الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد - ج ٢

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

صلى‌الله‌عليه‌وآله وأسَنَ ، وكانَ جليلَ القدرِ كريمَ الطّبعِ ظَلِفَ النّفسِ (١) ثيرَ البِرِّ ، ومدحَه الشّعراءُ وقصدَه النّاسُ منَ الآفاقِ لطلبِ فضلهِ.

فذكرَ أصحابُ السِّيرِة : أنّ زيدَ بنَ الحسنِ كانَ يلي صدقاتِ رسولِ اللهِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فلمّا وُلِّيَ سليمانُ بنُ عبدِ الملكِ كتبَ إِلى عاملِه بالمدينةِ : أمّا بعدُ فإِذا جاءَكَ كتابي هذا ، فاعزِلْ زيداً عن صدقاتِ رسولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله وادفَعْها إِلى فلانِ ابنِ فلانٍ ـ رجل من قومِه ـ وأعِنْه على ما استعانَكَ عليهِ ، والسّلامُ.

فلما استُخْلِفَ عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ إِذا كتابٌ قد جاءَ (٢) منه : أمّا بعدُ فإنّ زيدَ بنَ الحسنِ شريفُ بني هاشمٍ وذوسِنِّهم ، فإِذا جاءَكَ كتابي هذا فاردُدْ اليه صدقاتِ رسولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله واعِنْه على ما استعانَكَ عليه ، والسّلامُ (٣).

وفي زيدِ بنِ الحسنِ يقولُ محمّدُ بنُ بَشيرٍ الخارِجيُّ :

إِذَا نَزَلَ ابْنُ المُصْطَفَى بَطْنَ تَلْعَةٍ (٤)

نَفَى جَدْبَهَا وَاخْضَرَّ بِالنَّبْتِ عُوْدُهَا

وَزيدٌ رَبِيْعُ النَّاسِ فيْ كُلِّ شَتْوة

إِذَا أخْلـفَتْ أنـوَاؤُهَا (٥) وَرُعوْدُهـا

__________________

(١) ظلف النفس : عزيزها. «الصحاح ـ ظلف ـ ٤ : ١٣٩٩».

وفي «م»! وهامش «ش» : ظريف النفس.

(٢) في هامش «ش» و «م» : ورد.

(٣) ذكر الذهبي استخلاف عمر بن عبد العزيز لزيد بن الحسن على الصدقات. انظر سير اعلام النبلاء ٤ : ٤٨٧ / ١٨٦ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٤ : ١٦٣ / ٢.

(٤) التلعة : مسيل ماء من أعلى الأرض الى بطن الوادي «الصحاح ـ تلع ـ ٣ : ١١٩٢ ».

(٥) الأنواء : جمع نوء ، وهوسقوط نجم وطلوع نجم ، وكانت العرب تنسب المطر الى الأنواء ، فتقول : مطرنا بنوء كذا. «مجمع البحرين ـ نوأ ـ ١ : ٤٢٣ ». وفي هامش «ش» : » :

٢١

حَمُوْلٌ لأشْنَاقِ (١) الدِّيَاتِ كَأنَّهُ

سِرَاجُ الدُّجَىِ إِذْ قَارَنته سُعُوْدُهَا (٢)

وماتَ زيد وله تسعونَ سنة ، فرثَاه جماعةٌ منَ الشُّعراءِ وذكروا مآثره وبكَوا فضلَه ، فممّن رثاه قُدامةُ بنُ موسى الجُمَحِيّ فقالَ :

فَإِنْ يَكُ زَبْدٌ غَالَتِ الأرْضُ شَخْصَهُ

فَقَدْ بَانَ مَعْرُوْف هُنَاكَ وَجُوْدُ

وانْ يك أمسى رهنَ رَمْسٍ فقد ثَوَى

بهِ وَهْوَ مَحموْدُ الْفعَالِ فَقِيْدُ

سَمِيْعٌ إِلىَ المُعْتَرّ يَعْلَمُ أنَهُ

سًيَطْلُبُهُ اْلمَعْرُوْفَ ثُمَّ يَعُوْدُ

وَلَيْسَ بِقَوَّالٍ وَقَد ْحَطَّ رَحْلَه

لِمُلْتَمِسِ اْلمَعْرُوْفِ أيْنَ تُرِيْدُ

إِذَا قَصَّرَ الْوَغْد الدَّنيُّ نَمَا بِهِ

إِلَى اْلمَجْدِ ابَاءٌ لَهُ وَجدُوْدُ

مَبَاذِيْلُ لِلْمَوْلىَ مَحَاشِيْدُ لَلْقِرَى

وَفي الرَّوْعِ عِنْدَ النَّائِبَاتِ أُسُودُ

إِذَا انْتُحِلَ الْعِزُّالطَّرِيْفُ فَإِنَّهُمْ

لَهُم إِرْثُ مَجْدٍ مَا يُرَامُ تَلِيْدُ

إِذَا مَاتَ مِنْهًمْ سَيِّدٌ قَامَ سَيِّدٌ

كَرِيْمٌ يُبَنِّيْ بَعْدَهُ ويَشِيْدُ (٣)

في أمثالِ هذا ممّا يطولُ به الكتاب.

وخرجَ زيدُ بنُ الحسنِ رضيَ اللهُ عنه منَ الدُّنيا ولم يدَعِ الأمامةَ ، ولا ادَّعاها له مُدَّعٍ منَ الشِّيعةِ ولا غيرهم ، وذلكَ أنَّ الشِّيعةَ رجلانِ : إِمامّي

__________________

الأنواء منازل القمر.

(١) في هامش «ش» و «م» : الاشناق : ما دون الديات ، مثل أروش الجراحات ، والشنق أيضاً في الزكاة : ما دون النصاب.

(٢) ذكره البلاذري في أنساب الأشراف ٣ : ٧٢ / ٨٤ عدا البيت الاول.

(٣) ذكر البلاذري البيت الأول فقط ٣ : ٧٢ و ٧٣ ، وذكر محقق أنساب الأشراف الشيخ المحمودي عن تاريخ دمشق لابن عساكرج ٦ : ٣٠٢ ب القصيدة كاملة.

٢٢

وزيديّ ، فالأماميُّ يَعتمدُ في الإِمامةِ النُّصوصَ ، وهي معدومة في ولدِ الحسنِ عليه‌السلام باتِّفاق ، ولم يدَّعِ ذلكَ أحدٌ منهم لنفسهِ فيقع فيه ارتيابٌ.

والزّيديُّ يُراعي في الأمامةِ بعدَ عليٍّ والحسنِ والحسينِ عليهم‌السلام الدعوةَ والجهادَ ، وزيدُ بن الحسنِ رحمةُ اللهِ عليهِ كانَ مُسالِماً لبني أُميّةَ ومُتقلِّداً من قِبَلِهم الأعمالَ ، وكان رأْيُه التّقيَّةَ لأعدائه والتألُّفَ لهم والمداراةَ ، وهذا يُضادُّ عندَ الزّيديّةِ علاماتِ الأمامةِ كما حَكَيْناه.

فأمّا الحَشْويّة فإِنّها تَدينُ بامِامةِ بني أُمَّيَةَ ، ولا ترى لولدِ رسولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله إمامةً على حالٍ.

والمُعتزلةُ لا ترى الأمامةَ إلاٌ فيمن كانَ على رأيِها في الاعتزالِ ، ومن تَوَلَّوا ـ هم ـ العقدَ له بالشورى والاختيار ، وزيدٌ على ما قدّمْنا ذكرَه خارج عن هذه الأحوال.

والخوارجُ لا ترى إِمامةَ من تولىّ أميرَ المؤمنينَ عليَّ بنَ أبي طالبٍ عليه‌السلام ، وزيدٌ كانَ متولِّياً أباه وجدّه بلا اختلافٍ.

فصل

فأمّا الحسنُ بنُ الحسنِ فكانَ جليلاً رئيساً فاضلاً وَرِعاً ، وكانَ يَلي صدقاتِ أميرِ المؤمنينَ عليه‌السلام في وقتِه ، وله معَ الحَجَّاجِ خبرٌ رواه الزُّبيرُ بنُ بكّارٍ قالَ : كانَ الحسنُ بنُ الحسنِ والياً صدقاتِ أميرِ المؤمنينَ عليه‌السلام في عصرِه ، فسايرَ يوماً الحَجَّاجَ بنَ يوسفَ في موكبِه ـ وهو إِذْ ذاكَ أمير المدينةِ ـ فقالَ له الحَجَّاجُ : أدْخِلْ

٢٣

عُمَرَ بنَ عليٍّ معَكَ في صدقةِ أبيه ، فإِنّه عمُكَ وبقيّةُ أهلِكَ ، فقالَ له الحسنُ : لا أُغيّرُشرطَ عليٍّ ولا أُدْخِلُ فيها من لمِ يُدْخِلْ ، فقالَ له الحَجَّاجُ : إِذاً أُدْخِله أنا معَكَ.

فنكصَ الحسنُ بنُ الحسنِ عنه ( حتّى غفلَ ) (١) الحَجَّاجُ ، ثمّ توجّهَ إِلى عبدِ الملكِ حتّى قَدِمَ عليه فوقفَ ببابهِ يَطلُبُ الإذن ، فمرّ به يحيى بن أُمِّ الحَكَمِ فلمّا رآه يَحيى مالَ إِليه وسلّمَ عليه وسألَه عن مَقدَمِه وخبرِه ، ثمَّ قالَ : إِنِّي سأنفعُكَ عندَ أميرِ المؤمنينَ ـ يعني عبدَ الملكِ ـ فلمّا دخلَ الحسنُ ابنُ الحسنِ على عبدِ الملكِ رَحّبَ به وأحسنَ مُسَاءَلَتَه ، وكانَ الحسنُ قد أسرعَ إليه الشَّيبُ ، ويَحيى بن أُمِّ الحكمِ في المجلسِ ، فقالَ له عبدُ الملكِ : لقد أسرعَ إليكَ إليكَ الشيبُ يا با محمّدٍ ، فقالَ يَحيى : وما يمنعُه يا أمير المؤمنينَ؟ شيَّبَه أمانيُّ أهلِ العراقِ ، يَفِدُ (٢) عليه الرّكبُ يُمَنُّونَه الخلافةَ. فأقبلَ عليه الحسنُ فقالَ : بئْسَ والله الرِّفدُ رَفَدْتَ ، لست (٣) كما قلتَ ، ولكنّا أهلُ بيتٍ يُسرعُ إِليناَ الشَّيبُ. وعبدُ الملكِ يَسمعُ ، فأقبلَ عليه عبدُ الملكِ فقالَ : هلّم بما (٤) قدمتَ له ، فاخبرهَ بقولِ الحجّاج فقالَ : ليس ذلكَ له ، أكْتُبُ إِليه كتاباً لا يتجاوزه. فكتبَ إِليه ووصلَ الحسنَ بنَ الحسنِ فأحسنَ صِلَتَه.

فلمّا خرجَ من عندِه لَقِيَه يَحيى بن أُمِّ الحكمِ ، فعاتبَه الحسن على

__________________

(١) كذا في النسخ الثلاث ، لكن في هامش «ح » والبحار: حين غفل ، والظاهر ان الصحيح : حتى قفل ـ بالقاف ـ أي رجع. انظر مختصر تاريخ دمشق ٦ : ٣٣٠.

(٢) في «م» وهامش «ش» : يغدو.

(٣) في هامش «ش» : ليس.

(٤) في «م» وهامش «ش» : ما.

٢٤

سوء مَحْضَرِه وقالَ له : ما هذا الّذي وعدْتَني به؟ فقالَ له يَحيى : إِيهاً عنكَ ، فواللهِ لا يَزالُ يَهابُكَ ، ولولا هَيْبَتُكَ ما قضى لكَ حاجةً ، وما ألَوْتُكَ رِفْداً (١).

وكانَ الحسنُ بنُ الحسنِ حضرَمعَ عمِّه الحسينِ بنِ عليٍّ عليهما‌السلام الطّفَّ ، فلما قُتِلَ الحسينُ وأسِرَ الباقونَ من أهلِه ، جاءه أسماءُ بنُ خارِجةَ فانتزعَه من بينِ الأسرى وقالَ : واللّهِ لا يُوصَلُ إِلى ابن خَوْلَةَ أبداً ، فقالَ عُمَرُ بنُ سعدٍ : دَعُوا لأبي حَسَّان ابنَ أُختِه. ويُقالُ إِنّه أُسِرَ وكانَ به جِراح قد أشفى منها.

ورُويَ :أنّ الحسنَ بنَ الحسنِ خطبَ إلى عمِّه الحسينِ عليه‌السلام إحدى ابنتيه ، فقالَ له الحسينُ : «اختَرْ يا بُنيَّ أحبَّهُما إِليكَ » فاستحيا الحسنُ ولم يُحرْ جواباً ، فقالَ الحسينُ عليه‌السلام : «فإِنِّي قدِ اخترتُ لكَ ابنتي فاطَمةَ ، وهي أكثرُهما شبهاً بأُمِّي فاطمةَ بنتِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِما» (٢).

وقُبضَ الحسنُ بنُ الحسنِ رضوانَ اللهِ عليه وله خمسُ وثلاثونَ سنةً وأخَوه زيدُ بنُ الحسنِ حيُّ ، ووصّى إِلى أخيه من أُمِّه إِبراهيم بن محمّدِ بنِ طلحةَ.

__________________

(١) وذكر البلاذري في انساب الاشراف ٣ : ٧٣ / ٨٥ الخبر مختصراً ، وكذا الذهبي في سير أعلام النبلاء ٤ : ٤٨٥ ، وفي هامش السير نقله عن مصعب الزبيري في نسب قريش : ٤٦ ، ٤٧ ، وتاريخ دمشق لابن عساكر ٤ : ٢١٨ آ ، ب ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٤ : ١٦٦.

(٢) مقاتل الطالبيين : ١٨٠ ، الأغاني ٢١ : ١١٥ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٤ : ١٦٧ / ٣.

٢٥

ولمّا ماتَ الحسنُ بنُ الحسنِ رحمةُ اللهِّ عليه ضَرَبَتْ زوجتُه فاطمةُ بنتُ الحسينِ على قبرِه فسطاطاً ، وكانتْ تقومُ الليلَ وتصومُ النّهارَ ، وكانتْ تُشبَّهُ بالحورِ العينِ لجمالِها ، فلمّا كانَ رأسُ السّنةِ قالتْ لمواليها : إِذا أظلمَ الليلُ فقَوِّضُوا هذا الفسطاطَ ، فلمّا أظلمَ الليلُ سَمِعَتْ قائلاً يقول هَلْ وَجَدُوا ما فَقَدُوا؟ فاجابَه آخرُ : بَلْ يَئِسُوْا فانْقَلَبُوْا.

ومضى الحسنُ بنُ الحسنِ ولم يَدَّعِ الأمامةَ ولا ادّعاها له مُدَّعٍ ، كما وصفْناه من حالِ أخيه زيدٍ رحمةُ اللّهِ عليهما.

وأمّا عَمْروٌ والقاسمُ وعبدُ اللهِ بنو الحسنِ بنِ عليّ رضوانُ اللهِ عليهم فإِنَّهم استُشْهِدُوا بينَ يَدَيْ عمِّهم الحسينِ عليه‌السلام بالطّفِّ رضيَ الله عنهم وأرضاهم وأحسنَ عن الدِّينِ والإسلام وأهلهِ جَزاءهم.

وعبدُ الرّحمن بن الحسنِ رضيَ اللهُ عنه خرجَ معَ عمِّه الحسينِ عليه‌السلام إِلى الحجِّ فتُوفِّيَ بالأبواءِ وهومُحْرِمٌ.

والحسينُ بنُ الحسنِ المعروفُ بالأثرم كانَ له فضلٌ ولم يكنْ له ذِكر في ذلك.

وطلحةُ بنُ الحسنِ كانَ جَواداً.

٢٦

باب

ذكر الأمام بعدَ الحسنِ بنِ عليّ

عليهما السّلامُ وتارَيخ مولدِه ، ودلائل إمامتهِ ،

ومبلغ سنِّه ، ومدّة خلافتِه ، ووقت وفاتِه وسببها ،

وموضع قبرِه ، وعدد أولادِه ، ومختصر من أخبارِه

والأمامُ بعدَ الحسنِ بنِ عليٍّ عليهما‌السلام أخوه الحسينُ بنُ عليٍّ ، ابنُ فاطمةَ بنتِ رسولِ اللهِ صلّى اللّهُ عليهم بنصِّ أبيه وجَدِّه عليه ، ووصيّةِ أخيه الحسنِ إِليه.

كنيتهُ أبو عبدِاللهِّ. وُلِدَ بالمدينةِ لخمسِ ليالٍ خَلَوْنَ من شَعبانَ سنةَ أربعٍ منَ الهجرةِ ، وجاءتْ به أُمُّه فاطمةُ عليهما‌السلام إِلى جَدِّهِ رسولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله فاستبشرَ به وسمّاه حُسَيْنَاً وعَقَّ عنه كبشاً ؛ وهو وأخوه بشهادةِ الرّسولِ صلّى اللّهُ عليهِ وعليهما سيِّدا شبابِ أهل الجنّةِ ، وبالاتِّفاقِ الّذي لا مِرْيَةَ فيه سِبطا نبيِّ الرّحمةِ.

وكانَ الحسنُ بنُ عليّ عليهما‌السلام يُشبَّهُ بالنّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من صدرِه إِلى رأْسِه ، والحسينُ يُشبَّهُ به من صدرِه إِلى رجليه ، وكانا حبيبَيْ رسولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من بينِ جميعِ أهلهِ وولدِه.

روى زَاذانُ عن سلمانَ رضيَ اللهُ عنه قالَ : سمعتُ رسولَ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله يقولُ في الحسنِ والحسينِ عليهما‌السلام :

٢٧

«اللّهمَّ إِنِّي أُحِبُّهما فأحِبَّهما ( وأحِبَّ من أحبّهما ) (١) » (٢).

وقالَ عليهِ وآلهِ السّلامُ : «مَنْ أحَبَّ الحسنَ والحسينَ ـ عليهما‌السلام ـ أحْبَبْتُهُ ، ومن أحْبَبْتُهُ أحبّه اللهُّ ، ومن أحَبَّه اللهّ عزّ وجلّ أدْخَلَه الجنّةَ ، ومن أبْغَضَهما أبْغَضْتُهُ ، ومن أبْغَضْتُهُ أبْغَضَه اللهُ ، ومن أبْغَضَهُ اللّهُ خَلَّدَه في النّارِ» (٣).

وقالَ عليهِ وآلهِ السّلامُ : «إِنّ ابنيَّ هذينِ رَيحانتايَ مِنَ الدُّنيا» (٤).

وروى زرُّ بنُ حُبَيْشٍ ، عنِ ابنِ مسعودٍ قالَ : كانَ النّبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يصُلِّي فجاءه الحسنُ والحسينُ عليهما‌السلام فارْتَدَفاه ، فلمّا رَفعَ رأسَه أخذَهما أخذاً رفيقاً ، فلمّا عَادَ عادَا ، فلما انصرفَ أجلسَ هذا على فخذِه وهذا على فخذِه ، وقالَ : «مَنْ أحَبَّني فَلْيُحِبَّ هذينِ » (٥).

__________________

(١) في «م» وهامش «ش» : وأحبب من يحبهما.

(٢) رواه الترمذي في سننه ٥ : ٦٥٦ / ذح ٣٧٦٩ عن اسامة بن زيد ، وابن الأثير في أُسد الغابة ٢ : ١١ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٣ : ٦٦٦ / ٣٧٦٩٧ ، ورواه ابن عساكر عن مسند حصين بن عوف الخثعمي في تاريخ دمشق ـ ترجمة الامام الحسين عليه‌السلام ـ : ٩٥ بدون جملة (وأحب من احبهما) فراجع هوامش الكتاب.

(٣) ذكره الحاكم النيسابوري في مستدركه ٣ : ٦٦٦ باختلاف يسير ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ـ ترجمة الامام الحسين عليه‌السلام ـ : ٩٧ / ١٣١ و ٩٨ / ١٣٢ ، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب : ٤٢٢ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٢ : ١١٩ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٣ : ٢٧٥ / ٤٢.

(٤) ذكره البخاري في الصحاح ٥ : ٣٣ ، باختلاف يسير ، والترمذي في سننه ٥ : ٦٥٦ / ٣٧٧٠ ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ـ ترجمة الامام الحسين عليه‌السلام ـ : ٣٨ ـ ٣٩ / ٥٨ ـ ٦٠ ، وابن الأثير في اُسد الغابة ٢ : ١٩ ، وابن الصباغ في الفصول المهمة : ١٥٤ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٢ : ١١٣ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٣ : ٢٧٥ / ٤٢.

(٥) روى نحوه البيهقي في سننه ٢ : ٢٦٣ ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ـ ترجمة الامام

٢٨

وكانا عليهما‌السلام حجّةَ اللهِ تعالى لنبيِّه عليهِ وآلهِ السّلامُ في المُباهلةِ ، وحجّةَ اللّهِ من بعد أبيهما أميرِ المؤمنينَ عليهِ وعليهما السّلامُ على الأمّةِ في الدِّينِ والأسلامِ والملّةِ.

وروى محمّدُ بنُ أبي عُمَيْرٍ ، عن رجالهِ ، عن أبي عبدِاللهّ عليه‌السلام قالَ : «قالَ الحسنُ بنُ عليٍّ عليهما‌السلام لأصحابِه : إِنّ للّهِ تعالى مدينتينِ : إِحداهما في المشرقِ ، والأخرى في المغرب ، فيهما خَلْق للّهِ عزّ وجلّ لم يَهُمُّوا بمعصيةٍ له قطُّ ، واللهِّ مافيهما وَما بينَهما حجّةٌ للهِّ على خلقِه غيري وغيرُ أخي الحسينِ » (١).

وجاءتِ الرِّوايةُ بمثلِ ذلكَ عن الحسينِ عليه‌السلام أنّه قالَ لأصحابِ ابنِ زيادٍ : « ما بالُكم » (٢) تَناصَرونَ عليَّ؟! أمَ واللهِ لَئنْ قتلتموني لَتَقتُلُنَ حجّةَ اللهِّ عليكم ، لا واللهِ ما بينَ جَابَلْقَا وجَابَرْسَا ابنُ نبيٍّ احتجَّ اللّهُ به عليكم غيري » (٣) يَعني بَجابَلْقَا وجَابَرْسَا المدينتينِ اللتينِ ذكرَهما الحسنُ أخوه عليه‌السلام.

وكانَ من برهانِ كمالِهما وحجّةِ اختصاصِ اللهِ لهما ـ بعدَ الّذي ذكرْناه من مُباهلةِ رسولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله بهما ـ بيعةُ رسولِ اللهِ لهما ، ولم يُبايِعْ صبيّاً في ظاهرِ الحالِ غيرَهما ، ونزولُ القرآنِ بإِيجابِ

__________________

الحسين عليه‌السلام ـ : ٨٣ / ١١٦ ، ومحب الدين الطبري في ذخائر العقبى : ١٣١ و ١٣٢ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٢ : ١٢١ مختصرأ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٣ : ٢٧٥ / ٤٣.

(١) أورد نحوه الصفار في بصائر الدرجات : ٣٥٩ / ٤ و ٥ ، والكليني في الكافي ١ : ٣٨٤ / ٥.

(٢) في «م» وهامش «ش» : ما لكم.

(٣) انظر نحوه في الطبري ٣ : ٣١٩ ، الكامل ٤ : ٦٢.

٢٩

ثواب الجنّةِ لهما على عملِهما معَ ظاهر الطّفوليّةِ فيهما ، ولم ينزلْ بذلكَ في مثلِهماَ ، قالَ اللّهُ عزّ اسمُه في سورةِ هل أتى : ( وَيُطْعِمُوْنَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيْنَاً ويَتِيْمَاً وأسِيْرَاً* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيْدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوْرَاً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمَاً عَبُوْسَاً قَمْطَرِيْرَاً * فَوَقَاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوْرَاً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوْا جَنَّةً وَحَرِيْر ) (١) فعمَّهما هذا القولُ معَ أبيهما وأمِّهما عليهم‌السلام ، وتضمَّنَ الخبرُ نُطقَهما في ذلكَ وضميرَهما الدّالّينِ على الآيةِ الباهرةِ فيهما ، والحجّةِ العُظمى على الخلقِ بهما ، كما تضمَّنَ الخبر عن نُطقِ المسيح عليه‌السلام في المهدِ وكانَ حُجَّةً لنًبُوَّته ، واختصاصِه منَ اللّهِ بالكرامةِ الدّالّةِ على محلِّه عندَه في الفضلِ ومكانِه.

وقد صرّحَ رسول اللّهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنّصِّ على إِمامتهِ وامامةِ أخيه من قبلهِ بقولهِ : « ابناي هذانِ إِمامانِ قاما أوقعدا» ودَلّت وصيّةُ الحسنِ عليه‌السلام إِليه على إِمامتِه ، كما دَلّتْ وصيّةُ أميرِ المؤمنينَ إِلى الحسنِ على إِمامتهِ ، بحسبِ ما دَلّتْ وصيّةُ رسولِ اللّهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله إِلى أميرِ المؤمنينَ على إِمامتهِ من بعدِه.

فصل

فكانتْ إِمامةُ الحسينِ عليه‌السلام بعدَ وفاةِ أخيه بما قدّمناه ثابتةً ، وطاعتُه ـ لجَميعِ الخلقِ ـ لازمة ، وِإن لم يَدْعُ إِلى نفسِه عليه‌السلام

__________________

(١) الانسان ٧٦ : ٨ ـ ١٢.

٣٠

للتّقيّةِ الّتي كانَ عليها ، والهُدنةِ الحاصلة بينَه وبينَ معاوية بن أبي سفيانَ فالتزمَ الوفاءَ بها ، وجرى في ذلكَ مجرى أَبيهِ أميرِ المؤمنينَ عليه‌السلام وثبوتِ إِمامتهِ بعدَ النّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله معَ الصّموتِ ، وِامامةِ أخيه الحسنِ عليه‌السلام بعدَ الهُدنةِ معَ الكفِّ والسُّكوتِ ، وكانوا في ذلكَ على سنَن نبيِّ اللّهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في الشِّعب محصورٌ ، وعندَ خروجِه مهاجِرأ من مكّةَ مستخفِياً في الغار وهو من أعدائه مستورٌ.

فلمّا ماتَ معاويةُ وانقضتْ مُدَّةُ الهُدنةِ الّتي كانتْ تمنعُ الحسينَ ابنَ عليِّ عليهما‌السلام منَ الدّعوةِ إِلى نفسه ، أظهرَ أمرَه بحسب الأمكاَنِ ، وأبانَ عن حقه للجاهلينَ به حالاً بحالٍ ، إِلى أنِ اجتمع لهَ في الظاهر الأنصارُ. فدعا عليه‌السلام إِلى الجهادِ وشمّرَ (١) للقتالِ ، وتوجّه بولدِه وأهلِ بيتهِ من حرَمِ اللّهِ وحرَمِ رسولهِ نحوَ العراقِ ، للاستنصارِ بمن دعاه من شيعتهِ على الأعداءِ. وقدّمَ أمَامَهُ ابنَ عمِّه مُسلِمَ بنَ عقيلٍ ـ رضيَ اللهُ عنه وأرضاه ـ للدّعوةِ إِلى اللهِّ والبيعةِ له على الجهادِ ، فبايَعه أهلُ الكوفةِ على ذلكَ وعاهدوه ، وضَمِنُوا له النّصرةَ والنصّيحةَ ووَثَّقوا له في ذلكَ وعاقدوه ، ثمّ لم تطُلِ المُدّةُ بهم حتّى نكثوا بيعتَه وخذلوه وأسلموه ، فقُتِلَ بينهم ولم يمنعوه ، وخرجوا إِلى الحسين عليه‌السلام فحصروه ومنعوه المسيرَفي بلادِ اللّهِ ، واضطرُّوه إِلى حيث لا يَجِدُ ناصراً ولا مَهْرباً منهم ، وحالوا بينَه وبينَ ماءِ الفُراتِ حتّى تمكَّنوا منه وقتلوه ، فمضى عليه‌السلام ظَمآنَ مجاهداً صابراً

__________________

(١) في هامش «ش» : وتشمر.

٣١

محتسباً مظلوماً ، قد نُكِثَتْ بيعتُه ، واستُحِلَّتْ حرمتُه ، ولم يُوفَ له بعهدٍ ، ولا رُعيَتْ (١) فيه ذِمَّةُ عَقْدٍ ، شهيداً على ما مضى عليه أبوه وأخوه عليهما أَفضل الصّلاةِ والرّحمةِ والتّسليمِ.

فصل

فمن مختصر الأخبارِ الّتي جاءتْ بسبب دعوته عليه‌السلام وما أخذَه
على النّاسِ في الجهادِ من بيعتِه ، وذكرِ جملةٍ منَ أمرِه وخروجِه ومقتلِه.

ما رواه الكَلبيُّ والمدائنيُّ وغيرُهما من أصحاب السِّيرةِ قالوا : لمّا ماتَ الحسنُ بنُ عليٍّ عليهما‌السلام تحرّكتِ الشِّيعةُ بالعراقِ وكتبوا إِلى الحسينِ عليه‌السلام في خلعِِ معاويةَ والبيعةِ له ، فامتنعَ عليهم وذكرَ أنّ بينَه وبينَ معاويةَ عهداً وعقداَ لا يجوزُ له نقضُه حتّى تمضِيَ المُدّةُ ، فإِن ماتَ معاويةُ نظرَ في ذلكَ.

فلمّا ماتَ معاويةُ ـ وذلكَ للنِّصفِ (٢) من رجب سنة ستِّينَ منَ الهجرةِ ـ كتبَ يزيدُ إِلى الوليدِ بنِ عُتْبة بن أبي سفيانَ ـ وكانَ على المدينةِ من قِبَلِ معاويةَ ـ أن يأْخذَ الحسينَ عليه‌السلام بالبيعةِ له ، ولا يُرخِّصَ له في التّأخُّرِعن ذلكَ. فأنفذَ الوليدُ إِلى الحسينِ عليه‌السلام في الليلِ فاستدعاه ، فعَرفَ الحسينُ الّذي أرادَ فدعا جماعةً من مواليه وأمرَهم بحملِ السِّلاحِ ، وقالَ لهم : « إِنّ الوليدَ قد

__________________

(١) في هامش «ش» و «م» : روعيت.

(٢) في هامش«ش» و «م» : في النصف.

٣٢

استدعاني في هذا الوقتِ ، ولستُ آمَنُ أن يُكلِّفني فيه أمراً لا أُجيبُه إليه ، وهو غيرُ مأْمونٍ ، فكونوا معي ، فإِذا دخلتُ إِليه فاجلِسوا على البابِ ، فإِن سمعتم صوتي قد علا فادخُلوا عليه لتمنعوه منِّي.

فصارَ الحسينُ عليه‌السلام إلى الوليدِ فوجدَ عندَه مروانَ بنَ الحكمِ ، فنعى الوليدُ إِليه معاويةَ فاسترجعَ الحسينُ عليه‌السلام ، ثم قرأ كتابَ يزيدَ وما أمرَه فيه من أخذِ البيعةِ منه له ، فقالَ له الحسينُ : «إِنِّي لا أراكَ تَقنعُ ببيعتي ليزيدَ سرّاً حتّى أُبايعَه جهراً ، فيعرف الناسُ ذلكَ » فقالَ الوليدُ له : أجل ، فقالَ الحسينُ عليه‌السلام : «فتصبحُ وترى ريكَ في ذلكَ » فقالَ له الوليدُ : انصرفْ على اسمِ اللّهِ حتّى تأْتينا معَ جماعةِ النّاسِ. فقالَ له مروانُ : واللهِ لئن فارقَكَ الحسينُ السّاعةَ ولم يُبايعْ لا قَدرت منه على مثلِها أبداً حتّى يكثرَ القتلى بينَكم وبينَه ، احبسِ الرّجلَ فلا يخرج من عندِكَ حتّى يبايعَ أوتضربَ عنقَه. فوثبَ عندَ ذلكَ الحسينُ عليه‌السلام وقالَ : «أنتَ ـ يا ابنَ الزّرقاءِ ـ تَقتلني أو هو؟! كذبتَ واللّهِ وأثمتَ » وخرجَ (يمشي ومعَه ) (١) مواليه حتّى اتى منزلَه.

فقالَ مروان للوليد ِ: عصيتَني ، لا واللهِ لا يُمكِّنكَ مثلَها مِن نفسِه أبداً ، فقالَ الوليدُ : (الويح لغيرك ) (٢) يا مروانُ إِنَّكَ اخترتَ لي الّتي فيها هلاكُ ديني ، واللّهِ ما أُحِبُّ أنّ لي ما طلعتْ عليه الشّمسُ وغربتْ عنه من مالِ الدُّنيا وملكِها وأنّي قتلتُ حسيناً ، سبحانَ اللهِّ! أقتلُ حسيناً أنْ

__________________

(١) في هامش «ش» و «م» : فمشى معه.

(٢) في هامش «ش» و «م» : ويح غيرك ، وما أثبتناه من «ش» و «م» و «ح». قال العلامة المجلسي في البحار ٤٤ : ٣٦٠ : قال هذا تعظيماً له ، أي لا اقول لك ويحك بل أقول لغيرك.

٣٣

قالَ لا أُبايعُ؟! واللهِ إنَي لأظنُّ أنّ امراً يُحاسبُ بدمِ الحسينِ خفيفُ الميزانِ عندَ اللهِ يومَ القيامةِ. فقالَ له مروانُ : فإِذا كانَ هذا رأيك فقد أصبتَ فيما صنعتَ ؛ يقولُ هذا وهوغيرُ الحامدِ له في رأْيِه (١).

فأقامَ الحسينُ عليه‌السلام في منزلهِ تلكَ الليلَة ، وهي ليلةُ السبتِ لثلاثٍ بَقِيْنَ من رجبِ سنةَ ستَينَ. واشتغلَ الوليدُ بنُ عُتْبةَ بمراسلةِ ابنِ الزُّبيرِ في البيعةِ ليزَيدَ وامتناعِه عليه. وخرجَ ابنُ الزُبيرِمن ليلتِه عنِ إلمدينةِ متوجِّهاً إِلى مكّةَ ، فلمّا أصبحَ الوليدُ سرّحَ في أثرِه الرِّجالَ ، فبعثَ راكباً من موالي بني أُمّيةَ في ثمانينَ راكباً ، فطلبوه فلم يُدرِكوه فرجعوا.

فلمّا كانَ آخر (نهارِ يوم ) (٢) السّبتِ بعثَ الرِّجالَ إِلى الحسينِ بنِ عليِّ عليهما‌السلام ليحضرَ فيبايعِ الوليدَ ليزيد بن معاويةَ ، فقالَ لهم الحسَينُ : «أصبِحوا ثمّ تَرَوْن ونرَى» فكفُّوا تلكَ الليلةَ عنه ولم يُلِحُّوا عليه. فخرجَ عليه‌السلام من تحتِ ليلتِه ـ وهي ليلةُ الأحدِ ليومين بَقِيا من رجبٍ ـ متوجِّهاً نحوَ مكّةَ ومعَه بنوه واخوتُه وبنوأخيه وجُلُّ أهلِ بيتهِ إلّا محمّدَ بنَ الحنفيّةِ ـ رضوان اللهِ عليه ـ فإِنّه لمّا علمَ عزمَه على الخروجِ عنِ المدينةِ لَم يدْرِ أينَ يتوجّهُ ، فقالَ له : يا أخي أنتَ أحبُّ النّاس إِليَّ وأعزُّهم عليَّ ولستُ أَدّخِرُ النّصيحةَ لأحدٍ منَ الخلقِ إِلا لكَ وأَنتَ أحقُّ بها ، تَنَحَّ ببيعتِكَ عن يزيد بن معاويةَ وعنِ الأمصارِ ما استطعتَ ، ثمّ ابعثْ رُسُلَكَ إِلى النّاسِ فادعُهم إِلى نفسِكَ ، فإِن تابَعَكَ النّاسُ وبايَعوا لكَ حمدتَ اللهَّ على ذلكَ ، وإن

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٣٩.

(٢) في هامش «ش» : النهار من يوم.

٣٤

أجمعَ النّاسُ على غيرِكَ لم يَنْقُصِ اللّهُ بذلكَ دينَكَ ولا عقلَكَ ولا تَذْهَب به مروءتُكَ ولا فضلُكَ ؛ إِنّي أخافُ أن تَدخلَ مصراً من هذه الأمصارِ فيختلف النّاسُ بينَهم فمنهم طائفةٌ معَكَ وأُخرى عليكَ ، فيقتَتِلونَ فتكونُ أنتَ لأوّلِ الأسِنَّةِ ، فإِذا خيرُهذه الأُمّةِ كلِّها نفساً وأباً وأُمّاً أضيعُها دماً وأذلُّها أهلاً ، فقالَ له الحسينُ عليه‌السلام : «فأينَ أذهبُ يا أخي؟» قالَ : انزلْ مكّةَ فإِنِ اطمأنّتْ بكَ الدّارُ بها فسبيلُ ذلكَ ، وِإن ( نَبَت بك ) (١) لحقتَ بالرِّمالِ وشَعَفِ الجبالِ وخرجتَ من بلدٍ إِلى بلدٍ ، حتّى تنظرَ ( ما يصيرُأمرُ النّاسِ إِليه ) (٢) ، فإِنّكَ أصوبُ ما تكونُ رأياً حينَ تستقبَلُ الأمرَ استقبالاً. فقالَ : «يا أخي قد نصحتَ وأشفَقْتَ ، وأرجو أن يكونَ رأْيُكَ سديداً موفّقاً».

فسارَ الحسينُ عليه‌السلام إلى مكّةَ وهو يقرأ : ( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفَاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّني مِنَ الْقَوْم الظَالِميْنَ ) (٣) ولزمَ الطّريقَ الأعظمَ ، فقالَ له أهلُ بيتِه : لوتنكّبْتَ الطَّريقَ الأَعظمَ كما صنعَ (٤) اَبنُ الزُّبيرِلئلاّ يلحقَكَ الطّلبُ ، فقالَ : «لا واللّهِ لا أُفارقُه حتّى يقضيَ اللّهُ ما هوقاضٍ ».

ولمّا دخلَ الحسينُ مكّةَ كانَ دُخُولُه إِليها (٥) ليلةَ الجمعةِ لثلاث مَضَيْنَ من شعبانَ ، دخلهَا وهو يقرأُ : ( وَلَمِّا تَوَجَّههَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قالَ

__________________

(١) نبت بك : أي لم تجد بها قراراً ، ولم تطمئن عليها .. «انظر لسان العرب ـ نبا ـ ١٥ : ٣٠٢».

(٢) في هامش «ش» : الى ما يصير امر الناس.

(٣) القصص ٢٨ : ٢١.

(٤) في هامش «ش» و «م» : فعل.

(٥) في هامش «ش» : أياها.

٣٥

عَسَى رَبِّيْ أنْ يَهْدِيَنيْ سَوَاءَ السَّبِيْل ) (١) ثمّ نزلَها وأقبلَ أهلُها يختلفونَ إِليه ، ومن كانَ بها من المعتمرينَ وأَهل الآفَاقِ ، وابنُ الزُّبيرِ بها قد لزمَ جانبَ الكعبةِ فهو قائمٌ يصلِّي عندَها ويطوفُ ، وياْتي الحسينَ عليه‌السلام فيمن ياْتيه ، فيأْتيه اليومينِ المتواليينِ وياْتيه بينَ كلِّ يومينِ مرّةً ، وهو أثقلُ خلقِ اللهِّ على ابنِ الزُبيرِ ، قد عرفَ أنّ أهلَ الحجازِ لا يُبايعونَه ما دامَ الحسينُ عليه‌السلام في البلدِ (٢) ، وأنّ الحسينَ أطوعُ في النّاس منه وأجلُ.

وبلغَ أهل الكُوفةِ هلاك معاويةَ فأرجفوا بيزيدَ ، وعَرفوا خبرَ الحسينِ عليه‌السلام وامتناعَه من بيعتهِ ، وما كانَ من ابنِ الزُّبيرِ في ذلكَ ، وخروجهما إِلى مكّةَ ، فاجتمعتِ الشِّيعةُ بالكوفةِ في منزلِ سُليمان ابن صُرَد ، فذكروا هلاكَ معاويةَ فحمدوا اللهَ عليه ، فقالَ سليمانُ : إِنّ معاويةَ قد هلكَ ، وانّ حُسَيناً قد تَقَبَّضَ (٣) على القوم ببيعتِه ، وقد خرجَ إِلى مكّةَ ، وأنتم شيعتُه وشيعةُ أبيه ، فإِن كنتم تعَلمونَ أنّكم ناصِروه ومجاهِدو عَدوِّه ( فاعلموه ، وان خفتم الفشل والوهن فلا تغروا الرجل في نفسه ، قالوا : لا ، بل نقاتل عدوه ، ونقتل انفسنا دونه ، قال : ) (٤) ؛ فكَتَبُوا :

بسمَ اللّهِ الرّحمنِ الرّحيمِ

للحسينِ بنِ عليٍّ عليهما‌السلام من سُليمان بن صُرد ، والمسَيَّبِ

__________________

(١) القصص ٢٨ : ٢٢.

(٢) في «م» وهامش «ش» : بالبلد.

(٣) تقبّض ببيعته : انزوى بها ولم يعطهم اياها «لسان العرب ـ قبض ـ ٧ : ٢١٣».

(٤) في «ش» و «م» : بدل ما بين القوسين : ونقتل أنفسنا دونه.

٣٦

ابن نَجَبَةَ ، ورِفاعة بن شدّادٍ ، وحبيبِ بنِ مُظاهِر (١) ، وشيعتِه من المؤمنينَ والمسلمينَ من أهلِ الكوفةِ :

سلامٌ عليك ، فإِنّا نحمدُ إِليكَ اللهَ الّذي لا إِلهَ إلّا هو.

أمّا بعدُ : فالحمدُ للّهِ الّذي قصمَ عدوَّكَ الجبّارَ العنيدَ ، الّذي انتزى على هذهِ الأمّةِ فابتَزَها أمرَها ، وغصبَها فيئَها ، وتأمّرَ عليها بغيرِ رضىً منها ، ثمّ قتلَ خيارَها واستبقى شِرارَها ، وجعلَ مالَ اللّهِ دُوْلةً بينَ (جبابرتِها وأغنيائها ) (٢) ، فبعُداً له كما بَعدَتْ ثمودُ. إِنّه ليسَ علينا إِمامٌ ، فأقبِلْ لعلّ اللّهَ أن يجمعَنا بكَ على الحقِّ ؛ والنُّعمانُ بنُ بشيرٍ في قصرِ الأمارة لسْنا نجَمِّعُ معَه في جمعةٍ ولا نخرجُ معَه إِلى عيدٍ ، ولوقد بَلَغَنا أنّكَ أَقبلتَ إِلينا أخرَجْناه حتّى نُلحقَه بالشّامِ إِن شاءَ اللّهُ.

ثمّ سرّحوا الكتابَ (٣) معَ عبدِاللهِ بنِ مِسْمَعٍ الهَمْدانيّ وعبدِاللّهِ ابنِ والٍ ، وأمروهما بالنّجاءِ(٤) ، فخرجا مُسرِعَيْنِ حتّى قدما على الحسينِ عليه‌السلام بمكّة َ(٥) ، لعشرٍ مَضَيْنَ من شهرِ رمضانَ.

(ولبثَ أهلُ الكُوفةِ يومينِ بعدَ تسريحِهم ) (٦) بالكتاب ، وأنفذوا قيسَ بنَ مُسْهِرٍ الصَّيْداويّ و (عبدَ الرّحمن بن عبدِ الله الأرحبّي ) (٧) وعمارةَ

__________________

(١) في هامش «ش» و «م» : مظهَر.

(٢) في هامش «ش» و «م» : عتاتها واغنيائها.

(٣) في هامش «ش» : بالكتاب.

(٤) النجاء : السرعة « القاموس المحيط ـ نجو ـ ٤ : ٣٩٣».

(٥) في «م» وهامش «ش» : مكة.

(٦) في «م» وهامش «ش» : ثم كتب أهل الكوفة بعد تسريحهم.

(٧) في النسخ الخطية : عبدالله بن شداد الأرحبي ، وبعده بأسطر ذكره باسم عبد الرحمن

٣٧

ابنَ عبدٍ السّلوليّ إِلى الحسينِ عليه‌السلام ومعَهم نحوٌ من مائةٍ وخمسينَ صحيفةً منَ الرّجلِ والاثنينِ والأربعةِ.

ثمّ لبثوا يومينِ آخرينِ وسرّحوا إِليه هانئ بنَ هانئ السّبيعيّ وسعيدَ بنَ عبدِاللهِّ الحنفيّ ، وكتبوا إِليه : بسمِ اللهِّ الرّحمنِ الرّحيمِ ، للحسينِ بنِ عليٍّ من شيعتهِ منَ المؤمنينَ والمسلمينَ.

أمّا بعدُ : فحيَّ هلا ، فإِنّ النّاسَ ينتظرونَكَ ، لا رأيَ لهم غيركَ ، فالعجلَ العجلَ ، ثمّ العجلَ العجلَ ، والسلامُ.

وكتبَ شَبَثُ بنُ رِبعيّ وحجَّارُ بنُ أبجرَ ويزيدُ بنً الحارثِ بنِ رُوَيمٍ و (عروةُ بنُ قيسٍ ) (١) ، وعمروبنُ الحجّاجِ الزّبيديّ و (محمّد بنُ عمرو التّيميّ ) (٢) : أمّا بعدُ : فقد اخضرَّ الجَناب وأينعتِ الثِّمارُ ، فإِذا شئتَ فاقدمْ على جُندٍ لكَ مجنَّدٍ ، والسّلامُ.

وتلاقتِ الرُسّلُ كلًّها عندَه ، فقرأ الكُتُبَ وسألَ الرّسلَ عنِ النّاسِ ، ثمّ كتبَ معَ هانئ بنِ هانئ وسعيدِ بنِ عبدِاللّهِ وكانا آخرَ الرُّسُلَ :

__________________

ابن عبدالله الارحبي والمصادر مجمعة عليه انظر ، (تاريخ الطبري ٥ : ٣٥٢ ، انساب الاشراف للبلاذري ٣ : ١٥٨ ، الفتوح لابن اعثم ٥ : ٣٢ ، وقعة الطف لابي مخنف : ٩٢ ، تذكرة الخواص : ٢٢٠ ، وفي الاخبار الطوال : ٢٢٩ : ابن عبيد.

(١) لم نجد في كتب الرجال عروة بن قيس ، والظاهر ان الصحيح عزرة بن قيس ، انظر تاريخ الطبري ٥ : ٣٥٣ ، انساب الاشراف ٣ : ١٥٨ ، وهو عزرة بن قيس بن عزية الاحمس البجلي الدهني الكوفي.

(٢) كذا في النسخ الخطية ، ولم نجد له في كتب الرجال ترجمة ، والظاهر ان الصحيح محمد بن عمير التميمي ، انظر تاريخ ألطبري ٥ : ٣٥٣ ، انساب الاشراف ٣ : ١٥٨ ، وهو محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب الدارمي التميمي الكوفي ، كان من اشراف أهل الكوفة ، لسان الميزان ٣٣٠ :٥ ، مختصر تاريخ دمشق ٢٣ : ١٥١.

٣٨

« بسمِ اللّهِ الرّحمنِ الرّحيمِ

منَ الحسينِ بنِ عليٍّ
إِلى الملإِ منَ المسلمينَ والمؤمنينَ.

أمّا بعد : فإِنّ هانئاً وسعيداً قَدِما عليَّ بكتبكم ، وكانا آخرَ من قدمَ عليَّ من رسلِكم ، وقد فهمت كلَّ الّذي اقتصصتم وذكرتم ، ومقالة جُلِّكم : أنّه ليسَ علينا إِمامٌ فأقبلْ لعلّ اللّهَ أن يجمعَنا بكَ على الهدى والحقِّ. وإِنِّي باعثٌ إِليكم أخي وابنَ عمِّي وثقتي من أهلِ بيتي ، فإِن كتبَ إِليَّ أنّه قدِ اجتمعَ رأيُ مَلَئِكم وذوي الحِجا والفضلِ (١) منكم على مثلِ ما قدمتْ به رُسُلُكم وقرأتُ في كُتُبِكم ، أقدم عليكم وشيكاً إِن شاءَ اللّهُ. فَلعَمري ما الأمامُ إلأ الحاكمُ بالكتاب ، القائمُ بالقسطِ ، الدّائنُ بدينِ الحقِّ ، الحابسُ نفسَه على ذَاتِ اللّهِ ، والسّلامُ ».

ودعا الحسينُ بنُ عليٍّ عليهما‌السلام مسلمَ بنَ عقيلِ بنِ أَبي طالبِ رضيَ اللهُّ عنه فسرَّحَه معَ قيسِ بنِ مُسْهِرِ الصّيداويّ وعُمارة بن عبدٍ السَّلوليّ وعبدِ الرّحمنِ بنِ عبدِاللّهِ الأَرحبي ، وأَمرَه بتقوى اللهِّ وكتمانِ أمرِه واللطفِ ، فإِنْ رأَى النّاسَ مجتمعينَ مُسْتوسِقِينَ عَجَّلَ إِليه بذلكَ.

فأقبلَ مسلمٌ حتّى أَتى المدينةَ فصلّى في مسجدِ رسولِ اللّهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله وودعِ من أَحبَّ من أَهلِه ثمّ استأْجرَ دليلينِ من قيس ،

__________________

(١) في هامش «ش» و «م» : الفضيلة.

٣٩

فأقبلا به يتنكّبانِ الطّريقَ ، فضلاّ وأصابَهم عطشٌ شديدٌ فعجزا عنِ السّيرِ ، فأومئا له إِلى سَنَنِ الطّريقِ بعدَ أنْ لاحَ لهما ذلكَ ، فسلكَ مسلمٌ ذلكَ السَّنَنَ وماتَ الدّليلانِ عطشاً.

فكتبَ مسلم بنُ عقيلٍ رحمه‌الله منَ الموضعِ المعروفِ بالمضيقِ معَ قيسِ بنِ مُسْهِرٍ : أمّا بعدُ : فإِنّني أقبلتُ منَ المدينةِ معَ دليلينِ لي فجارَا عنِ الطّريقِ فضلاّ واشتدَّ علينا (١) ، العطشُ فلم يلبثا أن ماتا ، وأقبلْنا حتّى انتهينا إِلى الماءِ فلم نَنْجُ إلاّ بحُشاشةِ أَنفسِنا ، وذلكَ الماءُ بمكانٍ يدعى المضيقَ من بطنِ الخَبْتِ (٢) ، وقد تطيَّرتُ من وجهي هذا ، فإِنْ رأَيتَ أَعفيتَني منه وبعثتَ غيري ، والسّلامُ.

فكتبَ إِليه الحسينُ بنُ عليٍّ عليهما‌السلام :

«أمّا بعدُ : فقد خَشيتُ (٣) أن لا يكونَ حَمَلَكَ على الكتابِ إِليَّ في الاستعفاءِ منَ الوجهِ الّذي وجّهتُك له إلاّ الجُبْنُ ، فامضِ لوجهِكَ الّذي وجّهتُكَ له ، والسّلامُ ».

فلمّا قرأَ مسلمٌ الكتابَ قالَ : أَمّا هذا فلستُ أتخوّفُه على نفسي. فأَقبلَ حتّى مرَّ بماءٍ لِطَيءٍ فنزلَ به ثمّ ارتحلَ منه ، فإِذا رجلٌ يرمي الصّيدَ فنظرَ إِليه قد رمى ظَبْياً حينَ أشرفَ (٤) له

__________________

(١) في «م» وهامش «ش» : عليهما.

(٢) الخبت : ماء لقبيلة كلب «معجم البلدان ـ خبت ـ ٢ : ٣٤٣».

(٣) في هامش «ش» و «م» : حسبت.

(٤) في هامش «ش» و «م» : اشرأبّ. ومعناه : مدّ عنقه لينظر. «الصحاح ـ شرب ـ ١ : ١٥٤ ».

٤٠