جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

محمّد رضا الناصري القوچاني

جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

المؤلف:

محمّد رضا الناصري القوچاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

على الخاص فيكون حاكما على العام ، فلا يجري أصالة العموم كما أن حجّية البيّنة موقوفة على عدم نهوض الاقرار على خلافه (فإذا دفعنا المانع عن العموم بالأصل) لعدم الظفر على المقيّد والمخصص ، نحمله على العموم أو الاطلاق (والمفروض وجود المقتضى له) أي للعموم (ثبت بيان التقييد وارتفع المقتضى للاطلاق) بمعنى أن المطلق ليس له دلالة الا على الماهية فقط ، والعموم إنما هو بمقدمات الحكمة ، والعام بنفسه مقتض للعموم لأجل الوضع ، وإن التخصيص مانع من تأثير هذا المقتضى ، فإذا نفيناه بأصالة عدم التخصيص ثبت مقتضى العموم فصار بيانا للتقييد ، فلا يكون للمطلق اقتضاء للعموم (فإن العمل بالتعليقي) أعني الاطلاق (موقوف على طرح التنجيزي لتوقف موضوعه) أي موضوع التعليقي (على عدمه) أي عدم التنجيزي ، لأن ظهور العام في الاستيعاب بذاته وبالوضع فمنجّز ، ولكن عموم المطلق في الاطلاق الشمولي مقيّد بعدم ورود البيان على التقييد ، والعام بيان ، ففي مادة الاجتماع يؤخذ بعموم : لا تكرم الفساق ، ويقيّد : اكرم عالما ، بغير فاسق ، والأصل عدم التخصيص (فلو كان طرح التنجيزي متوقفا على العمل بالتعليقي ومسبّبا عنه) أي عن الاطلاق (لزم الدور) الصريح ، فبعد ورود : اكرم عالما ، فاطلاقه موقوف على عدم البيان ، فنقول : لا تكرم الفساق عام ، وبيان على التقييد فلو كان عموم العام موقوفا على عدم ورود الاطلاق صار دورا ، وحيث أن الدور محال فتقدّم المطلق على العام في مادة الاجتماع محال (بل هو) أي العام (يتوقف على حجّة أخرى راجحة عليه) أي على العام ، كما إذا جاء خاص بسند معتبر كما إذا قيل : الا النحاة مثلا ، فيقدّم على العموم.

(وأما على القول بكونه) أي بكون الاطلاق بعد ورود التقييد عليه (مجازا) كما قاله المشهور خلافا لما ينسب إلى سلطان المحقّقين قده ، فعليه فدلالة الاطلاق يصير كدلالة العموم تنجيزيّا ففي هذا الفرض لا بد من وجود جهة بها

٢٤١

يقدم التقييد على التخصيص.

ولذا أشار المصنف بقوله (فالمعروف في وجه تقديم التقييد) في المثال المذكور أي بحسب التفحص وجدنا (كونه) أي التقييد (أغلب من التخصيص وفيه تأمّل).

وجهه : أن كلامنا في التقييد المنفصل ولم يثبت أنّ التقييد المنفصل أكثر من التخصيص (نعم إذا استفيد العموم الشمولي) نحو : أكرم الهاشمي (من دليل الحكمة) يعني من مقدّمات الحكمة (كانت الافادة غير مستندة إلى الوضع كمذهب السلطان قده ، في العموم البدلي) (١) يعني أن العموم الشمولي الغير

__________________

(١) يقسّم العام الى أنواع ثلاثة.

احدها : العام البدلي ، والمراد به شمول المفهوم للافراد بطريق التناوب والبدلية أي بحسب الطول وانطباقه على واحد مانع من انطباقه على الآخر ، في هذا الاستعمال ، بل انطباقه على الآخر أنما يكون بعد سلبه عن هذا المعنى فيكون البدلية من حيث الصدق ، أي لا يصدق على اثنين مرّة واحدة ، فرجل في قولك : جئني برجل ، للعموم البدلي دفعا للترجيح من غير مرجح ، فيحصل الامتثال باتيان فرد واحد ، ويسقط الامر ، فظهر الفرق بين ما يفيد العموم البدلي ، واسم الجنس فان صدق الثاني ليس على البدلية بل يصدق على القليل والكثير.

ثانيها : العام الشمولي ، والمراد به شمول الحكم لجميع الافراد دفعة وبنحو الاستيعاب ، أي في عرض واحد كما لو ورد : أكرم كلّ عالم مع كون الفرض انشاء وجوب مستقل لكلّ فرد ، فيكون لكلّ فرد من الافراد اطاعة مستقلة ، وعصيان مستقل ، فأيّ فرد من العلماء أكرمه استحق ثوابه وأيّ فرد لم يكرمه استحق عقابه ، ولا ارتباط بينهما.

وبعبارة أخرى : قد يطلق العام على اللفظ المستغرق لجميع افراد مفهومه ولو بقرينة الحكمة ، كما يقال : أنّ ماء في قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ،) للعموم الشمولي ، لوروده في مقام الامتنان. ـ

٢٤٢

المستند إلى الوضع ، يكون مثل العموم البدلي المستفاد من المطلق ، بمعونة عدم البيان.

فعلى هذا لا يجري ما ذكرناه في وجه تقديم العام على المطلق من كون دلالة العام تنجيزيّا ودلالة الاطلاق تعليقيا إلى آخر ما ذكرناه ، فحينئذ لو قلنا بتقديم التقييد على التخصيص فلا بد له من وجه ، ويمكن أن يكون الوجه في ذلك ما ذكروه من غلبة التقييد على التخصيص.

(وممّا ذكرنا يظهر حال التقييد مع ساير المجازات) هذا إشارة إلى ما سبق لا إلى كلام السلطان قدة ، فإذا تعارض التخصيص مع ساير المجازات ، قدّم بمناط الأكثرية ، فإنّ التقييد أكثر من التخصيص ، والتخصيص أكثر من سائر المجازات.

(ومنها) أي ومن المسائل التي عدّ من المرجّحات النوعيّة (تعارض العموم مع غير الاطلاق من الظواهر) مثلا إذا ورد : يجوز اكرام الشعراء ، وورد أيضا لا تكرم الشاعر الفاسق ، دار الأمر بين حفظ الحقيقة في هيئة : لا تكرم ، وحملها على الحرمة ، فيلزم التخصيص لأنّه أخصّ مطلق من الشعراء ، وبين حفظ العموم في : يجوز إكرام الشعراء وحمل النهى على المجاز وهو الكراهة ، وحيث أنّ التخصيص أكثر فنختار حمل : لا تكرم ، على الحرمة ونخصّص : يجوز إكرام الشعراء ، كما قال ره.

(والظاهر المعروف تقديم التخصيص لغلبة شيوعه ، وقد يتأمّل في بعضها)

__________________

ـ تتمة الهامش من الصفحة ٢٤٢

ثالثها : العام المجموعي ، والمراد به شمول حكم واحد على الجميع من باب الكل ، أي الهيئة الاجتماعية المعبّر عنه بالكلي المجموعي أيضا.

وبعبارة أخرى أن الحكم فيه عارض على المجموع من حيث المجموع لا كل فرد فرد له حكم ، مثل العشرة يرفع هذا الحجر فباجتماعهم يحصل امتثال واحد ولو لم يكن واحد منها لا يحصل الغرض.

٢٤٣

أي في بعض المجازات (مثل ظهور الصيغة) أي صيغة الأمر (في الوجوب ، فإنّ استعمالها) أي الصيغة (في الاستحباب شايع أيضا) ففي هذه الصورة لا نقدّم التخصيص على المجاز ، كما إذا ورد : يجوز ترك إكرام الشعراء ، وورد أكرم الشعراء العدول ، ودار الأمر بين حمل الأمر على الوجوب ، فيلزم التخصيص لأن ترك الواجب لا يجوز وإذا حملنا الأمر على الاستحباب وهو مجاز شايع فلا يلزم التخصيص (بل قيل بكونه) أي بكون الأمر في الاستحباب (مجازا مشهورا) بحيث يوجب التوقف (ولم يقل ذلك) أي كونه مجازا مشهورا بحيث يوجب التوقف (في العام المخصّص ، فتأمل).

لعلّه إشارة إلى أن العام المخصّص أيضا مجاز مشهور ، لأنّه قيل : ما من عام إلّا وقد خصّ منه.

(ومنها) أي ومن المسائل التي عدّ من المرجحات النوعيّة (تعارض ظهور بعض ذوات المفهوم من الجمل مع) مفهوم (بعض) الجملة الأخرى التي تكون شرطيّة ، مثلا لو ورد : أكرم بني تميم إلى أن يفسقوا فيصير مفهومه إذا فسقوا لا تكرمهم ، وورد دليل آخر : لا تكرم بني تميم أن كانوا طوّالا ، فيصير مفهومه أن لم يكونوا طوّالا بل قصارا فأكرموهم ، يعني وإن كانوا فساقا (والظاهر تقديم الجملة الغائبة على) الجملة (الشرطية) أن وقع التعارض بينهما لكونها اقوى ففي المثال المذكور يجب اكرام العدول الذين يكونون قصارا ، إذ السيّد المرتضى قده المنكر لمفهوم الشرط قائل بمفهوم الغاية (و) هكذا في صورة تعارض مفهوم الشرط مع مفهوم الوصف يقدّم الجملة (الشرطية على) الجملة (الوصفية) مثلا : لو ورد : اكرم بنى تميم أن لم يفسقوا ، وورد دليل آخر : لا تكرم بنى تميم الطوّال ، فيقع التعارض بينهما في الرجل الفاسق القصير ، فمفهوم الشرط يقول لا تكرمه ومفهوم الوصف يقول أكرمه ، ولكن يقدّم مفهوم الشرط لكونه أقوى.

٢٤٤

(ومنها) أي ومن المسائل التي عدّ من المرجّحات النوعيّة (تعارض ظهور الكلام في استمرار الحكم مع غيره من الظهورات).

ولا يخفى : أنّه كان الأنسب إيراد ذلك عقيب الكلام في تعارض التخصيص والنسخ.

وكيف كان فلا ينبغي الاشكال في تقديم ظهور الكلام في استمرار الحكم على غيره من الظهورات لغلبة ساير الوجوه المخالفة للأصل بالنسبة إلى النسخ ، مثلا لو ورد : يستحب إكرام العلماء ، ثمّ قال بعد مدّة : اكرم العلماء ، فالثاني ظاهر في الوجوب ، كما أنّ الأوّل نصّ في الاستحباب فإن حملنا الأمر على الوجوب فهو ناسخ للاستحباب ، وإذا حملناه على الاستحباب يبقى ظهور : اكرم العلماء ، في الاستمرار وعدم النسخ (فيدور الأمر بين النسخ وارتكاب خلاف ظاهر آخر ، والمعروف ترجيح الكلّ على النسخ لغلبتها بالنسبة إليه) أي إلى النسخ لأنّ الأمر مستعمل في الاستحباب أيضا ، كقوله تعالى : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً)(١) مع ما ذكرنا سابقا من أن النسخ في نفسه ايضا نادر غاية الندرة جدّا.

وقد يحتجّ لذلك بوجهين آخرين لا ينبغي الاعتماد على واحد منهما.

أشار إلى الوجه الأوّل بقوله (وقد يستدلّ على ذلك) أي على ترجيح الكلّ على النسخ بالأصل اللفظي (بقولهم عليهم‌السلام : حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة) (٢).

وتقريب الاستدلال به أنّه من باب المثال ، وليس المراد استدامة خصوص الحلال والحرام المصطلحين إلى يوم القيمة ، بل مطلق الاحكام المجعولة في شريعة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستمرّ إلى يوم القيمة.

__________________

(١) النور : ٣٣.

(٢) الوسائل ج ـ ١٨ ص ١٢٤. (الرواية : ٤٧).

٢٤٥

فهذا الحديث الشريف يعطي قاعدة كلّية وهي : عموم الاستمرار بالنسبة إلى كلّ حكم فيكون هذه القاعدة مرجعا عند الشك في تحقّق النسخ لوضوح أنّه لا بدّ في تخصيصها من الاقتصار على ما علم نسخه شرعا.

فنقول فيما نحن فيه إذا دار الأمر بين نسخ دليل وارتكاب خلاف الظاهر في دليل آخر ، فعموم الحديث الشريف يأبى عن التخصيص بظاهره ، بخلاف ما اذا حملنا : اكرم ، على الاستحباب ، فلا يلزم تخصيص مع أنّ الأمر هنا دائر بين ارتكاب خلاف ظاهرين ، وارتكاب خلاف ظاهر واحد ، لأنّه على تقدير النسخ يلزم تخصيص هذا الحديث الشريف ، وصرف الدليل الظاهر في الاستمرار عن ظهوره ، بخلاف ما لو بنى على عدم النسخ ، فإنّه يلزم منه خلاف الظاهر في الدّليل الآخر فقط.

ولا ريب أن الثاني أولى وأرجح ، لوجوب المحافظة على الظواهر بحسب الامكان ، ولا يخفى الفرق بين هذا الوجه ، وبين ما ذكر من أن الذي تقدّم دليل اعتباري عقلي ، وهو قلة النسخ وهذا دليل لفظي لأن بالنسخ يلزم تخصيص حلال محمّد «ص» الخ.

(وفيه) من عدم افادة الحديث الشريف لذلك المعنى و (ان الظاهر سوقه لبيان استمرار احكام محمّد «ص» نوعا من قبل الله جلّ ذكره إلى يوم القيمة في مقابل نسخها) أي الاحكام (بدين آخر) يعني أنّ دين نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينسخ من قبل الله تعالى بدين آخر إلى يوم القيمة أي لا ينسخ حكمه بنبي آخر وبشريعة اخرى كما نسخ دين ساير الأنبياء عليهم‌السلام (لا بيان استمرار احكامه الشخصيّة إلا ما خرج بالدليل فالمراد أنّ حلاله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلال) وممضي في الواقع (من قبل الله جلّ ذكره إلى يوم القيمة لا) بمعنى (أن الحلال من قبله «ص» حلال من قبله إلى يوم القيمة ، ليكون المراد استمرار حليته) فلا ينافي عدم استمرار بعض أحكامه صلى‌الله‌عليه‌وآله

٢٤٦

وسلّم ، وانقطاع امده بحكم آخر في شريعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(وأضعف من ذلك) هو الاحتجاج بالوجه الثاني وهو عبارة عن (التمسك باستصحاب عدم النسخ في المقام) فانّا لو شككنا في بقاء الحكم الأوّل على موضوعه وارتفاعه لأجل الشك في النسخ وعدمه ، فلا شك في جريان استصحاب بقاء حكم الأوّل على موضوعه ، وعدم نسخه عنه.

وفيه ما لا يخفى (لأنّ الكلام في قوّة احد الظاهرين ، وضعف الآخر) أي في ترجيح أحد الظهورين على الآخر (فلا وجه لملاحظة الأصول العمليّة في هذا المقام) لأنّ الاستصحاب من الأصول العمليّة ، والنسخ من الأدلّة الاجتهادية.

ومن المعلوم المحقق في محلّه : سقوط الأصول العمليّة في مرتبة الأدلة الاجتهادية مطلقا ، مخالفة كانت أو موافقة ، فليست مرجّحة بل هي مرجع عند عدم الدليل ، فلا تصلح لترجيح أحد الظهورين لاختلاف مرتبتهما.

ولو قلنا بحجية الاستصحاب من باب الظن لا يكون مرجّحا أيضا بل مرجعا ، لأنه تعليقي ليس في مرتبة الظهور اللفظي ، فكيف يصير مرجّحا له هذا.

مضافا إلى عدم جريان الاستصحاب في نفسه أيضا في صورة تأخّر الخاص عن العام كما قال (مع أنّا إذا فرضنا عاما متقدما وخاصا متأخّرا ، فالشك في تكليف المتقدمين) أعني أهل عصر التكليف (بالعام وعدم تكليفهم) به بمعنى أنه لا نعلم حكم السابق وهو شمول الحكم لجميع الأفراد إذا كان الخاص المتأخّر مخصّصا ، أو الحكم السابق عبارة عن ما عدا الخاص ، فكيف نستصحب حكم العام مع عدم العلم بالحالة السابقة واليقين بالحكم السابق شرط في جريان الاستصحاب.

(فاستصحاب الحكم السابق لا معنى له) : وهذا تفريع على عدم العلم

٢٤٧

بالحالة السابقة وهو الحكم العام ، وحيث انّ الاستصحاب ليس بجار ، فطبعا لا يكون مرجّحا أيضا (فيبقى ظهور الكلام في عدم النسخ معارضا بظهوره) أي الكلام (في العموم) أي تردّد الخاص بين أن يكون ناسخا أو مخصّصا ، بناء على امكان الدوران بين النسخ والتخصيص حينئذ كما هو الظاهر ، وقد تقدّم الكلام فيه بتقديم التخصيص على النسخ.

(نعم لا يجري) هذا الايراد الذي أوردنا من عدم احراز الحالة السابقة (في مثل العام المتأخر عن الخاص) أي إذا كان الخاص مقدما والعام متأخّرا لأنّ حكم الخاص بالتفصيل نعلم أنه وظيفة المتقدمين سواء نسخه العام المتأخر أو لم ينسخ مثلا إذا كان الحكم عند المتقدمين لا تكرم النحاة ، فهذا الحكم الخاص وهو : حرمة اكرام النحاة ، حكم قطعي للمتقدمين سواء نسخه العام المتأخر أو لم ينسخ؟ فالاشكال من جهة عدم العلم بالحالة السابقة ، لا يجري.

(ثمّ أنّ هذا) النحو من (التعارض) : وهو تعارض الظهور في الاستمرار مع الظهور في العموم بالنسبة إلى كلام واحد الّذي مورده العام مع الخاص المتأخّر لا يتحقق في جميع صور ذلك المورد ، بل (انّما هو مع عدم ظهور الخاص في ثبوت حكمه في الشريعة ابتداء ، والّا) أي وان كان للخاص ظهور في وجوده من أوّل الشريعة في زمان صدور العام فيقوى ظهور التخصيص و (تعيّن التخصيص) بسببين أكثريته وعدم امكان النسخ في الخاص المقارن مع العام (١).

(ومنها) أي ومن المسائل التي عدّ من المرجّحات النوعيّة (ظهور اللفظ في المعنى الحقيقي مع ظهوره مع القرينة في المعنى المجازي وعبّروا عنه

__________________

(١) في بعض النسخ قوله قده (نعم لا يجري في مثل العام المتأخر عن الخاص) مكتوب هاهنا.

٢٤٨

بتقديم الحقيقة على المجاز ورجّحوها) أي الحقيقة (عليه) لأنّ بناء ابناء المحاورة الأخذ بظهور اللفظ الكاشف عن معناه الحقيقي ما دام لم يثبت بقرينة متّصلة أو منفصلة ارادة خلاف الظاهر منه فيحمل اللفظ على معناه الحقيقي حتّى يثبت خلافه.

ومثّل له في شرح الزبدة على ما حكى عنه بما لو ورد من وطء أمة أبيه فليس بزان ، معارض لقوله : من دخل ذكره في أمة أبيه فهو زان ، فإن الوطى مجاز في الايلاج وحقيقة في ضرب القدم ، فيكون المراد من ورود : من وطء أمة أبيه فليس بزان ، أي الوطى بمعنى ضرب القدم عليها ، ولا يخفى عليك ما في المثال (فان ارادوا) من ذلك من جهة تساوي الظهورين ، يعني (أنّه إذا دار الأمر بين طرح الوضع اللفظي بإرادة المعنى المجازي) وعدم ارادة المعنى الحقيقي (وبين طرح مقتضى القرينة في الظهور المجازي بارادة المعنى الحقيقي) يقدّم الظهور الوضعي على الظهور القريني.

قوله : (فلا أعرف له وجها) جواب لقوله فإن ارادوا (لأنّ ظهور اللفظ في المعنى المجازي إن كان مستندا إلى قرينة لفظية) متّصلة كانت نظير رأيت أسدا يرمى ، أم منفصلة كما إذا قيل : رأيت أسدا وبعد فاصلة ما قيل وهو منقوش في جدار الحمام (فظهوره مستند إلى الوضع) ولا وجه لتقديم معنى الحقيقي ، فقولنا منقوش في الحمام الفاظ حقيقية استعملت في معانيها الحقيقيّة فببركة الوضع فهمنا المعنى المجازي ، فلا معنى لحمل الأسد على المعنى الحقيقي ، لأنّه موضوع له فانّ هذه الألفاظ أي الفاظ القرينة أيضا تدلّ على معانيها بالوضع (وان استند) ظهور اللفظ في المعنى المجازي (إلى حال) أي قرينة حاليّة كما ورد : في الرواية أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقرأ في الصلاة واحد المأمومين أيضا ، كان يقرأ جهرا ، فبعد الصلاة قال له رسول الله «ص» أنّى وجدت ثقل القراءة على لساني ووردت الآية الكريمة ، (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا

٢٤٩

لَهُ وَأَنْصِتُوا)(١) والانصاب كما في مجمع البيان (٢) السكوت مع استماع ، فالقرينة الحاليّة تدل على اختصاص وجوب الانصات والاستماع بالنسبة إلى قراءة الامام في الصلاة كما في صحيحة زرارة الآتية لا مطلق القراءة كما هو دأب بعض العامة (٣) (أو) استند ظهور اللفظ في المعنى المجازي إلى (قرينة منفصلة قطعيّة) كما لو دلّ اجماع أو عقل بأنّ المراد هو المعنى المجازي (فلا تقصر عن الوضع) في الافهام.

فكما أنّ الوضع سبب لفهم المعنى الحقيقي كذلك القرينة الحاليّة أو الاجماع مفهمة للمعنى المجازي (وان كان) مستند ظهور اللفظ في المعنى المجازي (ظنّا معتبرا) كالشهرة والاجماع المنقول ، بناء على اعتبارهما (فينبغي تقديمه) أي تقديم هذا الظن المعتبر على ظهور الحقيقة ، أعني (على الظهور اللفظي المعارض كما يقدّم) الظهور الناشئ من القرينة الظنية المعتبرة المتّصلة (على ظهور اللفظ المقرون به) أي بهذا الظن المعتبر.

وخلاصة القول : أن القرينة غير اللفظية تارة تكون منفصلة قطعيّة فلا تقصر عن الوضع ، واخرى تكون ظنية معتبرة فهي على قسمين منفصلة ومتّصلة.

أمّا المنفصلة فينبغي تقديمه على الظهور اللفظي المعارض.

وأما المتّصلة يقدم على ظهور اللفظ المقرون به لأنّه بدونه ظاهر في المعنى الحقيقي كما لو قيل : رأيت أسدا ، ومعه صار ظاهرا في المعنى المجازي (إلا أن يفرض ظهوره) أي كون الظن المعتبر منفصلا أو متّصلا

__________________

(١) الاعراف : ٢٠٤.

(٢) ج ـ ٤ ص ـ ٥١٥ الطبعة الثالثة).

(٣) قال الجبائي : انها نزلت في ابتداء التبليغ ليعلموا ويتفهموا ، وقال احمد بن حنبل : اجتمعت الامة على أنّها نزلت في الصلاة (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي لترحموا بذلك وباعتباركم به ، واتعاظكم بمواعظه (بحار الانوار ج ـ ٨٥ ص ٢٣).

٢٥٠

(ضعيفا) بحيث يكون ظهور المعارض له أقوى منه (يقوى) أي يرجّح (عليه) أي على المعنى المجازي (بخلاف ظهور الدليل المعارض) وهو المعنى الحقيقي (فيدور الأمر بين ظاهرين أحدهما أقوى من الآخر) ويرجّح بالأظهريّة (وإن أرادوا به) أي بتقديم الحقيقة على المجاز ، وترجيحها عليه (معنى آخر فلا بدّ من التأمّل فيه) بمعنى أنّ فرضهم في تعارض الظاهرين من جهة الوضع والمجازيّة في غير هذه الصورة المذكورة لا يعلم مرادهم حتّى ترى صحّة ما قالوا أم فساده (هذا بعض الكلام في تعارض النوعين المختلفين من الظهور) أي مختلفين من جهة الحكم.

(وأما) المرجّحات الصنفيّة فإذا تعارض (الصنفان المختلفان) يرجح أحد الصنفين على الصنف الآخر ولو كان الصنفان (من نوع واحد فالمجاز الراجح الشائع) لكثرة استعماله الذي لم تبلغ اشتهاره إلى حدّ الحقيقة (مقدّم على غيره) أي على ظهور اللفظ في المجاز المرجوح فإنّه إذا علم أن المعنى الحقيقي من لفظ أسدا عني الحيوان المفترس ليس مرادا منه ، بل المراد منه معناه المجازي لكن شك في أنّ المراد منه هو الرجل الشجاع ، أو الرجل الابخر ، فأقرب المجازات وهو الرجل الشجاع متعيّن كما قال (ولهذا يحمل : الأسد في أسد يرمي على الرجل الشجاع ، دون الرجل الابخر) أي الذي يخرج من حلقه بخار ورايحة متعفّنة كالأسد (و) هكذا (يحمل الأمر المصروف عن الوجوب) أي عن معناه الحقيقي (على الاستحباب دون الاباحة) يعني ظاهر الأمر الوجوب ، ولكن علمنا من دليل خارجي كالاجماع ليس المراد الوجوب كما في قوله تعالى : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ،) فدار الأمر بين أن نحمله على الاستحباب ، أو على الرخصة ، ولا اشكال أن الاستحباب مجاز راجح لشهرته.

(وأما تقديم بعض افراد التخصيص على بعض) آخر (فقد يكون بقوة عموم احد العامين على الآخر ، أما لنفسه كتقديم الجمع المحلي باللام على

٢٥١

المفرد المعرف) فإذا ورد : لا تكرم الفساق ، وورد : أكرم العالم ، فمادة الاجتماع يدخل تحت عموم العام بارتكاب التخصيص في الثاني دون الأول ، لأن العام بالذات يدل على العموم ، ويعبر عنه بالفارسية به : همه ، في العام المجموعي وبه : هر ، في العام الافرادي ، لكن المفرد المعرف لا يدل بالذات عليه بل بمقدمات الحكمة ومنها احراز كون المولى في مقام البيان ، وحيث لم يقيد ، فالعالم يشمل العادل والفاسق كليهما ، ولكن بعد قيام الجمع المحلي باللام على العموم فهو بيان للقيد ، ولذا يرجح الصنف الأول على الثاني (ونحو ذلك) كتقديم العام المشتمل على لفظ كلّ ، ومتى ، ونحوهما ، من الفاظ العموم على المفرد المحلّى باللام (وأمّا بملاحظة المقام فانّ العام المسوق لبيان الضابط أقوى من غيره) من باب المثال ، إذا دار الأمر بين : إذا شككت في شيء من الصلاة فأت به ، وبين كلّما شككت في شيء بعد ما دخلت في غيره فشكك ليس بشيء ، فالثاني أقوى لكونه في مقام الضابطة يشمل جميع الافعال (ونحو ذلك ، وقد يكون) أحد العامين (أقرب أحد المخصصين وبعد الآخر كما يقال : أنّ الأقل افرادا مقدّم على غيره) أي على الأكثر افرادا يعني أنّ التخصيص يتعيّن في أكثر افرادا ، وهذا معنى أنّ الأقل افرادا مقدّم ، أي نحفظه ونخصّص الأكثر ، فإذا ورد : يجوز أكل كلّ رمان ، وورد : لا تأكل الحامض ، فأنّا لو خصّصنا الرمان بالحلو ، وقدمنا على جواز الأكل عموم لا تأكل الحامض ، فحينئذ يرد التخصيص على جواز الأكل ، ويصير المعنى يجوز أكل كلّ رمان الّا الحامض.

فلو فرض أنّ مصاديق الرمان غير الحامض كان في غاية القلّة يصير من باب حمل العام على اقل الأفراد.

وأمّا لو قدمنا عموم جواز أكل كلّ رمان على حرمة أكل الحامض فيرد التخصيص على : لا تأكل الحامض ، ويصير المعنى حرمة أكل كلّ حامض إلّا الرمان ، وبعد اخراج الرمان الحامض من مطلق الحامض الافراد الباقية كثيرة جدّا ، وهذه الجهة هي السبب لتقديم التخصيص على عام يكون أكثر افرادا بعد

٢٥٢

التخصيص من عام آخر ، فأيّ من العامين بعد التخصيص كان افراده اقل يعمل به ويخصّص الآخر (فإنّ العرف يقدّم) نفس (عموم يجوز أكل كلّ رمان على) نفس (عموم النهى عن أكل كلّ حامض لأنّه) أي افراد الرمان (أقلّ فردا) من افراد الحامض (فيكون أشبه بالنص) لأنّا لو أخذنا بعموم : لا تأكل الحامض ، فلا بدّ لنا أن نخصّص جواز أكل الرمان بالحلو ، وهو قليل ، فيصير عموم : يجوز أكل الرمان ، كالنّص ومن المعلوم أنّ النص مقدّم على الظاهر (وكما إذا كان التخصيص في أحدهما) أي أحد المتعارضين (تخصيصا لكثير من الافراد ، بخلاف الآخر) مثل ما لو قال : أكرم العلماء ، وكان عدد العلماء الفا مثلا ، ثمّ قال : لا تكرم الفساق ، وكان عدد الفساق مائة ، تسعين منها عالما ، والعشرة الباقية جهالا ، فالثاني أظهر دلالة من : أكرم العلماء ، فنخصّصه بالثاني ، ولا يلزم تخصيص الأكثر.

ولو خصّصنا عموم الثاني بالأوّل وأبقينا عموم الأوّل بحاله ، لزم تخصيص الأكثر أي تخصيص تسعين من : لا تكرم الفساق فيبقى العشرة الجهلاء وهو لا يجوز لما تقرّر في محله.

والفرق بين هذا وسابقه ، أنّ حمل الرمان في المثال على الحلو غير مستهجن ، بخلافه هنا فالثاني من باب الاستهجان.

(بقي في المقام شيء ، وهو : أنّ ما ذكرنا من حكم المتعارضين من ان النص يحكّم) أي يصير مقدّما (على الظاهر ، والأظهر) يقدّم (على الظاهر لا أشكال في تحصيله) أي في تحصيل النص والظاهر ، أو الظاهر والأظهر (في) الدليلين (المتعارضين ، وأما اذا كان التعارض بين أزيد من دليلين) كالثلاثة ، أو الأربعة (فقد يصعب تحصيل ذلك) للمجتهد.

والمراد من التعارض الثلاثي أعم من أن يكون بين كلّ واحد مع غيره ، أو يكون بين اثنين مع واحد منها ، وأن لم يكن بينهما تعارض أصلا كما اذا كان

٢٥٣

هناك عام وخاصّان لا تعارض بينهما ، أو كان هناك عام وخاصان متعارضان ، وسيأتي أمثلة ذلك كلّه إن شاء الله تعالى.

والغرض من التعرض للمتعارضات بعد التعرض للمتعارضين ليس لأجل مخالفة حكمها مع حكمهما بل الحكم في الجميع واحد ، وهو تقديم النص والأظهر على الظاهر ، والرجوع فيما لو لم يوجد أحدهما أو كان كلاهما نصين الى الاخبار العلاجية ، بل أنّما هو لأجل أنّه قد يصعب فيها تشخيص موضوعي النصّ والأظهر ، في المتعارضات (اذ قد يختلف حال التّعارض بين اثنين منها) أي من المتعارضات (بملاحظة أحدهما مع الثالث مثلا قد يكون النسبة بين الاثنين العموم والخصوص من وجه ، وينقلب بعد تلك الملاحظة الى العموم المطلق) مثل قوله : يجب إكرام العلماء ويستحب إكرام العدول ، ويحرم إكرام العالم الفاسق (أو بالعكس) مثال العام المطلق والخاص المطلق وانقلابهما من وجه ، يجب إكرام العلماء ، ويحرم إكرام النحاة ، ويستحب إكرام العالم الفاسق (أو الى التباين) مثال العامين من وجه انقلبا بعد التخصيص لكل منهما بالمتباينين ، مثل قوله : يجب إكرام العلماء ، و : يستحب إكرام الهاشميين ، و : يحرم إكرام العالم العامي أي غير الهاشمي و؛ يحرم إكرام الجاهل الهاشمي.

وهنا لا يحصل المثال الا بالأربعة ، مثال المتباينين انقلبا بعام وخاص مطلق ، مثل قوله : يجب إكرام النحاة و : يحرم إكرام النحاة و : يستحب إكرام النحاة الفساق.

(وقد وقع التوهم في بعض المقامات) والمتوهم هو الفاضل النراقي قده.

وملخّص ما ذكره المصنّف قده هنا الى آخر المسألة هو إرجاع جميع اقسام التعارض بين أزيد من دليلين الى قسمين.

أحدهما : ما كان تعارض الادلة بنسبة واحدة ، أمّا بالعموم والخصوص من

٢٥٤

وجه بان كان الجميع بهذه النسبة ، وأمّا بالعموم والخصوص المطلق بان كان أحدها عاما والآخر ان خاصين بالنسبة اليه.

والثاني ما كانت النسبة فيه بين المتعارضات مختلفة ، وحكمه أنّه مع رجحان أحدها يقدّم الراجح ثمّ تلاحظ النسبة بينه وبين الباقي على ما أوضحه في آخر كلامه ، ألّا أنّه لم يتعرّض لصورة عدم رجحان شيء منها.

(فنقول توضيحا لذلك أنّ النسبة بين المتعارضات المذكورة ان كانت نسبة واحدة ، فحكمها حكم المتعارضين فان كانت النسبة العموم من وجه وجب الرجوع الى المرجحات ، مثل قوله : يجب اكرام العلماء ، و : يحرم إكرام الفساق ، و : يستحب إكرام الشعراء ، فيتعارض الكلّ في مادّة الاجتماع) وهو : العالم الفاسق الشاعر ، فان كان الترجيح الدلالي لأحد الاطراف موجودا فنرجّحه ، وألّا فيحكم بالتوقف والرجوع الى الأصل ، وقد مرّ الكلام فيه.

وأمّا في مورد الافتراق أعني العالم اللافاسق وغير الشاعر ، والفاسق اللاعالم وغير الشاعر ، والشاعر اللاعالم وغير الفاسق ، نعمل بالكلّ (وأن كانت النسبة عموما مطلقا) بان ورد : عام وخاصان ، وكان الخاصان مختلفي الحكم (١) (فان لم يلزم) من العمل بالخاصين (محذور من تخصيص العام بهما) أي بالخاصين (خصّص) العام (بهما) اذ يبقى مورد للعام بعد تخصيصه بهما معا ، نحو قوله : يباح إكرام النحويين ، و : يستحب إكرام النحوي الهاشمي ، و : يجب إكرام النحوي الهاشمي العادل ، و (مثل المثال الآتي وأن لزم محذور) من تخصيص العام بهما (مثل قوله : يجب إكرام العلماء و : يحرم إكرام فساق العلماء ، وورد :

__________________

(١) لأنّ باب العام والخاص ، ليس كالمطلق والمقيّد ، فلو كان العام والخاص متوافقي الحكم فلا معنى للتخصيص ، مثلا : اذا ورد أكرم العلماء ، وورد أكرم العلماء العدول ، فلا اختلاف في الحكم حتى يخصّص ، بخلاف باب المطلق والمقيّد فلو قال اعتق رقبة واعتق رقبة مؤمنة يجب التقييد ولو كان الحكمان متوافقان.

٢٥٥

يكره إكرام عدول العلماء ، فأنّ اللازم من تخصيص العالم بهما بقائه) أي العام (بلا مورد) لأنّه لا يبقى تحت أكرم العلماء أحد بعد خروج عدولهم وفساقهم ، وباحدهما موجب للترجيح بلا مرجح (فحكم ذلك كالمتباينين) يعني كما أنّه اذا كان التعارض بين المتعارضين من باب التباين ، مثل ما لو قال : أكرم العلماء : ثمّ قال لا تكرم العلماء ، فحينئذ أن وجد في أحدهما أحد المرجحات وجب الترجيح ، وألّا فيجري احكام التعادل من التوقف أو التساقط أو التخيير على المذاهب ، كذلك المقام أي الخاصان مع العام كالمتباين مع المتباين الآخر (لأنّ مجموع الخاصين مباين للعام وقد توهّم بعض من عاصرناه) وهو الفاضل المحقق الحاج ملا احمد النراقي قده في محكى عوائده (فلاحظ العام بعد تخصيصه ببعض الافراد باجماع ، ونحوه) من الدليل اللبي كالعقل ، يعني أنّ العام يخصّص بهذا الدليل اللبي وبعد ذلك تلاحظ النسبة بين الباقي تحت العام (مع الخاص المطلق الآخر) فقد تنقلب النسبة الى العموم من وجه ، بعد ما كانت قبل تخصيص العام بالدليل اللبي العموم المطلق (فاذا ورد : أكرم العلماء ، ودلّ من الخارج دليل) كالاجماع (على عدم وجوب إكرام فساق العلماء ، وورد أيضا) خاص آخر نحو : (لا تكرم النحويين كانت النسبة على هذا) التوهم (بينه) أي بين الخاص الآخر (وبين العام بعد اخراج) ما دلّ عليه الدليل اللبي وهو (الفساق عموما من وجه) اذ بعد خروج الفساق ، يصير أكرم عدول العلماء فيكون بينه وبين لا تكرم النحويين عموم من وجه ، وقد يعكس بان انقلبت النسبة من العموم والخصوص من وجه ، الى العموم والخصوص المطلق.

وهذا القسم لم يذكره الفاضل النراقي قده ، ولكنّه لازم كلامه مثل قوله : أكرم العلماء ، ولا تكرم الفساق ، فاذا دلّ من الخارج دليل على استحباب إكرام عدول العلماء ، فيكون المراد بقوله : أكرم العلماء هو الفساق منهم ، ولا شك أنّ العلماء الفساق أخصّ من مطلق الفساق ، فيخصّص قوله لا تكرم الفساق به ،

٢٥٦

فيكون العالم الفاسق واجب الاكرام ، فقد انقلبت النسبة هذا.

(و) لكن حكم هذا القسم غير مذكور في كلامه ، و (لا اظن) أن (يلتزم) هذا المتوهم قده (بذلك) أي بانقلاب النسبة (فيما اذا كان الخاصان دليلين لفظيين) منفصلين ، كما اذا ورد : أكرم العلماء ، وورد منفصلا : لا تكرم الكوفيين منهم ، وورد ثالث : لا تكرم البصريين منهم فلا اشكال في تخصيص العام بهما دفعة واحدة من غير لحاظ تقدم أحدهما حتّى تنقلب النسبة (اذ لا وجه لسبق ملاحظة العام مع أحدهما على ملاحظته مع الآخر) وكذلك الحكم أعنى عدم ملاحظة الترتيب وتخصيص العام بهما معا اذا كان كلّ واحد من المخصصين متصلا كما لو قال : أكرم العلماء الا زيدا العالم الا عمرا العالم.

نعم : اذا كان احدهما متّصلا والآخر منفصلا ، مثلا : لو ورد : أكرم الناس الا النحاة ، أو بشرط أن لا يكونوا نحاة ، ثمّ ورد في خبر : لا تكرم العلماء فأنّه لا بدّ حينئذ من التخصيص بالمتّصل أوّلا ثمّ ملاحظة النّسبة بين المعنى الحاصل بعد التخصيص مع الآخر فتكون النّسبة حينئذ من قبيل العموم من وجه ، كما قال : (وأنما يتوهم ذلك) أي تقديم أحد الخاصين على الآخر (في العام المخصص بالاجماع أو العقل (١) لزعم أنّ المخصص المذكور) أي المخصص المنفصل وهو ما دلّ عليه الدليل اللبي (يكون كالمتصل) أي كالمخصص المتّصل ، يعني يكون نظير ما اذا كان أحدهما متصلا والآخر منفصلا ، فكما أنّ المخصص المتّصل جزء لعنوان العام

__________________

(١) بتوهم أنّ الاجماع كاشف عن حكم المعصوم (ع) حين خطابه باكرم العلماء بخصوص العدول ، والعقل من باب الملازمة اذا قلنا يحكم بعدم احترام للفاسق فبالملازمة نستكشف حكم الشرع حين ما قال اكرم العلماء ارادة العدول ، ولكن فيه أنّ هذا لا يلازم مع الاتصال فيمكن أن يكون الاجماع كاشفا عن حكم المعصوم بالخاص بعد مدّة من مضي العام ، وهكذا نقول : في الملازمة فيمكن أن يكون المخصّص منفصلا ، هذا ملخّص ما افاده بعض المحشين قده.

٢٥٧

ومقدّم على الآخر بحسب العرف ، كذلك المقام (فكانّ العام استعمل فيما عدا ذلك الفرد المخرج) أعني ما دلّ عليه الدليل اللبي ، وهو فساق العلماء.

(و) حينئذ(التعارض انما يلاحظ بين ما استعمل فيه لفظ كلّ من الدليلين) أي بين أكرم العلماء الا فساقهم ، وبين لا تكرم النحويين ، و (لا) يلاحظ التعارض (بين ما وضع اللفظ له) أعني : أكرم العلماء ، وبين لا تكرم النحويين ، حتى يكون بينهما عموم مطلق ، كما أنّ المستعمل فيه للفظ الاسد هو الرجل الشجاع ، وأن وضع للحيوان المفترس ، ولذا قال : (وأن علم عدم استعماله) أي العام (فيه) أي فيما وضع له (فكان المراد بالعلماء في المثال المذكور) اعني أكرم العلماء (عدولهم ؛ و) حينئذ يكون (النّسبة بينه) أي بين العام الّذي خصّص بالدليل اللبي (وبين النحويين) بقوله : لا تكرم النحويين (عموم من وجه).

(ويندفع) هذا التوهم (بان التنافي في المتعارضين أنّما يكون بين ظاهري الدليلين) فالتعارض فرع ظهورهما في معناه (و) طريق معرفة (ظهور الظاهر ، أمّا أن يستند الى وضعه ، وأمّا أن يستند الى قرينة المراد) كظهور : الاسد ، في رأيت اسدا في الحمام في الرجل الشجاع ، بقيام الحمام مقام قرينتين صارفة ومعينة ، بخلاف رأيت أسدا يرمى قد ذكرنا سابقا بانه يحتاج الى قرينة اخرى معينة.

(وكيف كان) ظهور الظاهر لازم (فلا بد من احرازه) أي الظهور (حين التعارض ، وقبل علاجه) أي التعارض فاذا ورد : لا تكرم النحويين ، مثلا بعد قوله : أكرم العلماء ، فلا بدّ من ظهور : لا تكرم على الحرمة ، حتّى يخرج عن عموم العام (اذ العلاج راجع الى دفع المانع) أعني الخاص (لا الى احراز المقتضى) أعني العموم (والعام المذكور) أي أكرم العلماء (بعد ملاحظة تخصيصه) أي تخصيص هذا العام (بذلك الدليل العقلي) وهو فساقهم (ان لوحظ) العام (بالنسبة إلى وضعه للعموم) بإرادة جميع الأفراد منه ، لا بالنسبة إلى المراد الاستعمالي كما قال قده (مع قطع النظر عن تخصيصه) أي العام (بذلك

٢٥٨

الدليل) اللّبي (فالدّليل المذكور) أي المخصّص غير اللفظي (والمخصّص اللفظي سواء في المانعية عن ظهوره) أي العام (في العموم) فلا وجه لتقديم احد التخصيصين على الآخر ، بل كلاهما يخرجان من العام دفعة واحدة ، لا بالترتيب (فيرفع اليد عن الموضوع له) أعني إكرام جميع العلماء (بهما) أي بالفساق والنحوي فالمراد من أكرم العلماء ما عدا الفساق والنحاة (وان لوحظ) العام (بالنسبة إلى المراد منه بعد التخصيص بذلك الدليل) العقلي (فلا ظهور له) أي للعام في الباقي أعني (في ارادة العموم) أي العموم الاضافي ، وهو تمام الباقي (باستثناء ما خرج بذلك الدليل) العقلي (الا بعد اثبات كونه) أي كون تمام الباقي (تمام المراد) أعني كون الباقي بتمامه المراد ، (وهو) أي كون الباقي بتمامه هو المراد من العام بعد التخصيص (غير معلوم إلا بعد نفي احتمال مخصص آخر ، ولو بأصالة عدمه وإلّا) أي وإن لم ينف احتمال مخصص آخر (فهو) أي العام بعد التخصيص (مجمل مردّد بين تمام المراد) أي تمام الباقي (وبعضه) أي المراد (لأن الدليل المذكور) أعني الخاص المنفصل الذي دل بالدليل اللّبي إنما هو (قرينة صارفة) لصرف العام (عن العموم لا معينة لتمام) أي لارادة تمام (الباقي) كالخاص المتصل (وأصالة عدم المخصص الآخر في المقام غير جارية مع وجود المخصص اللفظي) وهو لا تكرم النحويين ، لأن أصالة العدم إنما تجري عند الشك ، ومع العلم بوجود المخصص لا معنى لأصالة عدم المخصص (فلا ظهور له) أي للعام (في تمام الباقي حتى يكون النسبة بينه) أي بين تمام الباقي (وبين المخصص اللفظي عموما من وجه) فليس للعام ظهور لا وضعا ولا قرينة في تمام الباقي فالقول بانقلاب النسبة باطل.

والحاصل : ان العام بحسب الوضع ظاهر في تمام الافراد ، ومقتضى تطابق ارادة الاستعمالي مع إرادة الجدي للمتكلم كون تمام الافراد مرادا جديا له ، وإذا ورد مخصص منفصل لا يزول عنه ذلك الظهور بحيث يعد من المجملات عرفا ، بل هو باق على حاله وإنما يرفع اليد عن العمل به فيما ورد

٢٥٩

الدليل على اخراجه ويصير المخصص قرينة على عدم إرادة الجدي بالنسبة إلى الأفراد التي يخرجها دليل التخصيص عن العام ، وإرادة تمام الباقي ليست بظهور آخر ممتاز عن ذلك الظهور بل إنما هي بذلك الظهور فكلما جاء له المعارض لا بد من ملاحظة التعارض بينه وبين العام بالنظر إلى ذلك الظهور.

والفرق بين المنفصل والمتصل ، أن الثاني يرفع ظهور العام الثابت له لولاه ويوجب انعقاد ظهور الآخر فيما عدا المخرج ، بمعنى أن الكلام معه يكون ظاهرا في ثبوت الحكم لتمام الباقي ، وكون موضوعه هو تمام الباقي ، فلذا إذا جاء مخصص منفصل بعده يلاحظ النسبة بينه وبين ظهوره في تمام الباقي ، لا في الجميع لانتفائه ، هذا بخلاف الأول أعني المنفصل ، فإنه كما عرفت لا يوجب ذلك بل العام معه ظاهر في تمام الافراد ، ولكن المخصص يدل على عدم ارادة الجد بالنسبة إلى افراده أي أفراد المخصص ، وأما العام بعد هذا التخصيص إذا لم يكن هناك ما يصلح للتخصيص ، فبضميمة أصالة عدم التخصيص يحكم بإرادة بقية الأفراد من العام ، وأما مع فرض وجود مخصص أو ما يصلح أن يكون مخصصا ، فحينئذ يعامل مع العام معاملة المجمل.

إذ : أصالة عدم التخصيص غير جارية ، ولا تكون هناك قرينة معينة أخرى فيبقى الحكم بالنسبة إلى بقية الأفراد مشكوكا فتدبر.

(وبعبارة أوضح ، تعارض) أكرم (العلماء ، بعد إخراج فساقهم مع) لا تكرم (النحويين ، ان كان قبل علاج دليل النحويين ، ورفع مانعيته) أي قبل خروج النحاة من عموم العام (فلا) يكون (ظهور) ثانوي (له) أي للعام في تمام الباقي ، لأنّه بعد ما رفعنا مانعية المخصص المنفصل ، وهو : لا تكرم النحويين ، ولو بأصالة عدم التخصيص (حتى يلاحظ النسبة بين ظاهرين) أي بين تمام الباقي من العام ، وبين لا تكرم النحويين ، حتى يكون بينهما عموم من وجه (لأن ظهوره) أي ظهور أكرم العلماء ثانيا في تمام الباقي بعد اخراج فساقهم (يتوقف

٢٦٠