جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

محمّد رضا الناصري القوچاني

جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

المؤلف:

محمّد رضا الناصري القوچاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

(والحق أن تدقيق النظر في اخبار الترجيح يقتضي التزام الأول) وهو الأخذ بذي المزية من أول الأمر منصوصا كان ، أم لا؟ (كما أن التأمّل الصادق في أخبار التخيير يقتضي التزام الثاني) بمعنى أن مورد التخيير بعد التأمل في أدلته هو صورة تساوي الخبرين من جميع الجهات ، ولا ينافي ذلك مع وجوب الترجيح بكلّ مزية من المرجحات المنصوصة أم غيرها.

(ولذا) أي ولأجل أن المنظور هو أخبار التخيير وهي مختصة بصورة عدم المزية أصلا (ذهب جمهور المجتهدين) أعني الأكثر (الى عدم الاقتصار على المرجحات الخاصة) المنصوصة (بل أدعى بعضهم ظهور الاجماع) عليه بقسميه ، قولا وعملا (وعدم ظهور الخلاف على وجوب العمل بالراجح من الدليلين) المتعارضين (بعد أن حكى الاجماع عليه) أي على وجوب العمل بالراجح من الدليلين (عن جماعة) ومنهم العلامة والمحقق قدس‌سرهما فلا يلزم الاقتصار على المرجّحات التي ذكرها القوم لأصالة حجية كل ظن في باب الترجيح لأنه يصير الطرف المظنون ممّا لا ريب فيه ، والطرف الآخر مما فيه

__________________

ـ تتمة الهامش من الصفحة ١٨٠

الوجه فيه أن كان ظهور الأسئلة نظرا إلى أن قول السائل : يأتي عنكم خبر أن أحدهما يأمرنا والآخر ينهانا كيف نصنع؟ في اختصاص مورد السؤال بصورة التحيّر ؛ ولا تحيّر مع وجود المزايا ، يرد عليه أن مجرد المزية في أحد الخبرين لا يرفع التحير ـ لأن تيقّن شيء لا ينفي ما عداه واقعا ، نعم إذا انصرف اللّفظ إلى المتيقن خاصة ومعنى الانصراف نفي ما عداه اذن لا يبقى تحير ـ لأن الرافع له هو العلم باعتبار الشارع لها لا مجرد وجودها ولذا وقع السؤال عن المتعارضين في مورد اخبار الترجيح مع ظهوره في صورة التحيّر ، وارجعه الامام عليه‌السلام إلى ملاحظة المرجحات ، مع أن اختصاص مورد أخبار التخيير بصورة عدم المزية اصلا لا يجدي في اثبات اعتبار المزية مطلقا لأن ثبوت التخيير حينئذ أعم من المدعى ، وان كان قرينة اخرى مستفادة من الاخبار فهي مفقودة كما لا يخفى ، انتهى كلامه زيد في الخلد اكرامه.

١٨١

الريب ، فيرجح الأوّل ، فيجب التعدي عن المرجحات المنصوصة.

(وكيف كان فيما يمكن استفادة هذا المطلب) أي وجوب العمل بكل مزية (منه) أي مما يمكن (فقرات من الروايات) ولكن إفادة بعض تلك الفقرات للمطلب على نحو الدلالة ، وإفادة بعضها له على نحو الأشعار أي دون الدلالة ، كما أنّ الوصف ليس له ظهور في المفهوم عند المحققين ومع ذلك يقال : تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية.

(منها الترجيح بالاصدقيّة في المقبولة ، وبالاوثقيّة في المرفوعة) وأعلم أن الاستشهاد بقوله (ع) : وأصدقهما في الحديث مبني على حمل صدر المقبولة أيضا على الترجيح من حيث الرواية الذي هو المتنازع فيه في المقام لأن موردها وأن كان في مقام ترجيح الحاكمين ، كما يدّل عليه فأني قد جعلته عليكم حاكما ، إلا أن ملاحظة جميع الرواية تشهد بأن المراد بيان المرجّح للروايتين اللتين استند اليهما الحاكمان ، وأما على تقدير اختصاصه بالترجيح بين الحكمين ، فيخرج عما نحن فيه ، فلا يكون شاهدا عليه ، فلا يبقى للاستشهاد به مورد وحينئذ فيقتصر في الاستشهاد على قوله (ع) : واوثقهما في نفسك ، في المرفوعة.

وبالجملة أنّ المراد بالأصدق والأوثق أن يكون ملكة الصدق والوثوق فيه أشد من غيره ، فاذا صدر منهما يكون مضمون خبرهما أقرب الى الواقع فيجب الترجيح فاعتبار الأصدقيّة والاوثقيّة ، مشعر بوجوب الترجيح بكل ما يجعل مضمون الخبر أقرب الى الواقع وأن لم يكن ذلك المرجّح من المرجحات المنصوصة ولو لم يكن بعنوان الأصدقيّة كالافصحية مثلا فانه يوجب الظن بان ما كان افصح صدر من الامام عليه‌السلام فالاضبط أصدق من غيره ، وناقل اللفظ أوثق من ناقل المعنى ، وهكذا (فان اعتبار هاتين الصفتين ليس إلّا لترجيح الاقرب الى مطابقة الواقع في نظر الناظر) أي المجتهد (في المتعارضين من حيث أنه أقرب ، من غير مدخلية خصوصية سبب) فيه ، لأن الأقربية الى الواقع

١٨٢

ملحوظة في نفس الخبر مطلقا ، سواء كان المخبر أيضا متصفا بصفة الأصدقيّة في أخباره وجميع أقواله ، أم لا؟ كما أن المراد من الاوثقية هو الوثوق بنفس الخبر بمعنى أنه صادق مطابق للواقع لا كاذب (وليستا) أي الأصدقيّة والاوثقية (كالاعدلية والافقهية تحتملان لاعتبار الاقربية الحاصلة من السبب الخاص) وهو حصول القرب الى الواقع من سبب خاص اعتبره الشرع بحيث لا يكون النظر مجرد الواقع من أي طريق كان ، بل لخصوصية السبب مدخلية في إحراز الواقع ، وعليه فلا يصح التعدي عن موردهما ، اذ احتمال الخصوصيّة يمنع عن التعدّي ، ولا بدّ للقائل بالتعدي رفع هذا الاحتمال بوجه معتمد وهذا بخلاف الأصدقيّة والاوثقية من الاوصاف اذ احتمال خصوصية في سببيتهما ضعيف ، يدفعه التأمل الصادق فأذن لا بأس بالتعدي عن موردهما الى ساير المزايا.

(وحينئذ فنقول : اذا كان أحد الراويين اضبط من الآخر أو أعرف بنقل الحديث بالمعنى) من الآخر (أو شبه ذلك) كاكثرية الرواية وافصحيتها (فيكون أصدق وأوثق من الراوي الآخر) لكون خبره أقرب الى مطابقة الواقع (ونتعدى من صفات الراوي المرجحة الى صفات الرواية الموجبة لاقربية صدورها ، لان اصدقية الراوي واوثقيته لم يعتبر في الراوي ، إلا من حيث حصول صفة الصدق والوثاقة في الرواية) كما يقال في قطع الطريقي ، لأنه لا ينحصر سببه بالسماع من الصادقين عليهما‌السلام بل ولو حصل القطع بالجفر أو الرمل بالواقع يجب عقلا اتباعه فجميع الصفات المنصوصة اذا لم يحتمل فيها خصوصية في سببية داخلة في الأصدقيّة أو الاوثقية ، ويمكن التعدي عنها الى غيرها (فاذا كان أحد الخبرين منقولا باللفظ والآخر منقولا بالمعنى ، كان الأول أقرب الى الصدق ، وأولى بالوثوق) لأنه أبعد من الزلل عن الثاني ، إذ يمكن أن يخطأ في النقل في المعنى كحديث : من والى عليا عليه‌السلام فليعمل ما شاء ، فروى عدة من الشيعة أن الامام (ع) يقول : من والى عليا (ع) فليعمل أيّ عمل ، شرّا كان أو

١٨٣

خيرا؟ وهذا خطأ لأنّ معنى الرواية ان العمل بلا ولاية أي العبادات والطاعات لا تفيد ، فاذا حصل شرط القبول وهو الولاية فحينئذ ينبغي الاعمال والعبادات فالراوي الذي مثل زرارة ومحمد بن مسلم ، اذا روا حديثا لا يحتمل فيهما مثل هذا الخطأ.

(ويؤيد ما ذكرنا) من أن اعتبار الأصدقيّة والاوثقية لأجل اقربيته الى الواقع (أنّ الراوي بعد سماع الترجيح بمجموع الصفات لم يسأل عن صورة وجود بعضها) أي بعض الصفات دون بعض ، وهذا دليل على فهم السّائل الذي يكون مناط الاقربية الى الواقع مطلقا كان مجموع الصفات في الراوي أو بعضها ، وإلّا فان كان اعتبار تلك المرجحات من باب التعبد لسئل عن صورة وجود بعضها ، إذ بيان حكم صورة الاجتماع لا يغني عن بيان حكم وجود البعض (و) يقوي ذلك الاشعار أيضا بعدم سؤال الراوي عن حكم (تخالفها) أي الصفات (في الروايتين).

فعدم ذكر الاوثقية في المقبولة ، وعدم ذكر الافقهية والأصدقيّة والاورعية في المرفوعة دليل على فهم الراوي لجواز الترجيح بكل مزية (وأنما سئل) الراوي (عن حكم صورة تساوي الراويين في الصفات المذكورة وغيرها ، حتى قال : لا يفضل أحدهما على صاحبه يعني بمزية من المزايا اصلا) فان مادة الفضل في قول السائل : لا يفضل ، أعمّ شاملة للمزية المنصوصة ، ولغيرها أيضا وليس مراد المعصوم (ع) من ذكر الاوصاف اجتماع الاوصاف الاربعة ، والدليل على ذلك فهم الراوي (فلو لا فهمه أن كل واحد من هذه الصفات وما يشبهها) أي يشبه من ساير الصفات الموجبة للمزية (مزية مستقلة لم يكن وقع للسؤال عن صورة عدم) مطلق (المزية فيهما) أي في الخبرين (رأسا بل ناسبه) ـ الراوي ـ (السؤال عن حكم عدم اجتماع الصفات) وعن صورة التساوي من حيث المجموع ، وعن صورة وجود بعض الصفات دون بعض ، أو تعارض الصفات بعضها مع بعض ، فعدم سؤاله واكتفائه في الترجيح بكل واحد من

١٨٤

الاوصاف ، يدل على ان مراده عليه الصلاة والسلام كان كل واحد ، وإلّا لكان له (ع) أن يبين للراوي اشتباهه.

(فافهم) لعله كاجتماع الشرائط في التقليد كما يذكر في الرسائل العملية فلا يسأل العوام مما اذا كان واجدا لبعض دون بعض ، كالذكورة ، والحياة ، والاعلمية ، وساير الصفات ، ولعل الصفات في الراوي كالشرائط في التقليد يعتبر المجموع دون الآخر ، فلذا لم يسأل الراوي ـ هذا كله ـ فيما يشعر بالمطلوب من الفقرات.

وأما المفيدة على نحو الدلالة ، فهي فقرتان ، إحداهما : تعليل الاخذ بالمشهور بقوله (ع) : فانّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وثانيهما : تعليل تقديم الخبر المخالف للعامة : بان الحق والرشد في خلافهم.

وتقريب دلالتهما على المطلوب هو ما ذكره المصنف قده بقوله : (ومنها) أي ومن الروايات التي دلت على ان الملاك هو الاقربية مطلقا ، ولو بغير المنصوص (تعليله عليه الصلاة والسلام : الاخذ بالمشهور ، بقوله : فان المجمع عليه لا ريب فيه).

(توضيح ذلك) أعني دلالة هذه الرواية على مطلق الاقربية الى الواقع (أنّ) المراد من الشهرة ، الشهرة من حيث الرواية ، اذ لا معنى لتعارض الشهرتين في الفتوى ، لان الشهرة الفتوائية ذهاب اكثر أهل الفتوى الى فتوى خاص ولا يعقل في زمان واحد أن يكون حكم ونقيضه أو ضده مشهورين بالفتوى ، فالمراد هو الشهرة في الرواية ، و (معنى كون الرواية مشهورة كونها معروفة عند الكل) في التدوين في كتب الحديث لا من جهة الاعتماد في العمل عليها ، كرواية طين المطر طاهر الى ثلاثة ايام (١) مشهورة في الرواية دون العمل (كما يدّل عليه) أي على هذا المعنى (فرض السائل : كليهما مشهورين) بمعنى الشهرة في الرواية ،

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١ ص ـ ١٠٩. (الرواية : ٦).

١٨٥

فان الشهرة في الفتوى لا يعقل في المتضادين أو المتناقضين (والمراد بالشاذ ما لا يعرفه إلّا القليل) بان كان ينفرد بروايته واحد أو اثنان ، وعدم معروفيته عند الرواة.

(ولا ريب أنّ المشهور بهذا المعنى) الذي ذكر (ليس قطعيا من جميع الجهات قطعى المتن) أي السند (والدلالة حتى يصير مما لا ريب فيه) لان مجرد كون الخبر معروفا مشهورا بين الاصحاب لا ينفي منها الريب ، إلا بكونها قطعية من جميع الجهات.

ومن المعلوم : كون الرواية مشهورة لا يفيد القطع بمضمونها لاحتمال التقية ، وغير ذلك من الاسباب التي توجب انتفاء القطع ، وكذا كونها مجمعا على روايتها.

اذ : غاية الامر افادة القطع بالصدور مع احتمال التقية فاذا فرضنا الشهرة تفيد القطع بالصدور من الامام عليه‌السلام كما اذا سمعناه بلا واسطة من حضرة الامام عليه‌السلام ، فهذا لا يدل على أنها حكم واقعي لاحتمال التقية ، فمن أين القطع؟ فيكون المراد أنه لا ريب فيه بالنسبة الى الخبر الشاذ ، بمعنى أنه يحتمل في الشاذ أن يكون كذبا ، وأن يكون تقية ، وهذان الاحتمالان اما منتفيان في الخبر المشهور أو بعيدان عنه ، فيدل بمقتضى وجوب الاخذ بعموم العلة أن كل خبرين يكون أحدهما لا ريب فيه من جهة من الجهات بالنسبة الى الآخر ، يجب الأخذ به ، لان الحكم يتبع العلة عموما وخصوصا ، وهذه العلة عام لكل مرجح يجعل طرفه مما فيه الريب (وإلّا) أي لو كان كذلك يعني قطعي السند والدلالة (لم يمكن فرضهما) معا (مشهورين) إذ لا يمكن كون كلا الخبرين المتعارضين قطعي السند والدلالة (ولا الرجوع إلى صفات الراوي) من الأفقهية والأصدقية (قبل ملاحظة الشهرة).

وذلك لأن أحد الخبرين المتعارضين إذا كان مشهورا بمعنى كونه قطعيا من جميع الجهات ، فمن الواضح لكل أحد أنه لا يجوز اختيار غيره عليه ـ ولو

١٨٦

اشتمل على جميع المرجحات ـ إذ : مع القطع المذكور لا يصلح للمعارضة والمقاومة ، فلا يقبل هذه الصور للسؤال ، ولا لبيان الامام «ع» حكمها من غير سؤال عنها أيضا ، فلا يمكن حمل قوله «ع» : خذ بما أشتهر بين أصحابك ، على هذه الصورة ، ضرورة أنّ الارجاع إلى الامارة الظنية لا يجوز إلّا مع فقدان امارة قطعية (ولا الحكم بالرجوع مع شهرتهما إلى المرجحات الآخر) إذ لا يمكن الرجوع إلى المرجحات مع فرض تعارض القطعيين من جميع الجهات ، أعني من جهة السند والدلالة معا (فالمراد بنفي الريب) من قوله «ع» : فإن المجمع عليه لا ريب فيه ، ليس المقطوع لأن : المجمع عليه ، إذا كان مقطوعا لا يمكن أن يعارضه الشاذ الذي ليس بمقطوع ، فالمراد به الخبر المشهور المظنون الصدور فيكون المراد (نفيه) ـ الريب ـ (بالاضافة إلى الشاذ ، ومعناه أن الريب المحتمل في الشاذ غير محتمل فيه) أي في المشهور (فيصير حاصل التعليل ترجيح المشهور على الشاذ بأن في الشاذ احتمالا لا يوجد في المشهور) فيكون من قبيل منصوص العلة ، ويدور الحكم مع العلة عموما وخصوصا فيجوز التعدي (ومقتضى التعدي عن مورد النص في العلّة وجوب الترجيح بكلّ ما يوجب كون أحد الخبرين أقل احتمالا لمخالفة الواقع) فإنّ كلا من المتعارضين نسبة أحدهما إلى الآخر كنسبة الشاذ إلى المشهور من حيث القوة ، فلا بد من تقديم الأقوى منهما على الأضعف ، كما إذا قيل : لا تأكل الرّمان لأنه حامض ، يستفاد منه ثبوت الحكم لكل ما يوجد فيه الحموضة ، فإذا فرض كون احدى الروايتين منقولة باللفظ ، والأخرى بالمعنى أن الأولى قطعية من حيث عدم احتمال كون الراوي مخطئا في فهمه مراد الامام عليه‌السلام ، ونقله ، بخلاف الثانية فإنه يحتمل أن لا تكون مضمون كلام الامام عليه‌السلام : فتكون الأولى مما لا ريب فيه بالنسبة ، وهكذا إذا كان في خبر ، ثلاثة من صفات الراوي ، وفي آخر اثنان.

(ومنها) أي ومن الأخبار التي يستفاد منه التعدي (تعليلهم عليهم‌السلام

١٨٧

لتقديم الخبر المخالف للعامة بأن : الحق والرشد في خلافهم ، وان ما وافقهم فيه التقية) فالتعليل بذلك إنما هو لأجل اقربية مضمون الخبر المخالف للعامة إلى الواقع من الخبر الموافق لهم ، لأنّه يحتمل في الموافق ما لا يحتمل في المخالف ، وليس المراد انّ كلّما يكون مخالفا للعامّة فهو الحق الموافق للواقع ، وكل ما يكون موافقا لهم فهو الباطل المخالف للواقع (فان هذه كلها قضايا غالبية لا دائمية).

بداهة أن كثيرا من الأحكام الموافقة لرأي العامة ليست من الباطل فيكون المراد أنه يجب طرح الموافق ، لأنه يحتمل كونه تقيّة ، لأنّ الغالب فيما سمعتم مني يشبه قولهم التقية ، والمستفاد منه أنّ مخالفة العامة تكون بمرتبة من الاصابة إلى الواقع حتى يكون الحق والرشد فيها ، وعموم العلّة قاض بالتعدي إلى كل حديث يكون الرشد الظني في خلافه (فيدلّ) هذا الخبر (بحكم التعليل) المذكور (على وجوب ترجيح) بكل ما يكون مضمونه أقرب للواقع من الخبر الآخر ، ولازم ذلك هو التعدي إلى (كل ما كان معه امارة الحق والرشد ، وترك ما فيه مظنة خلاف الحق والصواب) ـ ولو لم تكن من مقولة مخالفة العامّة ـ (بل الانصاف : أن مقتضى هذا التعليل كسابقه وجوب الترجيح بما هو أبعد عن الباطل من الآخر) يعني كما أنّ قوله «ع» : فانّ المجمع عليه مما لا ريب فيه ، يكون من منصوص العلّة وبمنزلة الكبرى الكلية ، فيكون مفاد التعليل هو التعدي إلى كل مزية تقتضي اقربية صدور ذي المزيّة إلى الحق من الفاقد لها هكذا موافقة العامة توجب اقربية الموافق إلى الباطل المستلزم لا بعدية الآخر عنه ، ـ وإن لم يحصل القطع بالقرب إلى الواقع ـ (وان لم يكن عليه) أي على الخبر الذي رجّحناه (امارة المطابقة) بمعنى أن يفيد الظن بالواقع بل احتمال الطرف ضعيف ، لا أن هذا الخبر قوي حتى يكون امارة للواقع ، نظير ما إذا كان مؤذّنان أحدهما ليس معلوم العدالة والآخر معلوم الفسق ، فيرجّح الأول على الثاني مع عدم امارة مطابقة للواقع لعدم معرفة عدالته (كما يدلّ عليه) أي على هذا المعنى

١٨٨

(قوله عليه‌السلام : ما جاءكم عنا من حديثين مختلفين فقسهما على كتاب الله واحاديثنا ، فإن اشبههما فهو حق ، وان لم يشبههما فهو باطل) (١) (فانه) أي الشأن (لا توجيه لهاتين القضيتين) المذكورتين (الا ما ذكرنا من ارادة الابعدية عن الباطل ، والاقربية إليه) فما كان موافقا لكتاب الله هو أبعد عن الباطل بالنسبة إلى المخالف ، بحيث لو لم يكن المخالف لكان الموافق امارة تفيد الظن.

(ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) (٢) الريبة هي قلق النفس واضطرابها يسمى به الشك لأنّه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة ، فإنه (دلّ على أنه إذا دار الأمر بين الأمرين ، في أحدهما ريب ليس في الآخر ذلك الريب يجب الأخذ به) أي بالثاني ، فإن الخبر المقرون بمزية من المزايا لا ريب فيه بالنسبة إلى الآخر ، لا أنه ليس له ريب بقول مطلق ، لمكان وجود احتمال كذب ، أو تقيّة ، أو نحوهما ، في الثاني دون الأول (وليس المراد) مما لا ريب فيه (نفى مطلق الريب) من جميع الجهات (كما لا يخفى) فإذا جعل مقابلة مما فيه ريب يكون لا ريب فيه هو الاضافي منه ، فيكون محصّل الرواية أنه إذا ورد أمر أن أحدهما فيه ريب ، والآخر ليس فيه هذا الريب ، يجب الأخذ بالثاني.

(وحينئذ فإذا فرض أحد المتعارضين منقولا باللفظ ، والآخر منقولا بالمعنى ، وجب الأخذ بالأول ، لأن احتمال الخطأ في النقل بالمعنى منفي فيه) بالنسبة إلى الثاني ، لأنه وان احتمل كذب الرواية من جهة الصدور ـ وهذا الاحتمال موجود أيضا في الآخر المنقول بالمعنى ـ لكن يوجد فيه احتمال الخطأ في فهم المراد وهذا الاحتمال منفي في المنقول باللفظ ، فحينئذ الخبر المنقول باللفظ أقرب إلى الواقع من معارضة المنقول بالمعنى ، لأن فيه احتمالان ،

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ٨٩. (الرواية : ٤٨).

(٢) الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ١٢٧. (الرواية : ٥٦).

١٨٩

أحدهما احتمال عدم الصدور ، والثاني : احتمال الخطأ ، والأوّل لو كان فيه ريب فهو من جهة عدم صدوره ، فبناء على مرجحيّة الشهرة باعتبار أنه يوجب الريب في المعارض أكثر ويدخل فيما لا ريب فيه بالاضافة ، ولذا يجب الأخذ به فهكذا ما نحن فيه ، لأن المنقول باللفظ لا ريب فيه ، بالاضافة إلى المنقول بالمعنى (وكذا) يجب الأخذ بالأوّل (إذا كان أحدهما) أي احد الخبرين قليل الواسطة وهو المعبّر عنه بعلوّ الاسناد كما قال : (أعلى سند القلّة الوسائط) على كثيرها ما لم يبلغ حد الشذوذ الرافع للوثوق باتصال السند أو يستبعد باعتبار الطبقة ، (إلى غير ذلك من المرجّحات النافية للاحتمال الغير المنفي في طرف المرجوح) بعد ثبوت القول بوجوب التسري والتعدي إلى المرجحات غير المنصوصة.

فلنشرع في (المقام الرّابع في بيان) اقسام (المرجحات) وذكر احكامها (وهي) أي المرجحات (على قسمين).

(أحدهما : ما يكون داخليا وهي) أي المرجحات الداخلية على ما عرفها ، عبارة عن (كل مزية غير مستقلّ في نفسه) أي لا يستقلّ في نفسه من حيث الدليلية على حكم على تقدير اعتبارها شرعا ، بمعنى أنها ليست صالحة للطريقية إلى حكم من الأحكام لعدم كشفه عن حكم حتى يصلح لجعلها حجة وطريقا إليه (بل متقوّمة بما فيه) أي متقومة بمعروضها يعني متقوم بالخبر لا استقلال له في الوجود ، كصفات الراوي من الأفقهية والاعدلية ، والأضبطيّة ، ونحو ذلك ، وصفات السند مثل كونه عاليا ، أو متصلا ، أو نحوهما ، أو صفات متن الرواية ، مثل الأفصحية ، ونحوها فإن شيئا منها لا يكشف عن حكم بنفسه بل الكاشف عنه كذلك انما هو مواردها وهي مؤدّي الرّوايات.

ومن هنا علم معنى المرجح الخارجي أيضا بالمقابلة ، فإنه خلاف الداخلي ، فهو كلّ مزية يكشف بذاتها عن حكم بحيث لو اعتبرها الشارع لكانت بنفسها مثبتة لحكم من الأحكام الشرعية ، كنفس الكتاب ، والأصل لا موافقة

١٩٠

الخبر لهما ، وله اقسام عديدة أشار إليها بقوله.

(وثانيهما : ما يكون خارجيا) وقد عرفه (بأن يكون امرا مستقلا بنفسه ولو لم يكن هناك خبر) يترجح به على معارضة والخارجي المستقل (سواء كان معتبرا ، كالأصل ، والكتاب) والسنة المتواترة (أو غير معتبر في نفسه ، كالشهرة) الفتوائية (ونحوها) من : الاجماع المنقول ، والاستقراء الناقص ، والأولوية الظنّية ، وغيرها.

(ثم) المرجّح (المستقل أما أن يكون مؤثرا في أقربية) مضمون (أحد الخبرين إلى الواقع ، كالكتاب ، والأصل) العملي (بناء على افادته) أي الأصل (الظن) بناء على حجية الاستصحاب من باب افادة الظن ، وكون حجية اصل البراءة من باب استصحاب البراءة الأصلية (أو غير مؤثّر ككون الحرمة أولى بالأخذ من الوجوب) فإذا ورد خبر بوجوب صلاة الجمعة مثلا ، وورد آخر بحرمتها ، يقدم الثاني لقاعدة الأولوية (والأصل ، بناء على كونه من باب التعبد الظاهري) يكون مرجحا على غير مسلك المصنف قده (وجعل) المرجح الخارجي (المستقل مطلقا) أي بأيّ نحو كان (خصوصا ما لا يؤثّر في الخبر من المرجحات ، لا يخلو عن مسامحة) يعني تسميتهم المعتبر مرجحا ، إنما هو من جعل العلماء ، لا جعل الشارع ، لأنه لم يعبّر عنه ولا عن غيره من المرجحات أيضا بلفظ المرجح في الأخبار المأثورة عن أهل العصمة عليهم‌السلام ، حتى يقال أنه على وجه الحقيقة أو المسامحة ، وإنما سميها العلماء بهذا الاسم.

ووجه المسامحة في تسمية مطلق المعتبر من المرجحات الخارجيّة بالمرجح ، أنّه قد مرّ أنّ المرجّح الخارجي هو ما يكون مستقلا بنفسه في الدليلية على تقدير اعتباره في نفسه ، فإذا فرض في اعتباره كذلك فهو بنفسه دليل على الحكم الذي يفيده احد الخبرين المتعارضين الموافق له ، فلا بدّ من الالتزام بذلك الحكم على تقدير الترجيح والعمل بالراجح منها ، وعلى تقدير عدمه فلا يزيد على تقدير الترجيح به شيء ، بل الترجيح حقيقة راجع إلى العمل به ، لا

١٩١

بالراجح منهما ، فهو مرجع في الحقيقة لا مرجح.

(أما) المرجح (الدّاخلي فهو على اقسام) أربعة.

أحدها : ما يكون راجعا إلى الصدور.

وثانيها : ما يكون راجعا إلى وجه الصدور.

وثالثها : ما يكون راجعا إلى المضمون.

ورابعها : ما يكون راجعا إلى الدلالة كما قال : (لأنه أما أن يكون راجعا إلى الصدور) فلا بدّ في مقام الترجيح من ملاحظته لأنه لو لم يعلم صدوره عن المعصوم «ع» لا يكون وجه لاعتباره ، فإذا ورد عن أحد المعصومين «ع» خبر أن حجّتان بأنفسهما ، متكافئان من جهة الدلالة والمرجحات الخارجية ، كان اللازم الرجوع إلى المرجحات السندية ـ ومعنى اعتبار السند صدور متن الرواية من الامام عليه‌السلام ـ ثم الترجيح بها (فيفيد المرجح كون الخبر أقرب إلى الصدور ، وأبعد عن الكذب) وهو يحصل بأمور (سواء كان) الترجيح (راجعا إلى سنده) أي الخبر ، (كصفات الرّاوي) ككون راوي أحدهما جازما وعالما بما يرويه ، فيرجّح خبره على من يظن بما يرويه ، ولا يجزم به لرجحان الظن الحاصل من خبر الأول على الظن الحاصل من خبر الثاني ، وهكذا الأفقهية ، والأعدلية ، والاضبطية وغيرها (أو) راجعا (إلى متنه كالافصحية) حيث يكون الآخر فصيحا (ـ وهذا) أي الترجيح الداخلي (لا يكون إلّا في اخبار الآحاد ـ) وأما المتواتر فمعلوم الصدور لا يحتاج إلى مرجح في الصدور ، فإن كان فيه شك فراجع إلى الدلالة (واما أن يكون راجعا إلى وجه الصدور) والمراد بوجه الصدور ، هو احراز كون الكلام الصادر من المتكلّم صدر لبيان الحكم الواقعي النفس الأمري ، بحيث لا يكون فيه شائبة خلاف للواقع ، وعليه إذا لم يحرز ذلك الوجه ، واحتمل التقيّة ، أو التورية ، أو غير ذلك من الوجوه فلا بد لكشف المراد من التأمل ودفع هذه الاحتمالات ، حتّى يكون الكلام صالحا للاستناد ، فحينئذ إذا كان الخبر أن المتعارضان ، وكان احدهما ذا رجحان من جهة الصدور

١٩٢

(ككون احدهما مخالفا للعامة ، أو) مخالفا (لعمل سلطان الجور ، أو) مخالفا لعمل (قاضي الجور) فيرجح المخالف منها على الموافق لاحتمال التقية فيه (بناء على احتمال كون مثل هذا الخبر صادر الأجل التقية ، وأما أن يكون راجعا إلى مضمونه) فلا بدّ أيضا من ملاحظته لجعل مضمون احد الخبرين أقرب إلى الواقع (كالمنقول باللفظ بالنسبة إلى المنقول بالمعنى ، إذ يحتمل الاشتباه في التعبير) من حيث المعنى (فيكون مضمون المنقول باللفظ أقرب إلى الواقع ، وكالترجيح بشهرة الرواية) لكون مضمونه أقرب إلى الواقع. الأولى حمل عبارة المصنّف قده على الشهرة الفتوائيّة وإلّا فالشهرة في الرّواية مرجح للصدور (ونحوها) كالترجيح بالشهرة العملية من جهة موافقتها لأحدهما مثلا.

(وهذه الأنواع الثلاثة كلّها متأخرة عن الترجيح باعتبار قوة الدلالة فإن الأقوى دلالة مقدّم على ما كان أصح سندا) مثلا : إذا تعارض العام والخاص ، وكان الأوّل اقوى سندا فقوة سنده لا يصلح مرجحا لتقديمه على الخاص لضعف دلالة الأوّل وقوة الثاني ، فترجيح الأوّل على الثاني ترجيح من غير مرجح ، وهكذا إذا كان أحد الخبرين مقيّدا يقدّم على المطلق (و) ايضا أقوى دلالة مقدم على ما كان (موافقا للكتاب) فإنه معطوف على أصح سندا بمعنى أن أقوى دلالة مقدّم على هذه الأمور (و) مقدم على ما كان (مشهور الرواية بين الأصحاب ، لأن صفات الرواية لا يزيده على المتواتر) بمعنى أنه إذا كان العام متواتر الا يقدّم على الخاص المعتبر ، فكيف إذا لم يكن متواترا (وموافقة الكتاب لا يجعله) أي لا يجعل الخبر الموافق (أعلى من) نفس (الكتاب ، وقد تقرر في محله) وهو مباحث الألفاظ (تخصيص الكتاب و) عموم الخبر (المتواتر بأخبار الآحاد) وقد مرّ مثاله سابقا والمفروض أنّ المرجح الدلالي مفهومه ما يكون دلالة احد المتعارضين أقوى من الآخر ، ومصداقه إنما هو في موردين الأوّل النص والظاهر ، والثاني الظاهر والأظهر.

أما الأوّل : فقد مرّ أنه ليس من باب التعارض ، بل انما هو من باب الوارد

١٩٣

والمورود ، أو الحاكم والمحكوم.

وبعبارة أخرى تقديم النص على الظاهر خارج عن مسئلة الترجيح بحسب الدلالة اذ الظاهر لا يعارض النص حتّى يرجح النّص عليه ، نعم النصّ الظني السند يعارض دليل سنده لدليل حجية الظهور لكنّه حاكم ومفسر على دليل اعتبار الظاهر ، فينحصر الترجيح بحسب الدلالة في تعارض الظاهر والأظهر نظرا إلى احتمال خلاف الظاهر في كلّ منهما بملاحظة نفسه ، غاية الأمر ترجيح الأظهر مثلا إذا تعارض منطوق العام كأكرم العلماء مع مفهوم الغاية كأكرم العلماء إلى أن يفسقوا فيخصّص عموم أكرم العلماء بمفهوم الغاية لكونه أظهر دلالة منه (فكل ما يرجع التعارض إلى تعارض الظاهر والأظهر ، فلا ينبغي الارتياب) والشك (في عدم ملاحظة المرجحات الأخر).

(والسرّ في ذلك) أي في عدم ملاحظة المرجحات الآخر (ما أشرنا إليه سابقا من أنّ مصبّ) «مورد» (الترجيح بها) أي بهذه المرجّحات (هو ما إذا لم يمكن الجمع بوجه عرفي يجري في كلامين مقطوعي الصدور على غير جهة التقية) فتقديم الخاص على العام انّما هو بالنسبة إلى العام المجرد عن التقية ، إذ لا تعارض بين القرينة وذيها (بل) العام والخاص مثلا (في) الحقيقة بمنزلة (جزئي كلام واحد) صدر في مجلس واحد (لمتكلّم واحد) بمعنى كما إذا قال المولى في مجلس واحد : أكرم العلماء الا النحاة لا تعارض بينهما ، هكذا اذا تكلم بهما في مجلسين بذكر العام في مجلس والخاص في الآخر قبل حضور وقت العمل بالعام ، كما لو قيل في يوم الخميس : أكرم العلماء يوم السبت ، ثم قيل يوم الجمعة لا تكرم النحاة.

نعم إذا صدر الخاص على جهة التقية ففي هذه الصورة يبقى العموم على عمومه.

(وبتقرير آخر : اذا أمكن فرض صدور الكلامين) كالعام والخاص (على غير جهة التقية ، وصيرورتها كالكلام الواحد على ما هو مقتضى دليل وجوب

١٩٤

التعبد بصدور الخبرين) فمعنى : صدّق العادل يعني نزّل مظنون الصدور منزلة مقطوع الصدور ، ومقتضى ذلك وجوب الأخذ بكلا الخبرين لا أخذ أحدهما ترجيحا أو تخييرا (فيدخل في قوله عليه‌السلام : أنتم أفقه الناس اذا عرفتم معاني كلامنا الى آخر الرواية المتقدمة و) يدخل في (قوله عليه‌السلام أن في كلامنا محكما ومتشابها فردوا متشابهها الى محكمها) أي برد الظاهر الى النص والأظهر ، للزوم الترجيح من حيث الدلالة.

والحاصل : أنّه لا أشكال في تقديم المرجح من حيث الدلالة على ساير المرجحات على ما هو مقتضى الاخبار ايضا (ولا يدخل ذلك) أي تقديم الاظهر على الظاهر ، أو الخاص على العام (في مورد السؤال عن علاج المتعارضين) لأن مورد السؤال مورد التحير ، ولا تحيّر في مثل العام والخاص المطلق إذا كان الخاص متصلا بالعام ، كما إذا قيل : أكرم العلماء الا النحاة ، فإنه يظهر منه خروج النحاة عن مورد وجوب الاكرام.

وأما اذا كان بين العام والخاص افتراق خصوصا مع تأخّر الخاص عن العام بزمان كما اذا كان العام صادرا من أحد الائمة السابقين (ع) والخاص عن أمام (ع) لاحق ، ففي بادئ النظر يمكن أن يقع للناظر في كليهما تحير وتردد في تشخيص المراد ، لكن بعد البناء على جمع الروايتين وفرضهما كرواية واحدة صدرت من لسان واحد في زمان واحد ، فحينئذ يصير حاله مثل حال المخصّص المتّصل ويرفع عن الناظر فيهما التحيّر ويصير الخاص قرينة عرفية على ما هو المراد من العام ، ولا تعارض بينهما.

وذلك لأنّ العام والخاص اللّذين هما أظهر موارد الجمع العرفي لا يصار معه الى الأخبار العلاجيّة ربّما يعدّان متنافيين متعارضين مع عدم فرض اقترانهما بحيث يحصل التحيّر للانسان لكن إذا فرضا مقترنين يرفع عنه هذا التحيّر بعدم فهم التنافي بينهما إذا كانا مقترنين عرفا بوجه فلا بدّ للعامل بالاخبار العلاجية في

١٩٥

مورد من فرض صدور كلا المتعارضين وفرض اقترانهما أيضا ، فإن حصل به التحير حينئذ على وجه يحتاج في فهم مراد الشارع إلى بيان آخر منه ، فله العمل بتلك الأخبار ، وإلّا فلا ، كما قال : (بل مورد السؤال عن العلاج) في المتعارضين (مختص بما إذا كان المتعارضان لو فرض صدورهما) أي صدور المتعارضين (بل اقترانهما تحيّر السائل فيهما ولم يظهر المراد) أي مراد الشارع (منهما إلا ببيان آخر لاحدهما أو لكليهما).

أما الأول : كما في العامين من وجه ، مثلا : إذا ورد أكرم العلماء ، وورد أيضا : لا تكرم الفساق ، وقام الاجماع على أن الفساق مقيد بالجاهل ففي هذه الصورة يبقى اكرم العلماء على حاله.

وأما الثاني : كما في المتباينين بحسب الظهور ، كقوله (ع) ثمن العذرة سحت ولا بأس ببيع العذرة ، فإن الجمع في ذلك يتوقف على التصرف فيهما معا بتقييد كل واحد من المطلقين بصورة خاصة ، مثلا خبر الجواز نقيّده بعذرة غير الانسان ، وخبر المنع نقيّده بعذرة الانسان.

(نعم قد يقع الكلام في ترجيح بعض الظواهر على بعض ، وتعيين الأظهر) كما لو فرضنا أكثر العلماء ـ نعوذ بالله ـ فاسقين ، ودار الأمر بين تصرّف في ظهور أكرم العلماء ولا تكرم الفساق ، فنحكم بتقديم أكرم العلماء لأنه لو خصّصناه يلزم تخصيص الأكثر ، وهو قبيح (و) لكن (هذا خارج عما نحن فيه) لانّا نبحث في المقام في مورد التحيّر ، ومع لزوم الاستهجان لا تحيّر.

(وما ذكرناه) من تقديم الجمع الدلالي على ساير المرجحات (كأنه مما لا خلاف فيه كما استظهره بعض مشايخنا المعاصرين) ـ لعلّه هو شريف العلماء قده ـ (ويشهد له) أي لما استظهره قده (ما يظهر من مذاهبهم) أي العلماء ، (في الاصول) أي أصول الفقه (وطريقتهم في الفروع) أي فروع الدين كالصلاة والصوم.

١٩٦

(نعم قد يظهر من عبارة الشيخ) أي شيخ الطائفة قده (في الاستبصار خلاف ذلك) فهو قدّه قدم ساير المرجحات على الجمع الدلالي (بل يظهر منه أن الترجيح بالمرجحات يلاحظ) حتى (بين النص والظاهر) مع ما مرّ من أنه لم يكن من باب التعارض حتى يحتاج الى الترجيح (فضلا عن الظاهر والأظهر ، فإنه قده بعد ما ذكر حكم الخبر الخالي عما يعارضه ، قال : وان كان هناك) يعني عند ورود خبر (ما يعارضه فينبغي أن) يراعى الترتيب بين المرجحات في الرجوع الى صفات الراوي ، بإن (ينظر في المتعارضين ، فيعمل على أعدل الرواة في الطريق) ويطرح قول العادل ، فإذا كان راوي لا تكرم النحاة عادلا وراوي أكرم العلماء أعدل ، يعمل بالعموم ويطرح الخاص.

(وان كانا) أي المتعارضين (سواء في العدالة ، عمل بأكثر الرّواة عددا) فإن دلّ خمس روايات على حلية شيء ، ودل رواية على حرمة ذلك الشيء ، يؤخذ بالأول ويطرح الثاني.

(وان كانا متساويين في العدالة والعدد ، وكانا عاريين عن القرائن التي ذكرناها ينظر فان كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر ، على بعض الوجوه وضرب من التأويل) بالتصرف في ظهوره كالمطلق والمقيّد (كان العمل به أولى من العمل بالآخر الذي يحتاج مع العمل به الى طرح الخبر الآخر) أي معارضه (لانه) أي الشأن (يكون العامل به) أي بهذا الخبر (عاملا بالخبرين معا) هذا هو محلّ الاستشهاد من كلام شيخ الطائفة قده اذ : اقتصر هنا على تقديم المرجحات السندية على الجمع بين النص والظاهر فان النص هو الذي يمكن ان يعمل به ويتصرّف في الظاهر ، ولكن اذا عمل بمقابله أعني الظاهر لا يمكن العمل بالنص بل لا بدّ من طرحه (وان كان الخبر أن يمكن العمل بكلّ منهما كما في العموم) والخصوص (من وجه ، وحمل الآخر على بعض الوجوه من التأويل ، وكان لاحد التأويلين خبر يعضده أو يشهد به على بعض الوجوه صريحا أو تلويحا) قوله : (لفظا أو منطوقا) لفظان مترادفان (أو دليل الخطاب) أعني

١٩٧

مفهوم المخالفة كما أن فحوى الخطاب بمعنى مفهوم الموافقة (وكان الآخر عاريا عن ذلك ، كان العمل به) أي بالخاص (أولى من العمل بما لا يشهد له شيء من الأخبار ، واذا لم يشهد لأحد التأويلين شاهد آخر ، وكانا متحاذيين) أي كل منهما مساويا ومعارضا للآخر (كان العامل مخيّرا في العمل بأيّهما شاء) (١) بإن يؤوّل أيّهما أراد.

ملخّصه : إذا كان التعارض بين الخبرين بالعموم من وجه ، بحيث يمكن العمل بعموم كلّ واحد منهما مع العمل بالآخر في الجملة ، فمختار شيخ الطائفة قده أنّه إذا كان أحد العامين من وجه مقترنا ومعتضدا بشاهد من الخارج ، يعمل بعمومه ، وبالنتيجة يقدّم في مادّة التعارض ـ وهو مورد اجتماعهما ـ وأن لم يكن كذلك ، فالعامل بالخيار أي في مورد التعارض ، والشاهد من الخارج قد يكون منطوق رواية أخرى ، أو مفهومها ، وقد يكون الشاهد تلويحا دون أن يكون دالا ، مثلا بين أكرم العلماء ولا تكرم الفساق ، عموم من وجه ، فلو ورد خبر بهذا المضمون ، الفاسق اذا كان فسقه عن جهل فهو أقرب الى الله من العالم العاصي (٢) وأنّه يغفر للجاهل سبعون ذنبا ، قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد ، يمكن أن يؤيّد تخصيص العلماء بالعدول بهاتين الجملتين ، كما أنه يمكن تأييد تخصيص الفاسق بالجاهل بهذا الحديث ، مثلا : اطلبوا العلم ولو لغير الله فأنّه سيجر ـ أو سيئول ـ الى الله ، ولكن اذا لم يكن أحد المؤيّدين موجودا فالعامل مخيّر بين الخبرين في مادة الاجتماع وهو مورد تعارضهما ، أعني العالم الفاسق بالاكرام وعدمه ، وأما في مورد الافتراق فكلّ منهما حجة بمعنى : أن إكرام

__________________

(١) الاستبصار : ج ـ ١ (في اقسام الحديث ومحامله) ص : ٤.

(٢) عن الإمام الصادق عليه‌السلام : ما أحبّ الله من عصاه ثمّ تمثّل :

تعصي الاله وأنت تظهر حبّه

هذا لعمرك في الفعال بديع

لو كان حبّك صادقاً لاطعته

أنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع

(الوسائل : الجزء ١١ ـ ص ٢٤٣). (الرواية : ٩).

١٩٨

العالم العادل واجب ، وإكرام الجاهل الفاسق محرّم (انتهى موضع الحاجة ، و) أيضا يستفاد تقديم ساير المرجّحات على الجمع من حيث الدلالة على ما (قال في العدّة ، وأما الأخبار اذا تعارضت وتقابلت فإنه يحتاج في العمل ببعضها) ـ الأخبار ـ (الى ترجيح ، والتّرجيح يكون ناشئا منها) أي من المرجحات (أن يكون أحد الخبرين موافقا للكتاب أو السنة المقطوع بها ، والآخر مخالفا فإنه) أي الشأن (يجب العمل بما وافقهما وترك ما) أي الخبر الذي (يخالفهما) أي يخالف الكتاب ، أو السنّة المتواترة ، مثل : ما لو فرض أنه ورد في خبر : أكرم زيدا العالم ، وفي آخر لا تكرم العلماء ، وتعارضا ، وفرض كون الكتاب نصا موافقا للخبر الثاني ، فيكون الكتاب معاضدا له فيطرح المخالف أي الخاص رأسا ، مع أنّ هاهنا محلّ الجمع الدلالي ، لا الطرح (وكذلك) الحكم (أن وافق أحدهما) أي أحد الخبرين المتعارضين (إجماع الفرقة المحقة و) الخبر (الآخر يخالفه وجب العمل بما يوافقه ، وترك ما يخالفهم) فلو ورد رواية بحرمة النظر الى أمّ الزوجة ، وورد أخرى بحليتها نعمل بالأخير دون الأولى لأنّها اتفاقي (فإن لم يكن مع أحد الخبرين شيء من ذلك) بإن لم يعاضده الكتاب ، أو السنة ، أو الاجماع (وكانت فتيا) ـ وهو اسم مصدر سماعي بمعنى الفتوى ـ (الطائفة) أي الشيعة الاثنى عشرى (مختلفة ، نظر في حال رواتهما) أي الخبرين (فإن كان إحدى الروايتين راويها عدلا) أي أعدلا (١) (وجب العمل بها وترك العمل بما لم يروه العدل ، وسنبيّن القول في العدالة المرعية) أي الملحوظة (في هذا الباب) أعني باب التعارض (فإن كان رواتهما) أي روات الخبرين (جميعا عدلين) أي سواء في العدالة (نظر في أكثرهما رواة) من حيث العدد (وعمل به) أي بأكثرهما من

__________________

(١) هذا اصطلاح القدماء قدس الله اسرارهم لأنه أن كان أحد الراويين عادلا والآخر فاسقا لا تعارض بينهما حتّى نرجح ، إذ التعارض أنما هو بين الحجتين لا بين الحجة واللاحجة.

١٩٩

حيث الراوي (وترك العمل بقليل الرواة ، فإن كان رواتهما متساويين في العدد ، والعدالة عمل بأبعدهما من قول العامة ، وترك العمل بما يوافقهم ، وان كان الخبران موافقين للعامة) كما إذا ورد خبر بإن النبيذ بعد الغليان حرام ونجس ، وورد آخر حلال وطاهر ، فإن الأول مطابق لمذهب الشافعي ، والثاني مطابق لمذهب الحنفي (أو) كان الخبران (مخالفين لهم نظر في حالهما) أي في حال نفس الخبرين (فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر على وجه من الوجوه) كما في العام والخاص (و) أمكن العمل بالآخر على (ضرب من التأويل) كما في المطلق والمقيّد (واذا عمل بالخبر الآخر لا يمكن العمل بهذا الخبر الآخر وجب العمل بالخبر الذي يمكن مع العمل به) أي بهذا الخبر (العمل بالخبر الآخر) فلو ورد : أكرم العلماء ، وورد أيضا لا تكرم زيدا العالم ، فإن العمل بالخاص لا يمنع من العمل بالعام لانّا نعمل بالعام في الجملة فيما عدا زيد ، ففي الحقيقة اذا عملنا بالخاص يعمل بكليهما ، ولكنّ العمل بالعام يلزم منه طرح الخاص رأسا ، وهكذا بالنسبة الى المطلق والمقيد فلو ورد : اعتق رقبة وورد أيضا : اعتق رقبة مؤمنة فإن العمل بالمقيد يلزم منه العمل بالمطلق أيضا ، فعند عتق المؤمنة يصدق أنه أعتق رقبة ولا عكس اذ عتق الكافرة لا يصدق أنه اعتق رقبة مؤمنة ، والجمع مهما أمكن أولى (لأن الخبرين جميعا منقولان مجمع على نقلهما) بحمل العام على الخاص والمطلق على المقيد (وليس هنا قرينة تدلّ على صحّة أحدهما) أي أحد الخبرين (١) (ولا ما) أي مرجّح حتّى (يرجّح أحدهما على الآخر ، فينبغي أن يعمل بهما إذا أمكن ، ولا

__________________

(١) والمراد بالصحة عند القدماء ، عبارة عن الوثاقة فيشمل خبر غير الامامي العادل كالعامي والفطحي والواقفي وغيرهم من فرق الشيعة غير الامامية اذا كانوا موثوقا بهم وعدولا في مذهبهم ولكن خبر الصحيح عند المتأخرين هو : عبارة عن أن يكون رواتهم عدولا إماميين ضابطين في نقل الحديث كما نبه عليه في المستدرك ما هذا لفظه : والصحيح عند القدماء أعم منه عند المتأخرين ج ٣ ، ٥٣٤.

٢٠٠