جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

محمّد رضا الناصري القوچاني

جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

المؤلف:

محمّد رضا الناصري القوچاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

قلنا : (فلو حمل غيره) أي غير المقبولة (عليه) أي على الاستحباب (لزم التفكيك) لأنّ جميع ما ورد في ساير الأخبار أو أكثرها مذكورة في المقبولة فكيف يجوز حملها تارة على الوجوب وأخرى على الاستحباب من حيث أنها في المقبولة وغيرها؟

مع أن ظاهر سؤالاتهم عن المعصومين عليهم‌السلام تدلّ على أن مرادهم أن يبيّنوا لهم تكاليفهم الواجبة عليهم.

والجواب لهم عنهم عليهم‌السلام انّما يدل بظاهره على الوجوب ، كما في : خذ ما وافق الكتاب ، وغيره فلا يجوز الحمل على الاستحباب (فتأمل) لعلّه اشارة إلى أنه لا غرو في التفكيك بعد قيام القرينة عليه.

(وكيف كان فلا شك أنّ التفصي) : أي التخلص (من الاشكالات الداعية له) أي للسيّد الصدر قده (إلى ذلك أهون من هذا الحمل) وهو الحمل على الاستحباب بمعنى أن الحمل على الاستحباب أشكل (لما عرفت من عدم جواز حمله) أي حمل السيّد قده للأخبار (على الاستحباب).

(ثم لو سلّمنا دوران الأمر بين تقييد أخبار التخيير ، وبين حمل أخبار الترجيح على الاستحباب ، فلو لم يكن الأول) أي الأخبار الدالة على التخيير مطلقا (أقوى) من حيث السند ، أو الدلالة ، أو بقرائن خارجية أخرى ، فلا محالة (وجب التوقف) من تقييد أخبار التخيير ، أو حمل أخبار الترجيح على الاستحباب.

لكن في مقام العمل ـ حيث أنه من صغريات دوران الأمر بين التعيين والتخيير ـ الحكم فيها هو الأخذ بالتعيين وقد مر وجهه مفصلا (فيجب العمل بالترجيح لما عرفت) سابقا (من أن حكم الشارع بأحد المتعارضين) كما هو مفاد أدلة التخيير أو الترجيح (إذا كان مردّدا بين التخيير والتعيين).

وهذا التردد ينشأ من احتمال وجوب الترجيح ، أو استحبابه ، أو التخيير من دون ترجيح ، ففي هذه الصورة الأخذ بما فيه الترجيح متعين عند العقل ، لأن

١٤١

العمل به مبرئ يقينا ، أما من جهة أنه العمل بأحد فردي التخيير ، وأما لأنّ العمل به متعين لأجل وجود المرجح.

ولذا قال المصنف ره (وجب التزام ما احتمل تعيينه) كما إذا علمنا بتعلق الوجوب بالاطعام وشككنا في أنه واجب تعيينا أو تخييرا بينه وبين الصيام ، نحكم بوجوب الاطعام لأنه قطعا مجز ، بخلاف بدله ، إذ يمكن أن يكون لغوا غير مأمور به.

(المقام الثاني : في ذكر الأخبار الواردة في أحكام المتعارضين وهي أخبار ، الأول) وهو أحسن ما في الباب جمعا للمرجحات (ما رواه المشايخ الثلاثة) أعني محمدين الثلاثة مؤلّفي الكتب الأربعة ، وهم محمّد بن يعقوب الكليني ، ومحمّد بن علي بن بابويه الصدوق ، ومحمّد بن الحسن الطّوسي قدّس الله اسرارهم (باسنادهم عن عمر بن حنظلة (١) قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين ، أو ميراث ، فتحاكما إلى السلطان ، أو إلى القضاة) من نحو شريح القاضي ، ويحيى بن أكثم (أيحلّ ذلك؟ قال عليه‌السلام : من تحاكم اليهم) ويلحق بهم من ليس له أهلية القضاء لعدم جامعيته للشرائط ـ ولو كان من الشيعة بل من الاثني عشرية ـ (في حقّ أو باطل ، فإنما تحاكم إلى الطاغوت) مصدر طغيان ، نظير ملكوت مصدر ملك بمعنى ذو الطغيان على جهة المبالغة في الصفة ، فكل ما عبد من دون الله فهو طاغوت ، والمراد هنا من يحكم بالباطل ويتصدى للحكم ولا يكون أهلا له ، سمى به لفرط طغيانه أو لتشبهه بالشيطان أو لأن التحاكم إليه تحاكم إلى الشيطان ، من حيث أنه الحامل عليه ، والآية الكريمة بتأييد الخبر تدل على عدم جواز الترافع إلى حكام الجور مطلقا (وما يحكم له ، فإنما يأخذه سحتا وإن كان حقه ثابتا).

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٨ (ص ـ ٧٥). (الرواية : ١) والكافي ج ـ ١ ص ٦٧ (الرواية : ١٠)

١٤٢

نعم يستثنى منه ما إذا توقف التوصل إلى الحق على التحاكم إليهم ، أو إذا كان في مقام التقية ، وغير ذلك من الأعذار المجوّزة (لأنه أخذ بحكم الطاغوت ، وإنما أمر الله أن يكفر به ، قال الله تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ، وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)(١) قلت : فكيف يصنعان) أي المترافعان (قال : ينظر أن من كان منكم) يعني من الشيعة الاثني عشري (ممن قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا).

هذا ـ بالنظر إلى أزمنة ظهور الامام عليه الصلاة والسلام ـ ظاهر ، فإن المرجع في الحلال والحرام في أزمنتهم كان من رواة الأحاديث لا محالة ، وإن كان له ملكة الاستنباط (وعرف أحكامنا) وهم المجتهدون في أمثال زماننا (فليرضوا به حكما ، فإنّى قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه ، فإنما بحكم الله استخف ، وعلينا قد رد ، والراد علينا) في الحكم الفاصل للخصومة الصادر ممن جعله الامام عليه‌السلام حاكما ك (الراد على الله) لأن لازم نصب الحاكم ، هو الأمر بلزوم طاعته ، فالله تعالى نصب رسول الله والأئمة عليهم‌السلام سلطانا على العباد وأوجب طاعتهم وأبو عبد الله عليه‌السلام نصب الفقهاء حاكما عليهم ـ من حيث كونه سلطانا.

فحينئذ يكون ردّ الحاكم المنصوب من قبله ردّا عليهم وردّهم ردّ على الله تعالى (وهو على حد الشرك بالله ، قلت : فإن كان كل رجل يختار رجلا من أصحابنا) بمعنى أن كل رجل من المتداعيين يختار حاكما غير ما يختاره الآخر (فرضيا) أي المتخاصمان بالحاكمين (أن يكونا الناظرين في حقهما) أي في حق المتخاصمين ، ومن باب الاتفاق اختلف الحاكمان (فاختلفا فيما حكما) أي فيما حكم الحاكمان بأن قال أحدهما ـ مثلا ـ الزوجة ترث من رباع الأرض ، والآخر

__________________

(١) النساء : ٦٠.

١٤٣

يقول : لا ترث (١) (وكلاهما اختلفا في حديثكم قال : الحكم ما حكم به اعدلهما ، وافقههما ، وأصدقهما في الحديث ، وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر ، قلت : فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر ، قال : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه) خبر لكان (بين أصحابك) والمراد به هو مشهور الرواية التي يعرفها جميع الأصحاب (فيؤخذ به من حكمهما ، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإن المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنما الأمور ثلاثة أمر بيّن رشده) كالخبر والحكم المجمع عليهما (فيتبع ، وأمر بيّن غيّه) كالخبر والحكم المخالفين للاجماع (فيجتنب ، وأمر مشكل) كالخبر والحكم الشاذين (يرد حكمه إلى الله ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات) الواقعية (وهلك من حيث لا يعلم) أي من طريق الغفلة وعدم العلم (قال : قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين) : بالشهرة الروائية (قد رواهما الثقات عنكم ، قال : ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف الكتاب والسنة ووافق العامة) ولمّا كان الظاهر من الواو الجمع وقد فهم الراوي من الجواب المذكور مدخلية الاجتماع في الترجيح أو احتمل ذلك جدّد السؤال عن انفراد بعضها عن بعض (قلت : جعلت فداك ، أرأيت أن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ، فوجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا ، بأيّ الخبرين يؤخذ؟ قال : ما خالف العامة ففيه الرشاد ، فقلت : جعلت فداك فإن وافقها الخبر أن جميعا) بأن كان فتوى بعضهم على وفق أحد الخبرين ، وفتوى البعض الآخر على وفق الخبر الآخر ، وسيجيء بيان ذلك في كلام المصنّف قده (قال : ينظر إلى ما هم أميل

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٧ ص ٥٢٠ (الرواية : ١١).

١٤٤

اليه) أي إلى ذلك الحكم (حكّامهم وقضاتهم) بدل البعض من لفظ : هم ، يعني يترك الخبر الذي على طبق مذاهب الحكام والقضاة من العامة ، ويؤخذ بالخبر الآخر ، وإن كان سائر علمائهم على طبقه ، لأن التقية من الحكّام والقضاة أشد (فيترك ، ويؤخذ بالآخر ، قلت : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا ، قال : إذا كان ذلك) أي لم يوجد المرجح (فارجه) (١) أي اخّر تعيين الحق والباطل (حتى تلقى أمامك ، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات) ومعلوم : أن الاقتحام لا خير فيه أصلا.

والمراد : أن تمام الخير في الوقوف فيجب التأخير إلى لقاء الامام عليه الصلاة والسّلام ، والرواية مختصّة بحال حضور الأئمّة عليهم الصلاة والسلام.

(وهذه الرواية الشريفة وإن لم يخل عن الأشكال ، بل الاشكالات من حيث ظهور صدرها في التحكيم ، لأجل فصل الخصومة وقطع المنازعة فلا يناسبها التعدد) أي تعدد الحاكم والفاصل لأن جعل الحاكم إنّما هو لغرض فصل الخصومة ورفع المنازعة عن البين ، وفي صورة تعدّد الحاكم عند اختلافهما في الرأي ، يبقى النزاع بحاله ، وهو مناف للغرض ، هذا أوّلا.

(و) ثانيا (لا) يناسبها (غفلة الحكمين عن المعارض الواضح لمدرك حكمه) لأن مقام الحكومة آب عن الغفلة عن معارض مستند الحكم ، ولا بدّ للحاكم الفحص التام في مورد حكمه عن وجود الدليل فإذا كان هناك خبران

__________________

(١) وفي بحار الأنوار (ص ـ ٢٢٣ ج ـ ٢) ط الحديثة ، فارجه : بكسر الجيم والهاء ، من : أرجيت الأمر بالياء ، أو من أرجأت الأمر بالهمزة ، وكلاهما بمعنى أخرته ، فعلى الأول حذفت الياء في الأمر ، وعلى الثاني أبدلت الهمزة ياء ثم حذفت الياء ، والهاء ضمير راجع إلى الأخذ باحد الخبرين أو بسكون الهاء لتشبيه المنفصل بالمتّصل ، أو من ارجه الأمر أي أخّره عن وقته ، كما ذكره الفيروزآبادي ، لكنه تفرّد به ولم أجده في كلام غيره.

١٤٥

متعارضان ـ حسب الفرض ـ فلا بد أن يلاحظ في الخبرين المتعارضين ما هو وظيفته من الترجيح والتخيير.

(و) ثالثا (لا) يناسبها (اجتهاد المترافعين ، وتحرّيهما) هذا عطف تفسير للاجتهاد (في ترجيح مستند أحد الحكمين على الآخر) إذ : الزام المتحاكمين بالرّجوع إلى المرجّحات عند اختلاف الحكمين ، غير مستقيم غالبا ، لأنّهما كثيرا ما يكونان عاميين ، فيتعذّر في حقّهما اعتبار المرجحات المذكورة.

(و) رابعا (لا) يناسبها (جواز الحكم من أحدهما) أي أحد الحكمين (بعد حكم الآخر).

ضرورة : أنّ الحكم عبارة عن فصل الخصومة والدعوى بين المتنازعين وهو لا يكون الّا واحدا ، لأنّه إذا حكم الحاكم بحكم وفصل الخصومة إن لم يكن مجتهدا فلا عبرة بحكمه ، وإن كان مجتهدا فلا يجوز لحاكم آخران يحكم بخلاف ذلك.

اللهمّ إلّا أن يفرض أنّهما حكما بحكمين متعارضين دفعة في آن واحد فيرجّح حكم الأعدل والأفقه والأصدق والأورع على الآخر (مع بعد فرض وقوعهما) أي وقوع الحكمين المختلفين من الحاكمين (دفعة ، مع أن الظاهر حينئذ) أي بعد فرض وقوعهما دفعة (تساقطهما ، والحاجة إلى حكم) حاكم (ثالث) (١).

__________________

(١) وفيها أشكال خامس ، لم يذكره المصنّف قده ، وهو : أنّ ظاهر صدرها الرجوع إلى الحاكم عند المعارضة والمنازعة ، ولا ريب أن الأمر بيد المدّعي في اختيار الحاكم في المنازعات وله اختيار من شاء ، وأن كان مفضولا بالنسبة إلى من اختاره المنكر مع ذلك ينفذ حكمه في الواقعة الشخصية لا تفويض الأمر بيد المتنازعين في أعمال المرجحات ، فكان المناسب أن يجيبه عليه‌السلام : بأن الأمر بيد المدعي ، والقول قول من اختاره حكما هذا.

ولكن يمكن الجواب عنه : بمنع لزوم ذلك على تقدير تعدد الحكمين أيضا ، ـ

١٤٦

قوله : (ظاهرة) خبر لقوله سابقا : وهذه الرواية الشريفة (بل صريحة في وجوب الترجيح بهذه المرجحات بين الأخبار المتعارضة) إذا قلنا : بأن الأمر حقيقة في الوجوب (فإن تلك الاشكالات لا تدفع هذا الظهور) أعني وجوب الترجيح (بل الصراحة) فيه ، لأن عدم التمكن من جواب الاشكالات لا يضر بفهم وجوب الترجيح عند التعارض.

ولكن الّذي يقتضيه التأمل اندفاع تلك الاشكالات بأسرها بعد تسليم

__________________

ـ تتمة الهامش من صفحة ١٤٦

بحمل الرّواية على صورة التداعي ، فإن كلا من المتخاصمين في تلك الصورة مدّع ومنكر باعتبارين ، فيلزم تفويض الأمر في اختيار الحاكم إلى المنكر أيضا (ثم) أنّ هذا كلّه على تقدير تسليم ظهور صدر الرواية في رجوع المتخاصمين إلى الحكمين لأجل الحكم بينهما ، بأن يكون الفاصل بينهما هو حكومة الحاكم ، لا روايته.

لكن يمكن دعوى ظهوره في رجوعهما اليهما من حيث الرّواية وذلك لمقدمتين.

إحداها : ما عرفت سابقا من ظهور الرواية في فرض كون منشأ النزاع بينهما هو الاختلاف في الحكم.

وثانيها : أن المتعارف في ذلك الزمان أن كل من يفتي بشيء كان افتائه بنفس الحديث الوارد في الواقعة المسئول عنها ، وكان المستفتي عن شيء إنما يرجع إلى المفتي لأجل استعلام ما عنده من الحديث في الواقعة المجهولة الحكم ، والمستنتج من هاتين المتقدمتين أن فرض السؤال إنما هو في رجوع المتخاصمين إلى الحكمين من حيث كونهما راويين ـ وان كان كل واحد منهما مجتهدا ـ ويدل عليه أيضا قول السائل : وكلاهما اختلفا في حديثكم ، فإنه ظاهر في رجوعهما اليهما من حيث الحديث والرواية وجعل الفاصل بينهما هي : لا رأي الحاكم ، فلا يرد حينئذ شيء من الاشكالات المتقدمة ، إذ الرواية ممّا يناسبها التعدّد ، ويجوز نقل رواية معارضة لما يرويه غير أيضا ، ولا يجوز له الزام الغير الّذي استنبط ما رآه وافتى به مما رواه ، إذ العبرة في أحكام نفسه بنظره ، نعم يقع التعارض على هذا بين هذه الرواية وبين المرفوعة الآتية كما سيأتي التنبيه عليه أيضا.

١٤٧

تماميتها بأنّ غاية ما يثبت إنما هي المنع منها في القاضي المنصوب خصوصا أو عموما.

وأما قاضي التحكيم الذي هو المفروض في صدر الرواية كما يقتضيه قول السائل : فإن كان كل رجل يختار رجلا ، فلم يقم دليل على عدم جواز تعدده ، ولا على عدم جواز اجتهاد المترافعين بعد تعارض حكمهما ولا على عدم جواز اختيار المنكر من شاء أيضا ، فالأمور المذكورة على تقدير لزومها لا محذور فيها ، بل يمكن التمسك على جوازها بصدر الرّواية هذا.

مضافا إلى عدم لزوم بعضها أيضا ـ كتعدّد الحكمين ـ فلأن الظاهر من الرواية فرض السؤال عن تراض المتخاصمين بكون كلا الشخصين معا حكما فيما بينهما بأن يحكم كل منهما باستصواب الآخر لا كونه حكما مستقلا مستندا برأيه ، نظرا إلى قول الراوي : فرضيا ، أن يكون الناظرين في حقّهما وقوله : فإن كان كلّ رجل يختار رجلا وإن كان في نفسه ظاهرا في تعدّد الحكمين ، لكنه بقرينة ما ذكر ، محمول على اختيار كل منهما رجلا برأسه في أوّل الأمر ، ثمّ بنيا على كونهما معا حكما لا يجوز أن يحكم واحد منهما مخالفا لما حكم به الآخر.

وأمّا ما ذكره قده من لزوم ـ غفلة الحكمين ـ عن المعارض لمدرك حكمه يمكن منع اللزوم بأنّ فتوى كلّ منهما على خلاف الآخر ، لعلّه لاطلاعه على قدح في مستند حكم الآخر ، ولم يطلع الآخر عليه في صدوره تقية ، أو غيره من القوادح لا لغفلته عنه رأسا.

ويمكن دفعه بوجه آخر : بأنه لا يعتبر في المجتهد الوقوف على جميع مدارك المسألة وأخبارها ، ولا على جميع الوجوه المعتبرة في الترجيح واقعا ، لجواز عدم بلوغ البعض إليه أو غفلة عنه ، كما اتفق ذلك في حقّ جماعة من أصحابنا كما يظهر بالتتبع ، ووجوب التنبيه على ذلك ممنوع.

مع أنّ اطلاع الحاكم على الرّواية المعارضة لما يعمل به عند غيره ، لا

١٤٨

يوجب كونها معارضة له عنده ، لجواز قصورها في نظره عن المعارضة بتنزيله إياها على ما لا ينافي لما عمل به ، لاختلاف الافهام في فهم مداليل الكلام ، أو لوجود مرجّحات ـ ظفر بها بالتّتبّع ـ موجبة لرجحان ما عمل به عنده لم يعثر به عليها المتحاكمان.

فبقي ممّا ذكره قده لزوم ـ اجتهاد المترافعين ـ ووجه كونه محذورا أن القول قول الحاكم في مقام الدعوى ، لكن لا ضير فيه بعد فرض تعارض الحكمين كما عرفت لعدم قيام دليل على المنع منه.

ويمكن أن يقال : في دفعه بتخصيصه بالتمكن كما هو الظاهر من مساق الرواية مع احتمال رجوع العامي في ذلك إلى نقل العارف الثقة.

ويمكن الجواب عن : الرّابع ، بأنّه وإن كان بالنسبة إلى الحكومة الاصطلاحيّة حقا لكنّه ليس المراد من الحكم في النص الحكومة الاصطلاحية بل هي واردة مورد ما هو الغالب عند الامامية بالنسبة إلى تلك الأزمنة من عدم استعمالهم الحكومة الاصطلاحيّة ، بل كانوا يقطعون الدعاوى ، والخصومات بينهم بالحكم الشرعي ، فإن المتنازعين إذا علما بحكم الله الشرعي بنيا عليه في قطع نزاعهما ، ولا يرفعان الأمر إلى الحاكم كما هو شايع بين المقلّدين أيضا ، هذا كلّه.

مضافا إلى أن اجمال صدر الرواية الشريفة لا يقدح بالاحتجاج بذيلها الصريح بوجوب الاخذ بالمرجّحات المذكورة فيه.

(نعم يرد عليه) أي على التمسك بهذه الرواية (بعض الاشكالات في ترتب المرجحات فإن ظاهر) هذه (الرواية تقديم الترجيح من حيث صفات الراوي على الترجيح بالشهرة والشذوذ ، مع أن عمل العلماء قديما وحديثا على العكس على ما يدل عليه) أي على تقديم صفات الرواية على صفات الراوي كما يدل عليه (المرفوعة الآتية فإن العلماء لا ينظرون عند تعارض المشهور والشاذ إلى صفات الراوي) يعني إذا كان الروايتان إحداهما مشهورة والأخرى

١٤٩

شاذة يعملون بالمشهور ، ولو كان راوي الشاذ أصدق وأعدل فيقدمون المشهور على اعتبار صفات الراوي.

(اللهم إلّا أن يمنع ذلك) أي قيام العمل على تقديم الشهرة على صفات الراوي وأن العلماء لم يثبت منهم تقديم الشهرة على الصفات مطلقا ، بل يمكن أن يكون الأمر بالعكس ، بمعنى أنّه لو فرض كون الراوي أفقه وأصدق وأورع يعملون بروايته ويقدمونها على الرواية المشهورة.

نظرا إلى أنّ أفقهيّة الرّاوي ـ مع استناده إلى رواية شاذة ـ تكشف عن خلل في الرواية المشهورة كما قال المصنف قده (فإن الراوي إذا فرض كونه أفقه وأصدق وأورع ، لم يبعد ترجيح روايته وإن انفرد بها) أي بالرواية الشاذة بحيث لا يعرفها ولا يرويها أحد غيره (على الرواية المشهورة بين الرواة ، لكشف اختياره) «الافقه» (ايّاها) أي هذه الرواية الشاذة (مع فقهه وورعه عن اطلاعه على قدح في الرواية المشهورة ، مثل صدورها) أي صدور الرواية المشهورة (تقية ، أو تأويل لم يطلع عليه) أي التأويل (غيره) أي غير الأفقه كما إذا كان احدى الرّوايتين تدلّ على استحباب العقيقة ، ووردت رواية أخرى أن العقيقة واجبة ، وفرضنا أن الرواية الأولى شاذة رواها الأصدق والأورع والأفقه والحال أنّ الأفقه يعلم بأن المشهور مقدم ، فلا بدّ أن نقول أن الأفقه اطلع على خلل في الرواية المشهورة مثل أنه صدرت تقية ، أو أنّ الوجوب مؤوّل بالاستحباب المؤكد ، ولأجل هذا اختار استحباب العقيقة ، وإن كانت روايتها شاذة (لكمال فقاهته وتنبّهه لدقائق الأمور وجهات الصدور).

(نعم مجرّد أصدقية الراوي وأورعيته ، لا يوجب ذلك) أي تقديم قوله على المشهور (ما لم ينضم إليه) أي إلى الأصدقية والأورعية (الأفقهية هذا) أي خذ ذا.

(ولكن الرواية مطلقة ، فتشمل الخبر المشهور روايته بين الأصحاب حتى بين من هو أفقه من هذا المنفرد برواية الشاذ) يعني الأفقه منه في عصره وزمانه

١٥٠

بأن يكون بعض رواة الرواية المشهورة المعاصرين له أفقه منه ، فلا يجوز ترجيح تلك الرواية الشاذة لأجل افقهيّة ذلك المنفرد لوجود تلك العلّة فيما يعارضها ، لأن اعتبار الأفقهية على تقديره لا يختصّ بشخص دون شخص ، أو بزمان دون زمان.

وبعبارة أخرى إذا كان مستند حكم الحاكم الّذي أفقه ، هو الرواية الشاذة التي رواها الفقيه ، ولكن مستند حكم الحاكم الفقيه ، هو الرواية المشهورة التي رواها الأفقه ففي تلك الصورة يقدّم قول الحاكم الفقيه دون الأفقه (وإن كان هو أفقه من صاحبه المرضي بحكومته ، مع أن أفقهية الحاكم باحدى الروايتين ، لا يستلزم أفقهيّة جميع رواتها) في جميع الطبقات من رواة تلك الرواية المشهورة (فقد يكون من عداه) أي من عدا الأفقه الّذي هو في سنده من ساير رجال النقل (مفضولا بالنسبة إلى رواة الأخرى) أي بالنسبة إلى رواية حاكم الآخر غير الأفقه ، فلا يجوز ترجيح روايته على الرّواية المشهورة في تلك الصورة أيضا.

(الّا أن ينزّل الرّواية على غير هاتين الصورتين) بمعنى أن يكون ما يرويه عن الأفقه يترجّح على سند الآخر في تمام الطبقات.

(وبالجملة فهذا الاشكال) المذكور (أيضا لا يقدح في ظهور) هذه (الرواية بل صراحتها في وجوب الترجيح) السندي والمضموني (بصفات الراوي وبالشهرة من حيث الرواية وبموافقة الكتاب ومخالفة العامّة).

(نعم المذكور في الرواية الترجيح باجتماع صفات الراوي من العدالة والفقاهة والصداقة والورع ، لكن الظاهر ارادة بيان جواز الترجيح بكل) واحد (منها) أي من الأوصاف الأربعة (ولذا) حيث فهم الراوي من كلامه «ع» أنّ كلّ واحد من هذه الصفات وما يشبهها مزية مستقلّة (لم يسأل الراوي عن صورة وجود بعض الصفات دون بعض ، أو تعارض الصفات بعضها مع بعض).

والدليل على ذلك ، إنّ الراوي قال ـ بعد ذكره عليه الصلاة والسلام الأوصاف ـ فإنهما عدلان مرضيّان ، كما قال : (بل ذكر في السؤال أنهما عدلان

١٥١

مرضيّان لا يفضل أحدهما على صاحبه) فإنّه أوّلا اكتفى بذكر العدالة من الأوصاف ، ثمّ اتى بلفظ : المرضيّان ، يعني سواء كان من حيث الأوصاف المذكورة ، أو غيرها كما هو المحتمل من لفظ : المرضيّان ، (فقد فهم) : الراوي (أنّ الترجيح بمطلق التفاضل) وهذا هو مراد الامام عليه الصلاة والسلام ، ولا يكون المجموع أي الأوصاف الثلاثة منضمّة معتبرة بل كل واحد مستقلّ في الترجيح به ، وإلا لكان له «ع» أن يبيّن للراوي اشتباهه.

(وكذا يوجّه الجمع بين موافقة الكتاب ، و) موافقة (السنة ، ومخالفة العامّة مع كفاية واحدة منها اجماعا) فكما أنّ التعبير بموافقة الكتاب والسنة ومخالفة العامّة ليس المنظور هو المجموع ، بل كلّ واحد مستقلا ، فهكذا ما نحن فيه.

(الثاني) من الأخبار الواردة التي تدلّ على وجوب الترجيح (ما رواه ابن أبي جمهور الاحسائي ، في عوالي اللّئالي عن العلّامة قده مرفوعا إلى زرارة) بن اعين (قال : سألت أبا جعفر) الباقر (عليه الصلاة والسّلام فقلت : جعلت فداك ، يأتي عنكم الخبران والحديثان) ـ لعلّ الخبر في اصطلاح أهل الحديث ، هو ما لا ينقله الامام «ع» عن النبيّ (ص) والحديث هو ما ينقله (ع) عنه (ص) المتعارضان ، (فبايّهما آخذ ، فقال عليه‌السلام : يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك) ـ والمراد به هو مشهور الرواية لا الشهرة الفتوائية ـ (ودع الشاذ النادر ، فقلت : يا سيّدي أنّهما معا مشهوران مأثوران) أي مرويّان (عنكم ، فقال عليه‌السلام : خذ بما يقول أعدلهما عندك ، وأوثقهما من نفسك ، فقلت : أنهما معا عدلان مرضيّان موثّقان ، فقال عليه‌السلام : انظر ، ما وافق منهما العامّة فاتركه ، وخذ بما خالف ، فإنّ الحقّ فيما خالفهم ، قلت : ربّما كانا معا موافقين لهم) أي للعامة بأن وافق طائفة منهم لأحد الخبرين ، وطائفة أخرى للخبر الآخر ، كما إذا روى أحدهما التكتف فوق السرّة ، والآخر تحت السرّة كما بين الحنفيّين والشافعيّين ، وكلاهما موافقين للعامّة (أو مخالفين) لهم كما إذا روي أحدهما

١٥٢

استحباب صلاة الجمعة في عصر الغيبة والآخر حرمتها ، وكلاهما مخالف للعامة (فكيف اصنع؟ قال عليه‌السلام : إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك ، واترك الآخر ، قلت : أنّهما معا موافقان للاحتياط) كما في العلم الاجمالي بحرمة أحد الشيئين أو وجوب أحدهما كالشبهة المحصورة كما في القصر والاتمام (أو مخالفان له) أي للاحتياط كوجوب الجمعة ووجوب الظهر ، لأنّ كلّ خبر دلّ على وجوب الجمعة معناه تعيّنه والاكتفاء به ، وهكذا وجوب الظهر ، وكلاهما مخالف للاحتياط (فكيف أصنع؟ فقال) عليه‌السلام (إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به ودع الآخر) وفي رواية أنه (ع) قال : إذن فارجه حتى تلقى أمامك : فتسأله (١).

(الثالث) من الأخبار الواردة التي تدلّ على وجوب الترجيح (ما رواه الصدوق قده باسناده عن أبي الحسن الرضا عليه الصلاة والسّلام) ـ المروي في عيون أخبار الرضا «ع» ـ (في حديث طويل ، قال فيه : فما ورد عليكم من حديثين مختلفين فاعرضوهما) (٢) (على كتاب الله فما كان في كتاب الله موجودا حلالا أو حراما فاتبعوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوهما على سنن) ـ يجوز فيه الوجهان ، بفتح السين بمعنى الطريق ، وبضمّها جمع السنّة.

ولكنّ الأوّل هنا أولى ، وإن كان الزيارة المعروفة بأمين الله ، على الثاني ـ (رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما كان في السنّة موجودا منهيا عنه)

__________________

(١) راجع المستدرك ج ـ ٣ (ص ـ ١٨٥). (الرواية : ٢).

(٢) القاعدة الأدبية تقتضي بأن يكون العبارة في الموضعين فاعرضوا بهما ، إذ : على ما قاله التفتازاني في شرح التصريف ما حاصله : أنّ باب الأفعال يجعل اللازم متعديا غالبا ، وقد يبقى على لزومه مثل افلح واغدّ البعير أي صار ذا غدّة ، ولكن وجد مورد أن المجرّد متعد ، وإذا دخل في باب الافعال صار لازما ، مثل كبّ وعرض ، قال الزوزني لا ثالث لهما اللهم إلّا أن يقال بأنّ الهمزة همزة الوصل لا القطع.

١٥٣

بالنهي التحريمي (فهي حرام ، أو مأمورا به عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أمر الزام ، فاتبعوا ما وافق نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمره ، وما كان في السنّة نهى اعافة) ـ لعلّ المراد بنهي الاعافة ما وقع فيه الزجر عن ارتكاب المنهى عنه كما في القاموس ـ (أو كراهة ، ثمّ كان الخبر خلافه) أي خلاف ما ورد في السنّة (فذلك) أي ما ورد خلافه (رخصة فيما عافه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو كرهه ولم يحرّمه ، فذلك الّذي يسع الأخذ بهما) أي الموافق والمخالف (جميعا) فإذا ورد أمر بشيء ، ثم ورد في السنة أيضا نهى عنه ، فمعنى الأمر هو الرخصة كما إذا قيل مثلا : إذا رأيت المصلّين على حالة التعقيب لا تؤذّن ولا تقم ، وفرضنا في السنة المتواترة اذّن وأقم فهذا يدلّ على الرخصة (وبأيهما شئت ، وسعك الاختيار من باب التسليم والاتباع والرد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردوا إلينا علمه ، فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيها بآرائكم وعليكم بالكف والتثبيت والوقوف و) ـ الواو حالية ـ (انتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا) (١).

(الرّابع) من الأخبار الواردة (ما عن رسالة القطب الراوندي بسنده الصحيح عن الصادق عليه الصلاة والسلام ، إذا ورد عليكم حديثان مختلفان ، فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فذروه) أي فاطرحوه (فإن لم تجدوه في كتاب الله فاعرضوهما على اخبار العامّة فما وافق اخبارهم فذروه ، وما خالف اخبارهم فخذوه) (٢).

(الخامس) من الأخبار الواردة (ما بسنده أيضا) يعني عن رسالة القطب الراوندي قده ، بسنده (عن الحسين بن السري) ـ ابن السبري ـ خ ل ـ (قال :

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ٨١. (الرواية : ٢١).

(٢) الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ٨٤. (الرواية : ٢٩).

١٥٤

قال أبو عبد الله عليه الصلاة والسّلام : إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم) (١).

(السادس) من الأخبار الواردة (ما بسنده أيضا عن الحسن بن الجهم في حديث ، قلت : له يعني العبد الصالح «ع») يعني أمامنا الكاظم صلوات الله وسلامه عليه لأجل التقية يعبّرون هكذا ، وقد يعبّر عنه عليه الصلاة والسلام بالحبر «ع» والعالم «ع» والرجل «ع» والفقيه «ع» والشيخ «ع» (يروى عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام شيء ، ويروي عنه «ع» أيضا خلاف ذلك ، فبايّهما نأخذ؟ قال : خذ بما خالف القوم ، وما وافق القوم فاجتنبه) (٢).

(السابع) من الأخبار الواردة (ما بسنده أيضا عن محمد بن عبد الله قال : قلت للرضا صلوات الله وسلامه عليه ، كيف نصنع بالخبرين المختلفين قال : إذا ورد عليكم خبر أن مختلفان ، فانظروا ما خالف منهما العامة فخذوه وانظروا ما يوافق أخبارهم فذروه) (٣).

(الثامن) من الأخبار الواردة (ما عن الاحتجاج) الطبرسي قده (بسنده عن سماعة بن مهران ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه الصلاة والسلام : يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالأخذ به ، والآخر ينهانا ، قال : لا تعمل بواحد منهما ، حتى تلقى صاحبك فتسأل ، قلت : لا بدّ أن نعمل بواحد منهما ، قال «ع» : خذ بما خالف العامة) (٤).

(التاسع) من الأخبار الواردة (ما عن الكافي بسنده عن المعلّى بن خنيس ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه الصلاة والسلام : إذا جاء حديث عن أوّلكم) مثلا

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ٨٥. (الرواية : ٣٠).

(٢) الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ٨٥. (الرواية : ٣١).

(٣) الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ٨٥. (الرواية : ٣٤).

(٤) الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ٨٨. (الرواية : ٤٢).

١٥٥

عن أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام (وحديث عن آخركم) مثلا عن إمامنا العسكري صلوات الله وسلامه عليه مخالف للأوّل (بأيّهما نأخذ ، قال : خذوا به) أي بهذا الأخير (حتّى يبلغكم عن الحيّ «ع») أي عن صاحب الزمان عليه الصلاة والسلام عجّل الله تعالى فرجه الشريف (فان بلغكم عن الحيّ) عليه الصّلاة والسّلام (فخذوا بقوله) وإن بلغ منه «ع» أرواحنا له الفداء ما يخالفه فيجب الأخذ به وترك المأخوذ(قال) الراوي : (ثمّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام أنا والله لا ندخلكم إلا فيما يسعكم) (١) أي لا نضايق عليكم ، نسهّل عنكم الأمر.

(العاشر) من الأخبار الواردة (ما عنه) أي عن الكافي (بسنده إلى الحسين بن المختار ، عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام قال : أرأيتك لو حدثتك بحديث العام) يعني في هذا العام (ثمّ جئتني من قابل) أي في السنة الآتية (فحدثتك بخلافه ، بأيّهما كنت تأخذ قال : كنت آخذ بالأخير ، فقال) عليه‌السلام (لي : رحمك الله تعالى) (٢).

(الحادي عشر) من الأخبار الواردة (ما بسنده الصحيح ظاهرا عن أبي عمرو الكناني عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام ، قال : يا أبا عمرو أرأيت لو حدثتك بحديث ، أو أفتيك بفتيا).

والفرق بينهما واضح ، فإن الأوّل هو نقل الامام عليه الصلاة والسلام الحديث عن آبائه وأجداده الكرام عليهم‌السلام ، والثاني نفس الامام عليه‌السلام يأمر بشيء أو ينهى عنه (ثم جئت بعد ذلك تسألني عنه) أي عن ذلك (فاخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك ، أو افتيك بخلاف ذلك ، بأيهما كنت تأخذ ، قلت : بأحدثهما وأدع الآخر) إذ : المفروض وجود احتمال التقية في الأوّل ، دون

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ٧٨. (الرواية : ٨).

(٢) الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ٧٧. (الرواية : ٧).

١٥٦

الثاني (قال : قد أصبت يا أبا عمرو أبي الله إلا أن يعبد سرّا ، أما والله لئن فعلتم ذلك أنّه لخير لي ولكم أبى الله عزوجل) أي منع الله (لنا في دينه إلا التقية) (١).

(الثاني عشر) من الأخبار الواردة (ما عنه بسنده الموثّق) وحيث أنّ النتيجة تابع لأخسّ المقدمتين وكان واحد منهم من سلسلة السند عدل في مذهبه ، لذا سمّى بالموثق (عن محمد بن مسلم ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه الصلاة والسلام : ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا يتّهمون بالكذب ، فيجيء منكم خلافه) أي خلاف ما روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (قال : انّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن) (٢) هذا الكلام محمول على الاستعارة والمراد أنّ العمل على الثاني دون الأوّل.

(الثالث عشر) من الأخبار الواردة (ما بسنده الحسن عن أبي حيون مولى الرّضا ـ عن الرّضا ـ صلوات الله وسلامه عليه قال : من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدى إلى صراط مستقيم ، ثم قال عليه‌السلام : إنّ في أخبارنا محكما كمحكم القرآن ، ومتشابها كمتشابه القرآن ، فردوا) حين التعارض (متشابهها إلى محكمها ، ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها ، فتضلّوا) (٣) يعني لا يجوز اتباع المتشابه ، وهو اللفظ الذي يكون مجملا ، أو مؤوّلا.

فيحمل الأول على بعض معانيه المحتملة بمجرد التشهي والرأي ، ويؤخذ بخلاف ظاهر الثاني كذلك ، بل يجب عليكم اتباع المحكم الذي هو نص أو ظاهر في معني ، وجعله قرينة على المراد من المتشابه والأخذ بما يستفاد من جميع الأخبار كما أنّ التربص بثلاثة قروء في آية التربّص والمطلّقات يتربّصن

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ٧٩. (الرواية : ١٧).

(٢) الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ٧٧. (الرواية : ٤).

(٣) الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ٨٢. (الرواية : ٢٢).

١٥٧

(بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)(١) متشابهة ، والسنة قائمة بأن المراد من القرء هو ثلاثة أطهار فارتفع الاجمال ، وهكذا الآية الشريفة إلى (يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ)(٢) هذا مؤوّل ، والآية الكريمة : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ)(٣) و : (لَنْ تَرانِي)(٤) وهو نفي التأبيد يرفع تشابه الآية السابقة ، فالمراد يوم لقاء آثار الله المعلومة ، وهو يوم القيامة.

(الرابع عشر) من الأخبار الواردة (ما عن معاني الأخبار بسنده عن داود بن فرقد ، قال سمعت أبا عبد الله عليه الصلاة والسلام : يقول : أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ، أنّ الكلمة لتنصرف على وجوه ، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب) (٥) فانّ قوله «ع» : أن الكلمة لتنصرف الخ في مقام التعليل لقوله «ع» : انتم أفقه الناس.

والغرض أنه لا يجوز المبادرة إلى طرح خبر مروي عنهم عليهم‌السلام ، وتكذيب صدوره بمجرد ورود خبر آخرينا في ذلك الخبر بظاهره لامكان إرادة خلاف الظاهر منه ، بل لاحتماله لأنه على تقديره غير مستلزم للكذب ، بل لا بدّ من ملاحظة دلالتهما أولا ، فإن كانت دلالة أحدهما أقوى يجعل ذلك قرينة على إرادة خلاف الظاهر من الآخر.

(وفي هاتين الروايتين الأخيرتين دلالة على وجوب الترجيح بحسب قوة الدلالة) لا من جهة الصدور ، مع أن في ساير الأخبار الترجيح بالصدور وهو غير هذا الفرد (هذا ما وقفنا) أي اطلعنا (عليه من الأخبار الدالّة على التراجيح ، إذا عرفت ما تلوناه) أي قرأناه (عليك من الأخبار فلا يخفى عليك أن ظواهرها) أي

__________________

(١) البقرة : ٢٢٨.

(٢) التوبة : ٧٧.

(٣) الانعام : ١٠٣.

(٤) الأعراف : ١٤٣.

(٥) الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ٨٤. (الرواية : ٢٧).

١٥٨

ظواهر هذه الأخبار (متعارضة) وحيث لا بدّ في تعارض ساير الأخبار بالرجوع إلى هذه الأخبار العلاجية (فلا بد من علاج ذلك) أي علاج التعارض بين نفس تلك الأخبار (والكلام في ذلك) أي في بيان علاجه (يقع في مواضع).

(الأوّل في علاج تعارض مقبولة ابن حنظلة ، ومرفوعة زرارة حيث أن) المقبولة متعارضة للمرفوعة في الترتيب ، فإن (الأولى) أي المقبولة (صريحة في تقديم الترجيح) السندي ، أعني الترجيح (بصفات الراوي على الترجيح بالشهرة ، والثانية) أي المرفوعة (بالعكس) بمعنى أنه قدم الترجيح بالشهرة على الترجيح السندي.

إن قلت : أن المرفوعة ضعيفة السند باعتبار رفعها ، وانفراد ابن أبي الجمهور بنقلها بخلاف المقبولة محكيا عن الشهيد قده في حاشية الخلاصة حيث قال ما مضمونه : أن عمر بن حنظلة وإن لم يذكره أهل الرجال بقدح ولا مدح ، إلا أني حققت توثيقه في مقام آخر ، ويحتمل أن يكون مراده من تحقيقه توثيقه ما حكاه من رواية يزيد بن خليفة عن الصادق عليه‌السلام ، فإنه قال له عليه‌السلام : أن عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت فقال عليه‌السلام : إذن لا يكذب علينا (١).

ووجه دلالة الخبر على توثيقه أنه جعل عليه‌السلام اتيانه بالخبر علة لعدم الكذب ، كما في مثل ما لو قال : أحد أسلمت؟ يقال له : اذن تدخل الجنة ، فكأنّه قال : إذا كان الآتي بالخبر عمر بن حنظلة فلا يكذب علينا ، أو أنه إذا كان ما آتاكم من الخبر خبر عمر بن حنظلة فلا يكذّب علينا بصيغة المجهول.

وكيف كان لا وجه للمناقشة في دلالته بأنه يدل على عدم كذبه بالنسبة إلى خبره الذي أتى به في الوقت انتهى بعض كلامه زيد في علو مقامه.

والحاصل يصير المرفوعة مع المقبولة من قبيل تعارض الحجّة واللاحجّة

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ٥٩. (الرواية : ٣٠).

١٥٩

والحكم واضح.

قلنا : (وهي) أي المرفوعة (وان كانت ضعيفة السند ، إلا أنها) أي المرفوعة (موافقة لسيرة العلماء في باب الترجيح ، فإن طريقتهم) أي العلماء (مستمرة على تقديم المشهور على الشاذ) وعملهم يجبر ضعفها (والمقبولة وإن كانت مشهورة بين العلماء حتى سمّيت مقبولة ، إلا) أنها موهونة باعراض الأصحاب عنها ، من حيث تقديم الترجيح بصفات الراوي فيها على الترجيح بالشهرة.

مع (أنّ عملهم على طبق المرفوعة) بتقديم الترجيح بالشهرة على صفات الراوي (وإن كانت) المرفوعة (شاذة من حيث الرواية حيث لم يوجد مروية في شيء من جوامع الأخبار) في اصطلاح الرجال الأصل ، ما يختص براو واحد كما في أصل زرارة ، وأصل جميل ، والجامع ما اشتمل على أصول أربعمائة.

قوله : (المرفوعة) النائب الفاعل لقوله لم يوجد ، (ولم يحكها) أي المرفوعة (الا ابن أبي جمهور عن العلّامة قده مرفوعة إلى زرارة) فإذن لا ترجيح لشيء منهما على الآخر حتى يؤخذ به ويطرح الآخر.

ولا بدّ في ايضاح المطلب من تمهيد مقال ، وهو : أنّ الشهرة في الأصل هو الوضوح والتجرد عن موجبات الخفاء ، والمشهور مأخوذ من شهر السيف إذا أظهره وأخرجه من غمده ، يقال شهر فلان سيفه وسيف شاهر ، قال في القاموس : الشهرة بالضم ظهور الشيء ويعبّر عنه بالفارسية : بنمايان وآشكار.

وهي على أقسام ثلاثة لأن سبب المعروفية أما أن يكون الرواية ، أو الفتوى ، أو العمل.

والشهرة العملية هي أن تكون رواية ، عمل بها المشهور واعتمدوا عليها.

والشهرة الفتوائية : أن يفتي المشهور بلا استناد إلى رواية ، نظير الاخفات في التسبيحات.

ومشهور الرواية ، هو أن يجمع على روايته وإن لم تكن معمولا بها والشاذ

١٦٠