جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

محمّد رضا الناصري القوچاني

جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

المؤلف:

محمّد رضا الناصري القوچاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

المقتضية للتوقف لاقتضائها الرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما استدركه بقوله : (بناء على أن الحكم في) الخبرين (المتعادلين مطلقا) أي سواء كان أحدهما مطابقا للأصل أم لا؟ (التخيير لا) الرجوع إلى (الأصل المطابق لاحدهما) في صورة التعارض ، لأن الأصل لا يكون مرجحا بل مرجعا.

(والتخيير ، أما بالنقل) أي بالأخبار ، ويسمى بالتخيير الشرعي (وأما بالعقل) بين الاحتمالين ، ويسمى بالتخيير العقلي ، نظير وطى الزوجة المحلوفة على وطيها ، أو ترك وطيها.

(أما النقل : فقد قيد فيه) أي النقل (التخيير بفقد المرجح) فيجب الأخذ بالراجح ، إن كان (وبه) أي وبفقد المرجح (يقيد ما) أي الأخبار التي (أطلق فيه التخيير) كما في قوله عليه‌السلام : بأيهما أخذتم من باب التسليم وسعكم.

(وأما العقل : فلا يدل على التخيير بعد احتمال اعتبار الشارع للمزية ، وتعيين العمل بذيها) أي بذي المزية يصير المورد من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، والحكم فيه هو الأخذ بالتعيين.

ووجهه واضح فإن الأخذ بذي المزية مبرئ يقيني ، سواء كان معينا الأخذ به ، أو كان أحد فردي التخيير.

فالأحوط الأخذ بما فيه المزية ، لأن مقتضى الأصل والقاعدة وجوب العمل بالراجح ، وعدم جواز التخيير ، لأنه يتوقف عند العقل على احراز التساوي ، فمع رجحان أحد الاحتمالين لا يحكم بالتخيير بل بالتعيين ، بمعنى أنه لو دار الأمر بين الحكم بعدم صدور خبر الصادق أو خبر الأصدق يقوى في الذهن عدم صدور الأول ، وصدور الثاني.

(ولا يندفع هذا الاحتمال) أي تعيين العمل بذي المزية (باطلاق أدلة العمل بالاخبار) يعني دليل حجية خبر العادل في صورة انفراد الخبر ، لا إذا كان معارضا (لأنها) أي الأخبار (في مقام تعيين العمل بكل من المتعارضين مع الامكان ، لكن صورة التعارض ليست من صور امكان العمل بكل منهما) أي من

١٢١

المتعارضين (وإلا) أي وإن كان ناظرا حتى إلى صورة المعارضة ، لزم العمل بكليهما ، وهذا باطل ، لأنه إذا أخبر أحد الروات بوجوب صلاة الجمعة ، والآخر بحرمتها ، ان صدقنا كليهما لزم الحكم باجتماع الضدين.

نعم : إذا ورد خبر أن لحكمين مختلفين (لتعين العمل بكليهما) مثلا : إذا أخبر العادل بوجوب الصلاة وأخبر الأعدل بوجوب الصوم ، يجب العمل بكليهما.

وهذا بخلاف المقام ، لأن الكلام فيما إذا كان لأحدهما مرجح دون الآخر.

وبالجملة : بين كل واجبين متزاحمين يتصور صور ثلاثة.

أما أن يعلم بتساويهما كتساوي الغريقين.

وأما أن يعلم بأهمية أحدهما من الآخر ، كأن كان أحدهما عالما والآخر جاهلا.

وأما أن يشك في الأهمية والمساوات في أحدهما.

ففي الصورة الأولى التخيير ، ولكن الأخيرتان يجب الأخذ بما علم أو احتمل أنه أهم (والعقل إنما يستفيد من ذلك الحكم المعلق بالامكان عدم جواز طرح كليهما ، لا التخيير بينهما) لأن الحاكم بالتخيير إنما هو الشرع (وإنما يحكم) العقل (بالتخيير ، بضميمة أن تعيين أحدهما) أي المتعارضين (ترجيح بلا مرجح) لأن كلا منهما من حيث هو مقدور ، يجب الاتيان به ، ومعه يمتنع فعل الآخر فيقبح العقاب عليه.

والمصحح لجواز اختيار كل منهما المستلزم لعجزه عن امتثال الآخر اطلاق طلبه ، المفروض عدم اشتراطه ، الا بالقدرة العقلية (فإن استقل) العقل (بعدم المرجح ، حكم بالتخيير ، لأنه) أي حكم العقل بالتخيير (نتيجة) مقدمات ثلاث وهو مستقل في ثبوت كل منها.

إحداها (عدم امكان الجمع).

١٢٢

(و) الثانية (عدم جواز الطرح) في كليهما.

(و) الثالثة (عدم وجود المرجح لأحدهما).

(وان لم يستقل بالمقدمة الثالثة) يعني ان لم يستقل بعدم المرجح ولم يثبت رجحان أحدهما (توقف عن التخيير) ولا يحكم العقل حينئذ بشيء (فيكون العمل بالراجح معلوم الجواز) لأنه متيقن الحجية (والعمل بالمرجوح) أي غير ذي المزية (مشكوكة) أي مشكوك الجواز ويجري فيه اصالة عدم الحجية.

(فان قلت : أولا أن كون الشيء مرجحا مثل كون الشيء دليلا يحتاج إلى دليل) لأنه قام الدليل على حجية قول العادل بقوله : صدق العادل ولكن ما قام الدليل على تقديم قول الأعدل مثلا في صورة تعارضه مع خبر العادل ، فالقول بتعين ذي المزية أيضا عمل بالظن بلا دليل ، فيكون كالشك في أصل الدليلية فيجري فيه أصالة عدم الحجية (لأن التعبد بخصوص الراجح إذا لم يعلم من الشارع كان الأصل عدمه) فلا يجب اعتباره ولا يجب الترجيح (بل العمل به) أي بالراجح (مع الشك يكون تشريعا كالتعبد بما لم يعلم حجيته).

(و) ان قلت : (ثانيا أنه إذا دار الأمر بين وجوب أحدهما على التعيين ، واحدهما على البدل) تخييرا (فالأصل براءة الذمة عن خصوص الواحد المعين كما هو مذهب جماعة في مسئلة دوران التكليف بين التخيير والتعيين) إذ : المفروض حجية كل منهما في نفسه على نحو حجية الآخر كذلك ، فيكون كل منهما على شرائط الحجية المأخوذة في دليل اعتبارهما ، وكونهما في الدخول فيه سواء ، وعدم حجية شيء منهما فعلا لأجل التعارض وعدم مزية لأحدهما على الآخر بالنظر إلى دخوله في ذلك الدليل واحتمال كون أحدهما أهم ، يعني وجوب تقديمه ، مدفوع بالأصل ، فكما أنه إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير ، ولا ندري بأن مراد المولي بقوله : اعتق رقبة ، هو خصوص المؤمنة أو أعم من أن يكون مؤمنة أو كافرة ، فنجري البراءة من خصوص المؤمنة لأن قيد الايمان ضيق على المكلف ، ويرفع بقوله : الناس في سعة ما لا يعلمون ، كذلك فيما نحن

١٢٣

فيه ، لأن الأخذ بذي المزية ضيق عليه فيرفع بالناس في سعة ما لا يعلمون.

(قلت : أو لاكون الترجيح كالحجية أمرا يجب ورود التعبد به من الشارع مسلم ، إلا أن الالتزام بالعمل بما علم جواز العمل به) أي بما التزم (من الشارع من دون استناد) في مقام العمل (إلى الزام الشارع) قوله : (احتياط) خبر : لأن ، لأنّ العقل يحكم بعد الاشتغال القطعي بوجوب تحصيل البراءة اليقينية ، وان لم يمكن ، فتحصيل البراءة الظنية وان لم يمكن فتحصيل البراءة الاحتمالية ، فلا يصير إلى المرتبة الدنيا مع امكان المرتبة العليا.

فهذه الصورة مما يمكن أن يلتزم فيها بأن مقتضى الأصل والقاعدة وجوب العمل بالراجح ، وعدم جواز التخيير لأنه يتوقف عند العقل على احراز التساوي ، فمع رجحان احد الاحتمالين لا يحكم بالتخيير بل بالتعيين.

لأنه لا يخلو أما أن يكون فردا من الواجب مخيرا ، وأما أن يكون واجبا مستقلا بنفسه.

فعلى كلا التقديرين يجب اخذه بناء على قاعدة الاحتياط بلا التزام من الشارع ، حتى يقال : أنه تشريع بل بقصد رجاء الواقع ، بخلاف الطرف الآخر ، فإنه ليس بهذه المثابة فبناء عليهما لا يجب أخذه بلا التزام من الشارع ، حتى يقال : أنه تشريع ، ولكن في مقام العمل نأتي به برجاء ادراك الواقع ، و (لا يجري فيه) أي في هذا الاحتياط (ما) أي التشريع الذي (تقرر في وجه حرمة العمل بما وراء العلم) لأن الاحتياط إنما هو فعل شيء أو تركه ، بعنوان رجاء الواقع.

وموضوع التشريع ، هو : التدين والاستناد ، ولا منافاة بين كون التدين والاستناد حراما ، وكون الفعل بعنوان الرجاء مستحسنا (فراجع) وهو ما ذكره قده ، في بحث أصالة عدم حجية الظن ان مفاد الاحتياط غير التشريع بل الاحتياط العمل باحتمال مطابقة الواقع ، والتشريع استناد إلى أن حكم الفلاني واقعي ، وهذا ادخال ما لم يعلم أنه من الدين في الدين (نظير : الاحتياط بالتزام

١٢٤

ما دل امارة غير معتبرة على وجوبه) أي ما دل (مع احتمال الحرمة) كما إذا قامت الشهرة على وجوب شيء ، ولم يثبت حجية الشهرة ، واحتملنا الحرمة فما كان موافقا للشهرة مقدم (أو العكس) بأن قامت الشهرة على الحرمة مثلا ، واحتملنا وجوبه.

(وأما) الجواب عن الثاني ، فما قلتم من (ادراج) هذه (المسألة في مسئلة دوران المكلف به بين أحدهما المعين ، وأحدهما على البدل) تخييرا (ففيه أنه) أي اجراء أصل براءة الذمة عن خصوص الواحد المعين (لا ينفع بعد ما اخترنا في تلك المسألة وجوب الاحتياط ، وعدم جريان قاعدة البراءة).

ويمكن أن يقال : أن في تلك المسألة وجهان ، بل قولان ، قول بوجوب الاحتياط فيها وقول في البراءة ، فللقائل بالبراءة في تلك المسألة أن يلتزم بها فيما نحن فيه ولدفع هذا التوهم قال المصنف ره ، (والأولى منع اندراجها) أي هذه المسألة (في تلك المسألة).

وبالجملة أن هذا ليس من افراد تلك المسألة فإنها محررة فيما إذا لم يكن هناك أصل أولى في التحريم ، لكن هنا أصل أولى لتحريم العمل بالظن ، فالمتيقن من الحجية هو ذو المزية ويجب الاحتياط (لأن مرجع الشك في المقام) ليس في أصل متعلق حكم الشارع من حيث دورانه بين التخيير والتعيين حتى يحكم بنفي التعيين من حيث أنه كلفة زائدة بل (إلى الشك في جواز العمل بالمرجوح) والشك في الحجية وعدمها كاف في إثبات عدم جواز العمل ، بل هو علة تامة ، وإن قام الدليل على حجية أحدهما فعلا في الجملة ، إلا أن اشتغال الذمة بأحد الطرفين يستدعي العمل بالطرف الراجح وترك الطرف المرجوح ، فصارت حجية محتمل الترجيح منهما متيقنة ، وحجية الآخر مشكوكة بدوا (ولا ريب أن مقتضى القاعدة : المنع عما لم يعلم جواز العمل به من الامارات ، وهي) أي قاعدة جريان المنع مما لم يعلم جواز العمل به من الامارات (ليست مختصة بما إذا شك في أصل الحجية ابتداء ، بل يشمل) هذا المنع (ما إذا شك

١٢٥

في الحجية الفعلية مع احراز الحجية الشأنية) فما تقدم كان فيما شك في أصل الحجية ، وهنا حجية كلا الخبرين ثابت ، إلا أن الشك في حجية الفعلية كما في الشهرة والاجماع المنقول ، فالكلام في أصل حجيته ، وهنا لا إشكال في أن الخبر الواحد إذا كان عدلا ، في الجملة حجة ، لكن في صورة التعارض هل الخبر المرجوح حجة فعلية أم لا؟ فلا فرق (فان المرجوح وان كان حجة في نفسه) مع قطع النظر عن معارضته مع الراجح ، لأن قوله : صدق العادل ، يشمله قطعا (إلّا أن حجيته) أي المرجوح (فعلا مع معارضة الراجح بمعنى جواز العمل به) أي المرجوح (فعلا غير معلوم) فلا مسرح لاصالة البراءة عن التعيين في محتمله في المقام ، إذ : لا سبيل لها إلى موارد الشك في طريق الامتثال ، مع انها ـ على تسليم جريانها ـ لا يثبت جواز العمل بالآخر المشكوك الحجية ، فلا يجوز الأخذ به حينئذ بمقتضى ادلة حرمة التشريع (فالأخذ به) أي المرجوح (والفتوى بمؤداه) أي المرجوح (تشريع محرّم بالأدلة الأربعة ، هذا).

(والتحقيق أنا ان قلنا بأن العمل بأحد المتعارضين في الجملة) بأن نأخذ بالراجح ونطرح المرجوح ، أو بالعكس (مستفاد من حكم الشارع به) أي بالأخذ باحدى الروايتين اجمالا ، لا تخييرا (بدليل الاجماع ، والاخبار العلاجية) الآمرة بالأخذ بأحدهما بأن لا نسقطهما رأسا ، كقوله (ع) خذ باعدلهما ، وأوثقهما ، ونحوهما ، مما سيأتي إن شاء الله تعالى (كان اللازم ، الالتزام بالراجح وطرح المرجوح ، وان قلنا باصالة البراءة عند دوران الأمر في المكلف به بين التعيين والتخيير) وقلنا هاهنا أيضا من هذا القبيل ، مع ذلك لا نجري البراءة بل نحتاط ونأخذ بالراجح لأنه القدر المتيقن ، والمرجوح يصير مشكوك الاعتبار ، فيبقى تحت اصالة حرمة العمل (لما عرفت : من أن الشك في جواز العمل بالمرجوح فعلا) لأجل التعارض (ولا ينفع وجوب العمل به) أي بالمرجوح (عينا في نفسه مع قطع النظر عن المعارض فهو) أي العمل بالمرجوح (كامارة لم يثبت حجيتها أصلا) فكما إذا شككنا في حجية الاجماع أو الشهرة الفتوائية ، فنقول : الأصل

١٢٦

عدم الحجية فيهما ، هكذا ان شككنا بأن خبر العادل في صورة تعارضه مع الخبر الأعدل هل هو حجة كما في صورة عدم التعارض أولا فنجري اصالة عدم الحجية؟ من غير فرق بين أن يكون الشك ابتدائيا كما في الأول ، أو ثانويا كما في الأخير (وان لم نقل بذلك) أي أغمضنا عن الاجماع والاخبار العلاجية (بل قلنا باستفادة العمل باحد المتعارضين من نفس ادلة العمل بالاخبار).

(فان قلنا بما اخترناه من أن الأصل) الأولى في الخبرين المتعارضين هو : (التوقف)

إذ : المفروض كون حكم الدليلين التساقط ، والأصل عدم العمل بالمرجّح (بناء على اعتبار الأخبار من باب الطريقية والكشف الغالبي عن الواقع) إذ في كل من الخبرين قد أخبرهما العادل والأعدل قد جمع فيهما شرائط الحجية وشرط الطريقية موجود في كليهما ، وحيث لا يمكن طريقان متضادان إلى الواقع ولا رجحان لأحدهما على الآخر تساقطا معا ، فيجب التوقف والرجوع إلى الأصل.

ومجرد مزية احدهما على الآخر وكونه أقرب منه إلى الواقع لا يصلح دليلا على الخروج عن مقتضى اصالة عدم الحجية (فلا دليل على وجوب الترجيح بمجرد قوة في أحد الخبرين ، لأن كلا منهما) أي الخبرين (جامع لشرائط الطريقية) لأن المناط طريقية قول العادل ، لا الأعدل ، فالمناط موجود في الخبرين على نحو التواطي (والتمانع يحصل بمجرد ذلك) أي بوجود الشرائط ، وهو : اجتماع جميع الشرائط ومنها العدالة فقط ، وهو موجود في كليهما.

وبعبارة أخرى : المناط فيهما هو المتواطي لا المشكك ، بمعنى أن نأخذ بقول العدل من حيث أن قول العدل طريق إلى الواقع ، والمناط هذا دون عنوان ما هو أقرب إلى الواقع ، حتّى يقال : بأن الأعدل أقرب (فيجب الرجوع إلى الأصول الموجودة في تلك المسألة) فإذا أخبر العادل بحلية بيضة الدجاجة الميتة مثلا ، وأخبر الأعدل بحرمتها فيتساقطان ، ونرجع : بكل شيء فيه الحلال

١٢٧

والحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه (١) ونحكم بحليتها.

وهكذا لو أخبر أحدهما بوجوب السورة والآخر بعدم وجوبها نجري البراءة عن وجوبها وان لم يكن احدهما موافقا للأصل ، كما إذا أخبر العادل بوجوب الظهر متعينا والأعدل بوجوب الجمعة كذلك ، لا يرجع إلى الاحتياط المخالف لكليهما ، لأن كل واحد ، يدل على الاكتفاء ، ومعنى الاحتياط عدم الاكتفاء بكل واحد ، كما قال : (إذا لم يخالف) الأصول الموجودة مع (كلا المتعارضين).

وأما إذا خالف كلاهما الأصل ، فيرجع إلى الاحتياط ان امكن الموافقة العملية ، وإلّا فالتخيير ، فالأصل يكون مرجعا لا مرجحا ، وإلّا إن كان مرجحا لا يجري الأصل ، لكونه دليلا ، والأصل دليل حيث لا دليل.

(فرفع اليد عن مقتضى الأصل المحكّم) أي المقدم (في كل ما لم يكن طريق فعلى على خلافه بمجرد مزية) في احد المتعارضين (لم يعلم اعتبارها) من قبل الشارع ، وقوله (لا وجه له) خبر لقوله رفع اليد ، ولذا يتساقطان ويرجع إلى الأصل (لأن المعارض المخالف) أعني معارضة كل منهما مع الآخر (بمجرده ليس طريقا فعليا لابتلائه بالمعارض الموافق للأصل) فلا يكون كل منهما فعليا ، فيتساقطان ويرجع إلى الأصل الموافق لا من باب الترجيح.

(والمزية الموجودة) كالأعدلية مثلا (لم يثبت تأثيرها) أي المزية الموجودة (في دفع المعارض) وهو : اخبار العدل ، لأن مناط الحجية موجود في كليهما ، والشارع انما جعل المناط العدالة فقط فزيادتها وعدمها ، لا دخل له في مناط الحجية ، فلا يجوز رفع اليد عما يقتضيه الأصول بمزية غير ثابتة الاعتبار.

(وتوهم استقلال العقل بوجوب العمل بأقرب الطريقين إلى الواقع وهو) أي الرجوع إلى أقرب الطريقين (الراجح) منهما ، كما هو سيرة عقلائية ثابتة عند رجوعهم إلى أهل الخبرة ، لأن الأعدلية مثلا تحدث مزية في مؤداه ، ويتأكد

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٧ ص ـ ٩٢. (الرواية : ٧).

١٢٨

وجوب مورده من وجوب العمل بفاقده.

ولكنه (مدفوع ، بان ذلك) أي وجوب العمل بأقرب الطريقين (إنما هو فيما كان بنفسه طريقا) معينا للواقع ، وكاشفا عنه كاشفا ظنيا فعليا ، فحينئذ يمكن أن يكون عند تعارضهما احدهما أقرب إلى الواقع بالنظر من الآخر ، فيجري فيه قاعدة الأخذ بوجوب العمل بأقرب الطريقين لأن المفروض أن أحدهما أقرب من حيث افادة الظن من الآخر (كالامارات المعتبرة) كاليد ، والاقرار ، والبينة ، ونحوها فإنه ـ لما كان اعتبار هذه الامارات من باب افادة الظن بنفسها ـ يمكن أن يكون الظن الحاصل من احدها عند التعارض أقوى من الآخر ، فيدخل تحت الأصل المذكور ، وهو الأخذ بأقرب الطريقين ، حيث أن اعتبار الامارات المذكورة حسب الفرض (لمجرد افادة الظن) الفعلي.

(وأما الطرق المعتبرة شرعا من حيث افادة نوعها الظن) كالخبر الواحد (فليس اعتبارها) أي الطرق (منوطا بالظن) الفعلي.

مثلا لو قام خبر واحد عن شرائط الحجية ـ على القول بحجيته ـ على أمر ، وكان الظن الغير المعتبر على خلاف مؤداه ، وجب العمل بالخبر ، لأنه حجة تعبدية غير منوطة بالظن الفعلي ، ولا مشروط بعدم الظن على خلافه.

والسّر فيه أن اعتبار الخبر عند الشرع بمناط افادة نوعه الظن (فالمتعارضان المفيد أن بالنوع للظن في نظر الشارع سواء ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأن المفروض أن المعارض المرجوح) كأخبار العدل بالنسبة إلى الأعدل (لم يسقط من الحجية الشأنية) إذ مناط الحجية الشأنية ، وهو : افادة الظن نوعا ، حاصل في كليهما.

ومجرد كون أحدهما أقرب إلى الواقع لا يثمر شيئا بعد عدم العلم باعتبار الشارع للأقربية ، لأن المفروض بيان مقتضى الأصل مع الاغماض عن اخبار العلاجية الدالة على وجوب الترجيح بالمزايا المنصوصة ، أو بكل مزية ، على الخلاف لما سيأتي إن شاء الله تعالى.

١٢٩

وبالجملة لا يسقط المرجوح عن الحجية النوعية (كما يخرج الامارة المعتبرة بوصف الظن عن الحجية إذا كان معارضها) أي الامارة (أقوى) نظير :

حجية الظن على الانسداد ، فيعتبر اقربيته إلى الواقع.

(وبالجملة : فاعتبار قوة الظن في الترجيح في تعارض) الخبرين (ما لم ينط) أي لم يعلل (اعتباره بافادة الظن) الفعلي على وفاقه ، كما هو قول صاحب الفصول قده ، (او) ما لم ينط اعتباره (بعدم الظن على الخلاف) لأنه مانع عن حجية الظن الفعلي كما هو قول صاحب هداية المسترشدين قده (لا دليل عليه) بل حجية الامارات ـ من باب الظن النوعي ، لا الفعلي ـ أعم من أن يحصل الظن على وفاقه ، أم على خلافه ، أو لم يوجد ، فخبر العادل حجة من دون شرط.

هذا كله على الطريقية اغماضا عن اخبار العلاجية.

(وان قلنا بالتخيير ، بناء على اعتبار الأخبار من باب السببية والموضوعية) بناء على ثبوت الاحكام الواقعية ، وكون الامارات كاشفة عنها ، فإن خالفت يتداركها للواقع من المصلحة أو المفسدة بالامارة ، وأن تصادفت يتأكد مصلحة الواقع بمصلحة الامارة ، فالتخيير في تلك الصورة ـ حقيقة ـ راجع إلى جواز التمسك بايهما شاء ، وجعله دليلا في مؤداه بأن يكون قيام الخبر على وجوب فعل واقعا ، سببا شرعيا لوجوبه ظاهرا على المكلف ، فيصير المتعارضان من قبيل السببين المتزاحمين ، فيلغي أحدهما مع وجود وصف السببية فيه لأعمال الآخر.

(فالمستفاد بحكم العقل من دليل وجوب العمل بكل من) الخبرين (المتعارضين مع الامكان) قوله : (كون وجوب العمل) خبر لقوله المستفاد (بكل منهما) أي المتعارضين (عينا مانعا عن وجوب العمل بالآخر كذلك) أي عينا (ولا تفاوت بين الوجوبين في المانعية قطعا) يعني كل من المتعارضين يمنع الآخر.

وحيث أن الكلام في المقام مع الغض عن الاخبار الآمرة بالأخذ بذي

١٣٠

المزية كما أن حصول التخيير في تلك الصورة أيضا مع قطع النظر عنها الموجب لدخولها في أخبار التخيير ، فالأصل فيه عدم الترجيح.

(ومجرد مزية أحدهما على الآخر) لكون احد الخبرين راجحا لا يفيد إلا (بما يرجع إلى أقربيته إلى الواقع) وهذه الأقربية (لا يوجب كون وجوب العمل بالراجح) آكد ، وأهم بعد فرض تساويهما في المصلحة التي هي مناط وجوب الأخذ ، ولا يكون (مانعا) وسببا لرفع المقتضى (عن العمل بالمرجوح ، دون العكس) والمفروض اعتبارهما من باب السببية واعتبار المصلحة فيهما على حد سواء (لأن المانع بحكم العقل ، هو مجرد الوجوب) أي وجوب العمل من دون مدخلية للمزية في المانعية (والمفروض وجوده) أي وجوب العمل (في المرجوح).

ان قلت : العقل لا يحكم بالتخيير إلا بعد إحراز التساوي ، والشك في الأهمية شك في التساوي ، والاحتياط طريق النجاة.

قلنا : (وليس في هذا الحكم العقلي) بالتخيير (اهمال واجمال وواقع مجهول حتى يحتمل تعيين الراجح ووجوب طرح المرجوح) إذ : حكم العقل بالتخيير يتولد من احراز مقتضى الوجوب لوجود المصلحة في كل منهما ، ولا يتوقف على احراز التساوي ، والمفروض أن جهة الكشف والأقربية إلى الواقع غير ملحوظة على ذلك التقدير في وجوب العمل بالخبر ، حتى يتأكد وجوب العمل بالأقوى من تلك الحيثية.

(وبالجملة : فحكم العقل بالتخيير نتيجة وجوب العمل بكل منهما) أي من المتعارضين (في حد ذاته) يعني ولو لم يكن التعارض بينهما لكان كل واحد منهما واجب العمل برأسه (وهذا الكلام مطرد) أي شايع (في كل واجبين متزاحمين) كانقاذ الغريقين ، واطفاء الحريقين ، ونحوهما.

(نعم لو كان الوجوب في احدهما) أي في احد المتزاحمين (آكد

١٣١

والمطلوبية فيه أشد استقل العقل عند التزاحم بوجوب) اختيار الفعل الأهم المستلزم (ترك غيره) أي غير الأهم (وكون وجوب الأهم مزاحما لوجوب غيره) وإلّا فلا يصير فعل غير الأهم منهيا عنه لدى تنجيز التكليف بضده كما اذا دار الأمر بين اعطاء الزكاة لهذا الفقير أو ذاك على كون احدهما في مخمصة يخاف عليه الموت من المجاعة ، فإن وجوب اعطاء الزكاة في حقه قد تأكد باتحاده مع عنوان آخر واجب ، وهو حفظ نفس المسلم بحيث لو ترك ذلك يلزم فوت الواجبين (من دون عكس) لعدم أهميته (وكذا) استقل العقل عند التزاحم بوجوب اختيار الفعل المحتمل الأهمية (لو احتمل الأهمية في أحدهما) كان نقطع بأن أحد الغريقين المعين غير نبيّ ، والآخر محتمل النبوة فيصير محتمل الأهمية متعينا (دون الآخر).

وبعبارة أوضح : إذا كان هناك واجبان متزاحمان نظير انقاذ الغريقين ، أو كمزاحمة وجوب الصلاة مع ضيق الوقت وبين انقاذ الغريق أو بين انقاذ الغريق واطفاء الحريق ، ولا يقدر على اتيانهما بل على أحدهما فقط فالحكم هو التخيير.

ففي هذه الصورة لو صادف عنوان آخر مع أحد المتزاحمين ، وصار متحدا معه في الخارج فهذه تكون على قسمين.

الأول : أنه إذا كان هذا العنوان المتحد أمرا وجوبيا يجب امتثاله ، وليس له مصداق سوى هذا الفرد المزاحم المتحد معه ، فحينئذ يجب الحكم بتقديم هذا المزاحم على عدله ويصير واجبا تعيينيّا ، كما إذا وقع المزاحمة بين انقاذ الغريق واطفاء الحريق ، وكان الغريق عبدا مملوكا للمالك ، ويجب على المالك عتق الرقبة ، مثلا : إنه إذا نذران يعتق عبدا أو يزوجه أو يرسله لزيارة حج بيت الله أو أمثال ذلك ، ولا يمكنه امتثال هذا التكليف إلا في نفس هذا المورد ، بمعنى أنه لا يوجد له رقبة اخرى يعتقها للامتثال ففي تلك الصورة ربما يستقل العقل بترجيح انقاذ الغريق لما فيه من الأهمية على عدله المزاحم له.

١٣٢

نعم : لو أمكن امتثال التكليف بالعتق في فرض آخر ، مثل أن يكون له ممالك متعددة ، ففي هذه الصورة الحكم بتعين الانقاذ مشكل.

الثاني : أنه إذا اتحد أحد الواجبين المتزاحمين مع عنوان مندوب في نفسه لا يوجب ذلك تعينه بل الحكم حينئذ أيضا التخيير كصورة عدم اتحاده مع شيء منها أصلا ، لعدم اهميته اللزومية مثل أنه إذا كان هناك غريقان احدهما من أقارب المكلف ، فإنقاذه ينطبق عليه عنوان صلة الرحم المحكوم بالاستحباب ، فهذا العنوان لا يوجب تعينا بحيث يقدم على عدله الآخر تعيينا ، والدليل عليه حكم العقل ، إذ : العقل يستقل بأن الواجبين إذا تزاحما في مقام الامتثال بحيث لم يقدر المكلف على امتثالهما إذا كان ملاك الوجوب في أحدهما اكد من الآخر ، وأهم في نظر الشارع فلا بد من تقديمه في مقام الامتثال على عدله ، فيصير واجبا تعينيا.

وأما لو كانا في ملاك الوجوب متساويين ولكن صادف أحدهما بالانطباق مع بعض العناوين المندوبة ، بحيث يكون العمل به عملا بذاك المندوب أيضا ففي الحكم بتعينه لتقديمه على مزاحمه الآخر نظر ، وتأمل.

إذ من المعلوم : أن الجهات المقتضية للاستحباب وإن اجتمعت آلاف منها في مورد لا يعقل تأثيرها في إيجاب المورد ، وإنما يؤثر حينئذ طلبه ندبا.

غاية الأمر أنها يؤثر مرتبة من الطلب الندبي المؤكد.

ومن المعلوم أيضا أن الطلب الثاني ـ وإن بلغ ما بلغ من التأكيد ـ لا يبلغ مرتبة الوجوب ، فلا يعقل أن يكون مؤكدا للوجوب ، فلا يصير واجب التخييري واجبا تعيينيا ، بل يبقى على كونه أحد طرفي التخيير.

نعم الاتيان به أفضل من عدله (وما نحن فيه) وهو الخبرين المتعارضين (ليس كذلك قطعا ، فإن وجوب العمل بالراجح من الخبرين ليس آكد من وجوب العمل بغيره) : إذ : المفروض احراز مقتضى الوجوب في كل منهما على سبيل

١٣٣

القطع واليقين ، وإلّا خرج المقام عن باب التزاحم ، لأن المناط وهو حجية خبر العادل موجود في كليهما ، فلا وجه لتقديم احدهما على الآخر.

(هذا : وقد عرفت فيما تقدم أنا لا نقول باصالة التخيير) من باب السببية (في تعارض الأخبار ، بل ولا غيرها من) تعارض (الأدلة) الظنية كتعارض الاستصحابين ـ ان قلنا بحجيته من باب الظن ـ كما حكى عن العضدي في تعريفه بأن الشيء الفلاني قد كان ، ولم يظنّ عدمه وكل ما هو كذلك فهو مظنون البقاء.

وعليه فيصير تعارض الاستصحابين كتعارض الامارتين كما مر.

والأصل في المتعارضين التساقط عندنا (بناء على أن الظاهر من أدلتها) أي الأخيار (وأدلة حكم تعارضها كونها) أي كون حجية الأخبار (من باب الطريقية ، ولازمه التوقف) بعد تساقطهما لما مر مرارا بأنه لا يمكن الوصول بواسطة الطريقين المتضادين إلى المطلوب.

ولذا لا بد من التوقف (والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما) إن كان الأصل العملي موافقا لأحدهما ، فإذا ورد خبر : بحرمة أكل لحم الغراب الأسود (١) والآخر بحليتها ، يتساقط الدليلان ، ونتمسك بأصل البراءة ، فالأصل يكون مرجعا لا مرجحا أو الرجوع إلى الأصل المخالف لهما وهو الاحتياط (أو) الرجوع إلى (أحدهما المطابق للأصل) على القول به أي بناء على الترجيح ، سواء كان مطابقا لأحدهما أو مخالفا لهما؟ إن كان الأصل العملي مخالفا لهما.

ففي المثال المذكور نحكم بالحلية ، فيكون الأصل في هذه الصورة مرجحا ، لا مرجعا ، فالأصل الأولى بناء على طريقة الطريقية هو التوقف فلا ينفع المرجح ما لم يثبت اعتباره لعدم جواز رفع اليد عن الأصل بمجرد الاحتمال (إلا أن الدليل الشرعي دل على وجوب العمل بأحد المتعارضين في الجملة) من

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٦ ص ٣٢٩ ـ الرواية ٣.

١٣٤

الاجماع والأخبار العلاجية (وحيث كان ذلك) أي وجوب العمل بأحد المتعارضين (بحكم الشرع ، فالمتيقن من التخيير هو صورة تكافؤ) أي تساوي (الخبرين ، أما مع مزية أحدهما) أي أحد المتعارضين (على الآخر من بعض الجهات) كان يكون أحدهما موافقا للكتاب ، أو مخالفا للعامة ، ونحوهما ، مما سيأتي دون الآخر (فالمتيقن هو جواز العمل بالراجح) لأنه القدر المتيقن (وأما العمل بالمرجوح) يصير مشكوك الاعتبار (فلم يثبت) إذ : بعد القطع بالاشتغال فكيف يقنع بالاحتمال المرجوح؟ مع إمكان الامتثال بما هو أقوى منه (فلا يجوز الالتزام) بالمرجوح (فصار الأصل وجوب العمل بالمرجح ، وهو) أي وجوب الترجيح (أصل ثانوي ، بل الأصل فيما يحتمل كونه مرجحا) يجب (الترجيح به) أي بما يكون محتمل الترجيح ، بمعنى أنه يجوز التعدي إلى المرجحات غير المنصوصة ، فإذا كان الخبر أن تساويا من جميع الجهات ، إلا أن يكون أحدهما أفصح دون الآخر ، يجب الأخذ بالأفصح وطرح الفصيح ، وإن لم يعد من المرجحات ولم يعلم اعتباره من الشرع (إلا أن يرد عليه) أي على قوله بل الأصل الخ (اطلاقات التخيير ، بناء على وجوب الاقتصار في تقييدها) أي اطلاقات التخيير (على ما علم) شرعا (كونه مرجحا) بمعنى أنه حسبما يستفاد من التعليل الوارد في بعض أخبار الترجيح ، الالتزام بمطلق الترجيح بأي وجه كان ، ولو لم يذكر في الأخبار العلاجية فنتعدى بحكم التعليل بقوله (ع) فإن المجمع عليه لا ريب فيه (١) وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (٢) بكل مزية فإن التعليل بهذين يرجع إلى لزوم الترجيح بكل مزية.

فبناء عليه : الأفصحية أو الأضبطيّة ، ونحوهما ، أيضا يستفاد من نفس

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ٨٠. (الرواية : ١٩).

(٢) الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ١٢٧. (الرواية : ٥٦).

١٣٥

اخبار الترجيح ، فكل مرجح مقدم.

(وقد يستدل على وجوب الترجيح بأنه) أي الشأن (لو لا ذلك) أي وجوب الترجيح ، وجاز التخيير (لاختل نظم الاجتهاد بل) اختلّ (نظام الفقه) وتأسيس أحكام جديدة غير ما بيد العلماء والصحابة من السلف والخلف (من حيث لزوم التخيير بين الخاص والعام و) بين (المطلق والمقيد وغيرها ، من الظاهر والنص المتعارضين) والحال إن جلّ الفقه إن لم نقل كله ثابت بتقييد المطلقات ، نظير حرمة اجزاء الميتة مع أنه استثنى بيضة الدجاجة الميتة ونحوها وتخصيص العمومات كما أنه خارج من : كلما كان دفيفه أكثر من صفيفه فهو حلال (١) الغراب الأسود ، فإنه حرام وساير وجوه المجازات كتقديم النص على الظاهر ونحوه وكل ذلك من باب ترجيح أحد المتعارضين على الآخر.

(وفيه أن الظاهر خروج مثل هذه المعارضات عن محل النزاع) إذ : التخصيص والتقييد ونحوهما ، من وجوه تعارض النص والظاهر خارج عن البحث (فإن الظاهر لا يعد معارضا للنص) بل : لا تكرم النحاة مثلا ، قرينة على أن المراد من : أكرم العلماء ، ما عدا النحاة ، وهكذا العام والخاص ، والمطلق والمقيد ، لا يعدان من المتعارضين بوجهين (أما لأن العمل به) أي بهذا الظاهر (لأصالة عدم الصارف) أي عدم القرينة (المندفعة بوجود النص) لوروده على الظاهر ، لأن الظاهر حجة عقلا ، ولا يكون حجيته موقوفا عند عدم القرينة ، ولا تعارض بين القرينة وذي القرينة (وأما لأن ذلك) أي النص والظاهر (لا يعد تعارضا في العرف) وان كان التعارض موجودا دقيا عقلا ، نظير : تعارض العام والخاص ، مما أمكن فيه الجمع عرفا.

(ومحل النزاع في غير ذلك) أي في غير العام والخاص والمطلق

__________________

(١) جواهر الكلام : ج ـ ٦ ـ ط القديم في كتاب الأطعمة والأشربة الصنف الثاني من الطيور.

١٣٦

والمقيد ، والنص والظاهر ، أو الظاهر والأظهر ، بل محل البحث فيما إذا كان بينهما تباين كلى ، أو عموم وخصوص من وجه.

(وكيف كان فقد ظهر ضعف القول المزبور) وهو : قول الجبائيين من عدم الاعتبار بالمزية ، وجريان حكم التعادل (وضعف دليله المذكور وهو) أي دليل المذكور عبارة عن (عدم الدليل على) وجوب (الترجيح بقوة الظن) أي بكل مزية ، وإن الأصل عدم اعتبار المزية من جهة تطابق الأدلة الأربعة عليه ، لانقطاع الأصل بالاجماع والأخبار العلاجية ، وقد ظهر الدليل المزبور وضعفه في خلال كلمات المصنف قده.

(وأضعف من ذلك ما حكى عن النهاية من احتجاجه بأنه) «الشأن» (لو وجب الترجيح بين الامارات في الأحكام لوجب) الترجيح أيضا في الموضوعات (عند تعارض البينات ، والتالي باطل لعدم تقديم شهادة الأربعة على الاثنين) فالمقدم مثله.

بيان الملازمة : أنّ العلّة وهي وجود المرجح موجودة هنا أيضا (وأجاب عنه في محكى النهاية) للعلّامة قده (والمنية بمنع) الملازمة أوّلا ومنع (بطلان التالي) لأنّا نلتزم بالرجوع إلى المرجّحات في أدلّة الموضوعات أيضا.

فإذا تعارضت البيّنتان ، يقدّم احدى البيّنتين على الأخرى بالكثرة ، كما قال : (وانّه يقدّم شهادة الأربعة على الاثنين).

ويمكن أن يقال في الجواب : بمنع الملازمة ثانيا ، وسند المنع أنّ المدار في دليل الموضوعات كالبيّنة مثلا على التعبد ، بخلاف دليل الأحكام فإنّ المدار فيه على ظن المجتهد.

ولئن (سلّمنا) عدم جواز الترجيح فيها (لكن عدم الترجيح في الشهادة) لم يكن لأجل عدم وجود المقتضى ، بل من أجل المانع ، وهو الاجماع على عدم الترجيح ، إذ : (ربّما كان مذهب أكثر الصحابة) عليه.

١٣٧

(و) لكن وجوب (الترجيح) بالمرجحات (هنا) أي في أدلة الأحكام بالعكس ، لأن الاجماع قام على الترجيح ، ولذا نسب القائل ره بالترجيح إلى (مذهب الجميع انتهى ، ومرجع الأخير) الّذي استظهر منه ذلك ، هي العبارة المحكية عن النهاية ، وهي قوله : سلّمنا الخ (إلى أنّه لو لا الاجماع حكمنا بالترجيح في البيّنات أيضا).

(ويظهر ما فيه ممّا ذكرنا سابقا فإنّا لو بنينا على أنّ حجية البيّنة من باب الطريقية) يكون الأصل التساقط والرجوع إلى الأصل لا الترجيح (فاللازم مع التعارض) عند قيام البيّنتين المتعارضتين (التوقف والرجوع إلى ما يقتضيه الأصول في ذلك المورد) فإذا كان المورد من موارد القضاء وفصل الخصومات وتعارض فيه البيّنات ، فالأصل الذي يرجع إليه بعد تساقط البينتين غير الأصل الذي يرجع إليه عند تعارض الخبرين المتعارضين ، إذ : المراد من الأصل ـ بعد تساقط الخبرين ـ هو الأصل العملي في مورد المسألة.

ومثل هذا الأصل ليس مرجعا في باب القضاء قطعا بل الأصل فيها ما ذكره المصنف قده (من التحالف) والتنصيف (أو القرعة) كما أنّ التخيير ليس مما يرجع إليه في باب القضاء ، بل المناط فيه الطرق المخصوصة ، كما قال : (أو غير ذلك) أي كلّما رآه الحاكم مصلحة للمتخاصمين.

والحاصل : حيث أنّ حجية الامارات من باب الطريقية ، فالأصل في تعارض البيّنتين التساقط.

(ولو بنى على حجيتها) أي البيّنة (من باب السببية والموضوعية فقد ذكرنا أنّه لا وجه للترجيح بمجرد أقربيّة أحدهما) أي أحد البيّنتين (إلى الواقع ، لعدم تفاوت الراجح والمرجوح في الدخول فيما دلّ على كون البيّنة سببا للحكم على طبقها) أي البيّنة (وتمانعهما) «البيّنتين» (مستند إلى مجرد سببية كلّ منهما كما هو المفروض) لأن في السببية في كليهما مصلحة ، فالعمل بالبينة وظيفة للحاكم كما أن الخطاب بالعمل بكل منهما متوجه إليه ، فكأنّه اجتمع عليه تكليفان

١٣٨

نفسيّان فلا بدّ له من العمل بهما بقدر الامكان ، والقدر الممكن له أحد الأمرين.

أما التخيير بين العمل بهما.

أو العمل ببيّنة زيد مثلا في نصف الدار ، والعمل ببيّنة عمرو في النصف الآخر ، ولا أولوية لأحدهما على الآخر عقلا.

نعم لو قلنا : أنّ في الحقوق المتزاحمة بناء الشرع على الجمع دون التخيير الموجب لحرمان أحدهما عن حقه بالمرة كما يستفاد من رواية الدّرهم والدّرهمين الماضية في الوديعة وغيرها في أبواب أخر ، كان هذا دليلا واردا على ما يقتضيه قاعدة تزاحم الأسباب والتكاليف.

وبالجملة (فجعل احدهما) أي احدى البيّنتين (مانعا دون الآخر لا يحتمله لعقل) إذ لا يتصور المانعية لأنّ كلاهما فيه مصلحة كالغريقين.

(ثمّ أنّه) «الشأن» (يظهر من السيّد الصدر الشارح للوافية الرجوع في) الخبرين (المتعارضين من الأخبار إلى التخيير أو التوقف والاحتياط وحمل) السيّد الصدر قده (أخبار الترجيح على الاستحباب ، حيث قال بعد ايراد الاشكالات على العمل بطاهر الأخبار) وقوله : (إن الجواب) ـ مقول للقال ـ (عن الكل ما أشرنا إليه ، من أنّ الأصل التوقف في) مقام (الفتوى ، والتخيير في) مقام (العمل ، إن لم يحصل من دليل آخر العلم بمطابقة أحد الخبرين للواقع ، وأنّ الترجيح هو الفضل والأولى) انتهى كلامه رفع مقامه.

(ولا يخفى بعده) أي بعد كلام السيّد المذكور قده (عن مدلول أخبار الترجيح) فالقول بحمل أخبار الترجيح على الاستحباب منه بعيد غايته.

(وكيف يحمل الأمر بالأخذ بما يخالف العامّة وطرح ما وافقهم على الاستحباب ، خصوصا مع التعليل بأنّ الرشد في خلافهم ، وأنّ قولهم) أي قول العامّة (في المسائل مبني على مخالفة أمير المؤمنين عليه‌السلام فيما يسمعونه منه) وكان معاوية يرسل أصحابه إلى أصحاب أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام

١٣٩

ليطلعوا على ما يفعلونه من الأعمال في العبادات مثلا ، أو يسمعونه منه عليه‌السلام في أجوبة مسائله ثم يحكونه لمعاوية عليه الهاوية فيبدّله ، مثلا : سمعوا من حضرته عليه‌السلام أنه أجاب السائل بوجوب مسح الرجل في الوضوء بدّله بالغسل ، وهكذا.

(وكذا الأمر بطرح الشاذ النادر ، وبعدم الاعتناء والالتفات إلى حكم غير الأعدل والأفقه من الحكمين. مع أن في سياق تلك الأخبار موافقة الكتاب والسنة ومخالفتهما) أي مخالفة الكتاب والسنة ، فكما إذا ورد خبر : اغتسل للجمعة والجنابة ، لو لم يكن قرينة خارجية دالّة على استحباب غسل الجمعة ، لحملناه على الوجوب ، بمقتضى وحدة السياق في كليهما كذلك المقام ، فإن وحدة السياق تدل على وجوب الأخذ بالراجح ، لأن طرح ما هو مخالف لقول الله عزوجل ، أو لقول سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين واجب ، لا مستحب.

(ولا يمكن حمله) أي حمل طرح مخالف الكتاب والسنة (على الاستحباب) لتصريح الأخبار بأن مخالف الكتاب والسنة زخرف وباطل ، وأنه مما لم أقله (١) وأنه مما يضرب على الجدار ، وغير ذلك فكيف يمكن حمله مع ذلك على الاستحباب؟ لا سيما قوله عليه‌السلام في ذيل المقبولة الآتية فارجئه حتى تلقى أمامك فإنه «ع» إذا أمر في صورة تساوي الامارتين من جميع الجهات بالأرجاء والتوقف ولم يأمر بالتخيير ، فكيف يجوز للسيّد قده ، أن يقول ـ في صورة وجود الرجحان في أحد الطرفين ـ بالاستحباب والتخيير ، فإن التخيير معناه جواز الأخذ بالطرف المرجوح أيضا ، وهذا بعيد عن مثله جدّا.

إن قلت : نحمل مقبولة عمر بن حنظلة الآتية المذكورة فيها أكثر المرجحات على الوجوب ، ولكن ما ورد في ساير الأخبار على الاستحباب.

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ٧٩ (الرواية : ١٤ و ١٥).

١٤٠