جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

محمّد رضا الناصري القوچاني

جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

المؤلف:

محمّد رضا الناصري القوچاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

الرواية التي لم تكن مجمعا عليه في الرواية.

وبعبارة أخرى مشهور الرواية معروفيتها بين المحدثين بأن رواه الأكثر او الجميع ولو كان ناقله واحد ، ويقابلها شاذها وهي : ما لم يعرفها الا نادر منهم ، واطلاق الشاذ عليها باعتبار انفرادها عن المشهور بهذا الاعتبار ، وعدم وصولها إلى حدّها من الوضوح.

وهذا بخلاف المستفيض والمتواتر ، فإن توصيفهما بهما إنما هو باعتبار التعدد وكثرة راويها من غير نظر إلى الاعتبار الأول أصلا.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : اللهم (إلّا أن يقال : أنّ المرفوعة تدلّ على تقديم المشهور رواية) بقوله عليه‌السلام : خذ بما اشتهر بين أصحابك (على غيره) أي غير المشهور أعني الشاذ(وهي) أي المشهور رواية (هنا) من بين تلك الروايتين ، هي (المقبولة ، ولا دليل على الترجيح بالشهرة العملية) الثابتة في طرف المرفوعة لما مر منه قده ، مفصلا في مبحث الظن في الشهرة فراجع (١).

__________________

(١) ونحن ننقل نبذا من كلامه بعين الفاظه ، ولكن في الاستدلال بالروايتين ما لا يخفى من الوهن.

أما الأولى : فبناء عليه ـ مضافا إلى ضعفها ـ سندا حتى أنه ردها من ليس دأبه الخدشة في سند الرواية كالمحدث البحراني قده ـ أن المراد بالموصول (في قوله «ع» : خذ بما اشتهر) هو خصوص الرواية المشهورة من الروايتين ، دون مطلق الحكم المشهور ، ألا ترى أنك لو سألت عن أن أي المسجدين أحب اليك ، قلت : ما كان الاجتماع فيه أكثر ، لم يحسن للمخاطب أن (يحمل الموصول للعموم و) ينسب إليك محبوبية كلّ مكان يكون الاجتماع فيه أكثر ، بيتا كان ، أو خانا ، أو سوقا ، وكذا لو أجبت عن سؤال المرجح لأحد الرّمانين (بقولك) : ما كان أكبر (فان المتفاهم منه هو ارادة الرمان الأكبر لا كلّ شيء أكبر).

والحاصل أنّ دعوى العموم في المقام لغير الرواية مما لا يظن بأدنى التفات ، مع أن الشهرة الفتوائية مما لا يقبل أن يكون في طرفي المسألة فقوله : يا سيدي أنهما معا ـ

١٦١

ملخصه : أنّ الروايتين تدلّان على الشهرة الروائية ولكن العمل المشهور على طبق المرفوعة ، فهو خارج عما نحن فيه فلا تعارض بينهما اصلا (مع أنّا نمنع أن عمل المشهور على تقديم خبر المشهور رواية على غيره) أي غير المشهور (إذا كان الغير أصح منه من حيث صفات الراوي خصوصا صفة الافقهية) بمعنى أن عملهم مجمل ولبي ، ولا يدلّ على أنهم يقدّمون الشهرة الروائية ، حتى إذا كان الخبر غير المشهور راويه أفقه من الآخر ، بل في هذه الصورة يقدّمون الأفقه أعني الترجيح السندي على الشهرة الروائية ، لأنّه إذا علم أن الرواية الشاذة صادرة عن الأفقه واكتفينا بالأفقهية في الترجيح ، لصح تقديمها على المشهور ، لانّ احتمال الخلاف والخطأ فيها أقل من احتماله في المشهور فيقوى قول الأفقه من حيث السند والصدور فيجب الأخذ به.

(ويمكن أن يقال) : في الجواب عن تعارض المرفوعة مع المقبولة من حيث الترتيب ، ما حاصله : بأنه فرق بينهما ، لأنّ المرفوعة راجع إلى الأحكام الكلية ولكن المقبولة ناظر إلى الأحكام الجزئية ، ولا بدّ في التناقض من وجود وحدات الثمانية كما قال (أنّ السؤال) في المقبولة (لمّا كان عن الحكمين كان الترجيح فيهما من حيث الصفات ، فقال عليه‌السلام الحكم ما حكم به أعدلهما الخ ، مع أن السائل ذكر أنّهما اختلفا في حديثكم ومن هنا) أي من جهة أن

__________________

ـ تتمة الهامش من الصفحة ١٦١

مشهوران مأثوران ، أوضح شاهد على أن المراد بالشهرة ، الشهرة في الرّواية الحاصلة ، بان يكون الرواية مما اتفق الكل على روايته أو تدوينه وهذا مما يمكن اتصاف الروايتين المتعارضتين به (كما إذا فرضنا في عصر واحد اجمعوا على تدوين رواية حرمة اكل الغراب الأسود ، وأيضا نفس هؤلاء نقلوا رواية على حليته ، فيتصور هنا كلاهما مشهوران في عصر واحد) ومن هنا يعلم الجواب عن التمسك بالمقبولة ، وأنه لا تنافي بين اطلاق المجمع عليه على المشهور ، وبالعكس حتى تصرف احدهما عن ظاهره بقرينة الآخر انتهى بعض كلامه زيد في علوّ مقامه.

١٦٢

الصفات من مرجحات الحكمين (اتفق الفقهاء على عدم الترجيح بين الحكام ، إلا بالفقاهة والورع) بمعنى إذا كان أحد الحكمين أفقه أو أورع يأخذون بحكمه (فالمقبولة نظير رواية داود بن الحصين) ـ يعلم أن المراد من رواية داود بن الحصين ـ أنّها غير الرواية المقبولة التي يرويها داود بن الحصين عن عمر بن الحنظلة ـ (الواردة في اختلاف الحكمين من دون تعرّض الراوي ، لكون منشأ اختلافهما) أي الحكمين (الاختلاف في الروايات) بمعنى لم يذكر الراوي حتى يكون منشأ اختلافهما الاختلاف في الروايات (حيث قال عليه‌السلام : ينظر إلى افقههما وأعلمهما) باحاديثنا (وأورعهما فينفذ حكمه) أي حكم الأورع والأفقه والأعلم ولا يلتفت إلى الآخر (١) فيعرف بوحدة السياق بأن الاختلاف في رواية داود أيضا منشأة اختلاف الروايات.

فالرواية وإن كانت واردة في ترجيح الحكمين ، إلا أن ملاحظة سبكها يفصح عن كون مدار الترجيح في الحكمين أيضا على ترجيح روايتهما.

(وحينئذ) أي حين الاعتماد على هذه الرواية (فيكون الصفات من مرجحات الحكمين).

(نعم لمّا فرض الراوي) في المقبولة (تساويهما) بقوله : قلت فانهما عدلان مرضيان الخ (ارجعه) أي الراوي (الامام عليه‌السلام إلى ملاحظة الترجيح في مستنديهما) بقوله «ع» : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك (وأمره) الامام عليه‌السلام (بالاجتهاد والعمل في الواقعة) أي في الموضوع (على طبق الراجح من الخبرين مع الغاء حكومة الحكمين كلاهما) أي الغ قولهما ، بل انظر إلى اجتهادك ، لقوله «ع» : فيؤخذ به من حكمهما ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه.

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ٨٠. (الرواية : ٢٠).

١٦٣

(فأوّل المرجّحات الخبرية هي الشهرة بين الأصحاب فينطبق على المرفوعة) لقوله عليه‌السلام : يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك.

(نعم قد يورد) الاشكال (على هذا الوجه) وهو : أن ظاهر صدر الرواية الرجوع إلى الحاكم عند المعارضة والمنازعة ، ولا ريب (أنّ اللازم على قواعد الفقهاء الرجوع مع تساوي الحاكمين إلى اختيار المدعي) نظير تساوي المجتهدين من جميع الجهات ، ورجوع المقلد بأيّهما شاء فإن الأمر في تعيين الحاكم في المنازعات ، إنما هو بيد المدعي ، فينفذ حكم من اختاره في الواقعة الشخصيّة ليحكم بينهما ، لا حكم من اختاره المنكر وإن كان أفضل.

(و) لكن (يمكن التفصي عنه) أي عن هذا الايراد (بمنع جريان هذا الحكم في قاضي التحكيم) لأن القاضي على قسمين : أما منصوب ، وأما تحكيم.

أما القاضي المنصوب : هو ما ينصب من قبل الامام عليه الصلاة والسّلام أو نائبه «ع». وأما التحكيم :

هو ما تراضي الخصمان على الرجوع إليه بشرط أهليته لذلك ، واجتماع جميع الشروط ـ من العدالة ، والاجتهاد ، وطيب المولد ، والامامية ـ عدا النصب فيه ، وما ذكر ـ من تعيين الحاكم بيد المدعى وعدم اعتبار رضي المنكر ـ يصح إذا كان المراد من القاضي في المقبولة هو القاضي المنصوب خصوصا أو عموما.

وأما قاضي التحكيم الذي هو المفروض في صدر الرواية كما يقتضيه قول السائل فإن كان كل رجل يختار رجلا ، فلم يقم دليل على عدم جواز اختيار المنكر من شاء أيضا.

(وكيف كان) كان المراد قاضي التحكيم ، أو قاضي المنصوب ـ كما هو المحتمل أيضا لأن قوله «ع» فإني قد جعلته الخ في غاية الظهور في اعطائه المنصب ونصبه قاضيا وحاكما في قبال قضاة الجور وحكّامهم المنصوبة من قبل

١٦٤

الجائر ـ (هذا التوجيه) الذي ذكرناها (غير بعيد).

الموضع (الثاني : أن الحديث الثامن ، وهي رواية الاحتجاج عن سماعة تدل على وجوب التوقف أولا) لأنه «ع» قال فيها : لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأل.

(ثم مع عدم امكانه) ـ التوقف ـ لقول الراوي لا بدّ أن نعمل بواحد منهما (يرجع إلى الترجيح بموافقة العامة ومخالفتهم) لقوله «ع» : خذ بما خالف العامة (وأخبار التوقف على ما عرفت) في الحديث الثامن (وستعرف) أخبار التوقف (محمولة على صورة التمكن من العلم) أي مختص بزمن الحضور (فيدلّ الرواية) الاحتجاج (على أن الترجيح بمخالفة العامة بل غيرها) أي غير مخالفة العامة (من) سائر (المرجحات إنما يرجع إليها بعد العجز عن تحصيل العلم في الواقعة بالرجوع إلى الامام «ع» كما ذهب اليه) أي إلى الرجوع بعد العجز (بعض ، وهذا) أي وجوب التوقف ابتداء ثم مع عدم امكانه يرجع إلى المرجحات (خلاف ظاهر الأخبار الآمرة بالرجوع إلى المرجحات ابتداء بقول مطلق) وإن كان يمكنه الرجوع إلى الامام «ع» (بل بعضها) أي الأخبار (صريح في ذلك) أي بالرجوع إلى المرجحات (حتى مع التمكن من العلم كالمقبولة الآمرة بالرجوع إلى المرجحات) ابتداء (ثم بالأرجاء حتى تلقى الامام عليه‌السلام فيكون وجوب الرجوع إلى الامام «ع» بعد فقد المرجّحات) فإذا أمكنه الرجوع إلى المرجحات فليس عليه أن يرجع إلى الامام «ع» بخلاف هذا البعض فإنه يدلّ على التوقف من أول الأمر مطلقا فيتعارضان.

(و) يمكن أن يقال في الجواب : بأن (الظاهر لزوم طرحها) أي طرح رواية سماعة (لمعارضتها بالمقبولة).

وقوله : «الراجحة» صفة للمقبولة (عليها) لأنها من الأخبار الشاذة النادرة ، فلا بد من الطرح السندي ، فنطرح هذا الخبر ، لمعارضته بالمقبولة الراجحة عليه ، وعدم مقاومته في مقابلها ، مع أنّها كثيرة في غاية الكثرة ، ومعتبرة من

١٦٥

حيث السند.

فحينئذ لا تعارض بينهما (فيبقى اطلاقات الترجيح) من دون تقييد من التمكن من العلم أو عدم التمكن (سليمة) عن المعارض.

الموضع (الثالث : أن مقتضى القاعدة تقييد اطلاقات ما) أي الأخبار التي (اقتصر فيها) أي الأخبار (على بعض المرجحات) المنصوصة كرواية سماعة المذكورة بلزوم الأخذ بما خالف القوم فقط بطريق الاطلاق فلا بد أن يقيد هذا الترجيح (بالمقبولة) بمعنى عدم الرجوع إلى مخالفة العامّة إلا بعد التساوي من المرجحات السابقة.

فتحمل اطلاق هذه الأخبار على عدم المرجحات السابقة فنقيدها ، ونجمع بينهما حتى يرتفع التعارض بينهما.

إذ حمل المطلق على المقيد مما هو مركوز في الاذهان العرفية فيكون القيد قرينة على أن المراد من المطلق هو المقيد.

فما ذكر في رواية سماعة من الأخذ بما خالف العامة يتصور فيما إذا لم يكن موافقهم ارجح من حيث صفات الراوي كما إذا ورد : أعتق رقبة ، وجاء خبر آخر : أعتق رقبة مؤمنة ، كانت الرقبة بالنسبة إلى كونها مؤمنة مطلقة فنقيّد بالمؤمنة.

وإنما اقتصر على ذكر المقبولة لكونها اجمع واشمل من غيرها في بيان المرجحات وليس الأمر كذلك بناء على حمل صدرها على الترجيح من حيث الحكومة على ما بنى عليه الأمر سابقا في الجمع بينها وبين المرفوعة.

اللهم إلا أن يكون ما أفاده في المقام اغماضا عمّا ذكره سابقا ومع ذلك لا بدّ من الالتزام بالتقييد في المقبولة بناء على العمل بما اشتمل على الترجيح بالأحدثية (إلا أنه) أي الشأن (قد يستبعد ذلك) أي التقييد (لو ورد تلك) الروايات (المطلقات) مع كثرتها (في مقام الحاجة) لأجل العمل (فلا بد من جعل المقبولة كاشفة عن قرينة متصلة) في سائر الأخبار المطلقة التي اقتصر فيها

١٦٦

على بعض المرجحات ، بحيث (فهم منها) أي من القرينة المتصلة (الامام عليه‌السلام : إن مراد الراوي تساوي الروايتين من ساير الجهات) الراجعة الى الترجيح ولذا قال خذ بما خالف العامة.

ثم نقول : مفروض مورد السؤال كاشف عن أن السائل كان ملتفتا إلى المرجحات التي هي في المقبولة ولكنه فرض التساوي فيها وحينئذ صحّ للامام «ع» أن يأتي بمرجح آخر وهو مخالفة العامة (كما يحمل اطلاق أخبار التخيير) أيضا بقرينة المقبولة ونحوها من أخبار الترجيح (على ذلك) أي على أنّه لو كانت هناك قرينة متّصلة فهم منها الامام «ع» أن مراد الراوي تساوي الروايتين من جميع جهات الترجيح لوروده في مقام الحاجة.

وبعبارة أوضح : رواية عمر بن حنظلة ، مقبولة لا يمكن رفع اليد عنها ، فحينئذ نقول : حكم الامام عليه الصلاة والسلام ابتداء بالتخيير ، مفروض في مورد التساوي من ساير المرجّحات كالسابق.

الموضع (الرابع أنّ الحديث الثاني عشر الدّال على نسخ الحديث بالحديث) لقوله «ع» : أن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن ، فإن العمل بالأحدث متعين ، لأنّهما ان كانتا نبويتين فلا ريب في وروده ، لأن نسخ حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحديثه (ص) كان امرا شايعا معهودا ، فلا يحتاج الى التنبيه والبيان ، وان كانت المتقدمة نبوية ، والمتأخرة اماميّة لا تكن رواية الثانية ناسخة. إذ : (على تقدير شموله) أي النّسخ (للرّوايات الإماميّة) التي رويت عن أحد الأئمة المعصومين عليهم الصّلاة والسّلام ، فهي كاشفة عن ورود الناسخ في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بناء على القول بكشفهم «ع») وهذا من قبيل إضافة المصدر إلى فاعله ، (عن الناسخ الذي أودعه) أي الناسخ (رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندهم عليهم‌السلام) حتى يبيّنوا للناس نظير ايداع القرائن للظواهر عنده ، مع عدم بيانها في زمانه «ص» أصلا ، كما ورد أنه

١٦٧

ينسخ استقبال الكعبة باستقبال قبر الحسين عليه الصلاة والسلام في عصر ظهور الحجة «ع» عجل الله تعالى فرجه (١) ولكن ـ لمّا لم يكن مصلحة في بيان هذا الحكم المحدود ولذا آخر بيان الناسخ ـ لا يبعد أن تكون الروايات الدّالة إلى أنه عجّل الله فرجه أن يأتي بدين جديد ناظرة إلى أمثال ما ذكر اي نسخ الكعبة.

وبالجملة : (هل هو) أي الحديث الثاني عشر الدال على النسخ (مقدّم على باقي الترجيحات) بمعنى في صورة تساوي الخبرين من جميع الجهات اتصل النوبة إلى الأخذ بالمتأخر الناسخ (أو مؤخر) عنها (وجهان).

(من : أنّ النسخ من جهات التصرف في الظاهر) لأن النسخ رفع للحكم الثابت واقعا ، ضرورة ثبوته كذلك قبله ، وإن كان ثبوته بحسب زمن النسخ مبنيّا على الظاهر (لأنه) أي النسخ (من تخصيص الأزمان) كما أن التخصيص ، تخصيص في الأفراد.

(ولذا) أي ولأجل أن النسخ تخصيص في الأزمان (ذكروه) أي النسخ (في تعارض الأحوال ، وقد مرّ وسيجيء تقديم الجمع بهذا النحو) الذي ذكرناه (على الترجيحات الآخر) فهو مقدم على باقي الترجيحات.

(ومن أن النسخ على فرض ثبوته في غاية القلة ، فلا يعتني به) أي بالنسخ (في مقام الجمع ولا يحكم به العرف ، فلا بد من الرجوع إلى المرجّحات الآخر كما إذا امتنع الجمع) لأنه لا يصل النوبة مع إمكان الجمع العرفي إلى الرجوع إلى المرجحات (وسيجيء بعض الكلام في ذلك) أي في مبحث النسخ ، فهو مؤخر عن باقي الترجيحات.

الموضع (الخامس : أن الروايتين الأخيرتين) تدلّان على وجوب الترجيح من حيث قوة الدلالة و (ظاهرتان في وجوب الجمع بين الأقوال الصادرة عن

__________________

(١) هذه الرواية المذكورة سمعناها من بعض المشايخ مشافهة من غير اشارة إلى موضعها في الكتب فلا بدّ من الرّجوع والتّتبع.

١٦٨

الأئمة صلوات الله عليهم برد المتشابه إلى المحكم) والمحكم المتين ، هو ما كان نصالا يحتمل خلاف معناه أو ظاهرا.

(والمراد بالمتشابه ـ بقرينة قوله «ع» : ولا تتّبعوا متشابهها) دون محكمها (فتضلّوا ـ هو الظاهر الذي أريد منه خلافه) أي خلاف الظاهر.

(إذ المتشابه أما المجمل) وهو : ما لا دلالة له ، كما في قوله : والمطلّقات يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء ، فالقرء مجمل لأنه مردّد بين الحيض والطهر (وأما المؤول) وهو : ما لا يراد ظاهره ، فأريد منه خلاف الظاهر فلا يعلم ما ذا أريد ، وهذا متشابه كما أن المجمل أيضا من أقسام المتشابه (ولا معنى للنهي عن اتباع المجمل) لأن المفروض أن المجمل هو الذي ليس له ظاهر أصلا ، وما هو كذلك لا يجوز التمسك به والاعتماد والعمل عليه رأسا حتى يأمر عليه‌السلام برده إلى المحكم ، فيتعين الثاني (فالمراد ارجاع الظاهر إلى النص ، أو) ارجاعه (إلى الأظهر).

(وهذا المعنى) أعني ارجاع الظاهر إلى الأظهر وإرجاع المتشابه إلى المحكم (ـ لمّا كان مركوزا في اذهان أهل اللّسان ، ولم يحتج إلى البيان في الكلام المعلوم الصدور عنهم ـ) عليهم‌السلام يعني في المحكم (فلا يبعد إرادة ما يقع من ذلك في الكلمات المحكية عنهم «ع» باسناد الثقات التي نزلت منزلة المعلوم الصدور).

فإذا أخبر العدل بحرمة اعطاء الصدقة الواجبة على بني هاشم ، فصدّقه ، لقوله : صدّق العادل ، فلا يجوز طرح الظاهر بل يجب الجمع الدلالي ، فنقول المراد من قوله سبحانه وتعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) ما عدا بني هاشم.

(فالمراد) من الحديث الرابع عشر (أنه لا يجوز المبادرة إلى طرح الخبر المنافي لخبر آخر ، ولو كان) الخبر (الآخر ارجح منه) أي من الخبر الذي تريد طرحه لأن الاخبار الصادرة منهم عليهم‌السلام ربّما أريد منها خلاف ظاهرها ، فلا يجوز المبادرة إليه قبل الفحص وبذل الجهد في استكشاف مرادهم بالتدبر

١٦٩

والالتفات إلى ساير كلماتهم «ع» وغيرها من القرائن والشواهد العقلية والنقلية الكاشفة عما أرادوه بهذا الظاهر ، لأنه بعد ملاحظة أن لكلامهم «ع» وجوها وإن في الآيات والأخبار عاما وخاصا ، وناسخا ومنسوخا كما يدلّ عليه خبر : سليم بن قيس الهلالي ، في الكافي عن أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه ، حيث أجاب عن اختلاف أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل : القرآن منه ناسخ ومنسوخ ، وخاص وعام ، ومحكم ومتشابه ، وقد كان يكون من رسول الله «ص» الكلام له وجهان أي ظاهر وباطن ، وكلام عام وكلام خاص ، مثل القرآن (١) الحديث.

وملاحظة أنّا مأمورون بمعرفة العام والخاص ، والناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد ، فكيف يقال أنا لم نؤمر بالفحص عن الخاص والناسخ والمقيد والمحكم في كلامهم «ع»؟ وقد عرفت أن كلامهم عليهم‌السلام مثل كلام الرسول «ص» والقرآن لقوله «ع» لتنصرف على وجوه فإذا كان الفحص واجبا يجب بعده الجمع الدلالي برد المتشابه إلى المحكم ، والمطلق إلى المقيد ، والعام إلى الخاص كما قال : (فإذا أمكن) الجمع (رد متشابه أحدهما إلى محكم الآخر ، وأن الفقيه من تأمّل في أطراف الكلمات المحكية عنهم عليهم‌السلام) لقوله «ع» في الحديث انتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا (ولم يبادر إلى طرحها) أي الكلمات ، (لمعارضتها بما هو أرجح منها) أي الأخبار.

(والغرض من الروايتين) الأخيرتين (الحث) أي التحريص والتأكيد (على الاجتهاد) والفحص (واستفراغ الوسع في) فهم (معاني الروايات) الصادرة عنهم عليهم‌السلام ، ولو بنقل الثقات والردع عمّا جرت عليه طريقة أهل الخلاف ، من : الأخذ بالظواهر من دون تأمل ونظر إلى ما يصرفها عن ظاهرها (وعدم

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ١٥٣. (الرواية : ١)

١٧٠

المبادرة إلى طرح الخبر ، بمجرد مرجح لغيره) أي لغير الخبر (عليه) أي على هذا الخبر.

(المقام الثالث في عدم جواز الاقتصار على المرجحات المنصوصة) بل يجوز التعدي من المرجحات المنصوصة إلى غيرها على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

(فنقول : اعلم أن حاصل ما يستفاد من مجموع الأخبار بعد الفراغ عن تقديم الجمع المقبول) أي الجمع العرفي (على الطرح) بحمل الظاهر على النص والأظهر ، وقد مرّ تفصيله في أوائل هذا المبحث ، من : أن التخصيص والتقييد ونحوهما من وجوه تعارض النص والظاهر أو الظاهر والأظهر ، خارج عن البحث ، لأن العام والخاص مثلا لا يعدان من المتعارضين (وبعد ما ذكرنا من أن الترجيح) في المقبولة (بالاعدلية واخواتها) أي أخوات الأعدلية ، من الأفقهية والأصدقية والأورعية (إنما هو بين الحكمين) ومختصّ بهما (مع قطع النظر عن ملاحظة مستندهما) فهذا المورد جزئي ، لا يستفاد منه حكم كلي حتى يعدّ المقبولة من المرجحات.

ولو قلنا بعدم التعدي عن المرجحات المنصوصة ، فمقتضى القاعدة اعتبار الترتيب بين المرجحات المنصوصة ، وحاصل ما يستفاد من مجموع الأخبار (هو أن الترجيح أوّلا بالشهرة ، والشذوذ) ان عوّلنا على المرفوعة على ما بينا في الجمع بينها وبين المقبولة (ثم بالأعدلية والأوثقية ، ثم بمخالفة العامة ، ثم بمخالفة ميل الحكّام) والقضاة من العامة.

(وأما الترجيح بموافقة الكتاب والسنة) المتواترة (فهو) أي الترجيح بموافقة الكتاب والسنة (من باب اعتضاد أحد الخبرين بدليل قطعي الصدور) يعني أن الكتاب دليل مستقل في نفسه ، فإذا كان احد الخبرين موافقا له حصل هناك دليلان مستقلان قد اعتضد احدهما بالآخر ، فلا بد من وجوب الأخذ بما يوافقه

١٧١

دون الآخر ، لكونه مخالفا للكتاب ، كما إذا فرض أن الكتاب دل على وجوب اكرام العلماء ، وكذا أحد الخبرين وكان مفاد الخبر الآخر حرمة اكرام الفساق ، فحينئذ يكون الكتاب معاضدا للخبر الأوّل ، وفي الحقيقة يكون الخبر الثاني معارضا للكتاب ، ولا يصلح للمعارضة فيقدم الخبر الأوّل الموافق للكتاب (ولا إشكال في وجوب الأخذ به ، وكذا الترجيح بموافقة الأصل).

(ولأجل ما ذكر) من أن المستفاد من مجموع الأخبار هو الترجيح بالمرجحات المنصوصة من الشهرة وما بعدها ، إنما هو بعد الفراغ عن تقديم الجمع المقبول (لم يذكر ثقة الاسلام) الكليني (رضوان الله عليه في مقام الترجيح في ديباجة الكافي سوى ما ذكر) من وجوه الترجيح دون الجمع (فقال : اعلم يا أخي أرشدك الله أنه لا يسع أحدا تمييز شيء مما اختلف الرواية فيه من العلماء عليهم‌السلام برأيه الأعلى ما أطلقه العالم عليه‌السلام ، بقوله : أعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله عزوجل فخذوه ، وما خالف كتاب الله عزوجل فذروه) أي فردّوه (وقوله «ع» دعوا ما وافق القوم فإن الرشد في خلافهم ، وقوله عليه‌السلام خذوا بالمجمع عليه ، فإن المجمع عليه لا ريب فيه ، و) نحن (لا نعرف من جميع ذلك إلا أقله ، ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم عليه‌السلام ، وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله عليه‌السلام بأيّهما اخذتم من باب التسليم وسعكم (١) انتهى) كلامه علت في فراديس الجنان اقدامه.

يظهر من التأمل في كلامه قده انه : أوّلا ، حصّر المرجحات بالثلاثة أعني موافقة الكتاب ، ومخالفة العامة ، والمجمع عليه.

والوجه في عدم ذكر ثقة الاسلام قده ، كون الصفات من مرجحات الراوي ، لأنه لا دليل على هذه المرجحات غير المقبولة عنده.

__________________

(١) الكافي : ج ـ ١ ص : ٨.

١٧٢

وقد عرفت تحقيقه من كون الترجيح بها في المقبولة في مسألة الفتوى لا الرواية ، والمفروض أنه لا يتعدى عن النص.

وأما المرفوعة فهي وإن كانت صريحة في الترجيح بها من حيث الرواية إلا أنها غير معتبرة عنده.

وكيف كان فظاهر كلامه قده ، اعتبار هذه الثلاثة حيث أتى بلفظ الحصر ، فإنه قال : لا يسع احدا تمييز شيء ، إلى أن قال : الأعلى ما أطلقه الخ.

والحال أنّ المرجحات لا تنحصر في الثلاثة المزبورة ، بل الأعدلية والأفقهية ، والأورعية ، والأوثقية ، إلى غير ذلك من المرجحات أيضا كما مرّ.

وثانيا : أنّه قده رد علم ذلك كله إلى العالم «ع» واختار التوقف في الفتوى والتخيير في مقام العمل ، فإن كان مراده من رد الكل إلى العالم «ع» ، رد الكل حتى الأقل المعروف من جميع ذلك كما هو الظاهر من اطلاق كلامه ، فحينئذ يكون مخالفا للمشهور لأنه بعد ورود النص بالعرض على الكتاب مثلا ، ومعروفية المورد الموافق للكتاب مثلا عن المورد المخالف له ، حكم برده إلى العالم «ع» ، وقال : بالتوقف في الفتوى ، ثم بالتخيير في العمل وإن كان مراده رد غير الأقل المعروف إلى العالم «ع» وقوله بالتخيير فيه وحده فحينئذ لا يكون مخالفا للمشهور مطلقا بل في الجملة أي في صورة عدم وجود شيء من المرجحات الثلاثة التي ذكرها.

(و) يمكن أن يقال : (لعلّه ترك الترجيح بالأعدلية والأوثقية) ونحو ذلك (لأن الترجيح بذلك مركوز في أذهان الناس غير محتاج إلى التوقيف) والتوظيف حتى يحتاج إلى البيان (وحكى عن بعض الاخباريين أن وجه إهمال هذا المرجح كون اخبار كتابه كلّها صحيحة) وتنويعها إلى الأنواع الأربعة المشهورة ليس في محلّه.

فالمراد بالصحة ، هو : ما اصطلح عليه الاخباريون وهو القطع بصدور الاخبار أما مطلقا من ساير الكتب المعتبرة ، كاكمال الدين ، وعيون اخبار الرضا

١٧٣

«ع» ، أو خصوص اخبار الكتب الأربعة.

وقد أجاب بعضهم عما أورد على نفسه بقوله : لا يقال أن كان كلّها مقطوعة وصحيحة فما هذا الاختلاف والتعارض الذي نشاهده؟ وليس هذا إلّا بسبب التباس غثّها بسمينها ، فلا بدّ من تنويعها إلى الأنواع الأربعة.

لأنّه يقال : أن منشأ الاختلاف في اخبارنا إنما هو التقية من ذوي الخلاف ، لا من دسّ الأخبار المكذوبة حتى يحتاج إلى هذا الاصطلاح لأنها إنما وصلت إلينا بعد أن سهرت العيون في تصحيحها ، وذابت الابدان في تنقيحها إلى آخر ما أثبت به.

(وقوله قده ولا نعرف من ذلك إلا أقلّه ، إشارة إلى أن العلم بمخالفة الرواية للعامة في زمن صدورها أو كونها) أي الرواية (مجمعا عليها قليل ، والتعويل على الظن بذلك) أي بالمخالفة (عار) وخال (عن الدليل) فكانه جواب عن سؤال مقدر ، كانّ قائلا يقول : فرضنا أن العلم به قليل ، ولكن الظن يقوم مقام العلم ، فأجاب بأنّ هذا الظن لا دليل على اعتباره.

والظاهر : أن مراد الكليني قده : أنه إنما يرجع إلى المرجحات المنصوصة في صورة العلم بها.

وأما في صورة الظن بها فلا يرجع إليها ، لأن الرجوع اليها في الصورة المزبورة موقوف على حجية الظن ، ولا دليل عليها إلا مع تمامية دليل الانسداد وقد عرفت عدم تماميتها في باب الأحكام ، فكيف في الموضوعات.

وأما حمل كلامه قده ، على الرجوع إلى التخيير حتى في صورة العلم بوجود المرجّحات المنصوصة المزبورة فلا وجه له.

(وقوله) قدّس سره (لا نجد شيئا أحوط ولا أوسع الخ أما أوسعيّة التخيير فواضح) لأنّه إذا قيّد العمل بأحدهما فبالنسبة إلى الآخر لم يكن في السّعة.

(وأمّا وجه كونه) أي التخيير (أحوط ، مع أنّ الأحوط التوقف والاحتياط في

١٧٤

العمل) أولى بمعنى : أنّ التوقّف عن الفتوى من باب الاحتياط ، وهو أولى من الافتاء بشيء لعلّه مخالف للواقع (فلا يبعد أن يكون) التخيير وترك الاحتياط والتوقف أولى حتى لا يعمل بالظن غير المعتبر المنهى عنه (من جهة أن في ذلك) أي التخيير (ترك العمل بالظنون التي لم يثبت الترجيح بها) أي الظنون (والافتاء بكون مضمونها) أي الظنون (هو حكم الله لا غير ، وتقييد اطلاقات التخيير والتوسعة من دون نصّ مقيد).

(ولذا) أي ولأجل أنّ الترجيح قد يكون بمرجّحات ظنية لا دليل على اعتبارها مضافا إلى تقييد اطلاقات التخيير من دون نصّ مقيّد (طعن غير واحد من الاخباريين على رؤساء المذهب) وفحول العلماء (مثل المحقّق ، والعلّامة) قدهما (بأنّهم) أي العلماء (يعتمدون في الترجيحات على أمور اعتمدها العامة في كتبهم) كالترجيح بالشهرة الفتوائيّة ، والاستقراء ، والأولوية الظنية الحاصلة من القياس والاستحسان ، وما كان بهذه المثابة كخبر الفاسق المظنون الصدق (ممّا ليس في النصوص منه عين ولا أثر).

(قال المحدّث البحراني قده في هذا المقام ، من) أنّ بناء الترجيحات على التعبّد ، فيجب الاقتصار في الترجيح على المرجحات المنصوصة التي وردت بها الأخبار ، فإن وجد واحد منها لزم الترجيح ، وإلّا فلا ، بمعنى : أنه جعل المرجح غير المنصوص بمنزلة العدم ، فالوظيفة هي التخيير ، فإنه ره قال في (مقدمات الحدائق أنه قد ذكر علماء الأصول من الترجيحات في هذا المقام ، ما لا يرجع أكثرها) أي المرجحات (إلى محصول ، والمعتمد عندنا ما ورد من أهل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الاخبار المشتملة على وجوه الترجيحات) (١) ولا يجوز التعدي عنها (انتهى).

(أقول قد عرفت أنّ الأصل) أي أصالة التعيين فيما إذا تردد بين التعيين

__________________

(١) الحدائق الناضرة : ج ـ ١ ص : ٩٠.

١٧٥

والتخيير (بعد ورود التكليف الشرعي بالعمل بأحد المتعارضين) من الاجماع والاخبار العلاجيّة ، إن الأصل (هو العمل بما يحتمل أن يكون مرجحا في نظر الشارع ، لأن جواز العمل بالمرجوح مشكوك حينئذ) أي حين كون المتيقن هو العمل بالراجح ، فلا يجوز الالتزام بالمرجوح.

(نعم لو كان المرجع بعد التكافؤ هو التوقف والاحتياط ، كان الأصل عدم الترجيح) بالمزايا (إلا بما علم كونه مرجحا) كالمرجحات المنصوصة.

(لكن عرفت : أن المختار مع التكافؤ هو التخيير) لأن أخبار التخيير مسوقة لبيان حكم علاج المتعارضين المتكافئين من جميع الوجوه المتساويين من حيث تمام المزايا ، من المنصوصة ، وغيرها.

وإذا كان أحدهما راجحا ولو بالمرجحات غير المنصوصة (فالأصل هو العمل بالراجح) بناء على أنّ الأصل في التعيين والتخيير هو الاحتياط ، لا كما يقوله بعض ، بأن التكليف ثابت بالعمل بالخبر.

ولكن تقييده بما فيه المزية خلاف السعة ، والناس في سعة ما لا يعلمون (١) وأيضا أن التقييد بما فيه المزية غير المنصوصة غير معلوم وحينئذ مرفوع كما رفع جميع ما لا يعلم لقوله عليه‌السلام : رفع ما لا يعلمون ، فمختار هذا البعض هو البراءة ولازمه التخيير لا التعيين.

اللهم (إلّا أن يقال : أن اطلاقات التخيير) في غير الموارد المنصوصة من الموارد التي شك في اعتبار المزية غير المنصوصة (حاكمة على هذا الأصل) (٢)

__________________

(١) الوسائل : الجزء ٢ ص ـ ١٠٧٣ ـ الرواية ١١ بتغيير يسير.

(٢) وقد توهّم بعض بأنه بعد العلم بعدم ثبوت حكم التخيير في صورة وجود مزية اخرجها الشارع عن اطلاق اخبار التخيير نظرا إلى العلم بتقييد تلك المطلقات بصورة عدم مزية معتبرة شرعا لأحد المتعارضين فيكون التخيير في مورد لا يكون هناك مزية ، فإذا شك في اعتبار مزيّة في أحد المتعارضين بحيث يحتمل كون المزية من المزايا

١٧٦

وهو العمل بالراجح ، لعدم جريان الأصل العملي مع وجود الدليل اللفظي ، لأن

__________________

ـ تتمة الهامش من الصفحة ١٧٦

المنصوصة فلا مجال لاجراء التخيير ، حيث أن التخيير مقيد بعدم وجود الافقهية مثلا ، وعند الشك فيها لا يجري التخيير.

وبعبارة اخرى بعد ورود المرجحات المنصوصة وتقديمها على اطلاقات التخيير يصير حاصل النتيجة الحكم بالتخيير عند فقد المرجحات يقينا ، ومع الشك في وجود مرجح ـ ولو لأجل شبهة المصداقية ـ لا يصح التمسك بالتخيير ، وهذا نظير ما إذا ورد عام مثل : أكرم العلماء ، وخصص بدليل حرمة اكرام الفاسق ، فيصير مورد التكليف وجوب اكرام العالم غير الفاسق ، فعند الشك في فسق عالم لا يجوز التمسك بعموم العام ، لأنه لم يحرز مصداقه في الخارج ، إذ : المصداق للعام المخصّص هو العالم غير الفاسق ، فكما عند الشك في علم زيد مثلا لا يجب اكرامه ، كذلك الشك في فسقه.

لكنّه مندفع بأنّ المرجّحات المنصوصة أمور معلومة بذواتها ، مثل ما اعتبر من صفات الراوي كالأفقهية والأصدقية وأمثالهما ، ومن صفات الرواية كالشهرة ونظائرها ، وهذه المرجحات أمور معلومة مبيّنة المراد واضحة المصداق ، فلا يتصور وجود مزية يشك في كونها مصداقا لاحدى المرجحات حتى يصير من قبيل المجمل ، ولا يصح التمسك بالاطلاق لدفعه.

وبعبارة أخرى : بعد ما حكم الشارع في المتعارضين بالتخيير عند فقد ما ذكره من المرجحات المعلومة المعينة فإذا وجد إحداها لزم الترجيح بها وفي صورة فقدانها جميعا الحكم هو التخيير ، هذا بناء على عدم جواز التعدي عن المنصوصات.

وأما من أراد الترجيح بغير ما ذكر من المرجحات فلا بدّ له من سلوك أحد أمرين.

الأول : أن يستنبط من نصوص المرجحات اعتبار كل مزية ، وان المذكورات ذكرت من باب المثال.

الثاني : أن يقيد مجرى اطلاقات التخيير بصورة التكافؤ ولو بالاستظهار من اطلاقاتها. ـ

١٧٧

المقام من قبيل الشك السببي والمسبّبي ، نظير ما إذا ورد : أعتق رقبة ، وكانت مقدّمات الحكمة مفروضة التحقّق ، فلا يصل النوبة إلى أصالة التعيين المقتضى

__________________

ـ تتمة الهامش من الصفحة ١٧٧

اللهم إلّا أن يقال : أن ما توهمه المتوهم من فرض الشك في مصداق المزايا المنصوصة ناظر إلى وجود الاجمال في بعض المرجحات بحيث يكون موردا للشك ، مثلا : إذا كان الأفقهية من المرجحات ، فهناك قد يكون رجل واسع الاطلاع كثير الاستحضار بالنسبة إلى المسائل الفرعية في سند احدى الروايتين المتعارضتين ، وفي سند الآخر أيضا رجل خبير بالمسائل مطلع على القواعد ولكن استحضاره الفعلي على أكثر المسائل الفقهيّة ليست بمثابة الآخر ، فهل هذا المقدار كاف في صدق الأفقهيّة على معارضه أم لا؟

والمقصود من هذا البيان فرض صورة الشك في المصداق وان كان قليل الوجود بل عديمه في الخارج.

والعمدة بيان حكم هذه الصورة لو وجدت ، فنقول : يشترط في التمسك بكل دليل احراز مصداقه في الخارج حتى ينطبق عليه بالضرورة مثلا لو قيل : بوجوب اكرام العالم ، واردنا اثبات وجوب الاكرام لزيد فلا بد لنا أولا اثبات كون زيد من العلماء ليصح لنا أن نقول زيد عالم ، فإذا صح هذا القول صحّ أن يقال يجب إكرامه ، لعموم : وجوب اكرام العالم ، واما مع الشك في علم زيد كيف يصح التمسك باطلاق قوله اكرم العالم؟ ففي ما نحن فيه الأمر كذلك ، إذ وجوب الترجيح بالمرجحات المنصوصة لا بدّ أن يحرز أوّلا مصداق المرجح في الخارج حتى يستدل بوجوب ترجيحه بأدلة الترجيح ، مثلا الأفقهية إذا كانت من المرجحات المنصوصة ، وأردنا أن نقدم أحد المتعارضين بهذا المرجح ، فلا بدّ أولا من اثبات أفقهيّة الراوي في أحد السندين ، ثمّ الأخذ بدليل ترجيحه ، ومع الشك في كون الرجل أفقه من صاحبه كيف يصح التمسك بدليل وجوب الترجيح بالأفقهيّة؟ وهل هذا الا نظير التمسك بالعام عند الشك في مصداق العام الذي اتفقت كلمتهم على عدم جواز التمسك به ، فحينئذ اطلاق ادلّة التخيير باق بحاله ويجب الرجوع إليه.

١٧٨

لعتق الرقبة المؤمنة فقط ، وعدم كفاية مطلق الرقبة.

ولكن الاطلاق مضمونه عدم الفرق بل ما يسمّى رقبة.

ولإيضاح المطلب نذكر مقدّمة ، وهي : أنه إذا تعلق التكليف بالعنوان وشككنا في المحصّل ـ بالكسر ـ فالأصل الاشتغال ، مثل ما إذا قلنا : إن الوضوء بسيط لا مركب وإنّما المركب هو الذات وليست الذات تحت التكليف ، فهنا يجب الاحتياط من باب تعلّق التكليف بالعنوان المعلوم ، والشك في المحصّل ، فإذا شككنا أن العارضين هل يجب غسلهما في الوضوء ، أم لا؟ نقول : يجب من باب تعلّق الأمر بالعنوان والشك في المحصّل.

وأما إذا قلنا : أن الوضوء ليس عبارة عن الطهارة البسيطة وإن التكليف لم يتعلّق بالعنوان ، والوضوء هو الغسلتان والمسحتان ، كما نقل عن ابن عبّاس ، فالأمر تعلّق بمقدار من غسل الوجه والزيادة عليه من العارضين يشك في وجوب غسلهما ، فالأصل البراءة.

فهنا نقول : ان كان الأمر تعلّق بعنوان المزية بمعنى أن الشارع أمرنا بالأخذ بما فيه المزية ، وشككنا أنّ الاعتماد على الاكتفاء بالمنصوص وترك العمل بما فيه المزية غير المنصوصة ، فالأصل هنا لزوم العمل بالخبر الراجح بالمزيّة الخارجية ـ من باب الأمر بالعنوان والشك في المحصل ـ ولكن ليس كذلك وإنما تعلق الأمر بذوات مرجحات الخارجية وهو المرجحات المنصوصة وأما غير المنصوصة فمشكوك ويصير الشك في الأقل والأكثر ، والأقل معلوم ، والأكثر مشكوك ، يجري فيه البراءة (فلا بدّ للمتعدي من المرجحات الخاصة المنصوصة من أحد امرين).

(أما أن يستنبط من النصوص ـ ولو بمعونة الفتاوى ـ وجوب العمل بكل مزية توجب اقربيّة ذيها) أي ذي المزية (إلى الواقع) لأن المدار في الترجيح إلى مجرد الظن وما هو أقرب إلى الواقع ، سواء حصل ذلك الظن من المرجحات المنصوصة ، أم يحصل من غيرها ، وذكر الأوصاف من باب المثال فيجوز

١٧٩

التسرّي والتعدّي حينئذ.

(وأما أن يستظهر من اطلاقات التخيير) لقوله «ع» : بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك (الاختصاص بصورة التكافؤ من جميع الوجوه) المتساوية من حيث تمام المزايا من المنصوصة وغيرها.

ولا يخفى أن ما ذكره قده من الترديد إنما هو على سبيل منع الخلو لا الجمع ، بداهة عدم التنافي بين الأمرين بل كلّ منهما يؤكد الآخر ويقوّيه.

ثمّ أعلم : أن الشواهد للأمر الأول ـ مضافا إلى فتوى الأكثر ـ هي الفقرات التي أشار إليها قده عن قريب ، وأما الأمر الثاني : فيمكن الاستشهاد له بظهور الأسئلة ، فإن قول السائل : يأتي عنكم خبران أحدهما يأمرنا ، والآخر ينهانا كيف نصنع؟ ظاهر في أن مورد السؤال إنما هو مقام التحيّر في مقام العمل ، ومن المعلوم أنه لا تحيّر مع اعتبار الشارع لذي المزية من الخبرين لتعين الأخذ به حينئذ.

وبعبارة أخرى : أن الداعي للسؤال عن حكم المتعارضين إنما هو تحير السائل في مقام العمل ، فيكون سؤاله ظاهرا في أن مورده مورد التخيير العملي الذي هو مسئلة فقهية يشترك فيها بين المقلد والمجتهد ، لا تخيير في المسألة الأصولية الذي معناه جعل أحد الخبرين حجة شرعية يستنبط المجتهد منها الحكم الشرعي ، وهذا التخيير ـ في المسألة الأصولية ـ مختص بالمجتهد ولا حظّ للمقلد فيها ، لا سيّما بملاحظة قوله : كيف نصنع؟ الذي هو كالصريح ، بل الصريح في ذلك يعني التخيير العملي ، لأن الصنع بمعنى العمل لا الأخذ بالدليل ، فيكون الحكم المذكور في الجواب مختصا بذلك المورد أعني مورد التحيّر نظرا إلى أن ظاهر الجواب إنما هو كونه جوابا عن مورد السؤال ، فهذا ظاهر في مورد التخيير العملي حتى يطابق الجواب السؤال (١).

__________________

(١) وقد أجاب عنه الاوثق بقوله قده ما هذا لفظه : لا أرى وجها لهذا الاستظهار : لأن ـ

١٨٠