جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

محمّد رضا الناصري القوچاني

جواهر العقول في شرح فرائد الأصول

المؤلف:

محمّد رضا الناصري القوچاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

من باب الطريقية.

(كما يظهر) إناطة حجية الأخبار بالظن الشخصي (من) كلام (صاحب المعالم قده) لأنه قد استدل بالدليل المعروف دليل الانسداد الذي جعله دليلا رابعا لحجية خبر الواحد.

ومن المعلوم الذي قد تقرر (في) باب (تقرير دليل الانسداد) أن نتيجته حجية الظن الشخصي.

(ثم المحكى عن جماعة ، بل قيل أنه) أي الشأن (مما لا خلاف فيه ، أن التعادل) أعني تكافؤ الدليلين المتناقضين (أن وقع للمجتهد) وأن كان نعوذ بالله فاسقا (كان مخيرا في عمل نفسه ، وأن وقع) التعادل (للمفتي) وهو من قلد الناس عنه اعتمادا على فتواه ، سواء التزام بذلك في عمل نفسه ، أم لم يلتزم (لأجل الافتاء فحكمه) أي المفتي (أن يخير المستفتي) أي المقلد (فيتخير) المستفتي (في العمل كالمفتي) لأن المستنبط نائب من قبل المقلد في أخذ الاحكام من الادلة ، فان استفاد المفتي من الادلة بان وظيفة المسافر الى أربعة فراسخ ، اذا تخلل بين ذهابه وإيابه بليلة ، أو أزيد ، هو : التخيير بين القصر والإتمام ، فإن أختار في عمل نفسه القصر لا يجوز أن يعين للمقلّدين ما عين لنفسه بل للمقلدين التخيير بين أحدهما ما شاء.

(ووجه الأول) وهو : التخيير في عمل نفسه للمجتهد (واضح) لأنه لم يقلّد منه أحد.

(وأما وجه الثاني) وهو من أجتمع فيه شرائط التقليد (فلأن نصب الشارع للامارات) من الآيات والاخبار (وطريقيتها) أي الامارات عطف تفسير (يشمل المجتهد والمقلد) معا بإن المقلد كالمجتهد مأمور من قبل الشرع بالتخيير فيختار التمام ، وأن كان مقلده ـ بالفتح ـ اختار القصر (إلا أن المقلد عاجز عن القيام بشروط العمل بالادلة من حيث تشخيص مقتضاها) أي الادلة بانه هل المراد الاستحباب المؤكد أو الوجوب أو أن المراد الحرمة أو الكراهة الشديدة ،

١٠١

وغير ذلك مما يستفاد من الادلة (و) عاجز عن (دفع موانعها) أي الادلة من قبيل مخالفة المشهور ، ومخالفة إجماع المنقول ، أو خبر المخالف يحتاج الى فحص ولم يقدر المقلد (فاذا أثبت ذلك) الشرائط والموانع ، قوله (المجتهد) فاعل لا ثبت (وأثبت) المجتهد (جواز العمل بكل من الخبرين المتكافئين) من القصر والاتمام في التلفيقي أو الظهر والجمعة في يوم الجمعة ، قوله (المشترك) صفة لجواز العمل (بين المقلد والمجتهد تخير المقلد) أيضا (كالمجتهد) في مقام العمل.

فللمقلد أن يأخذ بأحد المتعارضين وأن كان المجتهد أخذ بالآخر في عمل نفسه.

اذ هذا نتيجة جواز العمل بكل من الخبرين المشترك بين المقلد والمجتهد.

غاية الامر لما كان المقلد عاجزا عن استعلام ذلك الحكم ، واستنباطه قام المجتهد مقامه في الاستنباط فاذا استنبطه المجتهد يكون ذلك حكما مشتركا بينه وبين المقلد (لأن ايجاب مضمون أحد الخبرين) المتعارضين كالقصر بخصوصه مثلا (على المقلد) كما أختاره المجتهد لنفسه (لم يقم دليل عليه) أي على إيجاب مضمون أحد الخبرين ، لأن الدليل : أنما دل على التخيير ، لا التعيين ، فالذي اختاره المجتهد لنفسه كالقصر مثلا ، لا يدل على كونه معينا بالنسبة الى المقلد أيضا (فهو) أي إيجاب مضمون أحد الخبرين على المقلد (تشريع) محرم بالادلة الاربعة ، لعدم الدليل على التعيين ، فيكون ايجابه على المقلد تشريعا ، لأنه عبارة عن ادخال ما لم يعلم أنه من الدين في الدّين بقصد أنه منه ، أو ادخال ما ليس من الدين في الدين والمقام من قبيل القسم الأول.

(ويحتمل أن يكون التخيير للمفتي) كما نسب الى الأكثر (فيفتي بما أختار) إذ قد يثبت التخيير في مقام الالتزام دون العمل ، كما لو كان التخيير ابتدائيا ، إذ بعد الالتزام بأحدهما يتعين عليه حينئذ ما ألتزمه ، فإذا أختار المجتهد

١٠٢

أحدهما ، وقلنا أن التخيير إبتدائي ، فلا يجوز أن يأخذ بغير ما أختار ، فيتعين شرعا فيفتي للمقلد بالتعيين ، ولا ريب أنه لا حظّ للمقلد في الالتزام بمؤديات الطرق ، لا تعيينا ولا تخييرا ، لأنه وظيفة المجتهد ، ووظيفة المقلد هو : الالتزام بما يفتي له مجتهده بعد الالتزام بمؤديات الطرق.

نعم له دليل واحد إجمالي مطرد في جميع المسائل ، بقوله : هذا ما افتى به المفتي ، وكلما أفتى به المفتي فهو حجة في حقي ، فهذا حجة في حقي (لأنه) أي التخيير (حكم للمتحير وهو المجتهد) إذ التخيير حكم ، وموضوعه التحير في الطريق بإن المجتهد لا يدري بأيهما يأخذ ويفتي ، والمقلد وأن كان جاهلا لكن مطلق الجاهل بشيء لا يسمى متحيرا في ذلك الشيء ، وأنما يصدق عليه هذا العنوان إذا كان مبتلى به ، ولا بد له من عمل فيه فينحصر في المجتهد إذ المقلد لمكان عجزه لا يلزمه التصدي لتعيين الطريق الفعلي من المتعارضين ، لان المتحير هو : ما يعبر عنه بالفارسية به ـ درمانده وحيران ـ وهو لا يصدق الأعلى من ليس له بدّ من العمل ، مع علمه في كيفية العمل.

ألا ترى أن من لم يرد الذهاب الى بغداد لكنه جاهل بطريقه ، لا يصدق عليه أنه متحير في طريق بغداد ، بل يقال : أنه جاهل به ، بخلاف من أراد الذهاب إليه مع جهله بطريقه ، فيصدق عليه أنه متحير في طريقه.

أن قلت : إذا كان فتوى المجتهد الحكم ببقاء الحالة السابقة لأجل حجية الاستصحاب فيفتي للمقلد من تيقن في الطهارة وشك في الحدث بني على الطهارة ، أو بالعكس من تيقن في الحدث وشك في الطهارة فيتطهر ، فكما أن الاستصحاب وظيفة المجتهد والمقلد ، هكذا اذا حصل التحير للمجتهد في تعارض الخبرين وكان فتواه الحكم بالتخيير ، فلا بد أن يفتي للمقلد أيضا بالتخيير لا بما أختار.

قلنا : (ولا يقاس هذا) الحكم الفرعي أعني مسئلة التخيير (بالشك الحاصل للمجتهد في بقاء الحكم الشرعي) لأن الاستصحاب حكم شرعي

١٠٣

وموضوعه : المكلف الشاك ، وهذا عام من دون فرق بين المقلد والمفتي بخلاف التخيير في المسألة الاصولية لأن موضوعه المتحير الذي يستنبط في طريق الحكم ، وهذا لا يشمل المقلد لأنه خارج عن الموضوع.

وأشار اليه بقوله : حكم تخيير هل يختص بالمجتهد أم لا؟ (مع أن حكمه) أي المجتهد (وهو البناء على الحالة السابقة مشترك بينه) أي المجتهد (وبين المقلد) قوله (لأن الشك) علة لقوله : لا يقاس (هناك) أي في البناء على الحالة السابقة (في نفس الحكم الفرعي المشترك ، وله) أي الشك (حكم مشترك و) لكن (التخيير هنا) أي في الخبرين المتعارضين (في الطريق الى الحكم) والاستنباط (فعلاجه) أي علاج التعارض يعني الاخبار العلاجية التي تأمر (بالتخيير ، مختص بمن يتصدى لتعيين الطريق) وهو المفتي ، فكما أن استنباط التخيير في الخبرين المتعارضين يكون للمجتهد لا المقلد كذلك حكم التخيير ثابت له ، لا للمقلد ، فاذا اختار المفتي مضمون أحد الخبرين كالقصر مثلا ، اشترك مع مقلديه في وجوب القصر في الحكم الفرعي فلا بد أن يفتي به ، لا بأصل التخيير الذي اختاره في باب تعارض الخبرين (كما أن العلاج بالترجيح) كتشخيص أعدلية الراوي ، أو أشهرية الرواية (مختص به) أي بالمفتي (فلو فرضنا أن راوي أحد الخبرين) كزرارة مثلا (عند المقلد أعدل وأوثق من) راوي الخبر (الآخر) كمحمد بن مسلم مثلا (لانه) أي المقلد هو من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد ، فعليه قد يكون ممن له مراتب من الفضل والبصيرة ، ولذا كان (اخبر وأعرف به) أي بحال الراوي الواقع في سند الرواية (مع تساويهما) أي تساوي الراويين (عند المجتهد أو انعكاس الأمر عنده) أي عند المقلد بإن يكون راوي أحد الخبرين أفقه من الآخر مثلا ، مع تساويهما عند المقلد.

قوله : (فلا عبرة بنظر المقلد) جواب : لو فرضنا ، لان علاج المتعارضين الوارد في الأخبار من الترجيح والتخيير مختص بالمفتي ، وما حصله من الادلة بحسب اعتقاده يجب عليه العمل على طبقه ، والمقلد وظيفته الأخذ بما يعينه

١٠٤

المفتي له كما أنه يجب على المقلد الأخذ بما يستنبطه المجتهد من الدليل ، ولا يجوز له العمل بما فهمه ، وعليه فلا عبرة بنظر المقلد (وكذا) أي كعدم العبرة بنظر المقلد (لو فرضنا تكافؤ قول اللغويين في معنى لفظ الرواية) أو الآية فلو استند المجتهد الى قول اللغوي ورجح قول بعضهم ، ففي قوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)(١) مثلا : صاحب الصحاح فسر معنى الصعيد بالتراب الخالص ، وصاحب القاموس بمطلق وجه الأرض ، وهما متكافئان عند المجتهد ، وكان عند المقلد صاحب القاموس أبصر بمواضع اللغات وأرجح بنظره من صاحب الصحاح (فالعبرة بتحير المجتهد ، لا تحير المقلد) فالمقلد يجب أن يأخذ بما أخذه مجتهده ، لأن التخيير في المسألة الاصولية وظيفة المجتهد ، لا المقلد (بين حكم يتفرع على أحد القولين و) حكم (آخر يتفرع على الآخر) فالحكم الذي هو جواز التيمم على مطلق وجه الأرض يبتني على قول اللغوي ، وتعين التراب الخالص في التيمم يتفرع على قول لغوي آخر ، ففي هذا المورد التخيير عند التكافؤ عند المجتهد لا المقلد (والمسألة محتاجة الى التأمل) لأنه في بعض الصور قد يكون من مراجعة العالم الى الجاهل ، لان معيار التقليد هو : رجوع الجاهل الى العالم ، وفيما فرضناه لو كان المقلد ممن له خبروية باللغة ومعرفة بحال اللغويين وكان نظره مخالفا مع نظر المجتهد في معنى لفظة الصعيد الذي يترتب عليه الحكم الشرعي ففي مثل الفرض وجوب الرجوع الى المجتهد مشكل جدا (وأن كان وجه المشهور) بأخذ المجتهد التخيير ويأمره بالتخيير (أقوى) ولا عسر ولا حرج في ذلك على المقلد ـ وأن كان عاميا ـ لأن الذي يجب أتباعه أنما هو رأي المجتهد أي ما استنبطه المجتهد من الادلة الشرعية ، أو ما اختاره في مقام عمله عند تعارض الادلة وتساويهما فاذا رأى المجتهد تكافؤ الخبرين وأن الحكم عند تكافؤ الخبرين التخيير ، وأخذ المجتهد بأحد

__________________

(١) النساء : ٤٣.

١٠٥

المتعارضين في مقام العمل من باب التخيير فالمقلد جاز له متابعته.

(هذا حكم المفتي ، وأما الحاكم والقاضي) (١) عطف تفسير (فالظاهر كما عن جماعة أنه) أي الحاكم (يتخير أحدهما) أي أحد الخبرين (فيقضي به) أي بأحدهما ، فاذا وردت روايتان متعارضتان في طريق الحكم مثلا ، بان ورد خبر يدل على القضاء بمجرد النكول للمدّعي أي لنفعه ؛ وورد خبر آخر يدلّ على عدم جواز القضاء بمجرّد النكول ؛ بل لا بد أن يحلف المدعي حتى يقضى له ، والمفروض تكافئهما ، فالحاكم يتخير بأخذ ما شاء منهما (لان القضاء والحكم عمل له) أي الحاكم (لا للغير ، فهو المخير ، ولما عن بعض من أن تحير المتخاصمين لا يرفع معه) أي التحير (الخصومة) لأن كلا من المتخاصمين يعمل بتشهي نفسه برجوع كل منهما الى الحاكم الذي يحكم بنظر نفسه ، فيدوم الخصومة ، والقضاء أنما شرع لرفع الخصومة.

فالتخيير للحاكم لا للمتخاصمين ، إذ : تخيير المتخاصمين يستلزم بقاء الخصومة ، لأن كل واحد منهما يختار من المتعارضين ما ينفعه.

وهذا بخلاف تخيير الحاكم ، فانه يأخذ باحدهما ، ويقضي بين المتخاصمين على طبقه ، ويجب على المتخاصمين قبول قضائه.

(ولو حكم) الحاكم (على طبق إحدى الامارتين) أعني احدى الروايتين (في واقعة ، فهل له) أي الحاكم (الحكم على طبق) الامارة (الاخرى في واقعة اخرى) على خلافه في موضوع واحد كاستحباب الحبوة ، ووجوبها اذا وردا في روايتين أم لا؟ بمعنى أن التخيير في المقام ، هل هو ابتدائي ، فلا يجوز العدول عما اختاره الى الخبر الآخر في الواقعة الاخرى ، أو استمراري فيجوز له العدول (المحكي عن العلامة رد وغيره ، الجواز ، بل حكى نسبته) أي الجواز أعني

__________________

(١) فرق بين المفتي والمجتهد والقاضي ، فإن وظيفة المفتي استنباط الاحكام الكلية من الأدلة ، والقاضي وان كان يعتبر اجتهاده لكن حكمه جزئي لا كلي بأن هذا المال لزيد دون عمرو مثلا وأمثال ذلك.

١٠٦

التخيير الاستمراري (الى المحققين) بل الى المشهور.

واستدل له (ـ لما عن النهاية ـ من أنه ليس في العقل ما يدل على خلاف ذلك) أي لم يكن مانع عقلا بعد إحراز المقتضى في حكم الشارع ، ولو باستصحاب التخيير (ولا يستبعد وقوعه) أي وقوع التخيير استمرارا (كما لو تغير اجتهاده) أي أن ظهر الخلاف للمجتهد في رأيه فعدل عن الحكم بوجوب الجمعة مثلا الى حرمتها ، فيعمل بالأخير ، فكما أنه يجوز له أن يعمل برأي السابق في الزمان الأول ، وبالأخير في الزمان الثاني ، هكذا فيما نحن فيه يأخذ تارة بهذا الخبر ، وأخرى بذاك.

اللهم (إلا أن يدل دليل شرعي خارج) كالاجماع ونحوه (على عدم جوازه) أي التخيير الاستمراري ، نظير : تزوج هندا أو أختها ، فانه تخيير ابتدائي (كما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال لأبي بكر : لا تقض في الشيء الواحد بحكمين مختلفين) (١) انتهى ما عن النهاية.

(اقول : يشكل الجواز لعدم الدليل عليه) أي الجواز (لان دليل التخيير ، أن كان الاخبار) مثل قوله (ع) : بايهما أخذت من باب التسليم وسعك (٢) وكما في رواية ابن الجهم ، فاذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت (٣) ونظائرهما (الدالة عليه) أي التخيير (فالظاهر أنها) أي الاخبار (مسوقة لبيان) حكم (وظيفة المتحير في ابتداء الامر) لان للمكلف شكين أحدهما الشك في وظيفته عند مجيء الخبرين المتعادلين.

وثانيهما : الشك في خصوصياتها بعد تعيين أصل الوظيفة من كون الأخذ بدويا ، أو استمراريا.

__________________

(١) في البحار كانت العبارة هكذا : كتب أمير المؤمنين (ع) لمحمد بن أبي بكر لا تقض في أمر واحد بقضائين مختلفين فيختلف امرك ج ـ ١٠٤ ص ٢٧٦.

(٢ و ٣) الوسائل الجزء ١٨ ص ـ ٧٧ و ٨٧ (الرواية : ٦ و ٤٠).

١٠٧

ولا أشكال في أن السائل في أدلة التخيير كان شاكا في أصل الوظيفة ، وأنه لدى تعادل الخبرين ما يصنع ، فاذا أجيب بانه مخير في الاخذ باحدهما ينشأ له شك آخر في كيفية التخيير ، وأنه دائمي أولا؟ وهذا موضوع آخر ، وشك آخر مسكوت عنه في ادلة التخيير ـ سؤالا وجوابا ـ فتكون روايات التخيير في مقام بيان أصل الوظيفة لا كيفيتها ، وإلا يلزم اسراء حكم من موضوع الى موضوع آخر ، وهذا قياس لا نقول به لأن الحكم الابتدائي موضوعه المتحير ، واذا اخذنا باحدهما بان وظيفته فلا تحير له ، فاستصحاب حكم المتحير لغير المتحير لا يجوز (فلا اطلاق فيها) أي الاخبار (بالنسبة الى حال المتحير بعد الالتزام بأحدهما) اذ الجاهل بطريق مقصد لا يكون متحيرا فيه الا مع قصده الذهاب الى ذلك المقصد.

ومن المعلوم أن مقصد كل مكلف في موارد احتمال التكاليف الشرعية أنما هو ما يبرئ ذمته عن احتمال العقاب عليها ، ففرضه تحصيله والوصول اليه ، وهو لا ينحصر في الاتيان بالواقع على ما هو عليه ، بل يعم ما روي اليه طريق غير علمي معتبر فيه ـ من قبل الشارع ـ.

والتخيير أنما هو ثابت قبل ثبوت اعتبارهما في تلك الحال شرعا ، وأما بعد ثبوت اعتبارهما تخييرا بمقتضى أخبار التخيير ، فيرتفع تحيره فانه حينئذ بعد ما أختاره من الخبرين لم يكن متحيرا في أمره الوصول الى مقصده ، وهو المؤمّن له من العقاب ، فلا يصدق عليه أنه متحيّر لان اعتبار ما أختاره في الواقعة الاولى متيقن ، والمفروض أن اخبار التخيير معرفة لبيان حكم المتحير ، لا مطلق الشاك ، لاسراء حكم موضوع لغير الموضوع ويعتبر في الاستصحاب اتحاد الموضوع فلا يشمل الوقائع الأخر ، لعدم صدق المتحير عليه قطعا فلا بد له في اثبات حكم التخيير حينئذ من التشبث بغيرها ـ أن كان ـ وإلا فالاقتصار على المتيقن.

(وأما) ان كان دليل التخيير (العقل الحاكم بعدم جواز طرح كليهما) فاذا

١٠٨

خيرنا الشارع بين فعل الظهر والجمعة لا يجوز تركهما معا ولكن بعد الاخذ باحدهما في يوم الجمعة الاولى (فهو) أي العقل (ساكت من هذه الجهة) في يوم الجمعة الثانية من الاخذ بالآخر.

فلا يقال : أن العقل كما يحكم بالتخيير في يوم الجمعة الاولى كذلك يحكم في يوم الجمعة الثانية لبقاء حكمه.

لأنا نقول : حكم العقل بالتخيير قبل الأخذ بأحدهما لأجل تحيره وعدم الدليل على الترجيح لأحدهما وبعد الأخذ بأحدهما في واقعة لا يحكم بالتخيير في واقعة أخرى ، فيكون حجية المأخوذ في الجملة مقطوعا بها ، وحجية غير المأخوذ مشكوكا فيه.

فإن شككنا بأنه هل يجوز الاتيان بالآخر في الواقعة الأخرى ، أم لا؟ (والأصل عدم حجية الآخر بعد الالتزام بأحدهما) لأن الشك في الدليلية يجري فيه أصالة عدم الحجية (كما تقرر في دليل عدم جواز العدول عن فتوى مجتهد إلى مثله) كما إذا كان أحدهما افتى بوجوب الجمعة في كل جمعة ، والآخر بحرمتها أو بوجوب الظهر في كل جمعة ، فإذا أخذنا بأحدهما ينبغي البناء عليه دائما.

(نعم : لو كان الحكم بالتخيير في المقام) في صورة كون حجية الأخبار (من باب) السببية و (تزاحم الواجبين ، كان الأقوى استمراره) أي التخيير (لأن) العمل بالتخيير على هذا المعنى مطلوب نفسي طابق الواقع ، أم لا؟ و (المقتضى له) أي التخيير (في السابق موجود بعينه) لوجود الملاكين دائما ، لأن الوجه في حكم العقل بالتخيير في أول الأمر انّما هو وجود المصلحة في المأمور به عند العمل بكل منهما ، وعدم رجحان احدى المصلحتين على الأخرى.

وهذا المناط لا يختلف بالأخذ بأحدهما وعدمه (بخلاف) كون حجية الأخبار من باب الطريقية في (التخيير الظاهري) الشرعي (في تعارض الطريقين)

١٠٩

لعدم وجود المصلحة.

ومقتضى القاعدة بناء على الطريقية التساقط ، والرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما ، لعدم امكان الموصلية من الطريقين المتضادين ولكن الشارع تعبدنا بالأخذ في احدهما وهذا يثبت التخيير البدوي دون الاستمراري (فإن احتمال تعيين ما التزمه) من الظهر أو الجمعة مثلا (قائم) دائما ، إذ : بعد ثبوت عدم جواز طرحهما معا ، وعدم امكان الجمع بينهما ، فلا بد من الأخذ بأحد الطريقين ، وأما بعد الأخذ بإحداهما في واقعة لا يثبت الرخصة بالأخذ بالآخر ، فيكون حجية المأخوذ في الجملة قدرا متيقنا ، ويشك في حجية غير المأخوذ ، والعقل لا يعدل عن القطعي إلى المشكوك فيه ، فيجب إتيان ما فعله اوّلا إلى الأبد ، لأن الشك في التعيين والتخيير ، ولا يحتمل تعين الآخر.

فالأحوط أن يؤخذ بما أخذ سابقا (بخلاف التخيير الواقعي) ـ بناء على السببية ـ لأجل حدوث المصلحة بقيام الامارة ، وإن خالف الواقع نظير : التخيير بين خصال الكفارة (فتأمل) لأن التزاحم إنما هو بين الفعليين من الطريق ، لا الشأنيين ، إذ : على الثاني يمكن الأخذ بالآخر في واقعة أخرى.

(و) أما كون دليل التخيير (استصحاب التخيير ، غير جار) لعدم بقاء موضوعه ، ولا يجري الاستصحاب إلا إذا كان الموضوع محرزا ، إذ : لا يجوز أن تستصحب عدالة زيد لأن تثبت عدالة عمرو ، وما نحن فيه من هذا القبيل (لأن الثابت سابقا ، ثبوت الاختيار) من الأخذ بأحدهما (لمن لم يتخير) من الظهر أو الجمعة مثلا (فاثباته) أي التخيير في الزمان الثاني (لمن اختار) أحدهما في الزمان الأول (والتزم اثبات للحكم في غير موضوعه الأول) لأن موضوع الأول ، ثبوت الاختيار والأخذ بأحدهما لمن لم يتخير بخلاف الثاني ، لأنه بعد الأخذ بأحدهما لم يصدق عليه المتحير بأنه يقال بالمتحيّر الابتدائي أنّ من لم يختر فيخيّر ، والثاني موضوعه من : اختار فبينهما تقابل الايجاب والسلب ، لأن من : اختار ، و : من لم يختر ، موضوعان (وبعض المعاصرين) وهو صاحب

١١٠

الفصول (ره استجود هنا) أي في بقاء التخيير ، وزواله ، اعني في البدوي والاستمراري (كلام العلامة ره) بأنه قال : الأجود ما قاله العلامة قده : من التخيير الاستمراري.

لعل وجه استجواده ، ان كلا الخبرين المتعارضين قد وصلا من الشارع بطريق صحيح ، وكل ما كان كذلك ، يجوز الأخذ به تعبدا من باب التسليم بمقتضى بعض الأخبار العلاجية الدالة عليه ، وهو قوله (ع) حين سئل عن الخبرين المتعارضين : بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك ، فيجوز الأخذ بكل من المتعارضين.

ومن المعلوم : أن التسليم مطلق يشمل التسليم الابتدائي والتسليم الثانوي ، فالتخيير استمراري بحكم الاطلاق.

وهذا بخلاف فتوى المجتهد والامارات ، فإن شيئا منهما لم يصل من الشارع بالوصول القولي وبطريق الانتساب إليه كذلك ، بل الحكم فيهما بالتخيير إنما هو التخيير الابتدائي ، فما ذكر من أخبار التسليم وارد في خصوص الخبرين المتعارضين لا مطلق الامارات.

كما قال ، (مع انه) أي صاحب الفصول قده (منع من العدول عن امارة إلى) امارة (أخرى و) منع من العدول (عن مجتهد إلى) مجتهد (آخر فتدبر) اشارة إلى ما ذكره ولعله اشارة إلى أن هذا بناء على الطريقية.

وأمّا إذا قلنا من باب السببيّة ، فلا بدّ من الحكم بالتخيير الاستمراري في جميعها ، ولا معنى للتفصيل.

(ثمّ) إنّ المصنف قده لمّا فرغ من حكم التعادل في أدلّة الاحكام ، أراد بيان حكم التّعادل في تعارض الامارات القائمة على الموضوعات المستنبطة أو الخارجيّة ، فقال : (انّ حكم التعادل في تعارض الامارات المنصوبة في غير الاحكام) الكليّة الشرعيّة بمعنى أنّه لا ينحصر التعارض في الرّوايات الصّادرة عن المعصومين عليهم‌السلام ، بل يكون في أدلّة الموضوعات الجزئيّة أيضا

١١١

(كما في) تعارض (أقوال أهل اللّغة) مثلا : قال صاحب القاموس : معنى الصّعيد هو مطلق وجه الأرض ، وقال صاحب الصّحاح هو التّراب الخالص (و) كتعارض أقوال (أهل الرّجال) نظير : جرح ابن الغضائري محمّد بن سنان ، وتوثيق العلّامة المجلسي قده ، مثلا وحيث أنّ الرّجوع إلى أهل الخبرة من اللّغويين ، وكذا أهل الاطلاع من الرّجاليين ، ليس الّا استكشاف الواقع والوصول إليه من ناحيتهما ، ففي صورة التعارض وعدم وجود المرجّح ، مقتضى الأصل تساقطهما كما هو الأصل في كلّ امارتين متعارضتين الممحضتين في الطريقيّة ، ولذا (يوجب التوقّف) والرّجوع إلى مقتضى الأصول (لأنّ الظّاهر اعتبارها) أي الامارات المنصوبة في غير الاحكام ، أعني اعتبار قول أهل اللّغة والرّجال (من حيث الطريقيّة إلى الواقع ، لا السببيّة المحضة) لأنّ بناء العرف والعقلاء في الرّجوع إلى قول اللّغوي ، وكذا اعتماد الأصحاب على تعديل رواة السّند وجرحهم ، إنّما هو بملاك الطريقيّة ، بمعنى أنّ الجاهل يرجع في اللّغة إلى من هو عارف بمعناها بزعمه.

فرجوعه إليه لاستكشاف الواقع من قول اللغوي ، وهكذا علماء الرجال لتشخيص الوثاقة أو العدالة في راوي السند ، ويستندون إلى من هو عارف بأحوال الرواة ويجعلون الجرح أو التعديل طريقا لمعرفة حال الراوي ، وحيث أنه طريقة عقلائية لم يرد عنها ردع من الشرع ، صار مناطا للعمل.

وملخص الكلام : أن حجية قول اللغوي وكذا الرجالي يكون من باب الطريقية لا السببية المحضة (وان لم يكن) اعتباره (منوطا بالظن الفعلي) بل المناط فيها الظن النوعي المطلق.

(وقد عرفت) سابقا (ان اللازم في تعادل ما هو من هذا القبيل التوقف) لخروج كل من القولين لأجل التعارض من وصف افادته للظن لكون الظن النوعي أيضا طريقا (والرجوع إلى ما يقتضيه الأصل في ذلك المقام) فإن كان

١١٢

أصل معتبر في المورد موافق لاحدى الامارتين يوجب ترجيح الموافق للأصل على معارضه ، وهذا مبنى على الترجيح بالأصل كما في المتن (إلّا أنه) أي الشأن (ان جعلنا الأصل من المرجحات) ففي المقام نقول : المراد من الصعيد ، هو مطلق وجه الأرض كالحجر والمدر لأن قيد الترابية ضيق على المكلّف ، و : الناس في سعة ما لا يعلمون ، يدل على عدم اعتباره ، فيرجح مطلق وجه الأرض.

ويمكن أن يقال : أنّ الأخذ بكون الصعيد بمعنى التراب ، وتطبيق العمل عليه موجب لليقين بفراغ الذمة ، لأن التيمم بالتراب مبرئ للذمة ـ على كلا القولين ـ.

ويمكن أن يكون هذا مرجحا للمعنى الآخر ، ففي الفرض ، هاتان الامارتان المتعارضتان كل منهما موافق للأصل من جهة ، فلو كان رجحان لأحد الأصلين على الآخر تقدم الامارة الموافقة له ، وعلى فرض التساوي في الأصلين من حيث الرتبة ، فالمتعارضان متكافئان حينئذ.

وعلى كل حال : هذا الكلام إنما هو في صورة جعل الأصل من المرجحات (كما هو المشهور ، وسيجيء) أن الفقهاء رجحوا في الكتب الاستدلالية بأصالة البراءة ، والاستصحاب لكون بنائهم على الظن فيهما.

وما ذكرناه من ترجيح المتعارضين باصالة البراءة ، أو الاشتغال مبنى على كون الأصلين مرجحا ، لا مرجعا بعد التساقط كما سيجيء إن شاء الله تعالى و (لم يتحقق التعادل بين الامارتين الا بعد عدم موافقة شيء منها) أي الامارة (للأصل).

ان قلت : حيث أن كلا منهما شيء لا يعلم فنرجع إلى الثالث ، ونجري البراءة من كليهما.

قلنا : (والمفروض عدم جواز الرجوع إلى الثالث ، لأنه طرح للامارتين ، فالأصل الذي يرجع إليه هو الأصل في المسألة المتفرعة على مورد التعارض).

١١٣

ومن هنا يعلم أن هذا البحث في اختلاف أهل اللغة في معنى اللفظ ، إنما يكون موردا للبحث ، إذا كان اللغات متعلقة للاحكام الشرعية بحيث يختلف الحكم الشرعي باختلاف معنى اللغة ، كما في الصعيد.

وأما ساير اللغات التي ليس للفقيه حاجة في تشخيص معناها كنزاع في كلمة خندريس أو دمسق ، فهو خارج عن محل الكلام وغير راجعة إلى الحكم الشرعي ، والبحث عنها لغو (كما لو فرضنا تعادل) أي تكافؤ (أقوال أهل اللغة في معنى الغناء أو) كتعادل أقوال أهل اللغة في معنى (الصعيد أو) في معنى (الجذع من الشاة في الأضحية) أي ما يذبح في عيد الأضحى ، مثلا قال صاحب المجمع : الغناء ، هو عبارة عن صوت المطرب ، و : الصعيد ، هو مطلق وجه الأرض ، و : الجذع ، هو الشاة التي بلغ ستة أو سبعة أو ثمانية أشهر ، وقال صاحب فقه اللغة الغناء ، هو : الصوت مع الترجيع أو مع انضمام آلات اللهو إليه ، كالمزمار والطبل والتار ، و : الصعيد ، هو : التراب الخالص و : الجذع ما بلغ سنه بعشرة أشهر أو سنة كاملة ، والمفروض تكافئهما بحيث لا يكون أحدهما أمهر من الآخر ، بل هما متساويان في المهارة (فإنه يرجع إلى الأصل في المسألة الفرعية) بعد التساقط ، فنأخذ في جميع المذكورات بما يجري فيها من الأصل العملي ـ براءة كان أو اشتغالا.

(بقي هنا ما يجب التنبيه عليه ، خاتمة للتخيير ، ومقدّمة للترجيح) لأن الكلام في المقام ، قد يقع في أصل وجوب الفحص ، وقد يقع في مقداره.

أما الكلام من الجهة الثانية : فقد مر في مبحث البراءة ، وحاصله : أن حد الفحص عنه كان بحيث يحصل الاطمئنان بعدم وجوده فيما بأيدينا ولا يعتبر تحصيل العلم بعدمه.

وأشار إلى الجهة الأولى ، بقوله : (وهو) أي ما يجب التنبيه عليه (أن الرجوع إلى التخيير ، غير جائز ، إلا بعد الفحص التام عن المرجحات) كما أنه لا يجوز التمسك بالعموم قبل الفحص عن المخصص (لأن مأخذ التخيير) أما

١١٤

العقل ، وأما الشرع (إن كان هو) أي مأخذ التخيير (العقل) قوله (الحاكم) صفة للعقل (بأن عدم امكان الجمع في العمل) لأجل تكافؤ الدليلين (لا يوجب) طرح كليهما ، بل لا يوجب (إلّا طرح البعض) لأن الميسور لا يسقط بالمعسور ، وما لا يدرك كله لا يترك كله ، ولكن بعد ما علم اجمالا أنه يجب العمل بأحدهما (فهو) أي العقل (لا يستقل بالتخيير في المأخوذ والمطروح) بأن يأخذ ما شاء ، ويطرح كذلك (الا بعد) احراز تكافئهما و (عدم مزية في احدهما) التي (اعتبرها الشارع في العمل و) من المعلوم : أن (الحكم بعدمها) أي المزية (لا يمكن إلّا بعد) الفحص و (القطع بالعدم) أي بعدم المزية (أو الظن المعتبر) بعدم المرجح كقيام البينة ـ مثلا ـ بتساوي الراويين في العدالة ، والصدق ونحوهما ، فإن العقل لا يستقل بالتخيير قبل الفحص عن المرجحات من أصدقية الراوي ، أو أشهرية الرواية ، ونحوهما ، كما أنه لا يستقل بقبح كذب الضار إلّا إذا كان موضوعه باقيا ، فإن تبدل بنفع كانجاء مؤمن مثلا فالعقل لا يحكم بقبحه (او اجراء اصالة العدم) بمعنى أنه لا يمكن الحكم بعدم المزية الا بعد اجراء اصالة العدم (التي لا تعتبر فيما) أي في موضوع (له) أي الموضوع (دخل في الأحكام الشرعية الكلية ، إلا بعد الفحص التام) بمعنى : أن أصل العدم أيضا بلا فحص عن الثبوت لا تجري (مع أن أصالة العدم لا يجدي في استقلال العقل بالتخيير ، كما لا يخفى) لأن أصالة العدم لا ترفع الشك ، حتى يحكم العقل بالتخيير (وان كان مأخذه) أي مأخذ التخيير (الاخبار ، فالمتراءى منها) أي الاخبار (من حيث سكوت بعضها عن جميع المرجحات) كقوله عليه‌السلام : بأيهما أخذتم من باب التسليم وسعكم (١) (وان كان جواز الأخذ بالتخيير ابتداء ، إلا أنه يكفي في تقييدها) أي الاخبار (دلالة بعضها الآخر على وجوب الترجيح ببعض المرجّحات المذكورة فيها المتوقف على الفحص عنها) أي المرجحات بمعنى

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٨ ص ـ ٨٠. (الرواية : ١٩).

١١٥

أن ظاهر بعض الأخبار ، من جهة عدم ذكر الترجيح فيها كرواية الحسن بن الجهم عن علي بن موسى الرضا عليهما‌السلام ، قال : قلت له : يجيئنا الرجلان ـ وكلاهما ثقة ـ بحديثين مختلفين ، ولا نعلم أيهما الحق ، قال : فإذا لم تعلم ، فموسع عليك بأيهما أخذت ، ونظائرها وان كان يدل على جواز الأخذ بالتخيير ابتداء من دون فحص عن المرجح لكن الأخبار الدالة على وجوب الترجيح المذكورة فيها المرجحات يقيّد ظاهر اخبار التخيير ، وبعد التقييد ووجوب الترجيح ، يجب الفحص عن وجود المرجحات في الامارتين المتعارضتين قوله : (المتممة) مبنية للمفعول صفة للدلالة ، (فيما لم يذكر فيها) أي في الأخبار العلاجية (من المرجحات المعتبرة بعدم القول بالفصل بينها) أي بين ما ذكر فيها بعض المرجحات ، وبين ما لم يذكر اصلا ، ففي كليهما وجب الفحص.

وحاصله : ان اخبار التخيير على أقسام ثلاثة.

جملة منها مطلقة لم يذكر فيها شيء من المرجحات بل أمرنا بالتخيير من أول الأمر كما أشرنا إليه آنفا.

وبعض منها مقيدة بالأخذ بما خالف العامة كما في رواية الخامس والسادس والسابع الآتية.

وبعض منها ذكر فيها كثير من المرجحات كما في رواية رواها المشايخ الثلاثة قدهم ، باسنادهم عن عمر بن حنظلة الآتية فلا بد من حمل تلك المطلقات عليه ، إذ : المطلقات ، وان بلغت في الكثرة إلى ما بلغت ، يكفي في تقييدها ورود مقيد واحد معتبر.

فإن الاخبار المطلقة للتخيير ، تقيد ، بصورة فقد جميع المرجحات المعتبرة.

(هذا : مضافا إلى لزوم الهرج والمرج ، نظير : ما) أي الهرج والمرج الذي (يلزم من العمل بالأصول العملية واللفظية قبل الفحص).

١١٦

فكما أنه لا يجوز العمل بأصل البراءة ، والاستصحاب ، والاشتغال ، قبل الفحص عن الدليل ، ولا يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص.

كذلك لا يجوز العمل بالتخيير قبل الفحص عن المرجح.

فالجاهل في الموارد الثلاثة الفحص غير معذور ، فإن من حكم عليه بالتخيير قيد موضوعه بعدم وجود المرجح ، ولا بد من احراز الموضوع ولا يكون إلا بالفحص وعدم الظفر.

(هذا مضافا إلى الاجماع القطعي بل الضرورة) (١) على وجوب الفحص (من كل من يرى وجوب العمل بالراجح من الامارتين) ولا يلتزم باستحبابه ، كما اختاره السيّد الصدر وصاحب الكفاية قدهما (فان الخلاف وان وقع عن جماعة في وجوب العمل بالراجح من الامارتين وعدم وجوبه) أي عدم وجوب العمل بالراجح (لعدم اعتبار الظن في أحد الطرفين) من المتعارضين (إلّا أن من أوجب العمل بالراجح) كما هو المختار (أوجب الفحص عنه) أي الراجح (ولم يجعله) أي وجوب الترجيح (واجبا مشروطا بالاطلاع عليه) أي على المرجح كان يكون وجوب الترجيح إذا اتفق الظفر به أي بالمرجح ، وليس كذلك ، بل المراد من وجوب الترجيح الوجوب المطلق.

بمعنى أنه يجب الفحص عن المرجح ، ثم الترجيح أن وجد ، وإلّا فالتخيير ، فقبل الفحص لا يجوز العمل بأحد المتعارضين (وحينئذ) أي حين عدم كونه من قبيل الواجب المشروط (فيجب على المجتهد ، الفحص التام عن وجود المرجح لاحدى الامارتين) فإن لم يجد مرجحا فيتخير بأخذ ما شاء منهما.

__________________

(١) فرق بين الضرورة والاجماع ، فإن الضرورة امر مشترك بين العوام والخواص ، كحرمة شرب الخمر ووجوب الصلاة والصوم ونحو ذلك ، والاجماع هو الذي لا يعرفه إلّا الخواص كحلية بيضة الدجاجة الميتة مثلا بعد تغسيله راجع الوسائل : الجزء ١٦ ص ـ ٣٦٦ (الرواية : ٨ و ١٢).

١١٧

(المقام الثاني في التراجيح) وهو : جمع الترجيح و (الترجيح) في اللغة جعل الشيء راجحا ، وفي الاصطلاح (تقديم احدى الامارتين على) الامارة (الأخرى في العمل ، لمزية لها) أي لاحدى الامارتين (عليها) أي على الأخرى (بوجه من الوجوه) الآتية ، من صفات الراوي ، أو من صفات الرواية (وفيه) أي الترجيح (مقامات) من البحث.

المقام (الأول : في وجوب ترجيح احد الخبرين بالمزية الداخلية ، أو) المزية (الخارجية الموجودة فيه) أي في أحد الخبرين.

المقام (الثاني : في ذكر المزايا المنصوصة و) ذكر (الأخبار الواردة) في أحكام المتعارضين.

المقام (الثالث : في وجوب الاقتصار عليها) أي على المزايا المنصوصة (أو) يجوز (التعدي إلى غيرها).

المقام (الرابع : في بيان المرجحات من الداخلية والخارجية).

(أما المقام الأول) في ترجيح أحد الخبرين بالمزيّة الداخليّة أو الخارجية (فالمشهور فيه) أي في المقام الأول (وجوب الترجيح) لأن مبدأ الاشتقاق في الترجيح الذي هو وصف الامارة ، هو الرجحان بمعنى الاشتمال على المزية والمصلحة ، فإذا حصل الترجيح لاحدى الامارتين يجب تقديمها ، لئلّا يلزم ترجيح المرجوح.

(وحكى عن جماعة منهم) القاضي أبو بكر (الباقلاني) من العامة (والجبائيان) من المعتزلة ، وقاضي عبد الجبار المعتزلي منهم (عدم الاعتبار بالمزية) أي لا يقولون بوجوب الترجيح ولا باستحبابه (وجريان حكم التعادل) بمعنى عدم وجوب الترجيح بل التخيير.

ومن القائلين بعدم اعتبارها السيد الصدر قده في شرح الوافية ، إلا أنه قائل باستحباب الترجيح بها كما سيأتي في كلام المصنف قده ، نقله منه أيضا.

فالأقوال في المسألة ثلاثة.

١١٨

وجوب الترجيح ، واستحبابه ، وعدم شيء منهما (ويدل على المشهور) وهو وجوب الترجيح ، إذا حصل المرجح لاحدى الامارتين (ـ مضافا إلى الاجماع المحقق) أي المحصّل بعد عدم الاعتناء بمخالفة من ذهب إلى القول باستحباب الترجيح (والسيرة القطعية) من الآن إلى زمان المعصوم (ع) في مقام العمل ، والاستنباط بحيث يكشف عن رأيهم (والمحكية عن الخلف والسلف) في الوقائع المختلفة على وجوب تقديم الراجح من الظنيين على المرجوح منهما (وتواتر الاخبار بذلك ـ) أي بوجوب الترجيح ، فيحصل من تراكم جميع ذلك ، القطع بوجوب الترجيح.

مضافا على ذلك كله (أن حكم المتعارضين من الأدلة على ما عرفت) سابقا (ـ بعد عدم جواز طرحهما معا ـ) لو لم يجب الترجيح والعمل بالراجح ، لوجب احد الأمرين.

(أما التخيير لو كانت الحجية) في الأخبار (من باب الموضوعية والسببية) فتكون علة لأحداث حكم مماثل لمؤديها ، فيكون الحال فيها كالحال في تزاحم الغريقين بالنسبة إلى الانقاذ ، فكما لا تعارض بينهما بالنسبة إلى وجوب الانقاذ بل مقتضى عموم الأدلة : وجوب انقاذهما معا ، فكذا في الخبرين المتعارضين مثلا ، فإن مرجع القول بالتعبد في العمل بالخبر الواحد ، إلى أن المطلوب هو الأخذ بخبر العادل ـ مع الإغماض عن كون ما أخبر به مطابقا للواقع ، أو مخالفا له ـ.

فمن حيث أنه يوجب مصلحة جديدة ، أما مساوية مع الواقع ، أو راجحة عليه ، فيؤخذ به فمع التزاحم يكون مقتضى عموم الدليل ، الدال على وجوب الأخذ به ، العمل بهما معا ، ولا تعارض بينهما في الحقيقة ، بل التزاحم من أجل عدم تمكن المكلف من الأخذ بهما ، لمكان اختلاف مدلوليهما.

(وأما) الأصل الأولى (التوقف لو كانت حجيتها) أي الأخبار (من باب الطريقية) والكشف والظن النوعي ، كما هو ظاهر أدلة حجية الأخبار بل غيرها

١١٩

من الامارات فلا ريب في أن تعارضهما موجب لسلب الطريقية عنهما ، ومقتضاه التساقط والتوقف في مقام العمل.

لكن ببركة أخبار الترجيح لو كان في أحدهما مرجح يجب الأخذ به ، وعند عدم المرجّح ، الحكم هو التخيير تعبدا ، إذ بعد فقد المرجح وتكافؤ المتعارضين يجب التوقف مع قطع النظر عن أخبار التخيير (ومرجع التوقف أيضا إلى التخيير) على خلاف قانون التساقط ، لأنه قام الاجماع والاخبار على وجوب الترجيح ، أو التخيير ، ومعناه الأخذ بأحدهما لا التساقط.

والمراد من رجوع التوقف إلى التخيير ، إنما هو رجوعه إليه بحسب المورد يعني أنه إذا كان المورد مما كان الأصل الأولى فيه التوقف (إذا لم نجعل الأصل) المطابق (من المرجحات ، أو فرضنا الكلام في مخالفي الأصل) كالاحتياط بالنسبة إلى وجوب الظهر والجمعة ، أو موافقة أحدهما كأصل الاباحة الموافقة لخبر الاباحة (إذ على تقدير الترجيح بالأصل) الموافق لهما يكون قاطعا للأصل الأولى الذي هو التوقف ، ومعينا للأخذ بموافقة أحد الخبرين المتعارضين و (يخرج) الكلام في (صورة مطابقة أحدهما للأصل عن) محل النزاع ، وهو : (مورد التعادل) الذي يعبّر عنه بصورة التكافؤ ، لأن الكلام في المتعارضين المتعادلين بحيث لا يوجد مرجح في أحد الطرفين ، وهو الأصل الموافق لأحدهما ، فلا يصدق التعادل عليهما بل يدخل في المقام الثاني أعني كون أحدهما صاحب المزية ، بناء على أن يكون الأصل مرجحا لا مرجعا.

(فالحكم بالتخيير) بأخذ أحدهما وطرح الآخر (على تقدير فقده) أي الأصل الموافق (أو) الحكم بالتخيير على تقدير (كونه) أي الأصل الموافق (مرجعا) لا مرجحا بمعنى أنه يتساقط الدليلان معا ، ويرجع إلى الأصل الموافق لهما.

لكن الرجوع إلى التخيير في الصورة المزبورة لمّا كان مخالفا للقاعدة

١٢٠