جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

محمّد رضا الناصري القوچاني

جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

المؤلف:

محمّد رضا الناصري القوچاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

يعمل بالخبر الذي) أعني العام والمطلق (إذا عمل به وجب اطراح العمل بالآخر) أي الخاص والمقيد (وان لم يمكن العمل بهما) أي بالخبرين (جميعا لتضادّهما ، وتنافيهما) فالانسان مخيّر في مقام العمل كما في المتباينين لما قد مرّ ذكره ، فإنّه اذا ورد : أكرم البصريين ، ولا تكرم البصريين ، ولم يكن هناك قرينة يرتفع بها التنافي عملوا فيهما بحكم المتعارضين من الترجيح أو التخيير ، ولم يكونوا يجمعوا بينهما بحمل كلّ منهما على طائفة من أهل البصرة ، وذلك أمر واضح لمن جاس خلال الدّيار ، وانس بطريقة العلماء الأبرار (أو أمكن حمل كل واحد منهما على ما يوافق الآخر على وجه كان الانسان مخيّرا في العمل بأيّهما شاء) كما في العموم والخصوص من وجه ، مثل : أكرم العلماء ولا تكرم الفساق ، يمكن بالتصرّف في العلماء بإن يجعل المراد من العلماء غير الفسّاق ، مع الاحتياج الى شاهد خارجي ، ويبقى : لا تكرم الفسّاق على عمومه وبالتصرّف في الفسّاق بإن يجعل المراد من الفسّاق غير العلماء مع الاحتياج الى شاهد خارجي ، فيبقى أكرم العلماء على عمومه ، وهذا نظير أغتسل للجمعة وينبغي الغسل في أنّه يحتاج الجمع بينهما الى التصرّف في أحد الطرفين لا بعينه ، أو حمل الأمر على الاستحباب فيجمع مع ينبغي ، أو حمل ينبغي على الوجوب فيجمع مع الأمر (انتهى) ما في العدّة.

(وهذا كلّه كما ترى) أنّ كلام شيخ الطائفة قده ، في الكتابين (يشمل حتّى تعارض العام والخاص ، مع الاتفاق فيه) أي في تعارض العام والخاص (على الأخذ بالنص) أي الخاص (وقد صرّح في العدّة في باب بناء العام على الخاص) ما ينافي لما ذكره هاهنا لأنّه قده قال في الباب المذكور (بانّ الرجوع الى الترجيح والتخيير ، أنما هو في تعارض العامين) من وجه (دون العام والخاص ، بل لم يجعلهما) أي العام والخاص المطلق (من المتعارضين أصلا) وأعلن موافقته للجمهور بتقديم الجمع الدلالي على ساير المرجّحات.

٢٠١

(وأستدلّ على العمل بالخاص ، بما حاصله : أنّ العمل بالخاص ليس طرحا للعام بل حمله) أي العام (على ما يمكن أن يريده) المتكلّم (الحكيم) بإن يكون مراد الحكيم هو ما عدا الخاص ، لا أنّه تكذيب لصدوره عن الحكيم (وأنّ العمل بالترجيح والتخيير) متأخّر عن الجمع من حيث الدلالة لأنّه (فرع للتعارض الذي لا يجري فيه الجمع ، وهو) أي ما ذكره قده في العدّة في باب بناء العام على الخاص (مناقض صريح لما ذكره هنا) أي في باب تعارض الأدلّة (من : أنّ الجمع من جهة عدم ما يرجح أحدهما على الآخر ، وقد يظهر ما في العدّة من كلام بعض المحدثين) من أنّه يقول : بأنّ الترجيح مقدّم على الجمع من حيث الدلالة (حيث أنكر) هذا البعض (حمل الخبر الظاهر في الوجوب ، أو التحريم على الاستحباب أو الكراهة) قوله (لمعارضة) متعلق بقوله أنكر (خبر الرخصة ، زاعما أنّه طريق جمع لا إشارة اليه) أي الى هذا الجمع (في أخبار الباب بل ظاهرها تعيّن الرّجوع الى المرجّحات المقرّرة).

وحاصل ما قاله هذا البعض ، هو : أنّ هذا النحو من الترجيح بالجمع الدّلالي لم يرد فيه نص ، لأنّ هذا غير مرجّحات المنصوصة. ولكن فيه أنّ المرجّحات موضوعها الخبران المتعارضان وبالجمع الدّلالي يرتفع التعارض ، فليس هناك ترجيح حتّى يقال : هذا المرجّح لم ينص عليه.

(وربّما يلوح هذا أيضا) أي ما في العدّة من تعيين الرّجوع الى المرجّحات المقرّرة حتّى في النص والظاهر (من كلام المحقّق القمي قده في باب بناء العام على الخاص ، فانّه) أي المحقّق القمّي قده (ـ بعد ما حكم بوجوب البناء ـ قال) (١) (وقد يستشكل) والمستشكل ، هو : سلطان العلماء قد ذكر في حاشيته على المعالم (بانّ الأخبار قد وردت في تقديم ما هو مخالف للعامة ، أو موافق للكتاب ، أو نحو ذلك) وهذا بناء على أن ملاحظة مسئلة الترجيحات المنصوصة يجري في العام والخاص أيضا (وهو) أي

__________________

(١) في القوانين ج ١ ص ٢٥٧.

٢٠٢

تقديم ما هو مخالف للعامّة ، أو ما هو موافق للكتاب ، ونحو ذلك (يقتضي تقديم العام لو كان هو) أي العام (الموافق للكتاب أو المخالف للعامّة ، أو نحو ذلك).

قال المحقّق القمي قده (وفيه : أنّ البحث منعقد لملاحظة العام والخاص من حيث العموم والخصوص ، لا بالنظر الى المرجّحات الخارجيّة) لأنّ الرّجوع الى المرجّحات السندية انّما هو بعد العجز عن الجمع الواجب العرفي كما في مسئلة العام والخاص.

نعم اذا ضعف الخاص من حيث الدّلالة أو قوى العام من حيث الدّلالة كما اذا كان معلّلا أو في مقام الامتنان بني على العام كما قال.

(اذ قد يصير التجوز في الخاص أولى من التخصيص في العام من جهة مرجّح خارجي) كما لو ورد : لا تكرم النحاة ، وورد أيضا : يجب عليك الزاما إكرام أيّ عالم كان وأيّ فرد من الافراد ففي هذه الصورة نحمل الخاص على الكراهة لا الحرمة ، وكذا لو قال : اعتق رقبة أيّ رقبة ، فهو نصّ في الإطلاق والعموم ، فلو قال بعد ذلك : أعتق رقبة مؤمنة يحمل على الاستحباب (وهو خارج عن المتنازع ، انتهى) فيظهر منه الرجوع الى المرجّحات مع وجود الجمع العرفي.

غاية الأمر أنّه أيضا ملحوظ من حيث هو ، بمعنى أنّه مع التساوي من جميع الجهات ، الخاص مقدّم.

(والتحقيق : أنّ هذا كلّه) من تقديم سند العام وظهوره اذا كان أرجح من حيث العدالة ، ونحوه وطرح الخاص رأسا (خلاف ما يقتضيه الدليل ، لأنّ الأصل في الخبرين الصدق ، والحكم بصدورهما فيفرضان كالمتواترين) فكما أنّه اذا ورد : أكرم العلماء ، ولا تكرم النحاة متواترا ، لا يجوز طرح أحدهما ، بل لا بدّ من الجمع بينهما ، فكذلك الحكم اذا كانا ظنيين ، اذ ينزّل الظن بمنزلة العلم فيلزم الجمع بينهما (ولا مانع عن فرض صدورهما حتّى يحصل التعارض)

٢٠٣

حتّى نحتاج الى المرجّح.

(ولهذا) أي ولأجل ما ذكرناه (لا يطرح الخبر الواحد الخاص بمعارضة العام المتواتر) اذ : حجية أصالة الظهور ، مقيّد بعدم ورود دليل خاص ، ولذا يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، وقد مرّ بيانه سابقا.

(وان شئت قلت : أنّ مرجع التعارض بين النص والظاهر الى التعارض بين أصالة الحقيقة) أعني أصالة العموم (في الظاهر ، ودليل حجّية النص) فأكرم العلماء ، وأن كان جمعا محلى باللام ، وظاهر في العموم ، ولكن بعد قيام الدليل أعني : لا تكرم النحاة ، لا يجوز التمسك بأصالة عموم : أكرم العلماء ، لأنهما من قبيل النص والظاهر ، فلا يجوز التعبد بصدور أحدهما وظهوره ، وطرح الآخر رأسا ، فلا بدّ من التعبد بصدورهما وطرح ظهورهما ، كما هو مقتضى الجمع لأنّ كلّ واحد منهما خبر عدل ويجب التصديق به أي بصدوره ، ولكن الظهور حجّة مقيّدة بعدم القرينة ، والخاص قرينة على عدم إرادة العموم.

(ومن المعلوم : ارتفاع الاصل بالدليل) فالنص يكون حاكما على الظاهر ، إذ : قد صرّح المصنّف قده سابقا بأنّ النص لا يكون واردا على الظاهر ، إلّا اذا كان قطعيا من جميع الجهات ، بل المقصود الارتفاع حكما ، نظير قوله عليه‌السلام : لا صلاة إلّا بطهور (١) ولكن استصحاب الطهارة يجوّز لك الدخول في الصلاة ، ولا يكون الطهارة الواقعية شرطا فيصير الاستصحاب حاكما.

وبالجملة أنّ الترجيح الدلالي مقدّم على الترجيح السندي وجهة الصدوري ، وأنّه لا تعارض بين النص والظاهر ، فانّ الامر دائر فيهما بين أخذ أصالة الحقيقة في الظاهر وطرح سند النص ، وبين جعل الأمر بالعكس أي أخذ سند النص ورفع اليد عن أصالة الحقيقة في الظاهر ، ومن البيّن أنّ رفع اليد عن أصالة الحقيقة في الظاهر أولى من طرح سند النص ، وقد تقدّم أنّ بين الظاهر

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١ ص ـ ٢٦١. (الرواية : ١).

٢٠٤

والنص لا تعارض أصلا.

(وكذا الكلام في) الخبرين ، اذا كانا من قبيل (الظاهر والأظهر) ألّا أنّه لا يكون دليل اعتبار سند الأظهر حاكما على أصالة الحقيقة في الظاهر ، بل كان تقديمه عليه من باب تقديم أقوى الدليلين على الآخر (فإنّ دليل حجّية الأظهر يجعله قرينة صارفة عن إرادة الظاهر ، ولا يمكن طرحه) أي طرح دليل حجّية الأظهر (لأجل أصالة الظهور) في الظاهر فلا نخصّص الظاهر لأنّه اذا لم تكن قرينة ، فالأصل الظهور أو الاطلاق لأنّ بناء العرف على التصرّف في الظاهر مهما أمكن وإبقاء الأظهر على ظاهره ، وكون ارادة المعنى المجازي في الظاهر اظهر وأقرب منه في الأظهر فيجعلون ظهور الأظهر قرينة ـ بعد أعمال أصل الحقيقة فيه على التصرّف ـ في الظاهر ، كما في قولك : رأيت أسدا يرمى فانّ المراد من يرمى معناه الحقيقي ، ومن الأسد معناه المجازي ، دون العكس كما قال (ولا) يمكن (طرح ظهوره) أي ظهور الأظهر (لظهور الظاهر) فلا يكون المراد من : الأسد ، معناه الحقيقي ، ومن يرمى معناه المجازي وهو رمي الأسد التراب لعدم الموجب له مع كون ظهوره أقوى (فتعيّن العمل به) أي بالأظهر (وتأويل الظاهر به) أي بسبب وجود الأظهر.

(وقد تقدّم في أبطال الجمع بين الدليلين) حين نقل كلام ابن أبي الجمهور الأحسائي (ما يوضح ذلك).

(نعم) أن كان الخبران من قبيل العامين من وجه ، فحيث كان دليل اعتبار كلّ منهما صالحا للحكومة على ظهور الآخر ، يتعارضان وحينئذ يدور الأمر بين أخذ أحد الخبرين مثلا اذا كان أعدل ، وطرح الخبر الذي رواه العادل ، والحكم بانّه ما صدر من الإمام عليه‌السلام أو نصدّق كلا الخبرين فكأنّما متواتران ، أو وردا في القرآن الشريف ، فيحكم باجمال الظاهرين ، أي بالاجمال العرضي لأجل المعارضة ففي مورد التعارض يصيران مجملين ، وأشار ـ الى هذه المقدّمة التي ذكرناها ـ بقوله : (يبقى الأشكال في الظاهرين اللذين يمكن التصرّف في

٢٠٥

كلّ واحد منهما) لا بعينه (بما يرفع منافاته) أي منافاة كلّ منهما (لظاهر الآخر) نحو : أكرم العلماء ، ولا تكرم الفساق ، بأنّ كلاهما جمع محلّي باللام.

(فيدور الأمر بين الترجيح من حيث السند) في مورد التعارض خاصة (وطرح المرجوح) كان يكون وجوب أكرم العلماء مشهورا ، أو راويه أعدل من الآخر مثلا ، فيجب الترجيح حينئذ لا التوقف.

(وبين الحكم بصدورهما) والحكم بإجمالهما ، ويصير كمقطوعي الصدور يتساقط الظهوران ، فيجب أخذ أحدهما ترجيحا أن كان موافقا للأصل ، أو تخييرا أن لم يكن.

(وإرادة خلاف الظاهر في أحدهما ، فعلى ما ذكرنا) ـ في تقديم النص الظني السند على الظاهر ـ (من أنّ دليل حجّية المعارض) أي العالم الفاسق (لا يجوز طرحه) أي طرح دليل حجّية المعارض (لأجل أصالة الظهور في صاحبه) وهو : أكرم العلماء (بل الأمر بالعكس ، لأنّ الأصل لا يزاحم الدليل) إذ : حجّية أصالة الظهور مشروط بعدم قيام دليل خاص (فيجب الحكم في المقام بالاجمال) نظير اناءين مشتبهين بوقوع القذر في أحدهما ، ولا نعلمه فيجب الاجتناب عن كليهما لأنّ جريان استصحاب الطهارة في أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، لأنّه معارض بالمثل وجريان الطهارة فيهما لا يمكن ، لأنّ السالبة الكليّة مناقض للموجبة الجزئية وما نحن فيه من هذا القبيل (لتكافؤ أصالتي الحقيقة في كلّ منهما مع العلم إجمالا بإرادة خلاف الظاهر من أحدهما) بان يحمل الأمر في : أكرم العلماء ، على الجواز ، و : لا تكرم ، على الكراهة حتّى يحصل الجمع بينهما (فيتساقط الظهوران من الطرفين ، فيصيران مجملين بالنسبة الى مورد التعارض) أي في مادّة الاجتماع (فهما كظاهري مقطوعي الصدور) فاذا قيل في المقطوعين من حيث الصدور سواء كانا خبرين كالمتواترين مثلا ، أو كتابتين أو مختلفين بتساقط الدليلين والرجوع الى الأصل

٢٠٦

الموافق ، فلا بدّ ايضا في مظنوني الصدور لانهما تابعان بالنسبة اليهما كالأصلين فيما نحن فيه ، أي أصالة الحقيقة في كلّ واحد من المتعارضين والرّجوع في مقام العمل الى الأصل الموافق لأحدهما (أو ككلام واحد تصادم) أي تعارض (فيه) أي في كلام واحد (ظاهران) بمنزلة أن يقال : اغتسل للجمعة وينبغي أن لا يترك ، ولا ريب في تعارضهما لأنّ كلّ واحد من أحكام الخمسة التكليفية معارض مع الآخر.

(ويشكل) يعني الحكم بتقديم الجمع على الطرح فيما تساوى الظاهران ، والحكم بالاجمال والرّجوع الى الاصل المطابق لأحدهما دون الرجوع الى المرجّحات التي تضمنه أخبار العلاج.

وتوضيح ذلك : يحتاج الى تمهيد ، وهو : أنّ الجمع على ثلاثة أقسام.

الأوّل : أن يكون الجمع بينهما بالتصرّف في أحدهما المعيّن من دون احتياج الى شاهد خارجي.

والعام والخاص المطلق من هذا القبيل ، كالنصّ والظاهر مثل : أكرم العلماء ولا تكرم زيدا العالم.

ويجب الجمع بينهما بالتصرّف في العام ، بحمله على أنّ المراد منه غير زيد من دون احتياج الى شاهد خارجي ، وتصرّف في النص ، ومن أمثلته أيضا الظاهر والأظهر.

الثاني : أن يكون الجمع بينهما بالتصرّف في أحدهما لا بعينه مع الاحتياج الى شاهد واحد خارجي.

ومن أمثلته : العام والخاص من وجه مثل : أكرم العلماء ولا تكرم الشعراء ، فان مورد النزاع والتعارض أنّما هو زيد العالم الشاعر ، فالجمع معناه قبول صدور السندين.

ثمّ لا بدّ أن تأخذ أحد الطرفين وتبقيه على عمومه ، وتتصرّف في الطرف الآخر بان تخرجه عن عمومه وظهوره ، فان اخذت أكرم العلماء وابقيته على

٢٠٧

عمومه وتصرّفت في عموم لا تكرم الشعراء واخرجته عن ظاهره ، يخرج زيد الشاعر العالم عن تحت لا تكرم الشعراء ويبقى مندرجا تحت الأوّل فيجب : إكرام زيد المزبور.

وأن أخذت بالعكس فيخرم إكرامه وكذا الكلام في : أغتسل وينبغي مع فرق ما سيأتي بيانه عن قريب إن شاء الله تعالى.

الثالث : أن يكون الجمع بينهما بالتصرّف في الطرفين مع الاحتياج الى شاهدين خارجيّين ، وذلك يكون في المتباينين مثل : أكرم العلماء ولا تكرم العلماء والجمع لا يحصل ألّا بالتصرّف في الطرفين ، بان يحمل أكرم ، مثلا على الرخصة لا الوجوب ، و : لا تكرم ، على الكراهة لا الحرمة ، فان الكراهة تجتمع مع الرخصة في الفعل ، لكن مع الاحتياج الى شاهدين.

فحينئذ اذا تعادلا ولم يكن مرجّح أصلا ، فلا بدّ من القول بالتساقط أو التخيير ، أو التوقف على المذاهب والاقوال.

وأمّا اذا كان في أحد الطرفين مرجّح فان ، كان داخليّا ولكن دلاليا فلا ريب في» أنّه يدخل تحت القسم الأوّل من الجمع ، ويصير من قبيل النص والظاهر فيجب الجمع بينهما ، سواء كان راجعا الى الصدور ، أو الى الجهة ، أو خارجيا ومضمونيا فحينئذ لا ريب في أنّه يجب الترجيح كما مرّ.

اذا عرفت هذا ، فاعلم : أنّه يشكل الحكم بتقديم الجمع على الطرح من وجهين.

أمّا أوّلا : (بصدق التعارض بينهما) أي الخبرين (عرفا ، ودخولهما في الأخبار العلاجيّة ، اذ : تخصيصها) أي تخصيص أخبار العلاج بالقسم الثالث أعني (بخصوص المتعارضين اللّذين لا يمكن الجمع بينهما ألّا باخراج كليهما عن ظاهريهما خلاف الظاهر) لأنّ أخبار العلاج مطلق يشمل تمام الأقسام الثلاثة.

وأما ثانيا ؛ (مع أنّه) أي الشأن (لا محصّل للحكم بصدور الخبرين والتعبّد بكليهما لأجل أن يكون كلّ منهما) أي من الخبرين (سببا لاجمال الآخر) ولا

٢٠٨

يعقل أن يكون الفائدة في الجمع هي الاجمال ، وفي الحقيقة أنّ هذا طرح لاحدهما وليس بجمع ، اذ قبول سند أغتسل مثلا ، مورث لاجمال ينبغي ، وقبول سند ينبغي مورث لاجمال اغتسل (ويتوقف في العمل بهما) أي بالخبرين (فيرجع الى الاصل) الموافق لاحدهما (اذ لا يترتب حينئذ) أي حين الرجوع الى الأصل (ثمرة على الامر بالعمل بهما) اذ ليس العمل بالأصل المطابق لأحدهما عملا باحدهما حقيقة ، لأنّ حجّية الخبر أنّما يكون من جهة طريقيته الى الواقع ومرتبة الأصل متأخّرة عن الواقع فهو حكم ظاهري.

وبالجملة : فائدة التعبد بالصدور العمل بالظهور ، فمع عدم العمل بالظهور لا فائدة في الاخذ بالصدور ، فيصير مآل التعبد بالصدور الى عدم التعبد به ، كما أنّه اذا قال الإمام عليه الصلاة والسلام : تعتدّ المرأة بثلاثة قروء ، والقرء مجمل لأنّه مشترك بين الحيض والطّهر ، فالتعبد بالصدور لا يفيد شيئا فلا ثمرة عمليّة ، والتعبد بالصدور معناه عامل معاملة الواقع ، واذ لا عمل مع الاجمال فالتعبد بالصدور لغو.

(نعم) وأن تنافيا في دلالة المطابقيّة ولكن (كلاهما دليل واحد) بالالتزام (على نفي الثالث) لأنّ : اغتسل للجمعة الدالّ على الوجوب يستلزم نفي اباحة غسل الجمعة مثلا ، وكذا ينبغي غسل الجمعة الدالّ على استحبابه يستلزم ايضا نفي اباحة غسل الجمعة ، فاذا تساقطا وارتفع وجوب العمل بهما لم يرتفع لازمهما وهو نفي الاباحة (كما في المتباينين) كما اذا فرضنا ورد خبران احدهما وجوب صلاة الجمعة ، والآخر حرمتها ، فينفيان الثالث وهو الاستحباب.

(وهذا) يعني دخول الظاهرين تحت الاخبار العلاجية المتضمنة للترجيح بالمرجّحات (هو المتعيّن ولذا استقرّت طريقة العلماء على ملاحظة المرجّحات السندية) من الاعدلية والافقهية والأصدقيّة ونحوها ، فاذا كان أحد الخبرين صادرا عن الافقه والأعدل مثلا ، يرجح على الآخر بلا أشكال (في مثل ذلك) أي

٢٠٩

في القسم الثالث من الاقسام الثلاثة التي ذكرناها.

قوله : (الّا أنّ اللّازم) ـ استثناء من قوله هذا هو المتعيّن ـ (من ذلك) أي من دخول المورد تحت الاخبار العلاجيّة الآمرة بالترجيح مع وجود المرجّح و (وجوب التخيير بينهما) أي بين الخبرين (عند فقد المرجّحات كما هو) أي وجوب التخيير (ظاهر آخر عبارتي العدّة والاستبصار المتقدّمين كما أنّ اللازم على الأوّل) وهو التعبد بسنديهما والرجوع الى الأصل الموافق لأحدهما وعدم الرجوع الى الاخبار العلاجيّة (التوقف من أوّل الأمر والرجوع الى الاصل) الموافق لأحدهما (أن لم يكن) الاصل (مخالفا لهما) يعني اذا كان الأصل مخالفا لهما ، لا يرجع الى الأصل (وألّا) أي وان كان الأصل مخالفا لهما كدوران الأمر بين المحذورين (فالتخيير من جهة العقل) لاجل إحراز التساوي فيهما (بناء على القول به) أي بالتخيير العقلي (في دوران الامر بين احتمالين ، مخالفين للأصل كالوجوب والحرمة) فيؤخذ أحدهما سندا ودلالة ، ويطرح الآخر رأسا.

فتحصّل ممّا ذكر : أنّ الحكم في المتباينين أما الترجيح أو التخيير ، لا الجمع ، وفي العموم من وجه ونظائره الجمع أو التوقف والإجمال لا الترجيح أو التخيير.

(وقد أشرنا سابقا الى أنّه) أي الشأن (قد يفصّل في المسألة بين ما اذا كان لكل من المتعارضين مورد سليم عن التعارض ، كما في العامين من وجه) فوجوب : إكرام العالم غير الشاعر ، وحرمة إكرام الجاهل الشاعر ، من المثال المتقدّم ممّا لا معارض لهما (حيث أنّ الرجوع إلى المرجّحات السندية) من الأعدليّة ونحوها (فيهما) أي في الخبرين (على الاطلاق) أعني مادّة الاجتماع ومادّة الافتراق (يوجب طرح الخبر المرجوح في مادّة الافتراق ، ولا وجه له) أي لهذا الطرح لعدم المعارضة في مادّة الافتراق.

٢١٠

(والاقتصار في الترجيح بها) أي بالمرجحات السندية (في خصوص مادّة الاجتماع التي هي محلّ المعارضة ، وطرح المرجوح) في مادّة الافتراق (بالنسبة اليها) أي مادة الاجتماع (مع العمل به) أي بالخبر المرجوح (في مادّة الافتراق) يعني لو كان راوي اكرم العلماء أرجح ، فوجوب إكرام زيد العالم الشاعر في مادّة الاجتماع ، وحرمة إكرام الجهال من الشعراء في مادّة الافتراق (بعيد عن ظاهر الاخبار العلاجيّة) اذ ظاهرها عند تعارض الخبرين يؤخذ بالخبر الراجح ، ويطرح الخبر المرجوح على الاطلاق ، لا الطرح في بعض افراده والأخذ والعمل في البعض الآخر.

ووجهه : أنّ العامين من وجه ، قد لا يعدّ عرفا من الاخبار المتعارضة التي يرجع فيها الى المرجّحات السندية ، وهذا فيما اذا تعلّق الاحكام المختلفة بموضوعاتها بعناوينها الكلية بلحاظ مصاديقها الخارجية ، فتصادق عنوانان من تلك العناوين الكلية على بعض المصاديق كما مثّلنا سابقا ، مثلا : لو أمر الشارع باكرام العلماء ونهى عن إكرام الشعراء ، فتصادق العنوانان على شخص كزيد مثلا بانّه عالم وشاعر ، وهذا ليس موجبا لأن يعدّ الخبر أن لدى العرف من الأخبار المتعارضة ، ولذا يحكمون في مثل هذه الموارد باجمال المراد لا بصدور كلامين متنافيين من الآمر ، كما هو مناط الرجوع الى المرجّحات فلا يصح أن يقال بصدور أكرم العلماء وعدم صدور لا تكرم الشعراء مثلا.

نعم كثيرا ما يعدّ العامّان من وجه ـ لدى العرف ـ من المتنافيين وهذا في غير ما أمكن فيه تنزيل الحكم على الجهات ، كما أنّه لو ورد : اغتسل للجمعة ، وورد أيضا ينبغي غسل الجمعة ، يكون بينهما عموم من وجه ، ففي مثل هذا المورد يعدّ العامّان من وجه لدى العرف كالمتباينين من المتعارضين ، فان امكن الجمع بينهما بارجاع بعضها إلى بعض على وجه يرتفع بينهما التنافي عرفا بمئونة قرينة داخلية أو خارجية ، فهو كما بيّنا

٢١١

فيما سبق بأن نتصرّف في أحد الطرفين لا بعينه ، بحمل الأمر على الاستحباب حتّى يجمع مع ينبغي ، أو بحمل ينبغي على الوجوب حتّى يجمع مع الأمر ، وإلا فالمتّجه هو الرجوع الى المرجّحات ، وأشار اليه بقوله قده قد يفصّل في المسألة بين ما اذا كان لكل من المتعارضين مورد سليم عن التعارض (وبين ما اذا لم يكن لهما) أي للخبرين (مورد سليم) عن التعارض (مثل قوله : اغتسل للجمعة الظاهر في الوجوب ، وقوله : ينبغي غسل الجمعة الظاهر في الاستحباب ، فيطرح الخبر المرجوح رأسا) من حيث السند والدلالة (لأجل بعض المرجّحات) التي تكون موجودا في صاحبه ، فلو كان راوي اغتسل للجمعة أعدل ، يؤخذ به ويسقط الآخر عن درجة الاعتبار.

(لكنّ الاستبعاد المذكور) بقوله : بعيد ، قبل أسطر (في الأخبار العلاجيّة ، أنما هو من جهة : أنّ بناء العرف في العمل باخبارهم) أي باخبار العدول (من حيث الظن بالصدور) يعني أن قلنا : بأنّ حجّية صدور الاخبار من باب الظن لا التعبد (فلا يمكن التبعّض في صدور العامين من وجه ، من حيث مادّة الافتراق ومادّة الاجتماع) لأنّ الترجيح في مورد الاجتماع فقط ، أي زيد العالم الشاعر لا في مورد الافتراق ايضا مستلزم للتفكيك ، وهو خلف جدّا (كما أشرنا سابقا الى : أنّ الخبرين المتعارضين) باقسامه الثلاثة المذكورة (من هذا القبيل) أي يكونان حجّيتين من باب الطريقية ، لا السببيّة والموضوعيّة.

(وأمّا) إذا قلنا : بانّ حجّية صدور الأخبار من باب التعبد فحينئذ في مورد التفارق نعمل بهما معا ، وفي مورد الاجتماع نقول بالترجيح بالاعدلية مثلا ، فنحن متعبّدون أن نعامل معاملة الصدور في مادّة الاجتماع ، بمعنى أنّه لم يصدر واقعا ولكن بمنزلة أن يقال أنّه صدر كما قال : (اذا تعبدنا الشارع بصدور الخبر الجامع للشرائط) بكون الراوي موثوقا ضابطا (فلا مانع من تعبّده) ـ الشارع ـ (ببعض مضمون الخبر دون بعض).

٢١٢

لا يقال : أنّ هذا مستلزم للتفكيك.

لانّا نقول : أنّ هذا التفكيك لا مانع من المصير اليه ، اذ هذا ليس إلّا نظير الحكم بالزوجية باقرارها مع عدم الحكم بكون الزوج الذي أقرّت بزوجيته زوجا لها ، اذا أنكر كونه زوجا ، وفيما نحن فيه لا يضرّ التفكيك بناء على الظاهر ـ وإن كان الحكم في الواقع واحدا ـ فبعد ما دلّ أدلّة الاعتبار على تصديقهما ففي مورد التفارق نعمل بهما ، وفي مورد الاجتماع نقول : بالترجيح.

والحاصل : أنّ في المسألة أقوالا ثلاثة.

أحدها : أن يأخذ أحد الظاهرين ويطرح الآخر مطلقا ، سواء كان لكلّ من المتعارضين مورد سليم عن المعارض ، أم لا؟

ثانيها : الاهمال مطلقا ، بمعنى سقوط الخبرين في مادّتي الاجتماع والافتراق.

ثالثها : التفصيل بين حجّية الاخبار من باب الظن أو التعبد ، فالتبعيض ـ بناء على التعبد ـ جائز ، كما مرّ وجهه ، وأما على الظن فلا يصح.

(وكيف كان فترك التفصيل) بين مادّتي الاجتماع والافتراق (أوجه منه) أي من التفصيل ، اذ : الحكم بطريقية العامين من وجه ، بالنسبة الى مورد الافتراق وعدم طريقيته بالنسبة الى مورد الاجتماع ، ممّا لا ضير فيه ، كما أنّه يلتزم بطريقية المتعارضين مطلقا بالنسبة الى نفي الثالث ، وعدم طريقيّتهما بالنسبة الى مورد التعارض (وهو) أي التفصيل (أوجه من اطلاق إهمال المرجّحات) بمعنى اطراح الآخر بتاتا.

أن قلت : أنّ لا تكرم الشعراء مثلا نصّ في الباقي ، وباصالة الحقيقة يصير نصّا في زيد العالم الشاعر أيضا ، فتخصّص عموم أكرم العلماء به ، كما أنّه يخصّص عموم : أكرم العلماء بلا تكرم النحاة ، فحينئذ لا يجب التوقف والاجمال في مورد الاجتماع والرجوع الى الاصل ، بل الخاص حاكم على العام فيخصّص به فيحرم إكرام زيد المذكور.

٢١٣

قلنا : (وأمّا ما ذكرنا في وجهه) أي وجه إطلاق إهمال المرجّحات والتوقف (من عدم جواز طرح دليل حجّية أحد الخبرين لاصالة الظهور في الآخر ، فهو) أي ما ذكرناه (أنّما يحسن اذا كان ذلك الخبر) كلا تكرم النحاة مثلا (بنفسه قرينة على ارادة خلاف الظاهر في الآخر) كاكرم العلماء ، وهكذا في الأظهر والظاهر فكما أنه اذا قيل : أكرم العلماء الا النحاة ، لا تعارض بينهما ، هكذا اذا ذكر كلّ منهما منفصلا ، والمراد بنفسه عدم الاحتياج الى دليل خارجي (وأمّا اذا كان) ذلك الخبر (محتاجا الى دليل ثالث يوجب) هذا الدليل (صرف أحدهما) أي أحد المتعارضين عن ظاهره (فحكمهما) أي حكم الخبرين المتعارضين (حكم الظاهرين المحتاجين في الجمع بينهما الى) تأويل كليهما والى (شاهدين في أنّ العمل بكليهما مع تعارض ظاهريهما يعدّ غير ممكن) يعني بعد ورود : اغتسل ، وينبغي لو ورد دليل ثالث مثلا : من ترك غسل الجمعة فله نار جهنم ، فهو موجب لطرح ينبغي ، فلا يحتاج الى الجمع بينهما الى التصرّف في أحد الطرفين لا بعينه (فلا بدّ من طرح أحدهما معيّنا للترجيح او) طرح أحدهما (غير معيّن للتخيير) أن لم يكن مرجّح في البين.

أن قلت : في صورة تعارض الظنيين يكون : صدّق العادل في قوة قوله : الغ احتمال الخلاف ، ونزّل منزلة العلم ، فحاله حال تعارض الخبرين القطعيّين من حيث الصدور ، في أنّه يؤخذ فيه بالتأويل أن كان مما يساعد عليه العرف من الأوّل.

قلت : (ولا يقاس حالهما) أي حال مظنوني الصدور (على حال مقطوعي الصدور في الالتجاء) أي الاضطرار (الى الجمع بينهما) لأنّ القطع بالصدور في كلّ واحد يصير قرينة على تأويل الآخر وصرفه عن ظاهره ، فلا بدّ من الجمع بينهما بتأويل كليهما ، بخلاف الخبرين المظنوني الصدور ، فانه لا وجه للجمع بينهما بالبناء على صدورهما لتكون النتيجة الاجمال ، بل الاولى طرح احدهما معيّنا للترجيح أو غير معيّن للتخيير (كما أشرنا الى دفع ذلك) عند نقل كلام ابن

٢١٤

ابي الجمهور و (عند الكلام في اولوية الجمع على الطرح ، والمسألة محلّ الاشكال) لعدم الجزم بالاطلاق في الاخبار العلاجيّة ، حتّى يشمل جميع اقسامه الثلاثة.

(وقد تلخّص ممّا ذكرنا أنّ تقديم النص) مثل : لا تكرم زيدا العالم (على الظاهر) مثل : أكرم العلماء (خارج عن مسئلة الترجيح بحسب الدّلالة ، اذ الظاهر لا يعارض النص) على وجه يوجب الحيرة (حتّى) يشملهما الاخبار العلاجيّة و (يرجّح النصّ عليه) أي على الظاهر ، لأنّ النص اذا كان قطعي السند والدلالة كالخبر المتواتر مثلا ، فهو معلوم ومقطوع من حيث الصدور والدلالة ، يحصل منه العلم بالحكم والظاهر الظني ، سواء كان مقطوع السند ، أم لا؟ لاحتمال عدم ارادة زيد مثلا منه ، والظني لا يقاوم القطعي فيكون النص واردا على الظاهر ، فيرتفع الموضوع ولا تعارض ، كما تقدّم في تعارض الاصل والدليل الاجتهادي.

(نعم : النص الظني السند يعارض دليل سنده) أي سند النص (لدليل حجّية الظهور لكنّه) أي النص (حاكم على دليل اعتبار الظاهر) يعني اذا كان النص قطعي الدلالة دون السّند ، كالخبر الواحد مثلا ، فانّه ان كان حجّية الظاهر ووجوب العمل عليه من باب الرجوع الى اصالة عدم القرينة ، يصير من قبيل الحكومة ، فانّ خروج زيد مثلا ، وان كان محتملا من الظاهر ، وأصالة عدم القرينة بعمومه شاملا لعدم خروج زيد لكن هذا الدليل حاكم بحسب دليل الاعتبار ، لانّ احتمال الخلاف واجراء اصالة عدم القرينة أنّما هو في موضوع يشك في وجود القرينة وعدمها ، ولكن فيما نحن فيه الخاص الذي هو نصّ في مدلوله قرينة قطعيّة على التصرّف في الظاهر ، ومانع عن اجراء اصالة العموم في جانبه ، فعموم : أكرم العلماء مع وجود الخاص الذي هو نصّ في مدلوله ، لا يجري فيه اصالة عدم التخصيص بقرينة خاصة في مورده (فينحصر الترجيح بحسب الدلالة في تعارض الظاهر والاظهر ، نظرا الى احتمال خلاف الظاهر في

٢١٥

كلّ منهما) أي من الظاهر والاظهر (بملاحظة نفسه) أي نفس كلّ منهما.

(غاية الامر ترجيح الاظهر ، ولا فرق في الظاهر والنص).

وكذا : لا فرق في الظاهر والاظهر (بين) ما ذكره من (العام والخاص المطلقين) وغيرهما (اذا فرض عدم احتمال في الخاص يبقى معه) أي مع هذا الاحتمال (ظهور العام) مثل احتمال الامر في قوله : اعتق رقبة مؤمنة ، بعد قوله : اعتق رقبة ، لبيان أفضل الافراد لبقاء الامر بالمطلق حينئذ على ظهوره من الاطلاق (ولئلا يدخل في تعارض الظاهرين) لو كان احتمال الخاص مساويا ، كما اذا قلنا : أنّ مجاز المشهور لا يترجّح على اصالة الحقيقة ، فاحتمال الوجوب في المقيّد مساو لاحتمال الاستحباب ، لأنّه مجاز مشهور فيصير مجملا ، فيبقى المطلق على حاله لأنّ المجمل لا يعارض المبيّن (أو) لئلا يدخل في (تعارض الظاهر والاظهر) لو كان أحد الاحتمالين أقوى من الآخر ، فان كان احتمال الوجوب مرجوحا بالنسبة الى احتمال ارادة الاستحباب ، كانا من قبيل الظاهر والاظهر ، وأن فرض عدم تحقّق هذا الاحتمال فيه ـ ولو لأجل دليل خارجي ـ كانا من قبيل النص والظاهر ، حيث أنّ الظن السندي للخاص يقدّم على الظن الدّلالي للعام.

ووجهه : انّا قد قلنا انّه ليس من باب التعارض ، وانّ الخاص هناك يصلح لان يكون قرينة لعدم شمول العام عليه ، فانّ العام اذا كان مظنون الدّلالة سواء كان مظنون الصدور ايضا ، او مقطوعة ، فالخاص لا يخلو ، أمّا ان يكون مقطوع الصدور والدلالة ، فيكون واردا على العام فيتغير الموضوع ، وامّا ان يكون مظنون الصدور مقطوع الدلالة ، فهنا المظنون سندا أعني الخاص يقدّم على المظنون دلالة أعني العام ، ويكون الخاص حاكما ومفسّرا للعام بحسب دليل الاعتبار ، فلا فرق في الظاهر والنص بين العام والخاص المطلقين (وبين ما يكون التوجيه فيه) أي فيما ورد فيه خبران ، احتمل احدهما توجيها لا يحتمله

٢١٦

الآخر ، من دون فرق بين ما يكون التوجيه فيه (قريبا ، وبين ما يكون التوجيه فيه بعيدا).

فكما أنّ تقديم الخاص المطلق الذي هو نص في الخصوص على العام ، خارج عن مسئلة الترجيح ، كذلك تقديم كلّ خبر يكون نصا في مدلوله على معارضه القابل لتوجيه قريب أو بعيد يرتفع معه التنافي بينهما خارج عن مسئلة الترجيح ، وهذا ينادي بأعلى صوته بوجود الجمع بحسب الدلالة الموجودة في النص والظاهر بين العام والخاص المطلق من المتباينين ، فيكفي مجرّد قابلية أحد الخبرين ولو بتوجيه بعيد في رفع التنافي ، وخروج الخبرين عن موضوع الاخبار العلاجيّة بنظر العرف (مثل صيغة الوجوب مع دليل نفي البأس عن الترك لأن العبرة بوجود احتمال في احد الدليلين) كدلالة الامر على الاستحباب مثلا (لا يحتمل ذلك) الاحتمال (في) الدليل (الآخر ، وان كان ذلك الاحتمال) في الاظهر (بعيدا في الغاية) فاذا تعارض منطوق العام ، كاكرم العلماء مع مفهوم الغاية كأكرم العلماء الى شهر ، يخصّص عموم : أكرم العلماء بمفهوم الغاية ، لكونه أظهر دلالة منه ، لأنّ مفهوم الغاية من أقوى المفاهيم ، فانّ السيّد المرتضى قده ، ينكر مفهوم الشرط ، ولا ينكر مفهوم الغاية (لأنّ مقتضى الجمع) الدّلالي (بين العام والخاص بعينه موجود فيه) أي في الظاهر والاظهر ، لعدم اعتناء العرف بذلك الاحتمال البعيد ، فيكون كالنصّ.

(وقد يظهر خلاف ما ذكرنا في حكم النصّ والظاهر) بتقديم النصّ على الظاهر (من بعض الاصحاب) فانّهم قدّموا الظاهر على النصّ (في كتبهم الاستدلاليّة ، مثل حمل الخاص المطلق على التقيّة) يعني قالوا بطرح اعتق رقبة مؤمنة (لموافقته لمذهب العامّة) ويأخذون باطلاق اعتق رقبة لكونه مخالفا لهم ، لوقوع التعارض بينهما ، ويرجّح الثّاني على الأوّل من حيث مخالفة العامّة.

(منها) أي من موارد تقديم الظاهر على النصّ (ما يظهر من الشيخ ره ، في مسئلة من زاد في صلاته ركعة حيث حمل) شيخ الطائفة قده (ما) أي الخبر

٢١٧

الذي (ورد في صحّة صلاة من جلس في الرّابعة ، بقدر التشهد) (١) وهو الصحيحة التي مضمونها انه اذا جلس في الرّكعة الرّابعة بقدر ما يتشهد ، ثمّ قام وزاد ركعة خامسة لصحّت صلاته ، قيل : لأنّ نسيان التشهد غير مبطل فاذا جلس بقدره ، فقد فصل بين الفرض والزيادة ، ولكنّه قده حمل هذه الرواية التي هي الخاص (على التقية) لكونها موافقا للعامة (وعمل على عمومات ابطال الزيادة) لقول المعصوم (ع) : لا تعاد الصلاة من سجدة ، ولكن تعاد من ركعة ، ولقوله (ع) : من زاد في صلاته ، فعليه الاعادة (٢) (وتبعه) أي وتبع شيخ الطائفة قده ، (بعض متأخري المتأخرين) لعلّ المراد به صاحب الاشارات (لكن الشيخ ره ، كأنه بني على ما تقدّم) ذكره (في العدّة والاستبصار ، من ملاحظة المرجّحات قبل) الجمع من حيث الدّلالة و (حمل احد الخبرين على الآخر او) كأنه بني (على استفادة التقيّة من قرائن آخر غير موافقة مذهب العامّة) فالرواية عنده بنفسها ظاهرة في التقية ، لا أنه تحمل على التقية.

(ومنها) أي ومن موارد تقديم الظاهر على الاظهر (ما تقدم عن بعض المحدثين من مؤاخذة) أي من الاعتراض عليهم بأنهم لم حملوا الظاهر على خلاف الظاهر؟ أعني (حمل الامر والنهي) الظاهر في الوجوب ، أو التحريم (على الاستحباب ، والكراهة) لمعارضة خبر الرخصة الذي هو الاظهر ، زعما منه انه طريق جمع لم يظهر اليه اشارة في اخبار الباب ، مع أنه من الجمع العرفي ، بمعنى أنّه مخالف لقول الامام عليه‌السلام ، لان الامام (ع) لن يجعله مرجّحا وقد جعلوه مرجّحا ، وهذه مخالفة للامام عليه‌السلام.

(وقد يظهر من بعض ، الفرق بين العام والخاص) المطلق (والظاهر في الوجوب) كما لو ورد : صلّ عند رؤية الهلال ، فانّ الأمر ظاهر في الوجوب

__________________

(١) الوسائل : الجزء ٥ ص ـ ٣٣٢ (الرواية : ٤).

(٢) الوسائل : الجزء ٥ ص ـ ٣٣٢ (الرواية : ٢).

٢١٨

(والنصّ في الاستحباب) كما لو ورد : ان تركتها فلا بأس به ، فانه نصّ في الاستحباب (وما يتلوهما) يعني ما يكون نظير الامر والنهي (في قرب التوجيه) بالحمل على غير الظاهر لكثرة استعمال الامر في الاستحباب والنهي في الكراهة ، فانه فرّق بين هاتين الصورتين (وبين غيرهما ، ممّا كان تأويل الظاهر فيه بعيدا ، حيث قال :) هذا البعض في بيان الفرق (بعد نفي الاشكال عن الجمع بين العام والخاص والظاهر في الوجوب ، والنص في الاستحباب) بمعنى انه قال : لا اشكال في الجمع بين العام والخاص ، كحمل : اكرم العلماء على ما عدا : لا تكرم النحاة ، ولحكومة النص أعني لا بأس على الظاهر ، وهو : صلّ ، في المثال المتقدم ، فالجمع فيهما وفيما شابههما ممّا لا اشكال فيه.

ولكن قد (استشكل الجمع) أي رآه مشكلا (في) غير ما ذكر ، بل لا بدّ من الاخذ باحدهما ، وطرح الآخر (مثل ما اذا دلّ الدّليل على أنّ القبلة أو مسّ باطن الفرج) بالاصبع (لا ينقض الوضوء) وهذا نصّ في ذاك المعنى (ودلّ دليل آخر) الذي هو الظاهر (على أنّ الوضوء يعاد منهما) أي من التقبيل والمسّ (وقال :) هذا البعض (بانّ الحكم بعدم وجوب الوضوء في المقام ، مستند الى النص المذكور).

ان قلت : يمكن ان يجمع بينهما بحمل : يعاد ، على الاستحباب لانّ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح.

قلت : (وأمّا الحكم باستحباب الوضوء) المستفاد من : يعاد ، أنّما يمكن اذا دلّ الدّليل عليه من اجماع ونحوه ، وهو مفقود (فليس له) أي الحكم بالاستحباب (مستند ظاهر ، لأنّ تأويل كلامهم) عليهم‌السلام (لم يثبت حجيته إلّا اذا فهم من الخارج ارادته) ـ التأويل ـ (والفتوى ، والعمل به) أي باستحباب الوضوء (محتاج الى مستند شرعي ، ومجرد أولوية الجمع غير صالح) لهذا الحكم.

(اقول) الجمع بينهما أولى من الطرح لوجهين.

أمّا أوّلا : لانّا (بعد ما ذكرنا من أنّ الدّليل الدالّ على وجوب الجمع بين

٢١٩

العام والخاص وشبهه) من النصّ والظاهر والاظهر (بعينه جار فيما نحن فيه) أعني : لا ينقض الوضوء ، و : يعاد (وليس الوجه في الجمع) بينهما بحمل : يعاد ، على الاستحباب من باب (شيوع التخصيص) الذي دلّ عليه العقل ، حتى يقال : ليس له مستند شرعي فكما أنّ العامّ المخصّص لم يكن من هذا القبيل ، هكذا فيما نحن فيه (بل المدار) في امثال ذلك على العرف ، فكما أنّ العرف يجعل الخاص كاشفا ومبيّنا لمدلول العام الذي ينافيه ، سواء فرض ابتلائه بالمعارض ، أو عدم ابتلائه ، اذ : لا تكرم النحاة ، مثلا نصّ فيه لا يشمل غير النحاة ، ولكن يمكن أن يحمل أكرم العلماء على غير النحاة ، والمقام أيضا كذلك ، لأنّ المناط في الجمع (على احتمال موجود في احد الدليلين) وهو : يعاد ، الدّال على الاستحباب (مفقود في الآخر) أي في : لا ينقض الوضوء.

وأمّا ثانيا : فقد اعترف الخصم بأنّ الأمر شايع في الاستحباب ، مع أنّه لم يكن له مستند شرعي ، فكما أنّه لا تعارض بين النصّ والظاهر ، وأنّ الأمر دائر فيهما بين أخذ أصالة الحقيقة في الظاهر وطرح سند النصّ ، وبين جعل الأمر بالعكس ، ومن البيّن أنّ رفع اليد عن أصالة الحقيقة في الظاهر أولى من طرح سند النّص ، فلا مانع من أن يكون المقام أيضا كذلك ، كما قال : (مع أنّ حمل ظاهر وجوب اعادة الوضوء) المستفاد من قوله : يعاد الوضوء (على الاستحباب أيضا شايع على ما اعترف به) أي بهذا الحمل (سابقا) بقوله بعد نفي الأشكال عن الجمع بين الظاهر في الوجوب والنصّ في الاستحباب (وليت شعري) ـ أي كاش من دانستم ـ أيّ مانع من أن يؤوّل قوله عليه‌السلام : أنّ الوضوء يعاد منهما ، على الاستحباب و (ما الذي أراد) القائل (بقوله : وتأويل كلامهم) عليهم الصّلاة والسّلام (لم يثبت حجّيته ، ألّا اذا فهم من الخارج ارادته ، فان بنى) هذا القائل من هذه الجملة (على طرح ما) أي الدّليل الذي (دلّ على وجوب إعادة الوضوء) وهو قوله (ع) : أنّ الوضوء يعاد منهما (وعدم

٢٢٠