جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

محمّد رضا الناصري القوچاني

جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

المؤلف:

محمّد رضا الناصري القوچاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

البناء على أنّه) أي هذا الخبر (كلامهم «ع») فهو من قبيل السّالبة بانتفاء الموضوع (فأين كلامهم «ع» حتّى يمنع من تأويله؟) إذ : التأويل فرع الصدور ، وأن لم يصدر هذا الخبر منهم عليهم‌السلام فلا معنى من المنع عن تأويله (ألّا بدليل) ثابت من الخارج (وهل هو) أي وهل قول هذا الرّجل (ألّا طرح السند ، لأجل الفرار عن تأويله) ـ الخبر ـ يعني الموجب لطرح الخبر صدورا ، هو الفرار عن تأويله له (وهو غير معقول) أي لم يظهر له وجه معقول ، لا أنّه ممتنع (وأن بنى) هذا القائل من هذه الجملة (على عدم طرحه) أي عدم طرح الدّليل الدّال على وجوب إعادة الوضوء (و) بنى (على التعبّد بصدوره. ثمّ حمله على التقيّة فهذا) الحمل (أيضا قريب من الأوّل إذ لا دليل على وجوب التعبد بخبر يتعيّن حمله على التقيّة على تقدير الصدور بل) في الحقيقة معنى الحمل على التقيّة الطرح بالكلية.

ولذا (لا معنى لوجوب التعبد به) أي بهذا الخبر الذي صدر تقيّة (اذ لا أثر في العمل يترتّب عليه) لأنّ العمل أعني الفعل والترك ، عبارة عن إتيان الحركات والسكنات على طبق خبر العدل ، فأنّ آية النبإ مثلا ، أنّما يدلّ على وجوب تصديق كلّ مخبر عدل ، ومعنى وجوب تصديقه ليس إلا ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على صدقه عليه ، فاذا قال المخبر أنّ زيدا عادل مثلا ، فمعنى وجوب تصديقه وجوب ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على عدالة زيد ، من جواز الاقتداء به ، وقبول شهادته ، ونحو ذلك ، فحينئذ اذا لم يأت الحركات والسكنات على طبقه فقد طرحه ولم يترتّب عليه الآثار الشرعيّة ، ولم يعمل به أصلا.

(وبالجملة أنّ الخبر الظني) نحو : أنّ الوضوء يعاد منهما (اذا) كان النصّ على خلافه ، كما هو مفروض البحث فحينئذ(دار الأمر بين طرح سنده) أي سند الخبر الظني (و) بين (حمله) أي حمل هذا الخبر الظنّي (وتأويله) على الاستحباب مثلا ، حتّى يجمع بينهما (فلا شك في أنّ المتعيّن تأويله ووجوب

٢٢١

العمل على طبق التأويل ، ولا معنى لطرحه) أي لطرح هذا الخبر الظنّى (أو الحكم بصدوره تقيّة فرارا عن تأويله) لأنّه اذا أمكن التأويل والجمع بينهما ، فلا تعارض حتّى نحتاج الى الطرح أو التقيّة (وسيجيء زيادة توضيح ذلك إن شاء الله تعالى).

(فلنرجع الى ما كنّا فيه من بيان المرجّحات في الدّلالة ، ومرجعها) أي ومرجع جميع التراجيح بحسب الدّلالة (الى ترجيح الأظهر على الظاهر) فينحصر الترجيح الدلالي في الظاهر والاظهر وأن كان قد يتخيّل أنّه ليس من باب التعارض أيضا ، كما في النص والظاهر ، ألّا أنّ التأمل الصّادق يرشدك الى حصول التعارض بينهما فلا بدّ من ترجيح الأظهر على الظاهر.

ثمّ : أنّ الترجيحات الدلاليّة على أقسام ثلاثة أمّا شخصية ، وأمّا صنفيّة ، وأمّا نوعيّة ، وفي ترتّبها متنازلا ممّا لا أشكال فيه ، لأنّه اذا دار الأمر بين الأخذ بمقتضى القرائن الشخصيّة ، وبين الأخذ بمقتضى القرائن الصنفيّة ، أو النوعيّة تعيّن الأوّل ، ضرورة كون اللفظ مع الشخصيّة ظاهرة فيما يقتضيه هي ، بحيث لا أثر حينئذ لغيرها من القرائن ، واذا دار الأمر بين الأخذ بمقتضى الصنفيّة وبين الأخذ بمقتضى النوعيّة يتعيّن الأوّل لما ذكر في وجه تقديم الشخصيّة.

وأشار الى هذه الأقسام ، بقوله (والأظهريّة قد تكون بملاحظة خصوص المتعارضين من جهة القرائن الشخصيّة) هذا فيما اذا كانا بنفسهما ظاهرين ، ولكن بالقرينة الشخصيّة نأخذ بأحدهما دون الآخر (وهذا) يختلف باختلاف القرائن المنصوبة و (لا يدخل تحت ضابطة) فلا ينبغي التكلّم فيه ، كما أنّه قد يعلم من مذاق الشرع بأنّ العلم محترم لفضيلته ، فنتصرّف في : لا تكرم الفسّاق. بحمله على الجهّال ، فيكون : أكرم العلماء أظهر ، فيكون مختصّا بمادّة العلم لا في ساير المواد (وقد تكون) الاظهريّة (بملاحظة نوع المتعارضين كأن يكون أحدهما) أي أحد المتعارضين (ظاهرا في العموم) كأكرم العلماء ـ مثلا ـ (والآخر جملة شرطيّة ظاهرة في المفهوم) كأكرم الهاشميين أن كانوا عدولا

٢٢٢

(فيتعارضان ، فيقع الكلام في ترجيح المفهوم على العموم).

إذ : الجملة الأولى : من حيث المنطوق ظاهر في وجوب إكرام جميع العلماء ، عدولا كانوا أو فسّاقا.

والجملة الثانية : من حيث المفهوم أظهر دلالة في عدم جواز إكرام الهاشميين الفسّاق ، فالنّسبة بينهما عموم من وجه فتخصيص عموم الجملة الأولى بالجملة الشرطيّة ، أولى من تخصيص الجملة الشرطيّة بالهاشمي الجاهل بالجملة الأولى ، فمفهوم الشرط لكونه أظهر دلالة راجح ومقدّم على منطوق العام (وكتعارض التخصيص والنسخ في بعض أفراد العامّ والخاص) كما اذا أورد العامّ والخاص ، وجهل تاريخهما فاحتمل ورود الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام أو قبله ، فيدور الأمر حينئذ بين كون الخاص ناسخا ومخصّصا ، كما اذا ورد : أكرم العلماء وورد : لا تكرم النحاة ، فأنّه يدور الامر فيهما بين أن يكون العام ناسخا للخاص ، كما إذا كان في الواقع العامّ واردا بعد العمل بالخاص ، وبين كون الخاص مخصّصا له وبيانا ، كما اذا ورد العام قبل العمل بالخاص ، والأقوى ترجيح التخصيص على النسخ على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وأحترز بقوله ببعض الأفراد عن صورة العلم بالتاريخ في صورة تأخر الخاص لعدم الدوران حينئذ بينهما ، لأنّ الخاص المتأخر أن كان صادرا قبل حضور وقت العمل ، فيتعيّن كونه مخصّصا ، إذ يشترط في النسخ صدور الناسخ بعده ، وأن كان صادرا بعده فيتعيّن كونه ناسخا ، إذ المخصّص بيان للعامّ ولا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة (و) كتعارض (التخصيص والتقييد) (١) كما إذا تعارض : أكرم

__________________

(١) ولا بأس للتعرّض هنا بصور تعارض الاحوال ، أعني أحوال اللفظ وبذكر جملة من أحكامه حتّى يتبيّن بأنّ أيّ الاحوالات السبعة أعني الاشتراك والاضمار ، والتخصيص ، والتقييد ، والمجاز ، والنسخ ، والنقل اظهر في صورة تعارض هذه السبعة بعضها مع بعض ، فاذا استعمل اللفظ في معنى ، وعلم المراد منه يحمل على المراد ، سواء كان ـ

٢٢٣

كلّ عالم ، مع : لا تكرم الفاسق ، فأنّ تقييد : لا تكرم الفاسق بغير العالم ، أولى

__________________

ـ تتمة الهامش من الصفحة ٣٢٣

حقيقة ، أو مجازا؟ واذا لم يعلم فان كان المعنى واحدا ، فالظاهر أنه ايضا يحمل عليه ، وأن تعدّد المعاني وشكّ في المراد منها ، فحينئذ يلاحظ للفظ ، هذه الاحوال السبعة المزبورة ، فان اقتضى الدليل احدها على سبيل التعيين فلا كلام في حمله عليه ، وإلّا فان اقتضى لا بعينه فهذا يسمّونه بتعارض الاحوال.

الاشتراك

الاضمار

التتخصيص

التقييد

المجاز

النسخ

النقل

الاشتراك

لغ

ص

ص

ص

ص

ص

ص

الاضمار

مكرر

غ

ص

ص

ص

ص

ص

التتخصيص

مكرر

مكرر

غ

ص

ص

ص

ص

التقييد

مكرر

مكرر

مكرر

غ

ص

ص

ص

المجاز

مكرر

مكرر

مكرر

مكرر

غ

ص

ص

النسخ

مكرر

مكرر

مكرر

مكرر

مكرر

غ

ص

النقل

مكرر

مكرر

مكرر

مكرر

مكرر

مكرر

غ

والضابط الكلّي في تعارض الظواهر بعضها بعضا ، هو أن يرد في الكلام ظاهر ان قامت قرينة معتبرة على الخروج عن أحدهما لا بعينه فيتعارضان ، بسبب اشتباه محلّ ـ

٢٢٤

من تخصيصه لأكرم العلماء ، لأنّ من شرائط المطلق أن لا يكون بيانا على

__________________

ـ تتمة الهامش من الصفحة ٢٢٤

الظاهر المخرج عن ظهوره ، فالتعارض يصير بين الحالتين من السبعة ، فصاعد أو على تقدير كونه ثنائية ، ترتقى الى تسع وأربعون بحسب الاحتمال العقلي ، حاصلة من ضرب السبعة في انفسها كما في هذا الشكل لكنّ الصحيح منها إحدى وعشرون.

وذلك بان تعرض الاشتراك مع الستّة الآخر يصير ستّة.

والاضمار مع الخمسة الأخر يصير خمسة.

والتخصيص مع الأربعة الآخر يصير أربعة.

والتقييد مع الثلاثة الباقية يصير ثلاثة.

والمجاز مع الاثنين الباقيين يصير اثنين.

والنسخ مع النقل يصير واحدا.

فالجميع واحد وعشرون وحكمها يعلم من مطاوي كلمات المصنّف قده ولم نتعرّض للثلاثيّة والرباعيّة ، والخماسيّة ، لظهور أحكامها ممّا يذكر من احكام الصور الثنائية.

والاصوليّون وأن ذكروا الترجيح بعض هذه الحالات على بعضها الاخرى عند التعارض أي تعارض الاحوال واطالوا الكلام في هذا المقام ولكن حيث أنّ الاعتبار بحجّية الظواهر ، والذي يفيد للعالم الاصولي هو حجّية ظهورات الالفاظ ، وأمّا الوجوه الاستحسانية التي تذكر لتقديم بعض الاحتمالات على الاخرى ـ حيث أنّه لا يصير منشأ لظهور عرفي يعتمد عليه ـ فلا يصحّ الاستناد اليه والاخذ به بحيث يصير مستندا لحكم فرعيّ الهيّ.

اذ الاحكام الفرعية لا بدّ لها من الاستناد الى دليل قاطع ، أمّا بالذات كالادلة المفيدة للقطع ، أو تنتهي الى ما يفيد القطع ذاتا كالامارات المظنونة الدالة على حجيتها دليل قطعي من الكتاب والسنّة ولذا قيل ظنيّة الطريق لا ينافي قطعيّة الحكم فعلى هذا ما ذكر من الوجوه في باب تعارض الاحوال ان لم يكن بهذه المثابة فلا جدوى في التعرّض لها وصرف الوقت في انحائها ومن أراد الاطلاع فعليه بالرجوع الى المفصّلات.

٢٢٥

التقييد ، وأكرم العلماء دليل لفظي يشمل جميع العلماء ، فيكون مقيّدا دون العكس ، إذ مقدّمات الحكمة من جملتها عدم ورود البيان على التقييد ، والعام اللفظي والوضعي بيان له ، فيكون حاكما على الاطلاق فلا بدّ من التقييد (وقد تكون) الأظهرية (باعتبار الصنف ، كترجيح أحد العامين ، أو) أحد (المطلقين على) العام أو المطلق (الآخر).

أمّا الأوّل : كما اذا ورد : أكرم العلماء ، و : لا تكرم الفسّاق.

وأمّا الثاني : نحو أكرم العالم ولا تكرم الفسّاق ، لو فرضنا بأنّ أكثر العلماء ـ نعوذ بالله ـ فاسقين ، فتقييد أكرم العلماء بالعدول يكون مستهجنا ، بخلاف لا تكرم الفسّاق ، فأنّ تخصيص الفسّاق بغير العلماء مصاديقه كثيرة فلا يكون مستهجنا (لبعد التخصيص أو التقييد فيه) أي في كلّ منهما.

وحيث انجرّ الكلام في الجمع الدلالي الى اعتبار الاظهريّة ، وبأنّه بم يتحقّق مصداق الأظهريّة ولإفادة توضيح ذلك أشار المصنّف ره بقوله (ولنشر الى جملة من هذه المرجّحات النوعيّة لظاهر أحد المتعارضين في مسائل).

المسألة (الأولى) إذا دار الأمر بين التخصيص والنسخ ، وهو المعبّر عنه بما اذا دار الامر بين طرح عموم العام في أفراده الاعيانيّة ، وطرح عموم الخاص في أفراده الازمانيّة ، سواء استفدنا عموم الازمان الذي قد يقال أنّه بقول مطلق من الظهور اللفظي من الاطلاق ، أو غيره مثل أبدا ، أو دائما ، أو كل وقت ، أو كلّ يوم ونحو ذلك ، و (لا اشكال في تقديم ظهور) الخاص في العموم الازماني ، أي (الحكم الملقى من الشارع في مقام التشريع في استمراره) ـ الحكم ـ (باستمرار الشريعة) وبقائها في عمود الزمان (على ظهور العام في العموم الافرادي) وسريانه بحسب الافراد (ويعبّر عن ذلك بأنّ التخصيص أولى من النسخ من غير فرق بين أن يكون احتمال المنسوخيّة في العام) فيما اذا ورد الخاص بعد العام ، ولكن لم يعلم ورود الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام ،

٢٢٦

أو بعده ، كما لو قيل في شهر رجب وجب عليكم صيام شهر رمضان ثمّ ورد لا يجب الصيام على المسافر ، فأحتمل وروده بعد حضور وقت العمل بالعام ، حتّى يكون ناسخا ، أو قبله حتّى يكون مخصّصا (أو) يكون احتمال المنسوخيّة (في الخاص) فيما اذا ورد الخاص قبل العام ، ولكن لا يعلم أيضا صدوره قبل حضور وقت العمل ، بالعام ، أو بعده ، وقد مرّ مثاله آنفا (والمعروف تعليل ذلك) الاولويّة (بشيوع التخصيص) والكثرة الى حدّ حتّى قيل معه : ما من عام ألّا وقد خصّ منه (وندرة النسخ) فأنّ أكثر العمومات الواردة في الشريعة مخصّصة ، وقلّ من الاحكام ما هي منسوخة ، فيتعيّن الحمل عليه.

ولهذا ترى أنّ بناء فقه الاسلام على التخصيص والتقييد وقلّما يتّفق أن يتفوّه فقيه بالنسخ ، مع أنّ في جلّ الموارد يتردّد الأمر بينهما للجهل بتاريخ صدورهما (وقد وقع الخلاف في بعض الصور) (١).

(و) بالجملة (تمام ذلك في بحث العام والخاص من مباحث الالفاظ) وليس هذا محلّه.

(وكيف كان ، فلا أشكال في أنّ احتمال التخصيص مشروط بعدم ورود

__________________

(١) كما أشار اليه صاحب المعالم قده ما هذا لفظه : خاتمة في بناء العام على الخاص اذا ورد عام ، وخاص متنافيا الظاهر ، فامّا ان يعلم تاريخهما ، أولا ، والأوّل أمّا مقترنان أو لا ، والثاني أمّا أن يتقدّم العام أو الخاص ، فهذه أقسام أربعة.

الأوّل : أن يعلم الاقتران ، ويجب حينئذ بناء العام على الخاص بلا خلاف يعبأ به.

الثاني ان يتقدّم العام فان كان ورود الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام ، كان نسخا له وان كان قبله بنى على جواز تأخير بيان العام فمن جوّزه جعله تخصيصا وبيانا له كالاوّل ، وهو الحق ، وغير المجوزين بين قائل بانّه يكون ناسخا وهو من لا يشترط في جواز النسخ حضور وقت العمل ، وبين رادّ له وهم المانعون من النسخ قبل حضور وقت العمل ، وسيأتي تحقيق ذلك ، انتهى محل الحاجة (ص ـ ١٤٩).

٢٢٧

الخاص) أي صدوره (بعد حضور وقت العمل بالعام ، كما أنّ احتمال النسخ مشروط بورود الناسخ بعد الحضور ، فالخاص الوارد بعد حضور وقت العمل بالعام يتعيّن فيه) ـ الخاص ـ (النسخ) لأنّه اذا كان مخصصا يكون بيانا للمراد ، ولا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة.

(وأمّا) ما توهم في الفرض المذكور ، أعني فيما اذا ورد عام كأكرم العلماء مثلا ، ثمّ بعد حضور وقت العمل به ورد : لا تكرم فساق العلماء ، من احتمال التخصيص فيها من جهة كشف الخاص عن وجود قرينة مع العام من أوّل الأمر ، وكون حكم العام بالنسبة الى الفساق صوريا.

مدفوع : من وجهين.

أمّا أوّلا : لأنّ (ارتكاب كون الخاص) الوارد بعد حضور وقت العمل بالعام (كاشفا عن قرينة كانت مع العام ، واختفيت) علينا (فهو) أي وجود القرينة (خلاف الاصل) لأنّ الأصل عدم القرينة.

(و) أمّا ثانيا : فأنّ (الكلام) أنّما هو (في علاج المتعارضين من دون التزام وجود شيء زائد عليهما) أي على المتعارضين ، اذ الكلام فيما اذا صدر الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام ، وكونه ناسخا وابطالا له ، وهو مفروض في صورة عدم القرينة.

(نعم لو كان هناك) أي فيما كان الخاص ـ كلا تكرم النحاة مثلا ـ واردا بعد حضور وقت العمل بالعام ، ودلّ (دليل على امتناع النسخ) كما لو صرّح المولى بأنّ وجوب : إكرام العلماء دائمي إلى يوم القيمة ، و : لا ابطل هذا الحكم الى الابد ، ففي هذه الصورة (وجب المصير الى التخصيص مع التزام اختفاء القرينة حين العمل) بالعام ، لأنّ الجمع بين هاتين أي ورود الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام الذي يقتضي حمل الخاص على النسخ ، ومع قيام الدليل على امتناع النسخ ، فلا بدّ من أن نستكشف بالخاص المتأخّر أن الخاص

٢٢٨

كان صادرا قبل حضور وقت العمل ، واختفى بسبب من الاسباب.

(أو) وجب المصير الى التخصيص بعد ورود الخاص من جهة (جواز إرادة خلاف الظاهر من المخاطبين) ـ بالكسر ـ بالعام.

قوله : (واقعا) متعلق بالارادة (مع مخاطبتهم بالظاهر الموجبة لعلمهم) أي المخاطبين (بظهوره) أي بظهور الظاهر ، وهو العام لمصلحة.

(وبعبارة أخرى : تكليفهم) أي المخاطبين (ظاهرا هو العمل بالعموم) كما اذا ورد : أكرم العلماء ، وكانت المصلحة في تعميمه وفي الواقع النحاة خارج منها ، فلا تكرم النحاة المتأخر يكشف من أن حكم العموم كان حكما ظاهريا ، فينجبر مفسدة الواقع في خلاف الواقع بمصلحة اظهار العموم ، كما في المصلحة السلوكيّة الّتي جعل المصنّف قده جوابا لابن قبة ـ بناء على الطريقيّة ـ (ومن هنا يقع الاشكال في) أخبارنا المرويّة عن ائمتنا عليهم الصلاة والسلام من (تخصيص العمومات المتقدمة في كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو الوصي) وهو أمير المؤمنين (ع) خازن علم رسول الله (ص) (أو بعض الأئمّة عليهم‌السلام).

وأنّما الاشكال في تخصيص تلك العمومات (بالمخصّصات الواردة بعد ذلك) أي بعد حضور وقت العمل بالعام (بمدة عن باقي الأئمّة عليهم‌السلام فأنّه) ربّ عام نبوي (ص) ، وخاص عسكري (ع).

والمحتملات في مثل هذه المخصّصات ثلاثة.

أحدها (لا بدّ أن يرتكب فيه) أي فيما ورد بعد ذلك بمدة (النسخ) بكون الخاص ناسخا لحكم العام.

ثانيها : ما ذكره بقوله : (أو كشف الخاص) الذي ورد بعد ذلك بمدّة (عن قرينة) متّصلة (مع العام) وقد كانت (مختفية) علينا.

ثالثها : ما أشار بقوله : (أو) كون الخاص هو المخصّص حقيقة ولا يضرّ

٢٢٩

تأخّره عن وقت العمل بالعام ، لان (كون المخاطبين بالعام) كاكرم العلماء مثلا (تكليفهم ظاهرا العمل بالعموم) وأن كان (المراد به) أي بالعام (الخصوص) أي ما عدا النحاة (واقعا).

بمعنى أنّ العام المتقدّم لم يكن مفاده الحكم الواقعي بل الحكم الواقعي ، هو الذي تكفّل المخصّص المنفصل بيانه ، وأنّما تأخّر بيانه لمصلحة كانت هناك في التأخير ، وأن لم نعلمها.

هذا ولكن في بعض هذه المحتملات نظر.

(أمّا النسخ) وأن يمكن توجيهه بأنّه يجوز أن يكون الحكم مغيّا بغاية معيّنة ، فبيّنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للناس على سبيل الاستمرار ، وبيّن الغاية لاوصيائه المعصومين عليهم‌السلام ، فاذا انتهت المدة وبينوا عليهم‌السلام ارتفاع الحكم ، كان ذلك بيانا للنسخ الواقع في عصر الرسول (ص) ، فالأئمة عليهم‌السلام حاكون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا مؤسسون للشريعة ـ لكنّ المحقّق النّائيني قده جوّز النسخ بعد النبيّ (ص) من باب التفويض في الاحكام بأنّ لهم تغيير الحكم حسب المصالح والمفاسد ، وهم عليهم‌السلام معصومون لا يخطئون ، ويدّل عليه ما قد وردت من أخبار عديدة في تفويض دين الله تعالى الى الأئمة عليهم‌السلام ، وعقد في الكافي بابا في ذلك وبذلك يتضح فروع كثيرة ـ (فبعد توجيه وقوعه) أي النسخ (بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بارادة كشف ما بيّنه النبيّ (ص) للوصي (ع) عن غاية الحكم الأوّل) أعني أكرم العلماء مثلا (وابتداء الحكم الثاني) كلا تكرم النحاة مثلا.

ولكنّه مع ذلك (مدفوع ، بأنّ غلبة هذا النحو من التخصيصات يأبى عن حملها) ، أي حمل التخصيصات (على ذلك) أي على النسخ لأنه في الشريعة نادر باتفاق العلماء ، كما بيّنا سابقا ، وهذه التخصيصات الكثيرة يأبى عن كونها بيانا للنسخ ، للزوم كثرة النسخ.

٢٣٠

(مع أنّ الحمل على النسخ ، يوجب طرح ظهور كلا الخبرين) أعني العام والخاص (في كون مضمونهما) أي مضمون الخبرين (حكما مستمرا من أوّل الشريعة الى آخرها) بمعنى أنّ ظاهر العموم ، هو أنّها من أوّل الشريعة الى يوم القيمة ، وهكذا الخاص وبالحمل على النسخ يلزم كون العام منقطع الآخر وكون الخاص منقطع الأوّل فلا يعمل بكلا الظهورين.

(ألّا أن يفرض المتقدّم) وهو العام (ظاهرا في الاستمرار) من أوّل الشريعة الى آخرها (والمتأخر) وهو الخاص (غير ظاهر) كذلك (بالنسبة الى ما قبل الصدور).

(فحينئذ يوجب) فرض المذكور (طرح الظهور المتقدّم) أعني العام (لا المتأخر كما لا يخفى) على المتأمل ، فما كان ظهور الخاص وهو لا تكرم النحاة من قبل صدوره الى يوم القيامة لأنّه مجمل بالنسبة الى ما قبل الصدور والمجمل ليس له ظهور حتى ينثلم (شكسته شود) ظهوره.

(و) لكن (هذا) يعني كون المتقدّم ظاهرا في الاستمرار من أوّل الشريعة الى آخرها ، والمتأخّر غير ظاهر كذلك (لم يحصل في كثير من الموارد ، بل اكثرها) لأنّ استفادة الاستمرار أنّما يكون من قوله (ص) حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلال الى يوم القيمة ، وحرامه حرام الى يوم القيمة.

وهذا كناية من أنّ احكامه مستمرة ، فلا فرق بين حكمه بالخاص أو حكمه بالعام.

(وأما اختفاء المخصصات فيبعده ، بل ويحيله) أي اختفائها (عادة) لأجل (عموم البلوى بها) أي بهذه المخصّصات (من حيث العلم والعمل ، مع إمكان دعوى العلم بعدم علم أهل العصر المتقدّم وعملهم بها) أي بهذه المخصّصات (بل المعلوم جهلهم بها) اذ لو كانت المخصّصات المزبورة موجودة لضبطوها لكثرة الدواعي الى ضبط القرائن والمخصّصات المتّصلة واهتمام الروات الى حفظها ونقلها من الأئمة عليهم‌السلام ، لأنّ جمّا غفيرا من أفاضل علمائنا أربعة

٢٣١

آلاف منهم تلامذة مولانا الصادق عليه الصلاة والسلام ، والباقون منهم تلامذة ساير الأئمة (ع) وكانوا ملازمين لأئمتنا عليهم الصلاة والسلام في مدة حضور الأئمة وإمكان الوصول اليهم ولو بوسيلة سفرائهم وهي تزيد على ثلاثمائة سنة وكان همّهم وهمّ الأئمة (ع) إظهار الدّين عندهم وتأليفهم في الأصول الاربع مائة كلّما يستمعون منهم (ع) لئلا يحتاج الشيعة الى سلوك طريق العامة ، ففي تلك الصورة اذا لم يظفر بالمخصصات ، ينبغي أن يحكم قطعا عاديا بعدمها ، ومن المستحيل عادة أن تكون مخصّصات متّصلة بعدد المخصّصات المنفصلة وقد خفيت علينا.

(فالاوجه هو الاحتمال الثالث) وهو : أن يكون مفاد العمومات حكما ظاهريا ، والحكم الواقعي هو مفاد المخصّصات المنفصلة ، وقد تأخّر بيانها لمصالح أوجبت اختفاء الحكم الواقعي الى زمان ورود المخصّصات وقد مرّ العام ليعوّل عليه ظاهرا فيكون التكليف الظاهري في حقّ من تقدّم عن زمان ورود المخصّصات ، هو الأخذ بعموم العام ، نظير الأخذ بالبراءة العقليّة قبل ورود البيان من الشارع.

(فكما انّ) التكليف الظاهري ـ قبل بيان المعصوم (ع) للتكاليف ـ هو ما يقتضيه البراءة الاصلية مع ثبوتها لمن تقدّم على بيانهم (ع) واقعا ، ولكن (رفع مقتضى البراءة العقليّة ببيان التكليف) من المعصوم (ع) (كان على التدريج كما يظهر) ذلك (من الاخبار والآثار) المأثورة عن أهل بيته الاطهار (ع) (مع اشتراك الكلّ) من السابقين واللاحقين (في الاحكام الواقعيّة. فكذلك ورود التقييد والتخصيص) فيما نحن فيه (للعمومات والمطلقات) النافية للتكليف (فيجوز أن يكون الحكم الظاهري للسابقين الترخيص في ترك بعض الواجبات ، وفعل بعض المحرّمات) الترخيص (الذي يقتضيه العمل بالعمومات) والمطلقات (وأن كان المراد منها) أي من العمومات والمطلقات (الخصوص الذي هو الحكم المشترك) بين السابقين واللاحقين.

٢٣٢

وليس ذلك ألّا لأجل أنّ الشارع جعل احكامهم في مرحلة الظاهر قبل بيان تلك التكاليف بمقتضى أصالة البراءة العقليّة وهو التخيير والاباحة لأجل مصلحة من التسهيل عليهم أو غيره من المصالح ، إذ : مع عدم فرض المصلحة لا يصحّ ايقاع المكلّف على خلاف الواقع مطلقا ، ومعها لا فرق بين الموارد قطعا.

(ودعوى الفرق بين اخفاء التكليف الفعلي ، وابقاء المكلّف على ما كان عليه من الفعل والترك بمقتضى البراءة العقليّة) ليس ترخيصا لترك الواجب الواقعي ، وفعل الحرام الواقعي ، لأنّ عدم بيان الشارع للأحكام الواقعيّة لا يستلزم قبيحا أصلا ، لفرض إمكان الاحتياط في موارد أصالة البراءة بعدم شرب التتن مثلا ، أن شكّ في حليّته وحرمته ، فثبت الفرق بين هذا أي المقيس عليه والمقيس أعني (وبين انشاء الرخصة) بالعمومات المرخّصة (في فعل الحرام وترك الواجب) لأنّ مقتضى العموم هو الواقع مع أنّ الواقع خلافه ، فالشارع أوقعه في خلاف الواقع ، إذ المفروض تكليفه المكلّف ظاهرا العمل بالعموم ، مع كون مراده الخاص ، فانّ تفويت الواقع حينئذ مستند الى الشارع فيكون قبيحا.

ولكن هذه الدعوى بالفرق بين المقامين (ممنوعة) بانّ مفاد العام ايضا ليس قطعيا حتّى لا يمكن معه الاحتياط ، بل احتمال مخالفته للواقع قائم معه فيكون فوته على المكلّف مستندا إلى اختياره.

وغاية ما يترتّب على تجويز الشارع العمل بمقتضى العموم ، أنّما هو عدم العقاب على مخالفته التكاليف الواقعيّة المسبّبة من العمل بمقتضى العموم.

ومن المعلوم أنّه لا قبح في عدم العقاب بل يقبح ثبوته مع تجويزه العمل بالعام المؤدّي الى المخالفة لقبح ثبوته في المقيس عليه أيضا.

والحاصل : أنّ كلّ واحد من اخفاء التكليف الفعلي وانشاء الرخصة مستند الى وجود المصلحة ، وبعد وجودها لا قبح في بيانه للعدم في الثاني ، كعدم قبح سكوته عن البيان في الأوّل.

٢٣٣

ومع انتفاء المصلحة يقبح كلّ منهما لأنّ اخفاء المصالح والمفاسد على المكلّف ـ سواء كان بالسكوت عن البيان رأسا ، أو ببيان العدم ـ قبيح ، اذا لم تكن مصلحة تقتضيه ، ومعها لا قبح فيه بوجه مطلقا.

كما قال (غاية الأمر) ثبوت الفرق بينهما من حيث (أنّ الأوّل) أي في البراءة كان (من قبيل عدم البيان ، والثاني) أي في العمومات ، يكون (من قبيل بيان العدم ، ولا قبح فيه) أي في الثاني (ـ بعد فرض المصلحة ـ مع أنّ بيان العدم قد يدّعى وجوده في الكلّ) أي في جميع مواقع التخصيصات والتقييدات الثابتة كما يستفاد (بمثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبة الغدير في حجّة الوداع : معاشر الناس ما من شيء يقرّبكم الى الجنّة ويباعدكم عن النّار ألّا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم الى النّار ، ويباعدكم عن الجنّة ألّا وقد نهيتكم عنه) (١) فما يتراءى من الخطبة المزبورة أنّه لم يبق شيء من التكاليف لم يأمر به النبيّ (ص) فالمخصّصات والمقيّدات وغيرها من التكاليف التي بيّنها الأئمة عليهم‌السلام كانت مسبوقة ببيان العدم ، وقد تبيّن جميع الواجبات والمحرّمات لعامّة الناس ، فكلّ ما لم يكن بواجب أو محرّم عند الناس ليس بواجب ولا محرّم عند الله تعالى وعند الرّسول (ص) ، ولعلّ مقصوده (ص) بيان جميع الاحكام للوصي (ع) ، وبعد نصبه علما وهاديا للأمة ومرجعا لهم في أمور الدّين والدنيا جميعا ، وتكليفهم بالرجوع اليه (ع) في جميع الحوادث والوقائع ، فكلّما فات عليهم من المنافع ووصل اليهم من المضار ، فأنّما حدث من قبل أنفسهم من جهة عدم رجوعهم اليه (ع).

وبالجملة بيان الاحكام للوصي ونصبه خليفة ووصيا وإرجاع الناس اليه ، بمنزلة بيان جميع الأحكام لهم ، فلا غرو في نسبته (ص) اليه (ع) بيان جميع الأحكام لهم لكن لا بالمباشرة بل بالتسبيب (بل يجوز أن يكون مضمون العموم

__________________

(١) الكافي ج ـ ٢ (ص ـ ٧٤) ط ـ الآخوندي.

٢٣٤

والاطلاق هو الحكم الإلزامي) بمعنى أنّه يجب العمل بالعموم ووجوب الالتزام بمؤدّاه ، والحال أنّه في بعض الأفراد لا إلزام ولكن لا قبح في هذا الالزام لمصلحة مهمّة توجب الزام الشارع بالعمل بالعموم (واخفاء القرينة المتضمّنة لنفي الالزام) يعني الشارع بالعمل بالعموم في بعض الموارد أي مورد التقييد والتخصيص (فيكون التكليف حينئذ لمصلحة فيه) أي في التكليف (لا) لأجل المصلحة (في المكلّف به) كما في الأوامر الصورية مثل أنّه تعالى أمر ابراهيم خليل الرّحمن (ع) بذبح ولده (ع) ، ألّا أن أمره لم يكن جدّيا بل امتحانيا ، وكما في الأوامر الصادرة عنهم عليهم‌السلام تقيّة من العامّة.

(فالحاصل : أنّ المستفاد من التتبع في الأخبار والظاهر من خلوّ العمومات والمطلقات عن القرينة أنّ النبيّ (ص) جعل الوصي (ع) مبيّنا لجميع ما أطلقه) النبي (ص) حتّى يبيّن (ع) مقيّداته (و) ما (اطلق في كتاب الله الكريم وأودعه) عطف على جعل الوصي (ع) (علم ذلك) التقييد والتخصيص (وغيره) من الاحكام التي يمكن صدور كثير منها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، منفصلا عن العمومات والمطلقات عند الوصي (ع).

وبالجملة : أنّ رسول الله (ص) وأن بلغ الأحكام حتّى أرش الخدش على الأمّة ، لكن من لم يفت منه شيء من الأحكام وضبط جميعها كتابا وسنة أنّما هو الوصي (ع) أعني أمير المؤمنين عليه الصلاة والسّلام (وكذلك الوصي (ع) بالنسبة الى من بعده من الأوصياء صلوات الله عليهم اجمعين ، فبيّنوا) واظهروا (ما رأوا فيه المصلحة واخفوا) وما نشروا (ما رأوا المصلحة في اخفائه).

ويمكن أن يكون النبي (ص) قد أودع الحكم الناسخ إلى الوصي (ع) وأودع الوصيّ «ع» إلى وصي آخر (ع) إلى أن يصل زمان ظهور الامام الثاني عشر «ع» ـ روحي وأرواح العالمين له الفداء ـ باقتضاء المصلحة في ذلك ، والمفروض جواز تأخير البيان لمصلحة أهمّ عن وقت الحاجة.

٢٣٥

(فان قلت : اللازم من ذلك) أي من جواز تأخير البيان عن وقت العمل (عدم جواز التمسك بأصالة عدم التخصيص في العمومات ، بناء على اختصاص الخطاب بالمشافهين) وعدم شموله من تأخر عن زمن الخطاب ، كما هو المعروف من مذهب الاصحاب ، وأن ذهبت الحنابلة على ما حكي عنهم الى جواز توجيه الخطاب نحو المعدومين (أو فرض الخطاب في غير الكتاب) لو فرضنا أن كتاب الله كالكتب المصنّفة لا يختصّ بالمشافهين ، لكن في غير الكتاب كخطابات النبيّ (ص) والاوصياء العترة الطاهرة (ع) فهي مختصّة جزما بالمشافهين (اذ لا يلزم من عدم المخصّص لها) أي للعمومات (في الواقع ارادة العموم ، لأنّ المفروض حينئذ) أي حين عدم المخصّص إمكان (جواز تأخير المخصّص عن وقت العمل بالخطاب).

(قلت : المستند في اثبات أصالة الحقيقة) في الظواهر (باصالة عدم القرينة قبح الخطاب بالظاهر المجرّد) عن القرينة (وارادة خلافه) أي خلاف الظاهر (بضميمة أنّ الأصل الذي استقرّ عليه طريقة التخاطب هو أن المتكلّم لا يلقي الكلام إلا لأجل ارادة تفهيم معناه الحقيقي ، أو المجازي فاذا لم ينصب) المتكلّم (قرينة على إرادة تفهيم المجاز تعيّن ارادة الحقيقة) أي العموم (فعلا ، وحينئذ فان اطلعنا على التخصيص المتأخر) عن وقت العمل بالعام (كان هذا كاشفا عن مخالفة المتكلّم لهذا الأصل) أي القاعدة (لنكتة) ولمصلحة راعاها ، وأنّ تكليف المشافهين أنّما كان بالعموم ظاهرا دون الواقع (وأمّا اذا لم نطّلع عليه) أي على المخصّص (ونفيناه بالاصل) أي باصالة عدم المخصّص (فاللازم) من ذلك أي من أصالة الحقيقة (الحكم بارادة تفهيم الظاهر فعلا من المخاطبين) يعني يتعلّق تكليف المشافهين في الواقع بالعموم ، فيثبت ذلك في حقنا ايضا ـ بدليل الاشتراك في التكليف كما قال ـ (فيشترك الغائبون معهم) أي مع المخاطبين في هذا الحكم ، فتجويز تأخير المخصّص عن وقت العمل

٢٣٦

بالخطاب لا يوجب سدّ باب التمسك بالظواهر عند احتمالها.

(ومنها) أي ومن المسائل التي عدّ من المرجّحات النوعيّة (تعارض الاطلاق والعموم فيعارض تقييد المطلق وتخصيص العام) (١) (ولا اشكال في

__________________

(١) توضيح المقام يتوقف على بيان أقسام المطلقات فنقول : أنّها على ثلاثة أقسام.

أحدها : الاطلاق بحسب الفرد المنتشر ، المعبّر عنه بالحصّة الشائعة كما عرّفه بها جماعة ، مثل : اعتق رقبة ، حيث أنّ ظاهره الفرد المنتشر لأنّ ظهوره فيه ناش من ظهور التنوين في التنكير ، فلو كان للتمكن كان دلالته على الماهيّة المعيّنة ، ومحصّل احتجاجاتهم في حصول التجوّز بالتقييد في هذا القسم ، هو أنّ من يقول بالتجوّز يدّعي أنّ مدلول : رقبة ، في المثال بحسب الوضع هو الفرد المنتشر بوصف التعرية عن جميع القيود.

وبعبارة أخرى : أنّ لفظ المطلق كرقبة ونحوها ، موضوع للماهيّة العارية عن التقييد بشرط كونها عارية ، فعند التقييد يلزم المجاز لأنّه استعمال اللفظ في خلاف الموضوع له لأنّ الاطلاق والشيوع من مداليل اللفظ ، فاستعماله في ما لا شياع فيه مجاز وهذا قول المشهور.

نعم ذكر سلطان العلماء قده ، بأنّ الشياع ليس مأخوذا في مفهوم المطلق حتى يصير مجازا بواسطة التقييد ، بل موضوع للماهيّة وبالتعدد الدال والمدلول يفهم المقيّد لقولنا : السكنجبين خل ممزوج بالعسل فكلّ كلمة مستعملة في معناه الحقيقي.

ثانيها : الاطلاق بحسب الطبيعة المعرّاة مطلقا حتّى عن قيد الفرد المنتشر أعني الطبيعة المطلقة ، والكلام فيه من حيث كون التقييد مورثا للتجوز وعدمه ، كسابقه بكون الرقبة حقيقة بملاحظة وضع آخر غير وضعه الافرادي ، بان يكون : رقبة ، بلا قيد موضوعا للحصة الشائعة ، و : رقبة مؤمنة ، للحصة المعينة ، فالموضوع هو المركب ، وكل جزء منه حال التركيب مهمل من حيث الوضع الانفرادي كوضع فعل المضارع للحال حال الانفراد ، وللماضي حال تركيبه مع لم الجازمة.

ثالثها : الاطلاق بحسب الاحوال ، أعني الاطلاق الحاصل بحسب احوال التكليف الناشئ من عدم البيان ، لأنّ عدم تقييد الامر بالعتق في قولنا : أعتق رقبة ، ـ

٢٣٧

ترجيح التقييد) على التخصيص فيكون دوران الامر بين التخصيص والتقييد من

__________________

ـ تتمة الهامش من الصفحة ٢٣٧

بزمان أو مكان ، أو حالة يورث له الاطلاق بحسب هذه الاحوال لاجل عدم بيان القيد ، وهذا الاطلاق خارج من مدلول اللفظ وأنّما هو ناش من عدم بيان القيد ، ولا شك أنّ التقييد في مثل هذا الاطلاق لا يوجب تجوّزا في اللفظ بل هو حقيقة ، نظرا إلى أن لفظ المطلق كرقبة ونحوها ، ليس موضوعا بازاء الماهيّة المطلقة بوصف الاطلاق كما هو مذاق المشهور ، بل موضوع بازاء مطلق الماهيّة هذا.

ولكنّ الأوّل فيه ما لا يخفى ، لأنّ المركبات ليس لها وضع آخر غير وضع المفردات.

والثاني بعيد ، لاستلزامه أمّا تعدد الوضع ، أو المجازية ، لأنّ مدلول التراكيب مختلفة لافادته في مقام الاخبار غير ما يفيد في مقام الانشاء فانّ : اعتق رقبة ، يقيد صحّة عتق كلّ رقبة فهي تدلّ على حصّة شايعة ، بخلاف : اعتقت رقبة ، فانّه يدلّ على حصة معيّنة معلومة ، فظهر أنّ الحقّ هو ما قاله سلطان العلماء قده ، فانّه أوّل من كشف هذا التحقيق في هذا الباب ، بان يقال : أنّ المتبادر من المطلق في العرف كما هو الموضوع له ليس إلّا الماهيّة المهملة التي هي قدر مشترك ، فلا يكون له الا وضع واحد فيكون حقيقة ألّا أنّ الواضع اذن في تقييده بجميع الاعتبارات المشار اليها فيما تقدّم كما في التراكيب الاضافية والاسنادية ، فأنّ مفرداتها باقية على معناه الاصلي ، ألّا أنّ الواضع اذن في التوصيف والاضافة والاسناد ، فلم يصدر من الواضع ألّا الاذن والرخصة ، فاللفظ مستعمل في معناه الحقيقي وهو الماهيّة لا بشرط شيء ، وأنّما جاء الاطلاق المقتضى لجواز الاتيان بكلّ فرد من جهة عدم البيان حيث ان العقل يحكم بان المقصود لو كان هو المعيّن كالرقبة المؤمنة ، لكان على الحكيم بيانه ، وحيث لم يبيّن ، فمراده إتيان الطبيعة في ضمن أيّ فرد كان ، وكذلك التقييد أنّما حصل من جهة ذكر القيد من غير أن يتصرّف في لفظ اسم الجنس ، فالاطلاق أنّما هو بدال عقلي كما أنّ التقييد بدليل لفظي ، فيكون من باب تعدّد الدالّ والمدلول ، فالظاهر أنّه يراد من لفظ المطلق ذات الماهيّة والتقييد يستفاد من لفظ القيد وهو : المؤمنة من قبيل تعدّد ـ

٢٣٨

قبيل دوران الامر بين الاصل والدّليل فكما لا يبقى للأصل موقع بعد ورود الدليل ، كذلك لا يبقى للمطلق ظهور في الاطلاق بعد ورود ما يقيّده ، لأنّ العمل بالاطلاق من باب عدم البيان ، وعموم العام بيان له بلا أشكال.

فلو دار الأمر مثلا بين التصرّف في قوله : أعتق رقبة ، بالتقييد بالمؤمنة ، وبين التصرّف في : أعتق رقبة مؤمنة ، بحمل الأمر على الندب فالأظهر تقديم

__________________

ـ تتمة الهامش من الصفحة ٢٣٨

الدالّ والمدلول ، لا من قبيل استعمال اللفظ المطلق في المعنى المقيد فعلى هذا يمكن العمل بالمطلق والمقيد معا من دون اخراج احدهما عن حقيقته بان يعمل بالمقيّد ويبقى المطلق على اطلاقه ، فلا يجب ارتكاب مجاز اذ لا شك أن مدلول : رقبة ، في قولنا : رقبة مؤمنة ، هو المطلق ، والّا لزم حصول المقيّد بدون المطلق ، مع أنّه لا يصلح لأيّ رقبة كانت ، فظهر أنّ مقتضى المطلق ليس ذلك ، وألّا لم يتخلف عنه ، وممّا لو صحّ كونه موضوعا لنفس الماهية من دون دخول شيء من الاطلاق والتقييد فيه أنّه يصحّ استعماله في الخطاب الى جماعة مختلفة في المحكوم به ، من دون تجوز في اللفظ كقول الطبيب للمرضى المختلفين في المرض والدواء اشربوا دواء ، و : اشربوا الدواء ، اذا اريد منه الطبيعة اذ ليس المقصود شرب كل واحد منهم كل دواء اراده قطعا ، إذ بعضه مضرّ لكلّ منهم ، ولا شرب كلّ واحد منهم جميع الأدوية ، ولا خصوص ما يوجب شفائه بالنّسبة إلى كل واحد ؛ وإلّا لزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، بل المراد من هذا الخطاب بيان جنس المكلف به لا بيانه بجميع جهاته.

وحاصل التأييد أن المطلق في هذا الاستعمال حقيقة قطعا ، وليس المقصود منه الحصّة الشائعة ، وإلا لزم تجويز كلّ دواء لكل واحد منهم ، بل الخطاب ممحض لبيان ما يلزم عليهم ، وبيان تمام المراد محوّل في مقام آخر ومن هذا القبيل كثير من الأوامر الواردة في الشريعة الموجهة الى اشخاص مختلفة في صنف المكلف به كقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (البقرة : ٤٣) ونحوها مما يكون المقصود منها بيان أصل المشروعية لا بيان المكلّف به بتمامه حتّى يتمسك باطلاقه لنفي الجزئية أو الشرطية المشكوك في جزئيته أو شرطيته.

٢٣٩

التقييد.

وهكذا اذا ورد هناك عام ومطلق تعارضا في بعض مصاديقهما كقوله : أكرم عالما ، ولا تكرم الفساق ، فأنهما كما ترى يتعارضان في مادّة الاجتماع منهما ، وهو العالم الفاسق ، بالعموم والاطلاق ، فيدور الامر بين تخصيص العام في الأوّل بغير العالم ، وتقييد العالم في الثاني بغير الفاسق ، ولا اشكال في ترجيح العموم على الاطلاق نوعا وجعله صارفا عن الاطلاق وقرينة للتقييد ، فيحكم بحرمة إكرام العالم الفاسق ، وهذا معنى قولهم : أن التقييد أولى من التخصيص (على ما حققه سلطان العلماء قده من كونه) أي كون التقييد (حقيقة لأن الحكم بالاطلاق) كأكرم العالم (من حيث عدم البيان و) عموم (العام) كلا تكرم الفساق (بيان) له (فعدم البيان للتقييد) (١) (جزء من مقتضى الاطلاق) لأن حمل المطلق على الإطلاق يثبت بمقدمات الحكمة وهي اربعة.

١ ـ أن يكون المتكلم حكيما.

٢ ـ وكون المتكلم في مقام بيان تمام المراد.

٣ ـ ولم يكن هناك انصراف الى بعض افراده ولو انصرف اليه للشيوع مثلا لما أمكن حمله على الاطلاق ليشمل غير ما أنصرف اليه من الافراد.

٤ ـ ولم يكن هناك تقييد والمفروض قيام الدليل على التقييد (والبيان للتخصيص) أي التقييد (مانع عن اقتضاء العام للعموم).

وإن شئت فقل : أن الشك في إرادة هذا الفرد من العالم ، أعني زيد العالم الفاسق مثلا مسبب عن ورود التخصيص بهذا الفرد وعدمه ، وأن دلّ دليل

__________________

(١) اللام للتقوية وهي معنى بين التعدية والزيادة ، لأن البيان مصدر متعد ، لكن لكونه ضعيفا في العمل جيء باللام نظير : فعّال لما يريد ، فكما أن فعّال بحسب المعنى متعد ولكن بحسب العمل لفظا حيث كان ضعيفا عومل معه معاملة اللازم ، فكان اللام للتعدية هكذا المقام.

٢٤٠