة مع باقي المعارضات).

٢٨١

وذلك مثل ما إذا ورد عامان من وجه متعارضان ، وخاص مطلق بالنسبة إلى أحدهما ، فلا ريب أن هذا الخاص يقدم قبل ملاحظة النسبة بين العامين على ما هو أخص منه إذ حقه التقديم ولا مانع من تقديمه عليه من الخارج ، فإن العام الآخر لا يعارض هذا الخاص.

والصور المتصورة هنا أربعة.

١ ـ قد لا تنقلب النسبة ولا يحدث الترجيح أيضا.

٢ ـ قد تنقلب النسبة ولا يحدث الترجيح.

٣ ـ قد لا تنقلب النسبة ويحدث الترجيح.

٤ ـ قد تنقلب النسبة ويحدث الترجيح ، واكتفينا بذكر ما ذكره المصنف قده بقوله (فقد تنقلب النسبة و) (١) (قد يحدث الترجيح ، كما إذا ورد : أكرم العلماء) يعني : يجب إكرام العلماء (ولا تكرم فساقهم ، ويستحب اكرام العدول ، فإنه إذا خص) اكرم (العلماء بعدولهم) باخراج الفساق منهم لأن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق والخاص لنصوصيته مقدم على ظهور العام (يصير) أكرم العلماء العدول ، وهو (أخص مطلق من) يستحب اكرام (العدول) وإن كانت النسبة قبل ذلك بينه وبين قوله : اكرم العلماء ، العموم والخصوص من وجه.

ولكن بعد ما خصص عموم أكرم العلماء بالعدول ، ينقلب النسبة ويصير من باب العموم والخصوص المطلق (فيخصص) يستحب إكرام (العدول بغير علمائهم) فيجب إكرام العلماء العدول فقط لكونه أخص من العلماء باطلاقه لأن خبر يستحب اكرام العدول لا ينافي مع حرمة اكرام فساق العلماء لتغاير

__________________

(١) والأصح ويحدث الترجيح بحذف كلمة قد ، أي الترجيح الدلالي كما هو الغالب في صورة انقلاب النسبة ، فانه كثيرا ما ينقلب من العموم من وجه الى الأعم والأخص المطلق ، فيحصل الأظهر والظاهر فيوجد رجحان دلالي للأخص.

٢٨٢

الموضوعين بل يكون يحرم اكرام فساق العلماء مخصصا ليجب اكرام العلماء فيخصص وجوب اكرام العلماء بغير الفساق أي العدول ويصير بعد التخصيص بين أكرم العلماء ويستحب إكرام العدول عموم وخصوص مطلق فنخصص : يستحب اكرام العدول بغير العلماء العدول فلا يمكن أن يقال : بما قيل في العام المطلق مع خاصين ، كذلك المستوعبين بجميع مؤداه من ملاحظة التعارض بين مجموع المستوعبين وبين العام ، فإن كل واحد منهما هناك كان صالحا للتصرف في العام ، وكان من حقّه التقديم عليه ، وانما منع من الأخذ بكليهما لزوم محذور الاستيعاب ، بخلاف المقام فإن أحدهما وهو العام الآخر ليس كذلك كما عرفت ، فيقدم الأخص من ذلك العام عليه كائنا ما كان ، فإذا قدم عليه ينحصر مورده في مورد اجتماعه مع العام الآخر فلا بد من تقديمه على العام الآخر فيه.

(والسر في ذلك واضح ، إذ لو لا) ملاحظة (الترتيب) المذكور (في العلاج) بمعنى لو لم يخصص العام الأول أولا ، بقوله : لا تكرم فساقهم ، بل لوحظ مع الثاني أولا ، وهو قوله : يستحب إكرام العدول ، وفرض كون الثاني راجحا على الأول بحسب السند فلا بد من طرح الأول في مادة الاجتماع وهو العالم العادل ، فيكون العالم العادل مستحب الاكرام ، ويبقى مادة الافتراق وهو العالم الفاسق في تحت أكرم العلماء ، فأما أن يعمل بالعام الأول فيها ، ويحكم بوجوب إكرامه ، فحينئذ(لزم الغاء النص) وهو قوله : لا تكرم فساقهم من جهة الظاهر ، وهو قوله : أكرم العلماء ، وهو غير معقول ، لأن لا تكرم فساقهم أخصّ ، فيلزم طرح الأخص وهو خلاف قاعدة الجمع بين العام والخاص المطلق (أو) لا يعمل به في مادة الافتراق أيضا ، ويحكم بحرمة إكرام العالم الفاسق من جهة النص ، أعني قوله : ولا تكرم فساقهم فحينئذ يلزم (طرح الظاهر) أعني دليل أكرم العلماء (المنافي) أي من جهة معارضته (له) أي للنص (رأسا) لبقائه بلا مورد (وكلاهما) أي كل من اللازمين (باطل) فكذا ملزومهما ، أعني عدم رعاية

٢٨٣

الترتيب (وقد لا تنقلب النسبة ، فيحدث الترجيح في المعارضات بنسبة واحدة ، كما لو ورد : أكرم العلماء ، و : لا تكرم الفساق ، ويستحب اكرام الشعراء) فيتعارض الكل في العالم الفاسق الشاعر ، ويكون مستحب الاكرام بإدخاله تحت الثالث ، كما يتعارض إلا ولأن في العالم الفاسق غير الشاعر ، ويكون واجب الاكرام بإدخاله تحت الأول ، والأول مع الأخير في العالم العادل الشاعر ، ويكون مستحب الاكرام بإدخاله تحت الثالث أيضا ، والثاني مع الثالث في الفاسق الشاعر غير العالم ويكون محرم الاكرام بإدخاله تحت الثاني ، فإن لم يكن هناك مرجح أصلا بوجه من الوجوه ، فيحكم بالتخيير في مادة التعارض مطلقا من غير فرق بين التعارض الثلاثي أو الثنائي على ما اختاره المشهور ، واجمال المتعارضات أو المتعارضين فيها في وجه والرجوع إلى القواعد ان كانت والأصول العملية إن لم تكن (فإذا) كان هناك مرجح من حيث الدلالة كما إذا (فرضنا ان الفساق) في المثال المذكور (أكثر فردا من العلماء خص) عموم لا تكرم الفساق (بغير العلماء) لأن إفراد الفساق أكثر ، فنحفظ عموم أكرم العلماء ، ونخصص حرمة إكرام الفساق ، فيكون هناك رجحان دلالي ، وهو مقدم على الترجيح السندي (فيخرج العالم الفاسق عن الحرمة) ويحكم بوجوب إكرامه إن لم يكن شاعرا (ويبقى الفرد الشاعر من العلماء الفساق مرددا بين الوجوب والاستحباب) فمن حيث أنه من أفراد العلماء ، يشمله حكم أكرم العلماء ، ومن حيث أنه من افراد الشعراء يعمل بعموم حكم الشعراء ، وهو الاستحباب ، ولا يحتمل تحريم إكرامه لفرض خروج العالم الفاسق عن الحرمة.

(ثم إذا فرض أن الفساق بعد إخراج العلماء أقل فردا من الشعراء خص) عموم يستحب إكرام (الشعراء به) أي بالفساق ، وإفراد الضمير وتذكيره برجوعه إلى حكم الفساق ، أو باعتبار مدلول كلمة الفساق ، يعني يكون المراد بالشعراء هو غير الفساق من غير العلماء ، أعني غير الفاسق الجاهل (فالفاسق الشاعر غير

٢٨٤

مستحب الاكرام) لخروج الفاسق المزبور عن قوله ويستحب إكرام الشعراء (فإذا فرض صيرورة الشعراء بعد التخصيص بالفساق أقل موردا من العلماء ، خص دليل) أكرم (العلماء بدليله) أي بدليل لا تكرم الفساق ، وبعد تخصيص عموم العلماء لعموم الشعراء المستثنى منه الفاسق غير العالم ، يبقى العالم الفاسق الشاعر مندرجا تحت عموم الشعراء (فيحكم بأن مادة الاجتماع بين الكل أعني العالم الشاعر الفاسق مستحب الاكرام) نظرا إلى لزوم أعمال قوانين العلاج ، وإن لزم منه انقلاب النسبة ، لأن هذا الانقلاب إنما جاء بسبب الجمع الدلالي الحاصل من أقلية الافراد وأكثريتها.

(وقس على ما ذكرنا) من الأمثلة من تقديم ما حقه التقديم لمكان النصوصية أو الأظهرية ، أو من تقديم الخاص على العام ونحوها (صورة وجود المرجح من غير جهة الدلالة لبعضها) أي لبعض الصور (على بعض) آخر ، فيؤخذ بالراجح فقط في مادة التعارض من غير فرق بين التعارض الثلاثي أو الثنائي.

مثلا : لو لم يدل دليل لفظي على حرمة إكرام الفساق في المثال المذكور بل قام الاجماع عليه ، أو أن حكم العقل بأنه إذا فسد العالم فسد العالم فنخصص عموم أكرم العلماء ، وقس عليه المرجح بحسب الصدور ، وجهة الصدور والمضمون فإن الراجح بأحد وجوه التراجيح المذكورة يكون مقدما على غيره ، وإن انقلبت النسبة وحدث الترجيح.

(والغرض من إطالة الكلام في ذلك) هو (التنبيه على وجوب التأمل في علاج الدلالة عند التعارض) ففي بعض الصور تنقلب النسبة ، وفي بعضها أيضا تنقلب ، لكن بواسطة الترجيح الدلالي بالأقلية والأكثرية فردا ، وإذا لم يكن هناك ترجيح دلالي فلا بد من الرجوع إلى ساير المرجحات المذكورة والعمل بما تقتضيها من الطرح أو التأويل والحمل على التقية وأشباه ذلك فتأمل فيما ذكرناه (لا ناقد عثرنا) أي اطلعنا (في كتب الاستدلال على بعض الزلات) بالفارسية

٢٨٥

لغزشها (والله مقيل العثرات) أي يحفظ عن الوقوع في الزلات ـ العثرات والزلات بمعنى واحد.

(وحيث فرغنا عن بعض الكلام في المرجحات من حيث الدلالة التي هي) من قبيل النص والظاهر ، أو الأظهر والظاهر ، ونحوهما (مقدمة على غيرها) لأن الجمع مهما أمكن ـ أي الجمع العرفي ـ أولى يخرج الموضوع عن التعارض فلا يشمله أخبار العلاج لقاعدة الورود لأن الجمع الدلالي يخرج أحكام العلاج السندي عن موضوعه ، إذ : موضوعه التعارض ولا تعارض مع الجمع العرفي (فلنشرع في مرجحات الرواية من الجهات الآخر) من حيث الصدور ، وجهة الصدور والمضمون (فنقول : ومن الله التوفيق للاهتداء قد عرفت) فيما سبق (ان الترجيح أما من حيث الصدور ، بمعنى جعل صدور أحد الخبرين أقرب) إلى الواقع (من صدور غيره) عن المعصوم عليهم‌السلام (بحيث لو دار الأمر بين الحكم بصدوره) أي بصدور ما هو الأقرب (وصدور غيره لحكمنا بصدوره) ـ ما هو الأقرب ـ لكون احتمال الخلاف فيه أقل منه في غيره ، وهذا موجب لرجحانه على غيره من حيث الصدور فيجب الأخذ به.

(ومورد هذا المرجح) أي الترجيح من حيث الصدور (قد يكون في السند كأعدلية) وأفقهية ، وأصدقية (الراوي ، وقد يكون في المتن) وهو الفاظ الحديث مثلا (ككونه) أي الخبر (أفصح) أو كون الخبر منقولا باللفظ ، حيث يكون الآخر فصيحا ، أو منقولا بالمعنى ، فإن مرجع الترجيح بالمتن أيضا إلى الترجيح بالصدور.

(وأما أن يكون) الترجيح (من حيث جهة الصدور) وهو أن يكون أحد المتعارضين أقوى من الآخر ، لاحتمال كون الآخر صادرا على نحو ليس المراد منه بيان الحكم الواقعي ، بل أنه صدر على وجه التقية ، فإنه لو احتمل كونه على وجه التقية لا يجوز اعتباره ، اذ فرق واضح بين الأمر بالتقية ، كما إذا أمرنا بغسل الرجل في الوضوء ، فهذا الخبر يجب أن يعمل به من باب أن التقية من ديني

٢٨٦

ودين آبائي (١) وبين الحكم الصادر على وجه التقية بمعنى أن الامام عليه‌السلام هو الذي اتقى فحكم بخلاف الواقع ، فهنا لا يجوز العمل به كما إذا قال الامام عليه‌السلام المنى طاهر ، فلا ينبغي أن يعمل به (فإن صدور الرواية قد يكون لجهة بيان الحكم الواقعي ، وقد يكون لبيان خلافه لتقية أو غيرها) أي غير التقية (من مصالح إظهار خلاف الواقع) كما تقدم في العمومات التي أخرت مخصصاتها لمصلحة من المصالح ، وقد تقدم هذا من المصنف قده (فيكون أحدهما) أي أحد الخبرين (بحسب المرجح) ككون الخبر المخالف للعامة مثلا (أقرب إلى الصدور ، لأجل بيان) الحكم (الواقع) و ـ هذه العبارة من القسم الثالث من المرجحات ـ معناه تقييد هذا الصادر المخالف للعامة بكونه صادرا لبيان الواقع ، والآخر ما صدر لبيان الحكم الواقعي ، فالنفي يرجع إلى القيد الأخير ، فليس معناه أنه لم يصدر لأن الحمل على التقية لا يقتضي ذلك ، بل المراد عدم صدوره بنحو خاص ، يعني لبيان الحكم الواقعي ، وإذا كان المراد من المخالفة أقربية مضمون المخالف إلى الواقع ، فيصير كاشفا عن مطابقة مضمون أحدهما للواقع.

ويؤيد هذا كثير من الأخبار المتقدمة ، كقوله «ع» في تعليل الحكم المذكور ما خالف العامة ففيه الرشاد (٢) وقوله «ع» فإن الرشد في خلافهم فإن هذه القضية قضية غالبية لا دائمة ، كما أشرنا إليه سابقا.

(وأما أن يكون) الترجيح (من حيث المضمون ، بأن يكون مضمون أحدهما أقرب في النظر إلى الواقع) وهو على قسمين ، ما بلغ مرتبة الحجية كالكتاب والأصل ، وما لم يبلغ مرتبة الحجية كالشهرة والاجماع المنقول ، والأولوية الظنية الحاصلة من القياس والاستحسان إلى غير ذلك فإذا فرض أنه

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١١ ص ـ ٤٦٠ (الرواية : ٣).

(٢) راجع مقبولة عمر بن حنظلة.

٢٨٧

ورد في خبر صحيح : أكرم العلماء ، وفي آخر أصح ـ لكون راويه اعدل ـ : لا تكرم العلماء ، وكان الأول موافقا للشهرة ، يقدم الخبر الأول الموافق للشهرة على الخبر الثاني.

والدليل على ذلك : أنه بعد ما كان حجية المرجح المضموني من باب الأقربية إلى الواقع والظن الشخصي ، فالأقربية والظن الشخصي دائر مدار وجوده ، فكلما وجد المرجح المضموني وكان أحد الخبرين موافقا له حصل الظن الشخصي معه ، فيصير كاشفا عن وجود الخلل في الطرف الآخر ، وفي الحقيقة هذا طرح له رأسا ، وكالشهرة الفتوائية لا من حيث الاعتماد على صدور الرواية بل نفس المضمون مشهور مفتي به بحسب الظن القوي يؤخذ بذلك الخبر ، ويمكن أن يجعل هذا أيضا من موارد مرجح الصدور بداهة أن كون مضمون الخبر أقرب في النظر إلى الواقع يوجب أقربية صدوره ، كأفصحية لفظه ، بل هو أولى بذلك كما لا يخفى ، وسيجيء الاشارة إلى ذلك.

(وأما تقسيم الأصوليين المرجحات إلى السندية والمتنية) كما هو المشهور (فهو باعتبار مورد المرجح) يعني محل وجوده (لا باعتبار مورد الرجحان) أعني ما يتصف بصفة الرجحان فلا تنافي ، فإن الفصاحة والبلاغة أو الأفصحية ، مورده متن الرواية بلا شبهة ، ولكن الذي يتصف بالرجحان هو صدور هذه الرواية ، فالمتصف بالرجحان هو صدور الخبر من الامام عليه‌السلام ، أو صدوره لبيان الواقع أو رجحان مضمونه وأنه هو الواقع ، ولكن يختلف المورد من حيث السند والمتن ، فالاثنينية باعتبار مورد المرجح ومحله ، لا الاتصاف بالرجحان.

(ولذا) أي والشاهد على ذلك أنهم (يذكرون في المرجحات المتنية مثل الفصيح والأفصح ، والنقل باللفظ والمعنى ، بل يذكرون) من المرجحات المتنية (المنطوق والمفهوم والخصوص والعموم ، وأشباه ذلك) كالاطلاق والتقييد (١)

__________________

(١) فان الفصاحة والأفصحيّة ، أنما موردهما وظرف وجودهما هو المتن ، مع أن ـ

٢٨٨

(ونحن نذكر إن شاء الله نبذا من القسمين) يعني المرجحات السندية والمتنية (لان استيفاء الجميع تطويل) والايجاز أولى من الأطناب و (لا حاجة إليه) أي إلى استيفاء الجميع (بعد معرفة أن المناط كون احدهما) أي أحد الخبرين (أقرب) إلى الواقع (من حيث الصدور عن الامام عليه‌السلام ، لبيان الحكم الواقعي ، أما الترجيح بالسند فبأمور) لا بد في مقام الترجيح من ملاحظتها لأنه لو لم يعلم صدوره عن المعصوم «ع» ـ ولو علما شرعيا كأصالة عدم التقية مثلا ـ لا يكون وجه لاعتباره ، فإذا ورد عن أحد المعصومين «ع» خبر ان حجتان في نفسهما متكافئان من جهة الدلالة والمرجحات الخارجية كان اللازم الرجوع إلى المرجحات السندية ، والترجيح بها وهي على ما ذكروه أمور.

(منها) : ما يرجع الى صفات الراوي من العدالة والورع والزهد والعلم والضبط والذكاء والعقل والجزم والحفظ ، نظير (كون أحد الراويين عدلا ، والآخر غير عدل مع كونه) أي غير عدل (مقبول الرواية من حيث كونه متحرزا عن الكذب) كتحرز العادل عنه.

وانما قيدنا بكونه متحرزا عن الكذب ، لانه لولاه خرج عن الحجية فلا يكون من قبيل تعارض الحجّتين.

__________________

ـ تتمة الهامش من الصفحة ٢٨٨

الراجح بسببهما أنما هو الصدور ، فانه يقال بملاحظة ثبوت الأفصحيّة في أحد الخبرين : أن صدوره راجح على صدور الخبر الآخر ، لا أن متنه راجح ، وكذا مثل النقل باللفظ والمعنى من المرجحات المضمونية ، كما أن عدهم المفهوم والمنطوق ، والعموم والخصوص من المرجحات المتنية ليس بشيء لأنها من المرجحات الدلالية لما مرت اليه الاشارة غير مرة من ان الكلام مع اشتماله على شيء منها يخرج عن صورة التعارض ، ويدخل في الجمع العرفي ، فان الخاص والمنطوق أقوى دلالة من العموم والمفهوم ، فيكونان منصرفين فيهما وقرينتين عليهما ، فلا يبقى معهما تحير في فهم المراد عرفا حتى يدخل موردهما في الاخبار العلاجية.

٢٨٩

(ومنها : كونه) أي كون أحد الراويين (أعدل) والآخر عدل (وتعرف الاعدلية أما بالنص عليها) كما ورد في الخبر على ما حكي عن مولانا الرضا عليه‌السلام : أن يونس بن عبد الرحمن في زمانه كسلمان في عصره (وأما بذكر فضائل فيه) أي في أحد الراويين (لم يذكر في الآخر) كما ورد في فضائل الاربعة من زرارة بن أعين ، ومحمد بن مسلم الثقفي ، وأبو بصير ليث ابن البختري المرادي ، وبريد بن معاوية العجلي ، أنه لو لا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست (١) ولم يذكر مثل هذه الفضيلة لجميل بن دراج.

(ومنها : كونه) أي كون أحد الراويين (أصدق) من الآخر (مع عدالة كليهما ويدخل في ذلك) أي في الأصدقية (كونه) أي أحد الراويين (أضبط) من الآخر (وفي حكم الترجيح بهذه الامور) المذكورة (أن يكون طريق ثبوت مناط القبول في أحدهما) أي الخبرين (أوضح من الآخر وأقرب الى الواقع من جهة تعدد المزكى) بصيغة الفاعل لاحدهما دون الآخر (أو) من جهة (رجحان أحد المزكيين على الآخر) كمن ثبت عدالته بتزكية الرجل الأعلم ، أو الأخبر دون الآخر ، فرواية هذا العدل أرجح من رواية عدل ثبت عدالته بتزكية غير الأعلم ، أو غير الأخبر ، اذ الأول يحصل من روايته الظن القوي ، بخلاف الآخر ، هذا لو كان مناط حجية الخبر هو عدالة الراوي ، وأن كان هو الوثوق والاطمينان ، لا صفة العدالة من حيث هي ، فيقدم رواية من كان طريق توثيقة أقوى من طريق توثيق آخر فان كان المزكى مثل النجاشي فهو أخبر بترجمة الرجال من حسن بن علي بن داود الحلّى (ويلحق بذلك التباس اسم المزكى) يمكن ان يقرأ بصيغة المفعول.

والمراد أن رواية المزكى الذي لم يشتبه اسمه بغيره من المجروحين أولى

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ١٠٣ والمستدرك : ج ٣ ص ـ ١٨٨ : الرواية : ١٤ و ٩.

٢٩٠

من رواية من اشبه اسمه (بغيره من المجروحين) كما اذا كانت الرواية بطريق ابن سنان ، ومعارضة جميل بن دراج ، فيقدم الثاني على الأول لعدم الاشتراك في جميل بن دراج الثقة كما يحصل الاشتباه في ابن سنان ، بين عبد الله بن سنان الثقة ، وبين محمد بن سنان الضعيف ، ويحتمل ان يقرأ : مزكى ، باسم الفاعل ، فهو أيضا كذلك ، لان المزكى بالكسر الثقة اذا اشترك اسمه مع اسم مزك آخر ضعيف يقدم عليه المزكى الآخر الثقة الذي ليس في اسمه اشتراك (و) مع عدم وجود مميز صحيح يعلم بالمراد من الراوي المشترك اسمه أو (ضعف ما يميز المشترك) قوله (به) متعلق بيميّز أي ما يميّز به المشترك ، بمعنى أنه اذا قيل في حق أحدهما المشتركين في الاسم بان راويه فلان معين ، ولم يرو هذا عن غيره وجدنا هذا القول ضعيفا بمعنى أنه يروى عن هذا وذاك ، فلا يتميز الاشتراك كما أن علي بن حمزة مشترك بين البطائني الضعيف ، والثمالي الثقة ، ولم يكن هناك تمييز بينهما بأن كان الراوي عنه أو المروي عنه واحدا.

(ومنها) ما يتعلق بحال الرواة ككثرة الوسائط ، وقلة الوسائط ، ويقال له (علو الاسناد) أيضا فاذا أخبر شيخ الطائفة قده بخمس وسائط عنه (ع) بوجوب ، وأخبر الكليني قده باربعة وسائط عنه (ع) عدمه فيرجح العالي كخبر الكليني قده ، ومن ذلك عدوا كتاب قرب الاسناد من الكتب المعتبرة لقلة سلسلة رواته عن الامام عليه‌السلام (لانه) أي الشأن (كلما قلت الواسطة) وكانت الرواة أقل (كان احتمال الكذب أقل) لقلة احتمال التشويش والغلط في عبارة المتن (وقد يعارض) هذا الرجحان مرجوحيته (في بعض الموارد بندرة ذلك) لان أغلب الروايات كثير الواسطة ونادرها قليل الواسطة (واستبعاد) علو (الاسناد لتباعد أزمنة الرواة) عن أزمنة الأئمة المعصومين عليهم الصلاة والسلام ، فاذا كان في عصر الإمام العسكري عليه‌السلام رواية وردت عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، والراوي ثلاثة ، ومعارض هذه الرواية أيضا مروي عن الصادق عليه‌السلام

٢٩١

بعشرة ، فالثاني أقرب من الأول ، للزوم أن يكون رجال الرواية الأولى معمرون بمائة مثلا.

وبالجملة : أنه لا حاجة الى تطويل الكلام بذكر ما ذكروه من أسباب قوة الظن المنوط بها الترجيح بعد ما كان المدار عليها بكون تشخيصها موكولا الى نظر المجتهد في خصوص الموارد (فيكون مظنة الارسال والحوالة على نظر المجتهد).

(ومنها) : ما يتعلق بكيفية الرواية ، ككون الخبر مرسلا أو مسندا.

والأول هو : (أن يرسل أحد الراويين) الحديث (فيحذف الواسطة) أو تذكر مبهمة.

(و) الثاني ، هو أن (يستند الآخر روايته) فيذكر الواسطة فيها واحدا كان أو أكثر الى المعصوم (ع) ، كان يقول محمد بن مسلم : سمعت عن زرارة عن الصادق عليه‌السلام ، ففي هذه الصورة يرجح الاخير (فان المحذوف يحتمل ان يكون توثيق المرسل) ـ بالكسر ـ كشيخ الطائفة قده مثلا (له) أي للراوي (معارضا بجرح جارح و) لكن (هذا الاحتمال منفي في الآخر) أي في المسند ، لذكر الواسطة (وهذا) أي ترجيح المسند على المرسل (اذا كان المرسل ممن تقبل مراسيله) كمراسيل محمد بن أبي عمير ، وهو من الامامية كان معروفا بأنه لا يرسل إلّا عن ثقة (وإلا) أي وأن لم يكن المرسل ـ بالكسر ـ ممن تقبل مراسيله (فلا يعارض المسند) لخروجه من الحجية حينئذ بل يطرح (رأسا ، و) يستفاد من (ظاهر) كلام (الشيخ قده في العدّة تكافؤ المرسل) بالفتح (المقبول) كمراسيل محمد بن أبي عمير (والمسند) (١) بمعنى أنه اذا تعارض المسند مع المرسل

__________________

(١) قال المحقق قده : اذا أرسل الراوي الرواية قال الشيخ أن كان ممن عرف أنه لا يروى إلا عن ثقة ، قبلت مطلقا ، وأن لم يكن كذلك قبلت بشرط أن لا يكون لها معارض من المسانيد الصحيحة. ـ

٢٩٢

المقبول لا ترجيح لتقديم الأول على الثاني ، بل تكافئا فيتخير بالأخذ بأحدهما (ولم يعلم وجهه) أي وجه ما قاله شيخ الطائفة قده ، لأن المرسل المقبول معناه أن الراوي يثق بذلك المحذوف ، ولعله اذا ذكر اسمه لم نوثقه فهو ثقة عنده ، ولا يلزم أن يكون المحذوف ثقة عندنا.

(ومنها) : ما يتعلق بعدد الرواة مثل (أن يكون الراوي لإحدى الروايتين متعدد أو راوي) الرواية (الأخرى واحدا أو يكون رواة إحداهما) أي إحدى الروايتين (أكثر) ورواة الأخرى أقل (فان المتعدد يرجح على الواحد ، والأكثر) يرجح (على الاقل ، كما هو واضح).

لأن الظن الحاصل من خبر الجماعة ، أقوى من الظن الحاصل من الواحد ، وهكذا رواية الخمسة أرجح من حيث الصدور عن رواية الثلاثة.

(وحكى عن بعض العامة) ونقل أنه هو الكرخي (١) (عدم الترجيح) أي عدم ترجيح المتعدد على الواحد ، والأكثر على الأقل (قياسا على الشهادة والفتوى).

فكما أنه اذا قام شاهدان بأن هذا المال لزيد ، وقام أربعة أخرى بانه لعمرو ، لا ترجيح لأحدهما على الآخر ، بل يتساقطان ، او إذا أفتى مالك والشافعي وأحمد بن حنبل بحرمة شيء ولكن أفتى أبو حنيفة بحلية ذاك الشيء كما أن الحنفي يجيز الوضوء بالنبيذ ، واللبن المشوب بالماء ، ويخالفه الثلاثة (٢)

__________________

ـ واحتج (الشيخ قده) لذلك بان الطائفة عملت بالمراسيل عند سلامتها عن المعارض ، كما عملت بالمسانيد ، فمن اجاز أحدهما أجاز الآخر ، هذه عبارة المحقق قده بلفظها (المعالم ص ٢١٤).

(١) الكرخ من احياء بغداد يقع اليوم غربي المدينة ، اشتهر بالاحداث التي وقعت فيه بين الشيعة والسنة على أيام البويهيّين القرن ١٠ و ١١ (المنجد ص ـ ٥٨٦ الطبعة الحادية والعشرون).

(٢) كتاب : لما ذا اخترت مذهب الشيعة (ص ـ ٦) الطبعة الثالثة.

٢٩٣

لا ترجيح أيضا لأخذ أحدهما على الآخر ، فكذلك المقام (ولازم هذا القول عدم الترجيح بسائر المرجحات أيضا) كالاعدلية ، والأصدقية ، والأضبطية ، ونحوها من المرجحات التي تقدم ذكرها (وهو ضعيف) لأنه قياس ومخالف للأخبار العلاجية.

(ومنها : أن يكون طريق تحمل أحد الراويين أعلى من طريق تحمل) الراوي (الآخر كان يكون) ـ بالعرض ـ وهو أن يكون (أحدهما) أي احد الراويين (بقراءته على الشيخ ، والآخر) بالسماع ، من لفظ الشيخ (بقراءة الشيخ عليه).

ظاهر العبارة وأن كان يقتضى كون الأول أعلى من الثاني ، لكن الذي يقتضيه النظر أن الثاني أعلى باعتبار القبول ، وأن كان الأول أعلى باعتبار التأدب ، لكن الوجدان حاكم بأنه في قراءة الشيخ على الراوي يكون فكر الراوي فارغا بضبط ما يقرئه الشيخ ، حافظا لمجامع كلامه والفاظه ، بخلاف قراءة الراوي على الشيخ ، اذ فيه قد يكون فكره مشغولا بالقراءة فيسهو ، والشيخ مشغولا بالاستماع أو بخيال شيء على حده فيغفل عن التنبيه لسهو الراوي وتنبيهه عليه ، كما أن الحكم الذي يذكره المولى بلسانه أقوى مما يذكره العبد ويقرره المولى عليه ، لاعتبارات موجبة لذلك عرفا ، هذا أولا.

وأما ثانيا : أنه تأسّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنه (ص) كان يلقي الحديث على الاصحاب ، وأيضا ذكر الإمام عليه‌السلام يكفي في الأخذ بالأصل أو الكتاب أن يقرأ الراوي من أوله ، ووسطه ، وآخره ، فيعلم أن هذا أرجح ، وإلا لقال أو يقرأ عند الراوي هكذا (وهكذا غيرهما) أي غير السماع والعرض (من انحاء التحمل) وطرق التحمل غير الطريقين المذكورين خمسة : الاجازة ، والمناولة ، والكتابة والاعلام ، والوجادة ، وهي على الترتيب المذكور في القوة.

وبيانه : أن الاجازة ، وهي : إعطاء كتاب الحديث لان ينسخ ، وبعد رؤية الشيخ نبذا من مكتوبات الراوي يقول : أجزت لك في روايته عني.

٢٩٤

والمناولة هي : أن يناوله كتابا لنسخ أصله ، ويقول هذا سماعى من شيخي فأروه عني.

والمكاتبة هي : أن يكتب الشيخ مروياته لغائب أو حاضر بخطه ، أو يأذن لثقة يعرف خطه يكتبها له.

والأعلام هو : أن يعلّم الشيخ لطالب الحديث ويخبره بأن هذا الكتاب أو هذا الحديث روايته أو سماعه من فلان ، مقتصرا عليه من غير أن يقول أروه عني ، أو أذنت لك في روايته ونحوه.

والوجادة هي : أن يجد الحديث مكتوبا فيعتمد على ما وجد بدون الاجازة ، والمناولة ، وأمثال ذلك (هذه نبذة) ـ بالضم ـ (من المرجحات السندية التي توجب القوة من حيث الصدور ، وعرفت أن معنى القوة كون أحدهما) أي أحد الخبرين (أقرب الى الواقع من حيث اشتماله على مزية غير موجودة في الآخر ، بحيث لو فرضنا العلم بكذب أحدهما ومخالفته للواقع كان) المظنون صدق الأعدل وكذب العادل ، لأن (احتمال مطابقة ذي المزية للواقع أرجح وأقوى من مطابقة الآخر ، وإلا) اذا فرض كون خبر العادل مظنون المطابقة للواقع (فقد لا يوجب المرجح) كخبر الأعدل (الظن بكذب الخبر المرجوح من جهة احتمال صدق كلا الخبرين) لأحتمال صدور كلا الخبرين ، وارادة الامام (ع) في ذلك ، الخبر المعارض معنى ، لا ينافي مع ما صدر من الأعدل ، مثلا : إذا ورد في رواية أن العقيقة مستحبة وفي رواية أخرى أنها واجبة ، وكان راوي المستحب أعدل ، فهذا لا يدل على عدم صدور رواية الوجوب ، لاحتمال صدورها وارادة الامام (ع) من الوجوب الثبوت في الشريعة لان الوجوب في اللغة والثبوت والسقوط ، أو ارادة تأكد الاستحباب (فإن الخبرين المتعارضين لا يعلم غالبا كذب أحدهما) اذ لو كان كذب أحدهما مقطوعا به لاستلزم حصول المرجح في أحدهما الظن بكذب الآخر ، فافادة المرجح للظن بصدور ذي المرجح يستلزم الظن بعدم صدور معارضه في المفروض بالضرورة.

٢٩٥

(وأنما التجأنا الى طرح أحدهما) أي أحد الخبرين (بناء على تنافي ظاهريهما ، وعدم إمكان الجمع) العرفي (بينهما) أي بين الخبرين (لعدم الشاهد) على الجمع (فيصير ان) هذان الخبران المتعارضان (في حكم) العلم الإجمالي في (ما لو وجب طرح أحدهما) أي أحد الخبرين لا على التعيين (لكونه) أي كون أحدهما (كاذبا) ولا يكون كالعلم الاجمالي واقعا ، لأن في صورة العلم الاجمالي بكذب أحدهما وكان أحدهما أعدل يحصل الظن بمطابقته للواقع ، ويكون الآخر موهونا فليس فيه ملاك الحجية وهو الظن ، فيصير من باب تعارض الحجة واللاحجة ، بخلاف ما نحن فيه فانا لا نظن بعدم صدور رواية العدل ، بل نقول : أنه أيضا يفيد شأنا الظن وهو الملاك في حجية الخبر ، غير أن هذا أي خبر الأعدل أقوى منه فيكون من باب تعارض الحجّتين اللتين أحدهما أقوى من الآخر (فيؤخذ بما هو أقرب الى الصدق من الآخر) لا من باب تعارض الحجة واللاحجة ، كما في صورة العلم الاجمالي.

(والغرض من إطالة الكلام) والبسط (هنا) شيء لا بد من التعرض له ، وهو (أن) مبنى هذه الوجوه هل هو على أفادتها الظن ، أولا؟ والمصرح في عبارات القوم هو الأول ، حيث ينادون بأعلى أصواتهم بذلك ، ويستدلون على وجوب تقديم صاحب المزية بانها تفيد الظن ، بخلاف فاقدها وبذلك صرح أيضا (بعضهم) وهو سيد مشايخة في المفاتيح على ما حكى ، و (تخيل ان المرجحات المذكورة في كلماتهم) أي الأصوليين (للخبر من حيث السّند ، أو المتن بعضها) أي بعض المرجحات (يفيد الظن القوي) في الخبر الراجح (وبعضها يفيد الظن الضعيف) أيضا في الخبر الراجح ، أي بحسب درجات الرجحان ، ففيما كان درجات الرجحان أكثر ، فالظن يصير قويا ، واذا كان درجات الرجحان أقل فتفيد الرواية الظن الضعيف (وبعضها لا يفيد الظن أصلا) كالأفصح والفصيح (فحكم) هذا البعض (بحجية الأولين) أي ما يفيد الظن

٢٩٦

القوي أو الضعيف (واستشكل في الثالث) أي فيما لا يحصل منه الظن من وجوه التراجيح منشأ الاشكال ، هو (من حيث ان الاحوط الاخذ بما فيه المرجح) كالاخذ بالرواية الافصح مثلا ، للدوران بين التعيين والتخيير ، فيتعين الترجيح (و) لكن (من) حيث (إطلاق أدلة التخيير) والخارج منها المرجحات المفيدة للظن ، وما لا يفيد يبقى تحت اطلاق التخيير ، فلا ترجيح (وقوى ذلك) الحكم أعني التخيير بينهما (بناء على أنه) أي الشأن (لا دليل على الترجيح بالأمور التعبدية في مقابل اطلاقات التخيير).

اذ : غاية ما يستفاد من الدليل التعبدي اذا اطلق في مقابل الظن النوعي ، هو : ما يكون من قبيل الاسباب كالبينة ، ونحوها ، كما عن السيد المرتضى قده ، وغيره ، فانه لم يلاحظ في اعتبار البينة كشفها عن الواقع ، بل انما هي من قبيل الاسباب المحدثة للحكم.

وبالجملة : ما فهم من كلام هذا البعض أنه يعتبر الظن الفعلي بالصدور ، وأنه لا يحصل من جميع المذكورات ، ولكن أورد عليه بانه يكفي الظن الشأني ، وهو حاصل من جميعها ، كما قال : (وأنت خبير بأنّ جميع المرجحات المذكورة) من حيث أنها موجبة لا قريبة أحد الخبرين الى الواقع (مفيدة للظن الشأني بالمعنى الذي ذكرنا) لا الفعلي (وهو أنه لو فرض القطع بكذب احد الخبرين كان احتمال كذب المرجوح) كخبر العدل بالنسبة الى الأعدل (أرجح من صدقه).

والوجه في ذلك : أن ظن الصدق بقول من كان راجحا في وصف يفيد ظن الصدق أغلب منه بقول من كان مرجوحا فيه (واذا لم يفرض العلم بكذب أحد الخبرين فليس في المرجحات المذكورة ما يوجب الظن بكذب الآخر) لوجود مناط الحجية فيهما.

ومعنى كون الشيء مرجحا ، هو كونه سببا للقرب الى الواقع ، وهذا المعنى موجود في ذي المزية ، ولا يكون خبر المعارض أي خبر العدل موهونا ،

٢٩٧

وإلّا لسقط عن الحجية ، ولو كان المراد الظن بالواقع فانه مختص بالظن بالواقع ، اذ : لا ظن في القرب الى الواقع ، وإلا كان المرجوح موهونا (ولو فرض) في ما نحن فيه (شيء منها) أي من هذه المرجحات (كان) المرجح (في نفسه) أي مع قطع النظر عن التعارض (موجبا للظن بكذب الخبر) الآخر (كان مسقطا للخبر عن درجة الحجية ، ومخرجا للمسألة عن) باب (التعارض) (١) ويصير من قبيل تعارض الحجة واللاحجة ، والاخبار العلاجية موضوعها تعارض الحجتين (فيعدّ ذلك الشيء) أي المزية (موهنا ، لا مرجحا ، اذ فرق واضح عند التأمل بين ما يوجب في نفسه مرجوحية الخبر) بمعنى أنه مع قطع النظر عن معارضة الخبرين وتنافيهما ، وجود هذا المرجح المفروض يفيد الظن بكذب الخبر الآخر ، وهذا موجب لسقوطه عن الاعتبار ، اذ مناط حجية الخبر كونه موثوق الصدور ، ومع الظن بكذبه يخرج عن الوثوق بصدوره ، وهذا غير الظن بالكذب الحاصل بملاحظة المعارضة ووجود المرجح في أحد المتعارضين ، اذ في هذا الفرض لو

__________________

(١) نظرا الى ما أختاره قده في باب حجية الأخبار ، من : أن الحجة هو الخبر الموثوق الصدور ، ومع الظن بالكذب يخرج عن كونه موثوق الصدور ، فلا يكون حجة حتى يعارض الخبر الآخر إلا أنه يمكن أن يقال : ان المعتبر ليس هو الوثوق الفعلي ، والظن الفعلي بالصدور ، وإلا فلا يتصور التعارض بين الخبرين الظنيين غالبا ، اذ في الغالب لا يكونان مظنوني الصدور فعلا معا ، فاذا كان المعيار الوثوق النوعي فهو حاصل في المقام ايضا ، وان حصل الظن بكذب أحدهما ، لانه ظن حاصل بسبب المعارضة ، وقد أعترف بان المسقط للحجية ما يكون موهنا من غير جهة المعارضة ، فليس كل ظن فعلي بالكذب موهنا ومخرجا للخبر عن الحجية ، اذ من المعلوم : ان الامارة النوعية على صدق أحد المتعارضين أو كذب أحدهما قد يحصل منها الظن الفعلي ، وبمجرد هذا لا يخرج عن الحجية في حد نفسه (رسالة التعادل والتراجيح للسيد صاحب العروبة قده ص ـ ٢٢١) ولقد ذكرنا في توضيح عبارة المصنف ره ما يكون دفعا لهذا الايراد.

٢٩٨

حصل القطع بكذب احد الخبرين كان احتمال كذب المرجوح أرجح من صدقه ، والظن بالكذب في هذه الصورة لا ينافي حجية الخبر المرجوح في حدّ ذاته مع قطع النظر عن معارضة الراجح.

وعليه فما افاده السيد صاحب العروة قده لا يخلو عن التأمل.

فاتضح الفرق بين ما يوجب في نفسه مرجوحية الخبر (وبين ما يوجب مرجوحيته) أي الخبر (بملاحظة التعارض وفرض عدم الاجتماع) والمقام من قبيل الثاني ، اذ مناط الحجية موجود في كليهما لو لا المعارضة (وأما ما) أي المرجحات التي (يرجع الى المتن) أي الى الفاظ الحديث (فهي أمور منها الفصاحة) بان يكون أحد الخبرين فصيحا والآخر غير فصيح ، أو ركيكا (فيقدم الفصيح على غيره لان) الفصيح اشبه بكلامهم عليهم الصلاة والسلام و (الركيك أبعد من كلام المعصوم «ع») فكيف اذا كان معارضا بالفصيح ، مضافا بان التعبير الركيك يدل على قصور المعبر في التعبير ولو بالنسبة الى خصوص ذلك المقام ، فربما يعجز عن تأدية المعنى على وجهه ، فيضعف الوثوق بنقله ، بخلاف الفصيح (إلا أن يكون) غير الفصيح (منقولا) باللفظ والآخر (بالمعنى) فلا يقدم الفصيح عليه من حيث أنه فصيح.

وعلى هذا فمرجع هذا الوجه الى ترجيح ما يحتمل أن يكون نقلا باللفظ ، على ما لم يعلم ، على أنه نقل بالمعنى.

وبعبارة أخرى : يرجع ترجيح الفصيح على الركيك الى ترجيح المنقول باللفظ على المنقول بالمعنى ، فلا يكون مرجحا في عرضه.

(ومنها : الأفصحية) فيقدم الأفصح على الفصيح (ذكره جماعة) معللين بأنهم عليهم الصلاة والسلام أفصح العرب ، فالأفصح أشبه بكلامهم «ع» فيورث الظن بالصدق (خلافا لاخرى) أي لجماعة أخرى (وفيه تأمل) لأنهم «ع» كانوا يتكلمون بالفصيح والأفصح (لعدم كون الفصيح بعيدا عن كلام الامام «ع» ، ولا الافصح أقرب إليه) أي إلى كلام المعصوم «ع» (في مقام) الفتوى و (بيان

٢٩٩

الاحكام الشرعية) كيف والقرآن الكريم ـ مع أنه أفصح الكلام ـ يتفاوت الفصاحة فيه حتى قال الشاعر :

كي بود تبت يدا (١)

مانند يا أرض ابلعى؟ (٢)

فالفصاحة البالغة حد الاعجاز أو ما يستبعد صدورها عن غير مثلهم عليهم الصلاة والسلام ، كعبارات نهج البلاغة ، والصحيفة السجادية وبعض كلماتهم الآخر من الخطب والمواعظ ، فهي خارجة عن محل الكلام ، فلا يكون الأفصحيّة من المرجحات ، لأنه في مقام الفتوى لا الخطبة.

(ومنها : اضطراب المتن كما في بعض روايات عمار) بن موسى الساباطي (٣) وهو ما اختلف رواة الحديث ، أو راويه فيه ، متنا أو سندا فروى مرة على وجه ، وأخرى على وجه آخر مخالف له بأن يرويه الراوي تارة عن أبيه عن جده ، مثلا ، وتارة عن جده بلا واسطة ، وثالثة عن ثالث غيرهما ، أي يروى لفظ الحديث تارة على وجه آخر يخالفه ، فتارة ينقل الراوي مثلا في الميز بين الحيض والقرحة ، بأن الحيض يخرج من جانب الأيمن ، ويقول ايضا في رواية أخرى يخرج الحيض من جانب الأيسر (٤) ولذا اختلف كلمات الفقهاء في هذا

__________________

(١) تبت : ١.

(٢) هود : ٤٤.

(٣) منها ما في الوسائل فراجع الجزء ٢ (الباب ٢٩ و ٣٠ ص ١٠٤٢ و ١٠٤٤ ـ الرواية : ٤ و ٥).

(٤) والرواية هكذا : محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى رفعه عن ابان ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : فتاة منا ، بها قرحة في فرجها ، والدم سائل لا تدري من دم الحيض أو من دم القرحة ، فقال مرها فلتستلق على ظهرها ثم ترفع رجليها ، وتستدخل اصبعها الوسطى ، فان خرج الدم من الجانب الايمن فهو من الحيض ، وأن خرج من الجانب الأيسر فهو من القرحة. ـ

٣٠٠