الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد - ج ٢

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

فصبَّ فيه ماءً فقالَ له : اشربْ ، فأخذَ كلما شَربَ امتلأ القدحُ دماً مِنْ فيه فلا يقدر أن يشربَ ، ففعلَ ذلكَ مرّةً ومرّتينِ ، فلمّا ذهبَ في الثّالثةِ ليشربَ سقطتْ ثَنِيَّتاه في القدحِ ، فقالَ : الحمدُ للّهِ ، لوكانَ لي مِنَ الرِّزقِ المقسوم شربتهُ.

وخرجَ رسول ابَنِ زيادٍ فأمرَ بإِدخالهِ إِليه ، فلمّا دخلَ لم يسلّمْ عليه بالأمرةِ ، فقالَ له الحَرسِيُّ : ألا تُسلَمُ على الأميرِ؟ فقالَ : إِن كانَ يُريدُ قتلي فما سلامي عليه؟ وِان كانَ لا يُريدُ قتلي لَيَكثُرَنَ سلامي عليه. فقال له ابنُ زيادٍ : لَعَمْري لَتُقْتَلَنَّ ؛ قالَ : كذلكَ؟ قالَ : نعم ؛ قالَ : فدَعنْي أُوصِ (١) إِلى بعضِ قومي ؛ قالَ : افعلْ ، فنظرَ مسلمٌ إِلى جُلَسائه وفيهم عُمَرُ بن سعدِ بنِ أبي وقّاصٍ فقالَ : يا عمر ، إِنّ بيني وبينَكَ قرابةً ، ولي إِليكَ حاجة ، وقد يَجِبُ لي عليكَ نُجْحُ حاجتي وهي سِرّ ؛ فامتنعَ عُمَرُ أن يَسمعَ منه ، فقالَ له عُبيدُاللّهِ :ِ لمَ تَمتنعُ أن تنظرَ في حاجةِ ابنِ عمِّكَ؟ فقامَ معَه فجلسَ حيثُ يَنظرُ إِليهما ابنُ زيادٍ ، فقالَ له : إِنَ عليَّ ديناً بالكوفةِ استدنتُه منذُ قَدمتُ الكوفةَ سبعمائةِ دِرهمٍ » فاقْضِها عنِّي ، واذا قُتِلْتُ فاستوهِبْ جُثّتي من ابنِ زيادٍ فوارِها ، وابعثْ إِلى الحسينِ من يَرُدُّه ، فإِنِّي قد كتبتُ إِليه أُعْلِمُه أنّ النّاسَ معَه ، ولا أراه إلاّ مُقبلاًَ؟ فقالَ عُمَرُ لابنِ زيادٍ : أتَدري أيُّها الأميرُ ما قالَ لي؟ إِنّه ذَكرَ كذا وكذا ، فقالَ له ابنُ زيادٍ : إِنّه لا يَخونُكَ الأمين ولكنْ قد يؤتَمَنُ (٢) الخائنٌ! أمّا مالُكَ فهو لكَ ولسنا نَمْنَعُكَ أن تَصنعَ به ما أحببتَ ، وأمّا جُثّتًه فإِنّا لا نُبالي إِذا قتلْناه ما صُنِعَ بها ، وأمّا حسينٌ فإِنْ هو لم يُرِدْنا لم

__________________

(١) في «ش» وهامش «م» : أوصي.

(٢) في «م» وهامش «ش» : يُتَّمَن.

٦١

نرده.

ثمّ قالَ ابنُ زيادٍ.إِيهٍ يا ابنَ عقيلٍ ، أَتيتَ النّاسَ وهم جميعٌ فشتَّتَّ بينَهم ، وفرّقتَ كلمتَهم ، وحملتَ بعضَهم على بعضٍ.

قالَ : كلاّ ، لستُ لذلكَ أتيتُ ، ولكنّ أهلَ المصرِ زعموا أنّ أباكَ قتلَ خيارَهم وسفكَ دماءهم ، وعملَ فيهم أعمالَ كِسرىَ وقَيْصَر ، فأتيْناه لنأْمرَ بالعدلِ ، وندعوَ إِلى حكمِ الكتابِ.

فقالَ له ابن زيادٍ : وما أنتَ وذاكَ يا فاسقَ؟ َلم لَمْ تَعملْ فيهم بذاك إِذ أَنتَ بالمدينةِ تشربُ الخمرَ؟

قالَ : أنا أَشربُ الخمرَ؟! أَمَ واللّهِ إِنّ اللهَّ لَيَعلم أَنّكَ تَعلمُ أَنّكَ غيرُ صادقٍ ، وأنَّكَ قد قلتَ بغيرعلمٍ ، وانِّي لستُ كما ذكرتَ ، وانّكَ أحقُّ بشرب الخمرِ منِّي ، وأَوَلى بها من يَلِغُ في دماءِ المسلمينَ وَلْغاً ، فيقتلُ النّفس الّتي حرّمَ اللّه قتلَها ، ويسفكُ الدّم الحرامَ على الغصب والعداوةِ وسوء الظّنِّ ، وهو يلهو ويلعبُ كأَنْ لم يصنعْ شيئاً.

فقالَ له ابنُ زيادٍ : يا فاسقُ ، إِنّ نفسَكَ تُمنِّيكَ ما حالَ اللّه دونَه ، ولم يرك الله له أهلاً.

فقالَ مسلمٌ : فمَنْ أَهلُه إِذا لم نكنْ نحن أَهلَه؟!

فقالَ ابنُ زيادٍ : أَميرُ المؤمنينَ يزيدُ.

فقالَ مسلمٌ : الحمدُ للّهِ على كلِّ حالٍ ، رضيْنا باللّهِ حَكَماً. بينَنا وبينَكم.

فقالَ له ابنُ زيادٍ : قتلَني اللّه إن لم أَقتلْكَ قِتلةً لم يُقتَلْها أحدٌ في.

٦٢

الإسلام منَ النّاسِ.

قالَ له مسلمٌ : أَما إِنّك أَحقًّ مَنْ أَحدثَ في الإسلام ما لم يكنْ ، وِانّك لاتَدَعُ سوءَ القِتلةِ وقُبحَ المُثلةِ وخبثَ السِّيَرةِ ولُؤْمَ الغلبةِ.

فأَقبل ابن زيادٍ يشتمُه ويشتمُ الحسين وعليّاً وعقيلاً عليهم الصّلاةُ والسّلامُ ، وأَخذَ مسلمٌ لا يُكَلِّمُه.

ثمّ قالَ ابنُ زيادٍ : اصعدوا به فوقَ القصرِ فاضربوا عُنقَه ، ثم أتبعوه جسدَه. فقالَ مسلمُ بنُ عقيلٍ رحمة اللهِ عليهِ : لو كانَ بيني وبينَكَ قرابةٌ ما قَتَلْتَني ؛ فقالَ ابنُ زيادٍ : أَينَ هذا الّذي ضَربَ ابنُ عقيلٍ رَأْسَه بالسّيفِ؟ فدًعِيَ بكرُ بنُ حُمرانَ الأحمريّ فقالَ له : اصعدْ فلتكنْ (١) أنتَ الّذي تضربُ عُنقَه. فصُعِدَ به وهو يُكبِّرُ ويَستغفرُ اللهَ ويُصلِّي على رسولِه ويقولُ : اللّهمّ احكمْ بينَنا وبينَ قومٍ (٢) غَرُّونا وكَذَبونا وخَذَلونا. وأَشرفوا به على موضع الحَذّائيينَ اليومَ ، فضُرِبتْ عُنقُه وأتبعَ (جسدُه رَأُسَه ) (٣).

وقامَ محمّدُ بنُ الأشعثِ إِلى عُبيدِاللهِّ بنِ زيادٍ فكلّمهَ في هانئ بنِ عُروةَ فقالَ : إِنّكَ قد عرفتَ منزلةَ هانئ في المصرِ وبيته في العشيرةِ ، وقد علمَ قومُه أنِّي أنا وصاحِبَيَّ سُقناه إِليكَ ، فأَنْشُدُكَ اللّهَ لمّا وهبتَه لي ، فإِنَي أكرهُ عداوةَ المصرِ وأَهلِه. فوعدَه أَن يفعلَ ، ثمّ بدا له فأَمرَ بهانئ في

__________________

(١) كذا في النسخ ، وهو استعمال نادر ، والاولى «فكن ». كما في الطبري ٥ : ٣٧٨ ، ومروج الذهب ٣ : ٦٩.

(٢) في هامش «ش» و «م» : قومنا.

(٣) في هامش «ش» و «م» : رأسه جسده.

٦٣

الحالِ فقالَ : أَخرِجوه إِلى السُّوقِ فاضربوا عنقَه. فأخرِجَ هانئ حتّى انتهِيَ به إِلى مكانٍ منَ السُّوقِ كانَ يُباعً فيه الغنمُ ، وهو مكتوفٌ ، فجعلَ يقولُ : وامَذْحِجَاه! ولا مَذْحِجَ لي اليومَ ، يا مَذْحِجَاه! يا مَذْحِجَاه! وأَينَ مَذْحِجُ؟! فلمّا رأَى أنّ أحداً لا ينصرُه جَذبَ يدَه فنزعَها مِنَ الكِتافِ ، ثمّ قالَ : أَما من عصاً أَوسِكِّين أوحجرٍ أَو عظمٍ يُحاجِزُ به رجلٌ عن نفسِه؟ وَوثبوا إِليه فشدُّوه وَثاقاً ، ثمّ قيلَ له امدُدْ عُنقَكَ ، فقالَ : ما أَنا بها سخيٌّ ، وما أَنا بمُعِينكم على نفسي ، فضربَه مولىً لعُبيدِاللّهِ ـ تركيٌ يقُالُ له رُشَيد ـ بالسّيفِ فلم يَصنعْ شيئاً ، فقالَ هانئ : إِلى اللهِ المعَادُ ، اللّهمّ إِلى رحمتِكَ ورضوانِكَ ؛ ثمّ ضربَه أُخرى فقتلَه.

وفي مسلمِ بنِ عقيلٍ وهانئ بن عروة ـ رحمة الله عليهما ـ يقولُ عبدُاللهّ بن الزّبيرِ الأَسديّ :

إِنْ كُنْتِ لا تَدْرِيْنَ مَا اْلمَوْتُ فَانْظُري

إِلى هانئ فِيْ السُّوْقِ وَابْنِ عَقِيْلْ

إِلى بَطَلٍ قَدْ هَشَّمَ السَّيْفُ وَجْهَه

وآخَرَ يَهْوِيْ مِنْ طَمَارِ (١) قَتِيْلُ

أصابَهما أَمْرُ الأَمِيرِ فأَصْبَحَا

أحَادِيْثَ مَنْ يَسْرِيْ بكُلِّ سَبِيْلِ

تَرَيْ جَسَدَاً قَدْ غَيَّرَاْلموتُ وَجْههُ (٢)

ونَضْحَ دَم قَد ْسَالً كُلَّ مَسِيْلِ

فَتَىً هُوَ أَحْيَا مِنْ فَتَاةٍ حَيِيّة

وأقْطَع مِنْ ذًيْ شَفْرَتَيْنِ صَقِيْلٍِ

أيَرْكَبُ أسْمَاءُ (٣) الْهَمَالِيْجَ (٤) امِنَا

وَقَدْ طَلَبَتْهُ مَذحِجٌ بِذُحُوْلًِ

__________________

(١) في هامش «ش» و «م» : يقال هوى فلان من طَمَارِ اذ سقط من مكان عال. قال الاصمعي : انصب عليه من طمار اي من مكان عال مثل قَطام.

(٢) في «م» وهامش «ش» : لونه.

(٣) هو أسماء بن خارجة أحد الثلاثة الذين ذهبوا بهانئ إلى ابن زياد.

(٤) الهملاج : من البراذين الحسنة السير في سرعة وبخترة. «تهذيب اللغة ـ هملج ـ ٦ : ٥١٤ ، لسان العرب ٢ : ٣٩٣».

٦٤

تُطِيْفُ حَوَالَيْهِ مُرَادٌ وكلهُمْ

عَلَى رِقْبَةٍ (١) مِنْ سَائِلٍ وَمَسُوْلِ

فَإِنْ أَنْتُمُ لَمْ تَثْأَرُوْا بِأَخِيْكُمُ

فَكُوْنُوْا بَغَايَا أُرْضِيَتْ بِقَلِيْل

ولمّا قُتِلَ مسلمٌ وهانئ ـ رحمةُ اللّهِ عليهما ـ بعثَ عُبيدُاللّهِ بن زيادٍ برؤوسِهما معَ هَانئ بنِ أبي حيَّةَ الوادعيّ والزُّبير ِبنِ الأرْوَحِ التّميميّ إِلى يزيد ابن معاويةَ ، وأمرَ كاتبَه أن يكتبَ إلى يزيدَ بما كانَ من أمرِ مسلمٍ وهانئ ، فكتبَ الكاتبُ ـ وهو عمرو بنُ نافعٍ ـ فأطالَ ، وكانَ أوّلَ من أطالَ في الكَتْب ، فلمّا نظرَ فيه عُبيدُاللهِ تكرّهَه (٢) وقالَ : ما هذا التّطويلُ؟ وما هذه الفُصَول (٣)؟ اكتبْ :

أَمّا بعدُ : فالحمدُ للّهِ الّذي أَخذَ لأميرِ المؤمنينَ بحقِّه ، وكفاه مُؤْنةَ عدوه ؛ أخبرُ أميرَ المؤمنينَ أنّ مسلمَ بنَ عقيلٍ لجأ إِلى دارِ هانئ بنِ عروةَ المراديِّ ، وأَنّي جعلتْ عليهما العيونَ ودسستُ إِليهما الرِّجالَ وكِدتُهما حتّى استخرجتُهما ، وأمكنَ اللّهُ منهما ، فقدّمتُهما وضربتُ أعناقَهما ، وقد بعثتُ إِليكَ برؤوسِهما معَ هانئ بنِ أَبي حَيَّةَ والزُّبيربنِ الأَرْوَحِ التّميمِّي ، وهما من أهلِ السّمعِ والطّاعةِ والنّصيحةِ ، فليسأَلْهما أَميرُ المؤمنينَ عمّا أحب من أمرِهما ، فإِنّ عندَهما علماً وصدقاً وورعاً ، والسّلامُ.

فكتبَ إِليه يزيدُ :

أمّا بعدُ : فإِنّكَ لم تَعْدُ أن كنتَ كما أُحبُّ ، عملتَ عملَ الحازمِ ، وصُلْتَ صَوْلةَ الشُّجاعِ الرّابطِ الجَأْشِ ، وقد أغنيتَ وكفيت

__________________

(١) في هامش «ش» : اي هم يراقبون احوال من يسألهم ويسألونه عن هذه الواقعة.

(٢) في «م» وهامش «ش» : كرهه.

(٣) في الطبري : الفضول ، ولكل وجه.

٦٥

وصدّقْت ظنِّي بك ورأْيي فيك ، وقد دعوتُ رسولَيْكَ فسألتهما وناجيتهما ، فوجدتُهما في رأْيهما وفضلِهما كما ذكرتَ ، فاستوصِ بهما خيراً ، وِانّه قد بلغني أنّ حسيناً قد توجّهَ إِلى (١) العراقِ فضَعِ المنَاظِرَ والمسَالحَ واحترِسْ ، واحبسْ على الظِّنّةِ واقتُلْ على التُّهمةِ ، واكتُبْ إِليَّ فيما يَحدثُ من خبرٍ إن شاءَ اللّهُ (٢).

فصل

وكانَ خروجُ مسلمِ بنِ عقيلٍ ـ رحمةُ اللّهِ عليهما ـ بالكوفةِ يومَ الثُّلاثاءِ لثمانٍ مضينَ من ذي الحجّةِ سنةَ سِتِّينَ ، وقَتْلُه يَومَ الأربعاءِ لتسعٍ خلونَ منه يومَ عرفة؛ وكانَ توجُّهُ الحسينِ عليه‌السلام من مكّةَ إِلى العراقِ في يومِ خروجِ مسلمٍ بالكوفةِ ـ وهو يومُ التّرويةِ ـ بعدَ مُقامِه بمكّةَ بقيّةَ شعبانَ (٣) وشهرَ رمضانَ وشوّالاً وذا القعدةِ وثمانيَ ليالٍ خلونَ من ذي الحجّةِ سنةَ سِتِّينَ ، وكانَ قدِ اجتمعَ إِليهِ مدّةَ مُقامِه بمكّةَ نفرٌ من أهلِ الحجازِ ونفرٌ من أَهلِ البصرة ، انضافوا إِلى أهلِ بيتهِ ومَواليه.

__________________

(١) في «م» وهامش «ش» : نحو.

(٢) كل ما مر في هذا الفصل فهو في تاريخ الطبري ٥ : ٣٤٧ ـ ٣٨١ ، ومقاطعه في فتوح ابن اعثم ٥ : ٣١ الاخبار الطوال : ٢٢٧ ، وقعة الطف : ٧٧ ، مقاتل الطالبيين : ٩٥ ، مقتل الخوارزمي ١ : ١٨٠ ، مناقب ابن شهرآشوب ٤ : ٨٧ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٤ : ٣٢٤ / ٢

(٣) مبدؤه ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان ، وهويوم دخوله مكة.

٦٦

ولمّا أرادَ الحسينُ عليه‌السلام التّوجُّهَ إلى العراقِ ، طافَ بالبيتِ وسعى بينَ الصّفا والمروةِ ، وأحلَّ من إِحرامِه وجعلَها عُمرةً ، لأنّه لم يتمكّنْ من تمامِ الحجِّ مخافةَ أن يُقبَضَ عليه بمكّةَ فيُنفَذَ إِلى يزيد بن معاويةَ ، فخرجَ عليه‌السلام مُبادِراً بأهلِه وولدِه ومنِ انضمَّ إِليه من شيعتِه ، ولم يكنْ خبرُ مسلمٍ قد بلغَه لخروجِه يومَ خروجِه على ما ذكرْناه.

فروِيَ عن الفَرَزْدَقِ الشّاعرِ أنّه قالَ : حَجَجْتُ بأُمِّي في سنةِ سِتِّينَ ، فبينا أنا أسوقُ بعيرَها حينَ دخلتُ الحرمَ إِذ لقيتُ الحسينَ بنَ عليٍّ عليهما‌السلام خارجاً من مكّةَ معَه أسيافُه وتِراسُه (١) فقلتُ : لمن هذا القِطارُ؟ فقيلَ : للحسينِ بنِ عليٍّ ، فأتيتُه فسلّمتُ عليه وقلتُ له : أعطاكَ اللّهُ سُؤْلَكَ وأمَلَكَ فيما تُحبُّ ، بأبي أنتَ وأُمِّي يا ابنَ رسولِ اللّهِ ، ما أعجلَكَ عنِ الحجِّ؟ فقالَ : « لو لم أعْجَلْ لأخِذْتُ» ثمّ قالَ لي : «مَنْ أنتَ؟» قلتُ : امرؤٌ منَ العربِ ، فلا واللّهِ ما فتّشَني عن أكثرَ من ذلكَ ، ثمّ قالَ لي : «أخبِرْني عنِ النّاسِ خلفَكَ» فقلتُ : الخبيرَسألْتَ ، قلوبُ النّاسِ معَكَ وأسيافُهم عليكَ ، والقضاءُ ينزلُ منَ السّماءِ ، واللهُّ يفعلُ ما يشاءُ ، فقالَ : «صدقتَ ، للّهِ الأمرُ ، وكلَّ يومٍ ربنُّا هو في شَأْنٍ ، ( إِنْ نزلَ القضاءُ ) (٢) بما نُحِبُ فنحمدُ اللّهَ على نعمائه ، وهو المُستعان على أداءِ الشُّكرِ ، وان حالَ القضاءُ دونَ الرّجاءِ ، فلم يُبْعِدْ مَنْ كانَ الحقُّ نيّتَه والتّقوى سريرتَه» فقلتُ له : أجل ، بلّغَكَ اللّهُ ما تُحبُّ وكفاكَ ما تحذرُ ، وسألتُه

__________________

(١) تِراس : جمع ترس ، وهو ما يستتربه المقاتل من عدوه في الحرب ، انظر «الصحاح ـ ترس ـ ٩١٠ :٣».

(٢) في هامش «ش» : ان ينزل القضاء.

٦٧

عن أشياء من نذورٍ ومناسكَ فأخبرَني بها ، وحرّكَ راحلتَه وقالَ : «السّلامُ عليكَ» ثمّ افترقْنا (١).

وكانَ الحسينُ بنُ عليٍّ عليهما‌السلام لمّا خرجَ من مكّةَ اعترضَه يحيى بن سعيدِ بن العاص ، ومعَه جماعةٌ أرسلهم عمرُو بنُ سعيدٍ(٢) إِليه ، فقالوا له : انصرف ، إِلى أَينَ تذهبُ ، فأبى عليهم ومضى وتدافعَ الفريقانِ واضطربوا بالسِّياطِ ، وامتنعَ الحسينُ وأصحابُه منهم امتناعاً قوياً. وسارَ حتّى أتى التّنعيمَ (٣) فلقيَ عِيراً قد أقبلتْ منَ اليمن ، فاستأْجرَ من أهلِها جمالاً لرحلِه وأصحابِه ، وقالَ لأصحابِها : «من احبَّ أن ينطلقَ معَنا إِلى العَراقِ وفيناه كراءه وأحسنّا صحبتَه ، ومن أحبَّ أن يفارقَنا في بعضِ الطرّيقِ أعطيناه كراءً على قدرِ ما قطعَ منَ الطّريقِ» فمضى معَه قومٌ وامتنعَ اخرون.

وألَحقَه عبدُاللهّ بن جعفرٍ رضيَ اللهّ عنه بابنيه عونٍ ومحمّدٍ ، وكتبَ على أيديهما إِليه كتاباً يقولُ فيه :

أمّا بعدُ : فإِنِّي أسألكَ بالله لمّا انصرفتَ حينَ تنظرُ في كتابي ، فإِنِّي مشفقُ عليكَ منَ الوجهِ الّذي توجّهتَ له أن يكونَ فيه هلاكُكَ واستئصال أهلِ بيتِكَ ، إِن هلكتَ اليومَ طفئَ نورُ الأرضِ ، فإِنّكَ

__________________

(١) ذكره ابن اعثم في الفتوح ٥ : ٧٧ ، والخوارزمي في مقتله ١ : ٢٢٣ ، والطبري في تاريخه ٥ : ٣٨٦ ، باختلاف يسير ، ومختصراً في مناقب ابن شهراشوب ٤ :٩٥ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٤ :٣٦٥.

(٢) في هامش «ش» : كان امير مكة من قبل يزيد.

(٣) التنعيم : موضع بمكة في الحل ، وهوبين مكة وسرف ، على فرسخين من مكة وقيل على أربعة «معجم البلدان ٢ : ٤٩».

٦٨

عَلَمُ المهتدينَ ورجاءُ المؤمنينَ ، فلا تعجلْ بالمسير فإِنِّي في أثر كتابي ، والسّلامُ.

وصارَ عبدُاللهّ بن جعفرِ إِلى عمرو بن سعيدٍ فسألَه أن يكتبَ للحسينِ أماناً ويُمنيه ليرجعَ عن وجهه ، فكتبَ إليه عمرو بنُ سعيدٍ كتاباً يُمنِّيه فيه الصِّلةَ ويؤُمِنهُ على نفسِه ، وأنفذَه معَ أخيه يحيى بن سعيدٍ ، فلحقَه يحيى وعبدُاللّه ابن جعفرٍ بعدَ نفوذِ ابنيه ودفعا إِليه الكتابَ وجهدا به في الرُّجوعِ فقالَ : «إِنِّي رأيت رسولَ اللّهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام ، وأمرَني بما انا ماضٍ له » فقالا له : فما تلكَ الرُّؤيا؟ قالَ :»ما حدّثتُ أحداً بها ، ولا أنا مُحدِّثٌ أحداً حتّى ألقى ربِّي جلّ وعزَّ« فلما أيسَ منه عبدُاللهّ بن جعفرٍ أمرَ ابنيه عوناً ومحمّداً بلزومهِ والمسيرِمعَه والجهادِ دونَه ، ورجعَ معَ يحيى بن سعيدٍ إِلى مكّةَ.

وتوجّهَ الحسينُ عليه‌السلام نحوَ العراقِ مُغِذّاً (١) لا يلوي على شيءٍ حتى نزلَ ذاتَ عِرق (٢).

ولمّا بلغَ عبيدَاللهّ بن زيادٍ إِقبالُ الحسينِ عليه‌السلام من مكّةَ إِلى الكوفةِ ، بعثَ الحُصينَ بنَ نُمَيرٍ صاحبَ شُرَطِهِ حتّى نزلَ القادسيّةَ(٣) ، ونظمَ الخيلَ بينَ القادسيّةِ إِلى خفّانَ (٤) ، وما بينَ القادسيّةِ إِلى القُطْقُطانَةِ (٥).

__________________

(١) الاغذاذ في السير: الاسراع فيه. «الصحاح ـ غذذ ـ ٢ : ٥٦٧».

(٢) ذات عرق : مكان في طريق مكة وهو الحد بين نجد وتهامة. «معجم البلدان ٤ : ١٠٧».

(٣) القادسية : موضع بالعراق. «معجم البلدان ٤ : ٢٩١».

(٤) خفّان : موضع فوق القادسية. «معجم البلدان ٢ : ٣٧٩».

(٥) القطقطانة : موضع قرب الكوفة ، كان به سجن النعمان بن المنذر (معجم

٦٩

وقالَ النّاسُ : هذا الحسينُ يُريدُ العراقَ.

ولمّا بلغَ الحسين عليه‌السلام الحاجرَ من بطنِ الرُّمةِ (١) ، بعثَ قيسَ بنَ مُسْهرٍ الصّيداويّ ، ـ ويُقالُ : بل بعثَ أخاه منَ الرّضاعةِ عبدَاللّه بن يَقْطُر(٢) ـ إِلى أهلِ الكوفةِ ، ولم يكن عليه‌السلام عَلِمَ بخبرِمسلمِ ابنِ عقيلٍ رحمةُ اللهِّ عليهما وكتبَ معه إِليهم :

«بسمَ اللّهِ الرّحمنِ الرّحيمِ

منَ الحسينِ بنِ عليٍّ إِلى إِخوانِه منَ المؤمنينَ والمسلمينَ ، سلامٌ عليكم ، فإِنِّي أحمدُ إِليكم اللّهَ الّذي لا إِلهَ إلّا هو.

أمّا بعدُ : فإِنّ كتابَ مسلمِ بنِ عقيلِ جاءَني يُخبرُ فيه بحسنِ رأيِكم واجتماعِ مَلَئكم على نصرِنا والطّلب بحقِّنا ، فسألتُ اللّهَ أن يُحسنَ لنا الصّنيعَ ، وأن يُثيبَكم على ذلكً أعظمَ الأجرِ ، وقد شخصتُ إِليكم من مكّةَ يومَ الثُلائاءِ لثمانٍ مضينَ من ذي الحجّةِ يومَ التّرويةِ ، فإِذا قدمَ عليكم رسولي فانكمِشوا (٣) في أمرِكم وجِدُّوا ، فإِنِّي قادمٌ عليكم في أيّامي هذه ، والسّلامُ عليكم ورحمةُ اللّهِ».

__________________

البلدان ٤ : ٣٧٤».

(١) بطن الرمة : منزل يجمع طريق البصرة والكوفة الى المدينة المنورة «مراصد الاطلاع ٢ : ٦٣٤».

(٢) كذا في النسخ الخطية وكذا ضبطه علماؤنا الاً ان ابن داود ذكر قولاً بالباء ـ بًقطر ـ : ١٢٥ / ٩٢٠ ، وهو قول الطبري في تاريخه ٥ : ٣٩٨ ، وضبطه ابن الاثير بالباء كما في الكامل ٤ : ٤٢ ، وفي القاموس المحيط : ٣٧٦ : بُقْظَر ـ كعصفر ـ رجل.

(٣) في هامش «ش» و «م» : فأكْمِشوا. وكلاهما بمعنى أسرعوا.

٧٠

وكانَ مسلمٌ كتبَ إِليه قبلَ أن يُقتلَ بسبعٍ وعشرينَ ليلةً ، وكتبَ إِليه أهلُ الكوفةِ : انّ لكَ هاهنا مائةَ ألفِ سيف فلا تتأخّرْ. فأقبلَ قيسُ بنُ مُسْهرٍ إلى الكوفةِ بكتابِ الحسينِ عليه‌السلام حتّى إِذا انتهى إِلى القادسيّةِ أخذَه الحُصينُ بن نُمَيرٍ فأنفَذَه (١) إِلى عُبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ ، فقالَ له عُبيدُاللّهِ : اصعدْ فسُبَّ الكذّابَ الحسينَ بنَ عليٍّ ؛ فصعدَ قيسٌ فحمدَ اللهَّ وأثنى عليه ثمّ قالَ : أيُّها النّاسُ ، إِنّ هذا الحسينَ بنَ عليٍّ خيرُ خلقِ اللّهِ ابنُ فاطمةَ بنتِ رسولِ اللّهِ وأنا رسولهُ إليكم فاجيبوه ، ثمّ لعنَ عُبيدَاللهّ بن زيادٍ وأباه ، واستغفرَ لعليّ بنِ أبي طالبِ عليه‌السلام وصلّى عليه. فأمرَ به عُبيدُاللهِ أن يُرمى به من فوقِ القصرِ ، فرَمَوا به فتقطّعَ.

فصل

ورُوِيَ : أنّه وقعَ إِلى الأرضِ مكتوفاً فتكسّرَتْ عظامُه وبقيَ به رمقٌ ، فجاءَ رجلٌ يُقالُ له عبد الملك بن عُميرٍ اللخميّ فذبحَه ، فقيلَ له في ذلكَ وعِيِبَ عليه ، فقالَ : أردتُ أن أُريحَه (٢).

ثمّ أقبلَ الحسينُ عليه‌السلام منَ الحاجرِ يسيرنحوَالكوفةِ فانتهى إِلى ماءٍ من مياهِ العرب ، فإِذا عليه عبدُاللّه بن مُطيعٍ العَدويّ وهو نازلٌ به ، فلمّا راى الحسينَ عليه‌السلام قامَ إِليه فقالَ : بأبي أنتَ وأُمِّي ـ يا ابنَ رسولِ

__________________

(١) في «م» وهامش «ش» : فبعث به.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٩٨ ، كامل ابن الاثير ٤ : ٤٣ ، مقتل الحسين للخوارزمي ١ : ٢٢٨ ، مناقب ابن شهرآشوب ٤ :٩٥ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٤ : ٣٧٠.

٧١

اللّهِ ـ ما أقدَمَكَ؟ واحتملَه وأنزلَه ، فقالَ له الحسينُ عليه‌السلام : «كانَ من موتِ معاويةَ ما قد بلغَكَ ، فكتبَ إِليَّ أهلُ العراقِ يدعونَني إِلى أنفسِهم» فقالَ له عبدُاللّهِ بنِ مُطيعٍ : أُذكرُكَ اللهَّ يا بنَ رسولِ اللهِّ وحرمةَ الأسلامِ أن تُنتَهَكَ ، أنْشُدُكَ اللهَّ في حرمةِ قُريشٍ ، أنشُدُكَ اللّهَ في حرمةِ العرب ، فواللّهِ لئن طلبتَ ما في أيدي بني أُمّيةَ لَيَقْتُلُنَّكَ ، ولئن قتلوكَ لا يهابوَا (١) بعدَكَ أحَداً أبداً ، واللّهِ إِنّها لحُرمةُ الأسلام تُنْتَهَك ، وحرمةُ قريشٍ وحرمةُ العرب ، فلا تَفعلْ ، ولا تأْتِ الكوَفَة ، ولا تُعرِّضْ نفسَكَ لبني أُميّةَ. فأبى اَلحسينُ عليه‌السلام إلاّ أن يَمضيَ.

وكانَ عُبيدُاللّه بن زيادٍ أمرَ فأُخِذَ ما بينَ واقِصَةَ (٢) إِلى طريقِ الشّام إِلى طريقِ البصرةِ ، فلا يَدَعونَ أحداً يَلِجُ ولا أحداً يخرجُ ، وأقبلَ الحسينُ عليه‌السلام لا يَشعرُ بشيءٍ حتّى لقيَ الأعرابَ ، فسألهَم فقالوا : لا واللّهِ ما ندري ، غيرإنّا لا نستطيعُ أن نَلِجَ ( أو نَخرج ) (٣). فسارَتِلقاءَ وجهِه عليه‌السلام.

وحدَّثَ جماعةٌ من فَزارةَ ومن بَجيلة قالوا : كُنّا معَ زُهَيرِ بنِ القَيْنِ البَجَليِّ حينَ أقبلنْا من مكّةَ ، فكنّا نُسايرُ الحسينَ عليه‌السلام فلم يكَنْ شيءٌ أبغضَ إِلينا من أن نُنَازلَه في منزلٍ ، فإِذا سارَ الحسينُ عليه‌السلام ونزلَ منزلاً لم نجدْ بُدّاً من أن نُنازلَه ، فنزلَ الحسينُ في جانبِ ونزلْنا في جانبٍ ، فبينا نحن جُلوس نتغذّى من طعامٍ لنا إِذْ أقبلَ رَسولُ الحسينِ عليه‌السلام حتّى سلّمَ ثمّ دخلَ ، فقالَ : يا

__________________

(١) كذا في النسخ وله وجه ، والاولى«لايهابون»كما في الطبري.

(٢) واقصة : موضع في طريق مكة الى العراق «معجم البلدان ٥ : ٣٥٤».

(٣) في «ش» و «م» : ولا نخرج ، وما أثبتناه من هامشهما.

٧٢

زُهيرَ بنَ القَيْنِ إِنَّ أبا عبدِاللّهِ الحسينَ بعثَني إِليكَ لتأْتِيَه. فطرحَ كلُّ إِنسانٍ منّا ما في يدِه حتّى كأنّ على رُؤُوسنا الطّيرَ ، فقالتْ له امرأتهُ : سبحانَ اللّهِ ، أيبعثُ إِليكَ ابنُ رسولِ اللّهِ ثمّ لا تأْتيه ، لو أتيتَه فسمعتَ من كلامِه ، ثمّ انصرفتَ. فأتاه زُهيرُ بنُ القينِ ، فما لبثَ أن جاءَ مُستبشراً قد أشرقَ وجهُه ، فأمرَبفسطاطِه وثقله ورحلِه ومتاعِه فقُوِّضَ وحُمِلَ إِلى الحسينِ عليه‌السلام ، ثمّ قالَ لامرأَتِه : أنتِ طالقٌ ، الحقي بأهلِكَ ، فإنِّي لا أُحبُّ أن يًصيبَكِ بسببي إلّا خيرٌ ، ثمّ قالَ لأصحابه : من أحَبَّ منكم أن يتبعَني ، وإلاّ فهو آخرُ العهدِ ، إِنيِّ سأُحدِّثُكم حديثا ً: إِنّا غَزَوْنا البحر (١) ، ففتحَ اللّهُ علينا وأصبْنا غنائمَ ، فقالَ لنا سلمان الفارسيُّ رضيَ اللهُّ عنه : أفرِحْتُم بما فتحَ اللهُ عليكم ، وأصبْتم منَ الغنائم؟ فقلنا : نعم ، فقال : إِذا أدركْتُم شباب آلِ محمّدٍ فكونوا أشدَّ فرحاً بقتالِكم معَهم ممّا أصبتُمُ اليومَ منَ الغنائم. فامّا أنا فأستودعُكمُ اللّه. قالوا : ثمّ واللهِّ ما زالَ في القومِ معَ الحسينِ عليه‌السلام حتّى قُتِلَ رحمةُ اللّهِ عليه (٢).

وروى عبدُاللهّ بن سليمانَ والمُنْذِرُ بنُ المُشْمَعِلِّ الأسَدِيّانِ قالا : لمّا قَضَيْنا حجَّنا لم تكنْ لنا همةٌ إلاّ اللحاق بالحسينِ عليه‌السلام في الطّريقِ ، لننظرَ ما يكونُ من أمرِه ، فأقبلْنا تُرْقِلُ (٣) بنا

__________________

(١) كذا في النسخ ، وفي وقعة الطف لابي مخنف وتاريخ الطبري : (بلنجر) : وهي مدينة ببلاد الروم. انظر«معجم ما استعجم ١ : ٣٧٦».

(٢) وقعة الطف لابي مخنف : ١٦١ ، تاريخ الطبري ٥ : ٣٩٦ ، الكامل في التاريخ ٤ : ٤٢ ، ومختصراً في مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي ١ : ٢٢٥ ، عن أحمد بن اعثم.

(٣) أرَقلَتْ في سيرها : أسرعت. «مجمع البحرين ـ رقل ـ ٥ : ٣٨٥».

٧٣

نِياقنا (١) مُسرِعَيْنِ حتّى لحقْنا بِزَرُوْدَ (٢) ، فلمّا دنونا منه إِذا نحن برجلٍ من أهلِ الكوفةِ قد عدلَ عنِ الطّريقِ حينَ رأى الحسينَ عليه‌السلام ، فوقفَ الحسينُ كأنّه يُريدُه ثمّ تركه ومضى ، ومضينا نحوَه ، فقالَ أحدُنا لصاحبه : اذهب بنا إِلى هذا لنسألَه فإِنّ عندَه خبرَ الكوفةِ ، فمضينا حتَّى انتهينا إِليه فقلنا : السّلامُ عليكَ ، فقالَ : وعليكم السّلامُ ، قلنا : ممّنِ الرّجلُ؟ قالَ : أسَدِيٌّ ، قلنا : ونحن أسَدِيّانِ ، فمن أنتَ؟ قالَ : أنا بكرُ بنُ فُلانٍ ، وانتسبْنا له ثمّ قلنا له : أخبِرْنا عنِ النّاسِ وراءَك ؛ قالَ : نعم ، لم أخرجْ منَ الكوفةِ حتّى قُتِلَ مسلمُ بنُ عقيلٍ وهانئُ بنُ عُروةَ ، ورأَيتُهما يُجَرّانِ بأرجلِهما في السُّوقِ.

فأقبلْنا حتّى لحقْنا الحسينَ صلوات اللهِّ عليه فسايرْناه حتّى نزلَ الثَّعْلَبيَّةَ مُمْسِياً ، فجئناه حينَ نزلَ فسلّمْنا عليه فردَّ علينا السّلامَ ، فقلناَ له : رحمَكَ اللّه ، إِنّ عندَنا خبراً إِن شئتَ حدّثْناكَ علانيةً ، وِانْ شئتَ سِرّاً ؛ فنظرَ إِلينا ِ والى أصحابِه ثمّ قالَ : «ما دونَ هؤلاءِ سترٌ» فقلنا له : رأيتَ الرّاكبَ الّذي استقبلتَه عشيَّ أمسِ؟ قالَ : «نعم ، وقد أردتُ مسألَتَه» فقلنا : قد واللّهِ استبرأْنا لكَ خبرَه ، وكفيناكَ مسألَتَه ، وهو امِرؤٌ منّا ذو رأْي وصدقٍ وعقلٍ ، وِانّه حدّثَنا أنّه لم يخرجْ منَ الكوفةِ حتّى قُتِلَ مسلمٌ وهانئ ، ورَآهما يُجَرّانِ في السُّوقِ بأرجلِهما : فقالَ : «إِنّا للهِّ وِانّا اليه راجعونَ ، رحمةُ اللهِّ عليهما»

__________________

(١) في «م» وهامش «ش» : ناقتانا.

(٢) زَرُود: موضع على طريق حاج الكوفة بين الثعلبية والخزيمية. «معجم البلدان ٣ : ١٣٩».

٧٤

يكرِّر (١) ذلكَ مِراراً ، فقلنا له : نَنْشُدُكَ اللّهَ في نفسِكَ وأهلِ بيتِكَ إلّا انصرفتَ من مكانِكَ هذا ، فإِنّه ليسَ لكَ بالكوفةِ ناصرٌ ولا شيعةٌ ، بل نَتخوّفُ أن يكونوا عليكَ. فنظرَ إِلى بني عقيلٍ فقالَ : «ماتَرَوْنَ؟ فقد قتِلَ مسلمٌ» فقالوا : واللهِّ لا نَرجعُ حتّى نُصيبَ ثأْرَنا أَو نذوقَ ما ذاقَ ، فأقبلَ علينا الحسينُ عليه‌السلام وقالَ : «لا خيرَ في العيشِ بعدَ هؤلاءِ» فعلمْنا أنّه قد عزمَ رأْيَه على المسيرِ ، فقلنا له : خارَ اللّهُ لكَ ، فقالَ : «رحمَكُما اللّهُ». فقالَ له أصحابُه : إِنّكَ واللّهِ ما أَنتَ مثل مسلمِ ابن عقيل ، ولو قدمتَ الكوفةَ لكانَ النّاسُ إِليكَ أسرعَ. فسكتَ ثمّ انتظرَ حتّى إِذا كانَ السّحرُ قالَ لفتيانِه وغلمانِه : «اكْثِرُوا منَ الماءِ» فاسْتَقَوْا وأكْثَرُوا ثمّ ارتحلوا ، فسارَ حتّى انتهى إِلى زُبالةَ (٢) فأَتاه خبرُ عبدِاللّهِ بنِ يَقْطُرَ ، فأخرجَ إِلى النّاسِ كتاباً فقرأه عليهم (٣) :

«بسم اللّهِ الرّحمنِ الرّحميمِ

أمّا بعدُ : فإِنّه قد أتانا خبرٌ فظيعٌ قَتْلُ مسلمِ بنِ عقيلٍ ، وهانيِ بنِ عُروةَ ، وعبدِاللّهِ بنِ يَقْطُرَ ، وقد خَذَلَنا شيعتُنا ، فمن أحبَّ منكم الانصرافَ فلينصرفْ غيرَحَرِجٍ ، ليسَ عليه ذمامُ»

فتفرّقَ النّاسُ عنه وأخذوا يميناً وشمالاً ، حتّى بقيَ في أصحابِه

__________________

(١) في «م» وهامش «ش» : يردّد.

(٢) زبالة : منزل بطريق مكة من الكوفة. «معجم البلدان ٣ : ١٢٩».

(٣) رواه الطبري في تاريخه ٥ : ٣٩٧ ، والخوارزمي في مقتل الحسين عليه‌السلام ١ : ٢٢٨ ، وذكره أبو الفرج في مقاتله : ١١٠ مختصراً ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٤ : ٣٧٢.

٧٥

الّذينَ جاؤوا معَه منَ المدينةِ ، ونفرٍ يسيرٍ ممّنِ انضَوَوْا إِليه. ِوانّما فعلَ ذلكَ لأنّه عليه‌السلام علمَ أنّ الأعرابَ الّذينَ اتّبعوه إِنّما اتّبعوه وهم يظنُّون أنّه يأتي بلداً قدِ استقامتْ له طاعةُ أهلهِ ، فكرهَ أن يسيروا معَه إلاّ وهم يعلمونَ على ما (١) يقدمونَ.

فلمّا كانَ السّحرُ أمرَ أصحابَه فاستقَوْا ماءً وأكثروا ، ثمّ سارَ حتّى مرَّ ببطنِ العَقَبةِ (فنزلَ عليها ) (٢) ، فلقيَه شيخٌ من بني عِكْرِمةَ يقالُ له عمرُو بن لوذانَ ، فسألهَ : أينَ تريدُ؟ فقالَ له الحسينُ عليه‌السلام : «الكوفةَ» فقال الشّيخُ : أنشدُك اللّهَ لمّا انصرفتَ ، فواللهِّ ما تقدمُ إلاٌ على الأسنّةِ وحدِّ السُّيوفِ ، وِانّ هؤلاءِ الّذينَ بعثوا إِليكَ لو كانوا كَفَوْكَ مؤونةَ القتالِ ووطّؤوا لكَ الأَشياءَ فقدمتَ عليهم كانَ ذلكَ رأْياً ، فأمّا على هذه الحالِ الّتي تَذْكُرُ فإنّي لا أرى لكَ أن تفعلَ. فقالَ له : «يا عبدَاللّهِ ، ليس يخفى عليَّ الرأْيُ ، ولكنَّ اللّهَ تعالى لا يُغلَبُ على أمرِه ، ثمّ قالَ عليه‌السلام : واللّهِ لا يَدَعُوني حتّى يستخرجوا هذه العلقةَ من جوفي ، فإِذا فعلوا سلّطَ اللهُّ عليهم من يُذلُّهم حتّى يكونوا أذلَّ فِرَقِ الأممَ» (٣).

ثمّ سارَ عليه‌السلام من بطنِ العَقَبةِ حتّى نزلَ شَراف (٤) ، فلمّا كانَ في السّحرِ أمرَ فتيانَه فاسْتَقَوْا منَ الماءِ فأكْثَروا ، ثمّ سارَ منها حتّى

__________________

(١) كذا في النسخ ، والأصح : علامَ.

(٢) في النسخ الخطية : فنزل عنها ، وما في المتن من هامش«ش».

(٣) مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي ١ : ٢٢٨ ، عن ابن اعثم ، ولم نجده في الفتوح ولعله عن غيره ، تاريخ الطبري ٥ : ٣٩٧ ، عن ابي مخنف ... عن عبدالله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديّين ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٤ : ٣٧٢.

(٤) شراف : موضع بنجد «معجم البلدان ٣ : ٣٣١».

٧٦

انتصفَ النّهارُ ، فبينا هو يسيرُ إِذ كبّرَ رجلٌ من أصحابه فقالَ له الحسينُ عليه‌السلام : «اللهُّ أكبرُ ، لِمَ كَبَّرت؟» قالَ : رأيت النّخلَ ، فقالَ له جماعةٌ من أصحابه : واللهِّ إِنّ هذا المكانَ ما رأينا به نخلةً قطّ ، فقالَ الحسينُ عليه‌السلام : «فما تَرَوْنَه؟» قالوا : نراه واللّهِ آذانَ (١) الخيلِ ، قالَ : «أنا واللهِ أرى ذلكَ» ثمّ قالَ عليه‌السلام : «ما لنا (٢) ملجأُ نلجأ إِليه فنجعله في ظهورِنا ، ونستقبل القومَ بوجهٍ واحدٍ؟» فقلنا : بلى ، هذا ذو حُسمى (٣) إِلى جنبِكَ ، تميلُ إِليه عن يسارِكَ ، فإِن سبقتَ إِليه فهوكما تُريدُ.

فأخذَ إِليه ذاتَ اليسارِ ومِلْنا معَه ، فما كانَ بأسرعَ من أن طلعتْ علينا (هوادي الخيل ) (٤) فتبيّنّاها وعدلْنا ، فلمّا رأوْنا عدلْنا عن الطريقِ عدلوا إِلينا كأنّ أسنّتَهم اليعاسيبُ (٥) ، وكأنّ راياتِهم أجنحةُ الطّيرِ ، فاستبقْنا إِلى ذي حسمى فسبقْناهم إِليه ، وأمرَ الحسينُ عليه‌السلام بأبنيتهِ فضربَتْ.

__________________

(١) في «م» : أداني ، وقد كتب تحتها : جمع ادنى.

(٢) في هامش «ش» : أما لنا.

(٣) في هامش «م» : حُسْمى ـ هكذا في نسخة الشيخ.

وهامش آخر في «ش» و «م» : حِسْمَى بكسر الحاء جبال شواهق بالبادية ، قد ذكرها النابغة في شعره قال :

فاصبح عاقلاً بجبال حسمى

دقاق الترب مخترم القتام

وفي هامشهما كتبت : ذوجشَم ، ذوجَشَم ، جُسَم ، حُسْم ، وفي «م» : ذي حُسىً.

(٤) اقبلت هوادي الخيل : اذا بدت أعناقها. «الصحاح ـ هدى ـ ٦ : ٢٥٣٤».

(٥) اليعسوب : طائر أطول من الجرادة لا يضم « الصحاح ـ عسب ـ ١ : ٨١ » وفي هامش «ش» : الاصل في اليعسوب فحل النحل.

٧٧

وجاءَ القومُ زُهاءَ ألفِ فارسٍ معَ الحُرِّبن يزيدَ التّميميّ حتّى وقفَ هو وخيلُه مُقابلَ الحسينِ عليه‌السلام في حَرًّ الظّهيرةِ ، والحسينُ وأصحابُه معتمُّونَ متقلِّدوأسيافِهم ، فقالَ الحسينُ عليه‌السلام لفتيانِه : «اسقوا القومَ وأرْوُوْهُم منَ الماءِ ، ورَشِّفُوا الخيلَ ترشيفاً» ففعلوا وأقبلوا يملؤون القِصاعَ والطّساسَ (١) منَ الماء ثمّ يُدنونَها منَ الفَرَسِ ، فإِذا عبَّ فيها ثلاثاً أوأربعاً أَو خمساً عُزِلَتْ عنه وسَقَوا آخرَ ، حتّى سَقَوْها كلَّها.

فقالَ عليُّ بنُ الطعَّانِ المُحاربي : كنتُ معَ الحُرِّ يومئذٍ فجئتُ في اخرِ من جاءَ من أصحابِه ، فلمّا رأى الحسينُ عليه‌السلام ما بي وبفرسي منَ العطشِ قالَ : «أنَخِ الراويةَ» والراويةُ عندي إلسِّقاءُ ، ثمّ قالَ : «يا ابنَ أخي أنِخِ الجملَ» فأنَخْتُه فقالَ : «اشربْ» فجعلتُ كلَّما شربتُ سالَ الماءُ منَ السِّقاءِ ، فقالَ الحسين عليه‌السلام : «اخنِثِ السِّقاءَ» أي اعطفْه ، فلم أدْرِ كيفَ أفعل ، فقامَ فخنثَه فشربتُ وسقيتُ فرسي.

وكانَ مجيءُ الحُرِّ بن يزيدَ منَ القادسيّةِ ، وكَانَ عُبيدُاللّه بن زيادٍ بعثَ الحُصينَ بنَ نمُيرٍ وأًمرَه أن ينزلَ القادسيّة ، وتقدّمَ الحُرُّ بينَ يديه في ألفِ فارسٍ يستقبلُ بهم حسيناً ، فلم يَزَلِ الحُرًّ مُواقِفاً للحسينِ عليه‌السلام حتّى حضرتْ صلاةُ الظُّهرِ ، وأمرَ الحسينُ الحجّاجَ بنَ مسرورٍ أن يُؤَذِّنَ ، فلمّا حضرتِ الأقامةُ خرجَ الحسينُ عليه‌السلام

__________________

(١) الطساس : جمع طسٌ وهومعرّب طست وهو اناء معروف «مجمع البحرين ـ طست ـ ٢ : ٢١٠ ».

٧٨

في إِزارٍ ورداءٍ ونعلينِ ، فحمدَ اللّهَ وأثنى عليه ثمّ قالَ : «أيًّها النّاسُ ، إِنِّي لم آتِكم حتّى أتَتْني كتبُكم وقدمتْ عليّ رسلُكم : أنِ اقدمْ علينا فإِنّه ليس لنا إِمام ، لعلَّ اللهَّ أن يجمعَنا بكَ على الهدى والحقِّ ؛ فإِن كنتم على ذلكَ فقد جئتُكم فاعطوني ما أطمئنًّ إِليه من عهودِكم ومواثيقِكم ، وِان لم تفعلوا وكنتم لمَقدمي كارهينَ انصرفتُ عنكم إِلى المكانِ الّذي جئتُ منه إِليكم» فسكتوا عنه ولم يتكلّم أحدٌ منهم بكلمةٍ.

فقالَ للمؤذِّنِ : «أقِمْ» فأقامَ الصّلاةَ فقالَ للحُرِّ: «أتُريدُ أن تُصليَ بأصحابكَ؟» قالَ : لا ، بل تُصلِّي أنتَ ونُصلِّي بصلاتِكَ. فصلّى بهم الحسينَُ بن عليٍّ عليهما‌السلام ثمّ دخلَ فاجتمعِ إِليه أصحابُه وانصرفَ الحُرُّ إِلى مكانِه الّذي كانَ فيه ، فدخلَ خيمةَ قد ضُرِبَتْ له واجتمعَ إِليه جماعةٌ من أصحابِه ، وعادَ الباقونَ إِلى صفِّهم الّذي كانوا فيه فأعادوه ، ثمّ أخذَ كلُّ رجلٍ منهم بعنانِ دابّتهِ وجلسَ في ظلِّها.

فلمّا كانَ وقتُ العصرِ أمرَ الحسينُ بنُ عليِّ عليه‌السلام أن يتهيّؤوا للرّحيلِ ففعلوا ، ثمّ أمرَ مناديَه فنادى بالعصرِ وَأقامَ ، فاستقامَ (١) الحسينُ عليه‌السلام فصلّى بالقومِ ثمّ سلّمَ وانصرفَ إِليهم بوجهه ، فحمدَ اللّهَ وأَثنى عليه ثمّ قالَ :

«أمّا بعدُ : أيُّها النّاس فإِنّكم إِن تتّقوا اللّهَ وتعرفوا الحقَّ لأهلهِ يكنْ أرضى للهِ عنكم ، ونحن أهلُ بيتِ محمّدٍ ، وأولى بولايةِ هذا الأمرِعليكم من هؤلاءِ المدَعينَ ما ليسَ لهم ، والسّائرينَ فيكم بالجورِ والعدوانِ؟

__________________

(١) في «م» وهامش «ش» : فاستقدم.

٧٩

واِن أبيتم إلّا كراهيةً (١) لنا والجهلَ بحقِّنا ، فكانَ رأْيُكم الان غيرَ ما أتتني به كتبُكم وقَدِمَتْ به عليَّ رسلُكم ، انصرفتُ عنكم».

فقالَ له الحُرُّ : أنا واللّهِ ما أدري ما هذه الكتب والرُّسل الّتي تَذْكرُ ، فقالَ الحسينُ عليه‌السلام لبعضِ أصحابِه : «يا عُقْبَةَ بنَ سِمْعانَ ، أخرِج الخُرْجَينِ اللَذينِ فيهما كتبُهم إِليَّ» فأخرجَ خُرْجَينِ مملوءَينِ صحفاً فنُثرتْ بينَ يديه ، فقالَ له الحُرُ : إِنّا لسنا من هؤلاءِ الّذينَ كتبوا إِليكَ ، وقد أُمِرْنا إِذا نحن لقيناكَ ، ألاّ نفارِقَكَ حتّى نُقْدِمَكَ الكوفةَ على عُبيدِ اللّهِ. فقالَ له الحسينُ عليه‌السلام : «الموتُ أدنى إِليكَ من ذلكَ» ثمّ قالَ لأصحابه : «قوموا فاركبوا» فركبوا وانتظرَ حتّى رَكِبَ نساؤهم ، فقالَ لأَصَحابه : «انصرفوا» فلمّا ذهبوا لينصرفوا حالَ القومُ بينَهم وبينَ الانصرافِ ، فقالَ الحسينُ عليه‌السلام للحُرِّ: «ثكلتْكَ أُمُّك ، ما ترُيدُ؟» فقالَ له الحرًّ: أما لو غيرُك منَ العرب يقولهُا لي وهو على مثلِ الحالِ الّتي أنتَ عليها ، ما تركتُ ذكرَأُمِّه بالثُّكَلِ كائناً من كانَ ، ولكنْ واللّهِ ما لي إِلى ذكرِ أُمِّكَ من سبيلٍ إلاّ بأحسنِ ما يقْدَرُ عليه؟ فقالَ له الحسين عليه‌السلام : «فما تُريدُ؟» قالَ : أُريدُ أن أنطلقَ بكَ إِلى الأميرعُبيدِاللهِّ بنِ زيادٍ ؛ قالَ : «إِذاً واللهِّ لا أتبعكَ» قالَ : إِذاً واللّهِ لا أدعكَ. فترادَّا القول ثلاثَ مرّاتٍ. فلمّا كثر الكلامُ بينهَما قالَ له الحُرُّ : إِنِّي لم اُؤمَرْ بقتالِكَ ، إِنّما أُمِرْتُ ألاّ أُفارِقَكَ حتّى أُقدمَكَ الكوفَة ، فإِذ أبيتَ فخذْ طريقاً لا يُدخلُكَ الكوفةَ ولا يَردُّكَ إِلى المدينةِ ، تكونَ بيني وبينَكَ نصفاً ، حتّى أكتبَ إِلى الأميرِ وتكتَب الى يزيدَ أو إِلى عُبيدِاللّهِ فلعلّ اللهَّ إِلى ذلكَ أن يأْتيَ بأمرٍ يرزقُني فيه العافيةَ من أَن أُبتلى

__________________

(١) في هامش «ش» و «م» : الكراهية.

٨٠