جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

محمّد رضا الناصري القوچاني

جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

المؤلف:

محمّد رضا الناصري القوچاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

١
٢

٣
٤

٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي ارشدنا الى الايمان باصول الدين والصلاة والسلام على أشرف الانبياء وخاتم النبيين محمّد صلّى الله عليه وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين المعصومين الذين ولايتهم للزلفى الى الله تعالى أتم الوسائل والذرائع وفي تجارة الآخرة أنفق البضائع ولعنة الله على اعدائهم ومخالفيهم أجمعين الى يوم الدين.

أمّا بعد : فقد وفّقني الله تعالى قبل سنين في النجف الأشرف لدراسة كتاب «فرائد الاصول» تصنيف علّامة الآفاق ، واستاذ الكل على الاطلاق ، عماد الملّة والدّين ، مروّج شريعة سيّد المرسلين ، تاج الفقهاء والمجتهدين ، من القدامى والمتأخرين ، فخر المحقّقين ، وافتخار المدقّقين ، الورع التقي ، والصفي النقي ، علم الهدى ، وآية الله في الورى ، شيخ مشايخنا مولانا الحاج الشيخ مرتضى الانصاري الدزفولي تغمده الله بغفرانه ، واسكنه بحبوحة فراديس جنانه.

وكنت قد عرضت بعض ما كتبته على جماعة من الاساتذة الاعلام فاستحسنوا ما كتبته اشدّ الاستحسان ، وشجّعني الاصدقاء ، واقبلوا عليه اقبالا رائعا ، فدفعني ذلك على إصدار هذه الوجيزة ، فيما يتعلّق بمباحث التعادل والترجيح ، المشتملة على نكات شريفة من شتات فوائد ، وأكثرها ممّا استفدته من دروس اساتذتي الاعاظم ، خصوصا من محضر الأستاذ الكبير العلّامة حجّة الاسلام والمسلمين ، جامع المعقول والمنقول ، آية الله سماحة الشيخ مجتبى اللنكراني النجفي ادام الله تعالى ظلّه الشريف (١) فما كان فيها من المباحث الدقيقة

__________________

(١) تجدر الاشارة إلى أنّ آية الله الشيخ مجتبى اللنكراني انتقل إلى رحمة الله تعالى عام ١٤٠٨ ه‍.

٦

المبتكرة ، فهي من افاداتهم اطال الله بقائهم.

وأن وجد فيها ما هو خلاف التحقيق ، فأنّه من زلّات قلمي ، ومن نظري القاصر ، والله هو العاصم ، وسمّيتها ب «جواهر العقول في شرح فرائد الأصول» والله تعالى اسأل أن يجعل اعمالنا خالصة لوجهه الكريم ، انه تبارك وتعالى على كلّ شيء قدير ، وبالاجابة جدير ، وهو نعم المولى ونعم النصير.

والمرجوّ من الناظرين أن ينظروا اليها بعين اللّطف والانصاف ، وان ينبهوني على ما وقع منّي من الاخطاء ، ويطلعوني على عيوبي فيها ، فأنّ القلم يسبق اليه الخطأ ، ولا يعصم الانسان من الاشتباه والنسيان الّا من عصمه الله تعالى.

هذا والتمس ممّن ينظر في كتابي هذا ، أن لا ينساني من صالح دعائه ، سيّما بعد قطع اليد عن الدنيا ، ونسأله العون وحسن الخاتمة والحشر مع الائمّة الطاهرين عليهم صلوات الله وسلامه ، وآخر دعوانا ان الحمد لله ربّ العالمين. قم المشرّفة : ٨ / جمادي الاولى / ١٣٩٨

محمّد رضا الناصري القوجاني

٧

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسّلام على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على اعدائهم أجمعين ، الى يوم الدّين).

(خاتمة في التعادل والترجيح) قبل الخوض في المقام لا بدّ من تمهيد مقدّمة ، وهي انّه أعلى الله شأنه ، وأنار برهانه ، رتّب كتابه هذا على ثلاثة مقاصد ، وخاتمة.

المقصد الأوّل : في القطع ، وحاصله : أنّ القطع له طريقية وكاشفيّة ذاتيّة ، وهكذا وجوب العمل به بمعنى انّ الشارع لا يثبت الحكم ، ولا ينفيه ، لانّا اذا قطعنا بانّ المولى أوجب علينا الصلاة ، فنحن نكشف بانّ الصلاة واجبة ، والقطع محرّك ، فان لم يكن وجوب العمل به ذاتيا فحجيته موقوفة على بيان الشارع ، ولو كانت بيد الشرع لزم التسلسل لانّ ردع الشارع عنها ، أو إمضائها يحتاج الى القطع به ، فننقل الكلام الى قطعنا بحكم الشارع الامضاء والردع.

وهذا القطع كسابقة أيضا يحتاج الى بيان الشارع ، وهكذا فيتسلسل.

المقصد الثّاني : في الظن ، وحاصله : انّ للظن كشفا ذاتيا ناقصا ، ووجوب العمل على طبقه جعلي ـ لا انجعالي كالقطع ـ بمعنى أنّ الشارع أن شاء ينفي الحكم ، ولكن امتنانا وتسهيلا على العباد جوّز العمل على طبقه ، وقال : الق احتمال الخلاف كأنّك وصلت الى الواقع ، فإذا ظن المجتهد من الادلّة باستحباب الاقامة ، مثلا يقول : هذا ما أدّى إليه ظنّي ، وكلّما أدّى إليه ظنّى فهو حجّة فهذا حجّة.

المقصد الثالث : في الشك ، ومحصله : أمّا أن يلاحظ الحالة السابقة عليه أو لا يلاحظ ، فان لوحظ ، فالاستصحاب ؛ وأن لم يلاحظ فإن كان الشك في التكليف ، فمورد البراءة ، وأن كان الشك في المكلّف به فان امكن الاحتياط ،

٨

فقاعدة الاشتغال ، وأن لم يمكن كدوران الأمر بين المحذورين ، فالتخيير.

أن قلت : لم خصّ بحث التعادل والترجيح بالخاتمة؟ والحال أن ساير الاصول التي هي من المقاصد تذكر في المقصد الثالث ، وهي أيضا من المقاصد ، لأن علم الاصول هو البحث عن أحوال ادلة الاحكام الشرعية ومداركها.

ومن هنا يظهر : أنّه من مسائل العلم لا من مباديه ، ولا من مسائل علم آخر ، لأنّ التعارض من العوارض الذاتية لموضوعه ، اعني الدليل ومسائل كل علّم ما يبحث فيها عن عوارض موضوعه الذاتية كخبر الواحد ، بأنّه حجّة أم لا؟ أو الظاهر يوقن بظهوره أم لا؟ وكذا التعادل والترجيح فأنّها أيضا من العوارض الذاتية للدّليل ولو بالوسائط ، لأنّ التعادل حال من احوال الادلة المتعارضة ، فهو عارض لما هو عارض للدليل ، والبحث عن عوارض الموضوع بلا واسطة اذا لم تكن غريبا ، أو معها داخل في مسائل علم الأصول.

قلنا : الترجيح والتخيير فرع الدّلالة والحجية ، لأنّ القوم لمّا فرغوا عن الدلالة والحجية ، شرعوا في بيان تعارضهما ولذا جعله غير واحد منهم صاحب المعالم قدة خاتمة له ، ولأنّه لمّا كان الكلام في معرفة خصوص ما لهما من الاحكام بملاحظة ما يعرضهما من الحالتين ، ذكرت تحت عنوان الخاتمة.

وبعد تمهيد هذه المقدّمة ، فلنشرع في معنى التعادل والترجيح بحول الله تعالى وقوّته ومستمدا ممّن نحن في جواره وخدمته صلوات الله وسلامه عليه.

فنقول : التعادل والترجيح كلاهما مصدران من باب التفاعل والتفعيل.

أما التعادل : فهو لفظ مفرد مشتق من العدل بالكسر ، وهو المثل فيكون بمعنى التماثل ، فالتعادل في الأصل تساوي طرفي العدل كحمل البعير مثلا ، وبالفارسيّة «هم لنگه وهم تراز».

والمراد به في باب الأدلّة هو تساوي الدليلين المتعارضين وعدم مزية

٩

لأحدهما على الآخر ، من أعدلية الراوي ، واشهرية الرواية ، وموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، ونحوها ، بحيث لم يكن احدهما واجدا لاحدها ، والآخر فاقدا لها.

أمّا التراجيح : فهو جمع الترجيح والترجيح بحسب اللغة : أحداث المزية والرجحان في أحد الشيئين المتقابلين ، وبالفارسيّة «چرباندن» وفي باب الأدلّة عبارة عن تقديم المستنبط أحد الدليلين المتعارضين على الآخر لأجل مزيّة فيه من تلك المزايا الخاصة.

ثمّ أعلم : أنّه قد يعبّر عنه في هذه المسألة بصيغة المفرد نظرا الى إرادة الجنس ، كما في تعبير الفقهاء في أبواب الفقه بكتاب الطهارة ، والصلاة ونحوهما ، مع أنّ أقسامها عديدة ، وأحكامها مختلفة لأنّه فعل المستنبط ، وقد يعبّر عنه بصيغة الجمع لتعدّد أنواع المرجّحات من الاشهرية ، والأصدقيّة ، وموافقة الكتاب ، ومخالفة العامة ، فانّه جائز الوجهين.

(وحيث أنّ موردهما) أي موضوع التعادل والترجيح (الدليلان المتعارضان) لا مطلق الدليلين (فلا بدّ) قبل الورود في محل الكلام (من تعريف التعارض وبيانه) أي التّعارض (وهو) أي التعارض التفاعل (لغة من العرض) وهو مشترك : بين المعنى الاسمي ، وهو أحد الأبعاد الثلاثة ، فيقال : طول الجسم ، وعرضه ، وبين المعنى الوصفي ، وهو (بمعنى الاظهار) كما في قولهم : عرضت الناقة على الحوض من باب القلب ، أي عرضت الحوض على الناقة (وغلّب في الاصطلاح) الأصولي اطلاقه (على تنافي الدليلين) المتعارضين ، لأنّه مأخوذ من تعارض المستطرقين في الطريق ، فيكون اطلاقه عليه من باب المجاز ، بعلاقة المشابهة.

وبعبارة أخرى ، التعارض : عبارة عن تكاذب الدليلين ، مثلا أكرم العلماء ، بلسان الحال ينفي صدور لا تكرم العلماء ، وبالعكس (وتمانعهما) أي

١٠

الدليلين (باعتبار مدلولهما) أي معنى الدليلين نظير النعت السببي والصفة بحال متعلق الموصوف ، بمعنى أنّ التعارض وصف للمدلولين لا للفظهما ، مثلا اذا قام دليل على وجوب صلاة الجمعة ، والآخر على حرمتها ، فلا تعارض بين لفظ : وج وب ، ولفظ : ح ر م ، بل التعارض وقع بين معنييهما لأنّ التعارض في العرف العام اسم لكل منازعة ومخاصمة بين اثنين ، دليلين كانا أو غيرهما.

(ولذا ذكروا أنّ التعارض) عبارة عن (تنافي مدلولي الدليلين) لا نفس الدليلين (على وجه التناقض) أن كان تقابلهما بالايجاب والسلب ، بان تنافيا ذاتا ، كما لو كان مفاد أحدهما حرمة شرب الخمر في زمان ومكان خاص ، وغير ذلك من الوحدات الثمانية ، وكان مفاد الآخر عدم الحرمة في تلك الوحدات ، فحينئذ لا بدّ من اتّحادهما في الوحدات الثمانية التي يعتبر في التناقض (١)(أو التضاد) وهو : على قسمين ، حقيقي ومشهوري.

أمّا الأوّل : الضدان لا ثالث لهما ، كالحركة والسكون عند المتكلّمين ، فأنّ الحركة والسكون ، أمران وجوديان عند المتكلّم ، والتضاد عبارة عن التنافي بين الامرين الوجوديين المتعاقبين على موضوع واحد ، وأمّا عند الحكماء فليسا أمرين وجوديين ، بل السكون عبارة عن عدم الحركة فيكون التقابل بينهما بالايجاب والسلب.

والثاني : ما لهما واسطة كالحمرة والخضرة ، وفي القسمين لا يجوز اجتماعهما كما في النقيضين ، وأمّا من حيث الافتراق ، ففي الأوّل أيضا لا يجوز

__________________

(١) قال النّاظم :

الصدق والكذب اذا تلازما

ذاتا تناقص القضايا لزما

ان كانت القضيّة موجهة

يعتبر الخلاف فيها في الجهة

كمّا وكيفا اعتباره التزم

فيها لديهم اعتباره لزم

فيما سوى المذكور اتحاد

لاتفرصن اذ ما به اعتداد

١١

ارتفاعهما ، وفي الثاني يجوز مثل الصفرة في المثال.

ومن المعلوم أنّ التناقض والتضاد قسمان من التقابل المنقسم الى الأقسام الأربعة المعروفة ، فالتعارض غير التزاحم ، لأنّ في التعارض تكاذب ملاكي ، وفي صورة التزاحم الملاك موجود في كلّ من الطرفين ، كانقاذ الغريقين ، إلّا أنّه لا يمكن امتثال كليهما لعدم القدرة على الامتثال وتحصيل الملاكين ، لا أنّ أحدهما له ملاك والآخر ليس له ملاك.

(وكيف كان) أي بأيّ تعبير كان تنافي الدليلين المراد منه من حيث المدلول ، أو تنافي المدلولين فالمراد واحد (فلا يتحقّق) التعارض (ألّا بعد اتحاد الموضوع) في المتعارضين (والّا) أي وأن لم يكونا متحدين في الموضوع بل كان لكل منهما موضوع مستقلّ (لم يمتنع اجتماعهما ، ومنه) أي وممّا ذكر من أنّ التعارض ، هو تنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض أو التضاد (يعلم أنّه) الشأن (لا تعارض بين الأصول) الأربعة أعني البراءة ، والاشتغال ، والاستصحاب ، والتخيير (وما يحصله المجتهد من الادلة الاجتهادية).

توضيح المسألة على وجه يكشف الابهام عن الافهام ، يتوقّف على بيان أمور.

الأوّل : الفرق بين الحكم الظاهري ، والواقعي.

والمراد بالحكم الواقعي ، هو : ما تعلّق بافعال المكلّفين من دون مدخليّة الظن والشك والوهم ، نظرا الى أنّ الاحكام الواقعيّة ثابتة للشيء بالنظر الى ذاته ، ويكون العلّة لجعله وتشريعه نفس المصلحة والمفسدة الواقعيين.

والمراد بالحكم الظاهري ، ما هو : مجعول في حقّ الجاهل وثابتة له بملاحظة الجهل بحكمه الواقعي ، أو الجهل بالموضوع الواقعي.

والمصلحة المقتضية لانشاء الحكم الظاهري ، أنّما هي التسهيل والتوسعة على المكلّف ، فلا ينافي أن يكون مفسدة الواقعيّة ، مقتضية للحرمة ولكنّها

١٢

ليست فعلية لمزاحمتها بمصلحة التسهيل ، وقد مرّ منه قده ، في أوّل أصل البراءة ما لفظه : ويطلق على الحكم الظاهري الواقعي الثانوي ايضا ، لأنّه حكم واقعي للواقعة المشكوك في حكمها الخ.

وبالجملة : تارة يثبت الحكم على موضوع بذاته بلا توسط الجهل فهو الحكم الواقعي ، نحو الماء طاهر ، والغنم حلال ، والخنزير حرام.

واخرى يثبت الحكم على موضوع بتوسط الجهل ، فهو الحكم الظاهري ، كأصالة الطهارة ، والاصول الأربعة.

الأمر الثاني : الفرق بين الحكومة والتخصيص ، والورود والتخصص وهو : أنّ الحاكم بمدلوله اللفظي يكون متعرضا لحال دليل آخر ، وناظرا اليه ، أعني المحكوم ، وهذا فيما اذا تحقق التنافي بين الدليلين ولو ظاهرا ، بأن يكون دليل الحاكم مثبتا لحكم في مورد ، ويكون المحكوم نافيا عنه ، أو يكون دليل الحاكم نافيا ورافعا للحكم (١) الثابت بدليل المحكوم عن بعض افراد موضوعه ، ولا بدّ ان يكون مسبوقا بالادلّة المسبوقة بالاحكام المثبتة ، نظير الدليل على أنّه لا حكم للشك في النافلة (٢) أو مع كثرة الشك (٣) أو بعد الفراغ من العمل (٤) بالنسبة الى الادلّة المتكفلة لاحكام الشكوك ، ونظير الدليل الدال على رفع الحرج ، والدليل الدال على نفي الضرر بالنسبة الى الادلّة المثبتة للتكاليف ، فيكون موارد الحكومة بمنزلة عدة مخصصات يكون كلّ منها واقعا في تلو العام ،

__________________

(١) والمراد برفع الحكم هو رفع الموضوع ايضا تنزيلا إذ البيّنة أو الخبر الواحد حاكم على الاستصحاب وساير الأصول العمليّة لأنه ينزّل منزلة العلم فلا مجرى لأصول العمليّة لعدم الموضوع أي لعدم الشك تنزيلا.

(٢) الوسائل ـ الجزء ٥ ص : ٣٣١. (الرواية : ١) الطبعة الحديثة.

(٣) الوسائل ـ الجزء ٥ ص : ٣٣٠. (الرواية : ٦) الطبعة الحديثة

(٤) الوسائل ـ الجزء ٥ ص : ٣٤٢. (الرواية : ١) الطبعة الحديثة.

١٣

مثل أن يقال : توضأ الا في صورة الحرج ، واغتسل ألّا في صورة الحرج ، وهكذا بحيث ان يكون دليل الحاكم على وجه لو فرض عدم ورود المحكوم عليه ، لكان لغوا ، وعاريا عن الفائدة ، مثلا لو لم يجب الوضوء والغسل ونحوهما لكان : ما جعل عليكم في الدّين من حرج (١) لغوا.

وهذا بخلاف المتعارضين ، بحيث لو لم يكن التنافي ابدا لم يصر الأوّل لغوا ، مثلا لو لم يكن دليل : أكرم العلماء لكان لا تكرم النحاة دليلا مستقلا ولم يصر لغوا ، وأما الورود ، فهو : عبارة عن رفع أحد الدليلين موضوع الآخر كأدلة الاجتهادية بالنسبة الى الأصول العقلية ، فأنّ موضوع البراءة وقبح العقاب هو : عدم البيان ، فمع وجود الحجّة المعتبرة ، ينتفي الموضوع والتخصّص أيضا كذلك لكن بلا عناية من الشرع ، ومن دون حاجة الى التعبد ، كما اذا قام الدليل على وجوب إكرام العالم ، وعلمنا بأنّ زيدا ليس من العلماء ، فهناك خروج زيد عن دائرة الحكم معلوم وجدانا ، من دون تعبد وهذا يسمّى بالتخصّص.

فانقدح الفرق بين الورود والتخصّص ، وأنّ أحدهما وهو الورود خروج موضوعي ببركة التعبد ، والثاني : وهو التخصّص أيضا كذلك أي خروج موضوعي بلا حاجة الى التعبد ، بل وجدانا ، وظهر الفرق بين الحكومة والتخصيص كما شرحناه ، فظهر أنّ التعارض أنّما يكون اذا كان موضوع المتعارضين موجودا كما في أكرم العلماء ، ولا تكرم النحاة ، لأنّ النحوي أيضا عالم ، فأكرم يثبت الوجوب له ، ولا تكرم النّحاة يحرّم الاكرام ، فهنا يكون مورد التعارض ، ألّا أنّ العرف يرجّح التخصيص ، وأمّا الورود فليس كذلك ، لأنّ أحد الدليلين يثبت الحكم على صورة الشك ، مثلا اذا شككت بين الأقل والأكثر فأبن على الأكثر (٢) فاذا علم عدد الركعات يبني على علمه ، لأنّ موضوع الشك مرتفع

__________________

(١) الحج : ٧٨.

(٢) الوسائل : الجزء ٥ ص ـ ٣١٨. (الرواية : ٣).

١٤

بالوجدان ، فلا تعارض ، فثبت الفرق بين الحكومة والتخصيص والورود والتخصّص.

الأمر الثالث : الدليل أما اجتهادي وأما فقاهي (١).

وقد يسمّى الأول بالدليل ، والثاني بالأصل.

وهما لفظان مترادفان ، لأنّه بالقياس الى الأحكام الشرعية الواقعية تسمّى مجتهدا ، وبالقياس الى الاحكام الظاهرية يسمّى فقيها.

ووجه تسميته بالاجتهادي والفقاهي ، وهو : أنّ الاجتهاد على ما عرفوه ، هو استفراغ الوسع لتحصيل الظن بالاحكام الواقعية.

والفقه هو العلم بالاحكام الشرعية الفرعية عن ادلتها التفصيلية ، ولا يكون العلم إلا بالحكم الظاهري.

ووجه المناسبة أنّ المجتهد يبحث عند فهم الاحكام الشرعية من الدليل الدال على الحكم الواقعي ، ويجد دليل الحكم بحسب اجتهاده.

وبعبارة أخرى : الحكم الظاهري قسمان ، قسم يكون في مورد الجهل بمعنى : أنّ الشرع جعل للجاهل بالاحكام الواقعية طريقا للوصول إليها فمؤديات هذه الطرق ، احكام مجعولة للجاهل بالحكم الواقعي ، ويسمّى بالاحكام الظاهرية وقسم يترتّب الاحكام في لسان الدليل على الموضوع المشكوك الحكم فيكون الجهل قيدا مأخوذا في الموضوع ، كما هو مؤدّي الأصول العملية.

هذا بناء على استفادة الحكم من الدليل الحجية.

وأمّا بناء على أن يكون الحجية بمعنى تنجيز الواقع عند الإصابة والمعذورية عند الخطأ ، فهو أمر آخر ، مثلا لسان قاعدة الطهارة عبارة عن

__________________

(١) فلا يقال فقاهتي لأن التاء يحذف عند لحوق ياء النسبة كبصرة إذا اتصل به ياء النسبة يقال بصري أو بصراوي (راجع كتاب التصريح في باب النسب).

١٥

موضوع شك في طهارته ونجاسته ، فهذا الموضوع محكوم بالطهارة الظاهرية الشرعية ، وهذا أيضا قسم من الأحكام الظاهرية.

فالفقه هو العلم بالاحكام الظّاهرية بقسميها. ولأجل هذا عرّف الفقه بأنّه هو العلم بالاحكام أي العلم بالأحكام الفعلية ، الأعم من الظاهرية والواقعية ، كما في القوانين.

وعلى هذا فالمناسب ، بالنسبة الى الاحكام الواقعية ، أن يعبر بالدليل الاجتهادي ، لأن الاجتهاد كما قلنا هو استفراغ الوسع لتحصيل الحكم الواقعي ، والمناسب للثاني أي الاحكام العقلية التعبير بالدليل الفقاهي لأجل المناسبة بين الاجتهاد والفقه.

وقد ذكرنا أن المأخوذ في موضوع الحكم الظاهري ، الجهل بالحكم الواقعي ، فلذا يكون مرتبته متأخرة عن مرتبته.

اذا عرفت هذه الامور فأعلم : انه لا تنافي بين الحكم الواقعي والظاهري ، وتقديم الدليل على الأصل بتعدد الموضوع (لأن موضوع الحكم في الأصول) الاربعة ، وغيرها هو : (الشيء بوصف انه) أي الشيء ، (مجهول الحكم ، فالحكم بحلية العصير ـ مثلا ـ) بعد الغليان (من حيث انه مجهول الحكم ، وموضوع الحكم الواقعي الفعل من حيث هو) عصير مع قطع النظر عن علم المكلف وجهله (فإذا لم يطلع عليه) أي على الحكم الواقعي (المجتهد) بواسطة خبر الواحد ، ونحوه بأن لم يصل الى دليل اجتهادي (كان موضوع الحكم) العصير أو التتن (في الأصول باقيا على حاله) فهو مجهول الحكم لانه غير معلوم الحرمة (فيعمل على طبقه) فيحكم بحليته مثلا تمسكا : بكل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام (١).

__________________

(١) الوسائل الجزء ١٢ ص ٦٠ (الرواية : ٤).

١٦

(وإذا أطلع المجتهد على دليل) لقيام الخبر على حرمة العصير اذا نش (١) (يكشف عن الحكم الواقعي) فلا يجري الأصل (فإن كان) الدليل الاجتهادي (بنفسه يفيد العلم) والمراد به ، هو : التصديق كقيام الخبر المتواتر ـ مثلا ـ بحرمة عصير العنبي بعد الغليان وقبل ذهاب الثلثين (صار) المجتهد (المحصل) بكسر الصاد (له) أي الدليل (عالما ، بحكم العصير ـ مثلا ـ فلا يقتضي الأصل حليّته) تمسّكا بقوله عليه‌السلام : كل شيء لك حلال (لأنّه) أي الأصل (انما اقتضى حلية مجهول الحكم ، فالحكم بالحرمة) بمقتضى قيام الخبر المتواتر (ليس طرحا للأصل ، بل هو) أي الأصل (بنفسه غير جار ، وغير مقتض ، لأن موضوعه) أي الأصل (مجهول الحكم) ولكن بعد قيام الدليل على حرمة العصير قبل ذهاب الثلثين (٢) ينفي موضوع الأصل بالوجدان.

فالدليل وارد عليه ، ولا يبقى موضوع المورود عليه حتى يعارض ، ونحتاج بطرحه ، لأن موضوع الأصل لو كان شرعيا هو رفع ما لا يعلم ، ولو كان عقليا هو : قبح العقاب من دون بيان ، ومع ورود الحجة المعتبرة المفيدة للعلم ، يرتفع موضوع كلا الاصلين (وأن كان) الدليل الاجتهادي (بنفسه لا يفيد العلم ، بل هو :) أي الحكم المستفاد من الدليل ليس معلوما بل (محتمل الخلاف) كما لو دل الخبر الواحد ، غير المحفوف بالقرينة القطعية على حكم من الاحكام الخمسة ، حيث أنه ، لا يفيد بنفسه العلم ، ولا يحصل اليقين بمطابقته للواقع ، فيكون احتمال خلافه موجودا ، فلا يصح العمل على طبقة إلّا اذا قام الدليل على اعتباره.

ولذا قال : (لكن ثبت اعتباره) أي الدليل الذي لا يفيد العلم بنفسه (بدليل علمي) بأن ينتهي الى العلم ، لأنه كل ما بالغير لا بدّ وأن ينتهي الى ما بالذات ،

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٧ ص ـ ٢٢٩. (الرواية : ٤).

(٢) الوسائل : الجزء ١٧ ص ـ ٢٢٠ و ٢٣٠. (الرواية : ٢ و ١)

١٧

مثلا : اذا كان اللباس متدهنا يسأل من أين؟ فيقال : مستها يدي المتدهنة ، إذا قيل لم صار يدك متدهنة؟ يجاب : بانه ادخلناها في المرق ، والمرق تدهن بالالية ، واذا سألنا لما ذا تدهنت الآلية فيقال : انها متدهنة بالذات ، وفيما نحن فيه أيضا كذلك ، لأنه يثبت حجية الخبر بمفهوم آية النبأ ، وهو وجوب تصديق العادل ، والمفهوم من اقسام الظواهر لا يفيد علما بل ظنا نوعيا ، ولكن حجية هذا الظاهر بناء العقلاء قطعا ، وامضاء الشارع قطعا ، فينتهي الى القطع.

ولأجل هذا يقال : دليل علمي أي منسوب ومنته الى العلم (فإن كان الأصل مما كان مؤداه) أي الأصل (بحكم العقل) إذ الأصول الأربعة أما عقلية ، وأما شرعية.

البراءة أن أخذناها من قبح عقاب بلا بيان فهو عقلي ، وأن أخذناها من باب : كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام ، فهي شرعية.

والاشتغال ، أن أخذناه من باب وجوب دفع الضرر المحتمل فعقلية ، وأن أخذناه من أخبار وجوب الاحتياط كصحيحة زرارة في باب الاستصحاب (١) فشرعية ، لقوله قلت : فأني قد علمت انه قد أصابه ولم أدر أين هو فاغسله قال تغسل من ثوبك الناحية التي نرى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك والاستصحاب أن أخذناه من الخبر اعني : لا تنقض اليقين بالشك (٢) ونظائره.

وبعبارة أخرى : قلنا بحجيته تعبدا شرعيا ، فهو من الأصول العملية وأما أن أخذناه من حكم العقل ، كما ذهبوا اليه قبل زمن والد شيخنا البهائي قدس‌سرهما ـ اذا العقل يحكم بإن ما لم يثبت شيء فالأصل عدمه وإذا ثبت دام ـ فهو خارج عما نحن فيه ، لأن حجية الاستصحاب من باب الظن يصير من قبيل

__________________

(١) الكفاية ج ٢ ص ٢٨٩ والوسائل الجزء ـ ٢ ص ـ ١٠٠٦ (الرواية : ٢).

(٢) بحار الأنوار ج ٢ ص ـ ٢٧٢ و ٢٨١ (الرواية : ٢ و ٥٣).

١٨

الأمارات ، وكلامنا الآن في الأصول.

وأما ـ التخيير ـ أن أخذناه من العقل لعدم امكان الموافقة القطعية ، ولا المخالفة القطعية فعقلية ، وأن أجرينا رفع ما لا يعلمون في كل واحد من الوجوب والحرمة فشرعية ، على ما قيل.

ومن الواضح : انه لا تعارض بين الادلة الاجتهادية الكاشفة عن الاحكام الواقعية ، وبين الاصول العملية المقتضية بخلاف مؤديها ، بل ورود الادلة على الأصول أن كانت عقلية ، لأن الجهل المأخوذ فيها ، هو الجهل بالحكم الواقعي ، وحكومتها عليها أن كانت شرعية ، لأن الجهل المأخوذ في الأصول الشرعية ، هو : الجهل بالحكم الأولى فلما كان المأخوذ في موضوع الاصول العملية ، هو الجهل بحكم الواقعة في الواقع ، أما من جهة الشبهة في نفس الحكم الكلي الواقعي ، أو من جهة الشبهة في المصداق ، فلازم ذلك أنه لو ورد دليل اجتهادي في موارد الأصول العملية.

فإن قلنا : حجية الأصول العملية عقلية ، فالدليل الاجتهادي وارد عليها.

وان قلنا أنها شرعية ، فالدليل الاجتهادي حاكم عليها فلا يعقل التعارض بينهما ومعنى الحكومة ، هو : ان دليل اعتبار الامارة الشرعية ، يحكم بوجوب المطابقة والغاء احتمال خلافه ، ومعنى هذا الالغاء عدم ترتيب الأثر عليه ، والأثر المترتب عليه لو لا الحكم بالالغاء كان الاصل الشرعي مثل : كل شيء لك حلال ، وكلّ شيء لك طاهر ، ونحوهما.

وبعبارة أخرى دليل حجية الامارة حاكم على الأصول العملية ، ومانع عن جريانها في مورد الامارة المعتبرة ، وهذا معنى حكومة دليل الاعتبار.

أما البراءة ، مثلا : لو شككنا في حرمة الفقاع وحليته.

فان قلنا بالبراءة العقلية ، وهو قبح عقاب بلا بيان ، فالخبر الدال على أن

١٩

الفقاع خمرا ستصغره الناس (١) يكون بيانا ، يرفع موضوع اللابيان ، فيكون واردا.

وأما اذا جعلنا البراءة شرعية ، من باب : كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام ، فيكون ذاك الدليل رافعا لموضوع الشك ، تنزيلا فيكون حكومة.

أما الاشتغال ، كما إذا علمنا إجمالا بوجوب القصر أو الاتمام في السفر التلفيقي مع بيتوتة ليلة واحدة ، وقام الدليل المعتبر على وجوب القصر فهذا مؤمن قطعي ، فنترك التمام ، لانا لا نحتمل الضرر وجدانا.

وأما إذا قلنا بان وجوب الاحتياط شرعي ، فالدليل يرفع موضوع الاحتياط تنزيلا.

أما التخيير ، كدوران الأمر بين المحذورين ، كان لا يعلم أنه حلف على وطء زوجته في ليلة معينة ، أو حلف على تركه في هذه الليلة ، فهو مخير عقلا ، لانه أما تارك ، وأما فاعل وليس بقادر على الموافقة القطعية ولا المخالفة القطعية.

فاذا قامت البينة بان الحلف قد وقع على الوطء ، فلا تخيير ، لأن موضوعه الدوران بين المحذورين ولا دوران ، وأما اذا كان التخيير شرعا ، فدليل البينة حاكم عليه ، مثل ما ذكرنا في الفقاع.

والى ذلك كله أشار بقوله : فان كان الأصل مما كان مؤداه بحكم العقل (كأصالة البراءة العقلية ، والاحتياط ، والتخيير العقليين ، فالدليل وارد عليه) أي على الأصل في هذه الموارد (ورافع لموضوعه) أي الأصل وجدانا (لأن موضوع الأول) أي البراءة العقلية هو : (عدم البيان ، وموضوع الثاني) أي الاحتياط العقلي ، هو : (احتمال العقاب ومورد الثالث) أي التخيير العقلي ، هو : (عدم الترجيح لأحد طرفي التخيير ، وكل ذلك مرتفع بالدليل الظني) المعتبر ، فإذا قام

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٧ ص ـ ٢٩٢. (الرواية :) ١.

٢٠