الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد - ج ٢

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

باب

ذكر طرفٍ من دلائلِ أبي الحسنِ موسى عليه السلامُ

وآياتِه وعلاماتِه ومعجزاتِه

أَخبرَني أَبو القاسمِ جعفرُ بنُ محمّدِ بنِ قولويهِ ، عن محمّدِ بنِ يعقوبَ الكلينيِّ ، عن محمّدِ بنِ يحيى ، عن أَحمدِ بنِ عيسى ، عن أبي يحيى الواسطيِّ ، عن هِشامِ بنِ سالم قالَ : كنّا بالمدينةِ بعدَ وفاةِ أَبي عبدِاللهِ عليه‌السلام أَنا ومحمّد بنُ النُعمانِ صاحبُ الطّاقِ ، والنّاسُ مُجْمعونَ (١) على عبدِالله بنِ جعفرٍ أَنه صاحبُ الأمرِ بعدَ أَبيه ، فدخلْنا عليه ـ والنّاسُ عندَه ـ فسأَلْناه عنِ الزّكاةِ في كمْ تجبُ ، فقالَ : في مِائَتي دِرهم خمسةُ دراهمَ ، فقلنا له : ففي مائةٍ؟ قالَ : درهمانِ ونصفٌ؟ قلنا : واللهِ ما تقولُ المُرجئةُ هذا؛ فقالَ : واللهِ ما أدري ما تقول المُرجِئةُ.

قالَ فخرجْنا ضُلّالا لا ندري إِلى أَينَ نتوجّهُ ، أَنا وأبو جعفرٍ الأحْوَلُ ، فقعدْنا في بعضِ أَزِقّةِ المدينةِ باكِيَيْنِ لا ندري أَينَ نتوجّهُ وِإلى من نقصِدُ ، نقول : إلى المُرجئةِ ، اِلى القَدَريّة ، إلى المُعتزِلةِ ، اِلى الزّيديةِ ، [ إلى الخوارج ] (٢) ، فنحن كذلكَ إذْ ريأَتُ رجلاً شيخاً لا أعرفه يومئ إِليَّ بيدِه ، فخِفْتُ أَن يكونَ عيناً من عيونِ أَبي جعفرٍ المنصورِ ، وذلكَ أَنّه كانَ له بالمدينةِ جواسيسُ على من يَجتمعُ بعدَ جعفرٍ الناسُ ، فيؤخذ فيُضْرَبُ عنقُه ، فخِفْتُ أَن يكونَ منهم.

__________________

(١) في هامش « م » : مجتمعون.

(٢) ما بين المعقوفين أثبتناه من الكافي ورجال الكشي ، ليستقيم سياق ترديد الراوي مع جواب الامام عليه‌السلام فيما يأتي بعد من الحديث.

٢٢١

فقلتُ للأحولِ : تَنَحَّ فإِنِّي خائفٌ على نفسي وعليكَ ، وانّما يُريدُني ليس يُريدُكَ ، فتَنَحَّ عنِّي لا تَهْلكْ فتُعِينَ على نفسِكَ؛ فتنحّى عنَي بعيداً.

وتَبعتُ الشّيخَ ، وذلكَ أَنِّي ظننتُ أَنِّي لا أقدرُ على التّخلُّصِ منه ، فما زلتُ أَتبعهُ ـ وقد عُرِضْتُ على الموتِ ـ حتّى وَردَ بي على بابِ أبي الحسنِ موسى عليه‌السلام ثمّ خلاني ومضى ، فإِذا خادمٌ بالبابِ فقالَ لي : ادْخُلْ رحمَكَ اللهُّ.

فدخلتُ فإِذا أَبو الحسنِ موسى عليه‌السلام فقالَ لي ابتداءً منه : « إِليَّ إِليَّ ، لا إِلى المُرجئةِ ، ولا إِلى القَدَرِيّةِ ، ولا إِلى المُعتزِلةِ ، ولا إِلى الخوارجِ ، ولا إلى الزّيديّةِ » قلتَ : جعِلْتُ فداكَ ، مضى أَبوكَ؟ قالَ : «نعم » قلتُ : مضى موتاً؟ قالَ : «نعم» قلتُ : فَمنْ لنا من بعدِه؟ قالَ : «إِن شاءَ اللهُّ أن يَهديَكَ هداكَ » قلتُ : جُعِلْتُ فداكَ ، إِنّ عبدَاللهِّ أَخاكَ يَزعمُ أَنّه الإمامُ بعدَ أَبيه ؛ فقالَ : « عبدُاللهِ يرُيدُ أَلا يُعْبَدَ اللهُ » قالَ : قلت : جُعِلْتُ فدِاكَ ، فمَنْ لنا بعدَه؟ فقالَ : «إِن شاءَ اللهُ أَن يَهديَكَ هداكَ » قالَ : قلتُ : جُعِلْتُ فداكَ ، فأَنتَ هو؟ قالَ : «لا أَقولُ ذلكَ ».

قال : فقلتُ : في نفسي : لم أُصِبْ طريقَ المسألةِ ؛ ثمّ قلتُ له : جُعلتُ فداكَ ، عليكَ إِمامٌ؟ قالَ : «لا» قالَ : فدخلَني شيءٌ لا يَعلمهُ إلا اللهُّ إعظاماً له وهيبةً ، ثمّ قلتُ : جُعلتُ فداكَ ، أَسأَلُكَ كما كُنتُ أَسأَلُ أَباكَ؟ قالَ : «سَلْ تُخْبَرْ ولا تُذعْ ، فإِنْ أذعتَ فهو الذّبحُ » قالَ : فسأَلته فإِذا هو بحرٌ لا يُنْزَفُ ، قلتُ : جعلتُ فداكَ ، شيعةُ أَبيكَ ضلالٌ ، فأُلقي إِليهم هذا الأَمرَ وأَدعوهم إِليكَ؟ فقد أَخذتَ عليَّ الكتمانَ ؛ قالَ : «من آنستَ منهم رُشداً فأَلقِ إِليه وخُذْ عليه بالكتمانِ ، فإِن أَذاعَ فهو الذّبحُ »

٢٢٢

وأشارَ بيدِه إِلى حلقِه.

قالَ : فخرجتُ من عندِه ولقيتُ أَبا جعفرٍ الأحْوَلَ ، فقالَ لي : ما وراءَكَ؟ قلتُ : الهُدى؛ وحدّثْتهُ بالقِصّةِ. قالَ : ثمّ لقيْنا زُرارَةَ (١) وأَبا بصيرٍ فدَخلا عليه وسَمِعا كلامَه وساءلاه وقَطَعا عليه ، ثمّ لقيْنا النّاسَ أَفواجاً ، فكلُّ من دخلَ عليه قَطَعَ عليه ، إلا طائفَةَ عمّارٍ السّاباطيِّ ، وبقيَ عبدُاللهِّ لا يَدخلُ إِليه منَ النّاسِ إِلا القليلُ (٢).

أَخبرَني أَبو القاسمِ جعفرُ بنُ محمّدِ بنِ قولويهِ ، عن محمّدِ بنِ يعقوبَ ، عن عليِّ بنِ إِبراهيمَ ، عن أَبيه ، عنِ الرّافعيِّ قالَ : كانَ لي ابنُ عمٍّ يقالً له الحسنُ بنُ عبدِاللهِ ، وكانَ زاهداً وكانَ من أَعبدِ أَهلِ زمانِه ، وكانَ يتّقيه السُّلطانُ لجدِّه في الدِّين واجتهادِه ، وربمّا استقبلَ السُّلطانَ في الأمرِ بالمعروفِ والنّهيَِ عنِ المنكَرِ بما يغضِبُه ، فكان يَحْتَمِلُ ذلكَ له لِصَلاحِه ، فلم تَزَلْ هذه حاله حتّى دخلَ يوماً المسجدَ وفيه أبو الحسن موسى عليه‌السلام فأومأ إِليه فأَتاه ، فقالَ له : «يا أَبا عليٍّ ، ما أَحبَّ إِليَ ما أَنتَ فيه وأَسرَّني به! إلا أَنّه ليستْ لكَ معرفةٌ ، فاطْلُب المعرفةَ» فقالَ له : جُعلتُ فداكَ ، وما المعرفةُ؟ قالَ : «اذهَبْ تفقَّهْ ، واطْلُب الحديثَ » قالَ : عمّن؟ قالَ : «عن فقهاءِ أَهلِ المدينةِ ، ثمَّ اعرِضْ عليَّ الَحديثَ ».

قالَ : فذهبَ فكتبَ ثمّ جاءَ فقرأه عليه فأسقطَه كلَّه ، ثمّ قالَ له :

__________________

(١) في هامش البحار المطبوع قديماً نقلاً عن العلامة المجلسي رحمه‌الله : «ذكر زرارة هنا غريب ، إذ غيبته في هذا الوقت عن المدينة معروفة ، والظاهر مكانه مفضل [بن عمر] كما مر[من الكشي] او الفضيل كما في الكافي.

(٢) الكافي ١ : ٢٥٨ / ٧ ، رجال الكشي ٢ : ٥٦٥ / ٥٠٢ ، وذكره مختصراً الصفار في البصائر: ٢٧٠ / ١ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٧ : ٣٤٣ / ٣٥.

٢٢٣

«اذهَبْ فَاعْرِفْ » وكانَ الرّجلُ مَعْنِيّاً بدينهِ ، قالَ : فلم يَزَلْ يَترصّدُ أَبا الحسنِ حتّى خرجَ إِلى ضيعتن له ، فلقيه في الطّريقِ فقالَ له : جُعلت فداكَ إِنِّي أحتجُ عليكَ بينَ يَدَي اللهِّ ، فدلّني على ما تَجبُ عليِّ معرفتهُ ؛ قالَ : فاَخبرهَ أَبو الحسنِ عليه‌السلام بأَمرِأَميرِ المؤمنينَ عليه‌السلام وحقَّه وما يجبُ له ، وأَمرِ الحسنِ والحسينِ وعليِّ بنِ الحسينِ ومحمّدِ بنِ عليّ وجَعفرِ بنِ محمّد عليهم‌السلام ثمّ سكتَ. فقال له : جُعلتُ فداك ، فمَن الأمامُ اليومَ؟ قالَ : «إنْ أَخبرتُكَ تَقبلْ؟» قال : نعم ، قال : «أَنا هو» قال : فشيءٌ أَستدلُّ بهِ؟ قال : «اذْهَب إلى تلكَ الشجرةِ ـ واشارَإِلى بعضِ شجرِأُمِّ غَيْلانَ (١) ـ فقل لها : يقولُ لك : موسى بن جعفر: اقبلي » قال : فأتيتُها فرأيتُها والله تَخدّ (٢) الأرضَ خَدّاً حتى وَقَفَتْ بينَ يَديهِ ، ثم أَشارَ إَليها بالرجوعِ فَرَجَعَتْ. قال : فاَقرَّبهِ ، ثم لَزِمَ الصَّمْتَ والعِبادةَ ، فكان لا يَراهُ أَحد يَتكلّم بعدَ ذلكَ (٣).

وروى أحمدُ بن مِهران ، عن محمدِ بن عليّ ، عن أَبي بصيرٍ ، قالَ : قلتُ لأبي الحسنِ موسى بنِ جعفرٍ : جُعِلْتُ فدِاكَ ، بمَ يُعْرَف الإِمام؟ قال : «بخصالً :

أَمّا أَوّلُهُنَ فإِنّه بشيءٍ قدَ تَقدّمَ فيه من أَبيه ، واِشارَتُه إِليه ، ليكونَ حُجّةً ، ويُسأَلُ فَيُجيبُ ، واِذا سُكِتَ عنهُ آبتدَأ ، ويُخْبرُ بما في غَدٍ ، ويكلّمُ الناسَ بكلِّ لِسان ». ثم قال : «يا أَبا محمدٍ ، أُعطَيكَ عَلامة قبلَ أن

__________________

(١) أُمً غيلان : من الأشجار المعروفة عند العرب ، وتسمّى أيضاً السمرة ، أُنظر. « الصحاح ـ غيل ـ٥ : ١٧٨٨».

(٢) تخدّ الأرض : تشقّها. « الصحاح ـ خدد ـ ٢ : ٤٦٨ ».

(٣) الكافي ١ : ٢٨٦ / ٨ ، بصائر الدرجات : ٢٧٤ / ٦ ، ونقله العلآمة المجلسي في البحار: ٤٨ : ٥٣ / ٤٩.

٢٢٤

تَقومَ » فلم نَلْبِثْ أَن دَخلَ عليهِ رجل مِن أَهلِ خُراسانَ فكلّمهُ الخُراسانيّ بالعربية ، فأَجابه أَبو الحسن بالفارسيّة ، فقال له الخراسانيّ : واللهِ ما مَنَعني أَنْ أُكلّمكَ بالفارسيّةِ إلّا أَنّه ظنَنْتُ أَنّك لا تُحسِنُها ، فقالَ : «سبحانَ اللهِ ، إِذا كنتُ لا أُحسِنُ أُجيبكَ ، فما فَضْلي عليكَ فيما يُستَحَقُّ به الإمامةُ!» ثم قال : «يا أبا محمد ، إِنَّ الإمام لا يَخْفى عليهِ كلامُ أحَدٍ مِنَ النّاسِ ، ولا مَنْطِقُ الطَيْر (١) ، ولاكلامُ شيءٍ فيهِ رُوْحٌ » (٢).

وروى عبدُاللهِ بنُ إِدريسَ ، عن ابنِ سِنانٍ ، قال : حَمَلَ الرشيدُ في بعضِ الأيّام إِلى عليِّ بنِ يَقْطِين ثياباً أكرَمَهُ بها ، وكانَ في جُمْلَتِها دُرّاعَةُ خَزٌ سَودْاءُ من لِباَسِ المُلوكِ مثْقَلَةً بالذَهَب ، فاَنفذَ عليُّ بنُ يقطين جًلَّ تلكَ الثياب إِلى موسى بن جعفرٍ وأَنفذَ في جَملتِها تلكَ الدُرّاعةِ ، وأَضافَ إِليها مالاً كَان عندَهُ على رسمٍ لَهُ فيما يَحمِلُهُ إِليهِ مِنْ خُمْسِ مالِهِ.

فلمّا وصل ذلك إِلى أَبي الحسن عليه‌السلام قَبِلَ المالَ والثِيابَ ، ورَدّ الدُرّاعةَ على يدِ الرسولِ إِلى عليِّ بنِ يقطين وكتبَ إِليه : «إِحتفِظْ بها ، ولا تُخْرِجْها عن يدِكَ ، فسيكونُ لكَ بها شأنٌ تَحتاجُ إِليها معَهُ » فآرتاب عليُّ بنُ يقطين بردِّها عليهِ ، ولم يَدْرِ ما سَببُ ذلكَ ، واحتفَظَ بالدُرّاعةِ.

فلمّا كان بعدَ أَيّامٍ تغيَّرَعليُّ بنِ يقطين على غلامٍ كانَ يختصُّ به

__________________

(١) في الكافي وقرب الإسناد بعده إضافة : «ولا بهيمة».

(٢) الكافي ١ : ٢٢٥ / ٧ ، ورواه الحميري في قرب الإسناد : ١٤٦ ، والطبري في دلائل الإمامة : ١٦٩ ، باختلاف يسير ، وابن شهرآشوب في المناقب ٤ : ٢٩٩ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨ : ٤٧ / ٣٥.

٢٢٥

فصرَفَهُ عن خدمَتِهِ ، وكان الغلامُ يَعْرِف ميلَ عليِّ بنِ يقطين إِلى أَبي الحسنِ موسى عليه‌السلام ، ويقِفُ على ما يحمِلهُ إِليه في كلِّ وقتٍ من مالٍ وثيابٍ وألطافٍ وغيرِ ذلكَ ، فسعى به إِلى الرشيدِ فقال : إِنّه يقول بإِمامةِ موسى ابنِ جعفرٍ ، ويَحْمِلُ إِليهِ خُمْسَ مالِهِ في كُلِّ سَنَةٍ ، وقَدْ حَمَلَ إِليهِ الدُرّاعةَ التي أَكْرَمَهُ بها أَميرُ المؤمنينَ في وقتِ كَذا وكَذا. فاستشاطَ الرشيدُ لذلكَ وغَضِبَ غَضَباً شديداً ، وقال : لأكْشِفَنّ عنْ هذهِ الحال ، فإِنْ كانَ الأَمرُ كما تقولُ أَزهَقْتُ نفسَهُ.

وأَنفذَ في الوقت بإِحضارعليِّ بنِ يقطين ، فلمّا مَثُلَ بينَ يديهِ قال له : ما فَعَلَتِ الدُرّاعةُ التي كَسَوتُكَ بها؟ قال : هي يا أمير المؤمنين عِندي في سفط مَختومٍ فيهِ طِيبٌ ، قد احتفظتُ بها ، قَلَّما أَصبحتُ إِلا وفتحتُ السَفَطَ ونظرتُ إِليها تبرّكاً بها وقبّلتُها وردَدّتُها إِلى موضِعِها ، وكلّما أَمسيتُ صنعت بها مثلَ ذلكَ.

فقال : أَحْضِرها الساعةَ ، قال : نعم يا أَميرَالمؤمنينَ. واستدعى بعضَ خَدَمِهِ فقال له : إِمْضِ إِلى البيتِ الفُلانيّ من داري ، فَخُذْ مفتاحَه من خازنتي وآفتَحْهُ ، ثم افتحِ الصُندوقَ الفُلانيّ فجِئْني بالسَفَطِ الذي فيه بخَتْمِهِ. فلم يَلْبثِ الغُلامُ أَن جاءَ بالسَفَطِ مَختوماً ، فَوُضِعَ بين يَدَيِ الرشيدِ فأَمرَ بكَسْرِخَتْمِهِ وفَتْحِهِ.

فلمّا فُتِحَ نَظرَ إِلى الدُرّاعةِ فيهِ بحالِها ، مَطْوٌيَةٌ مدفونةٌ في الطيب ، فَسَكَنَ الرشيدُ من غَضَبهِ ، ثمّ قال لعليِّ بنِ يقطين : اُردُدْها إِلى مكاَنِها وانصرِفْ راشِداً ، فلنْ أُصدِّقَ عليكَ بعدَها ساعياً. وأَمرَ أَنْ يُتْبَعَ بجائِزةٍ سَنِيَّةٍ ، وتقدّمَ بضَرْبِ الساعي به أَلفَ سَوْطٍ ، فَضُرِبَ نَحوَ خمسمائةِ

٢٢٦

سَوْطٍ فماتَ في ذلك (١).

وروى محمدُ بن إِسماعيل ، عن (محمدِ بن الفضل ) (٢) قال : إِختلفَتِ الروايةُ مِن بينِ أَصحابنا في مسحِ الرجلَينِ في الوضوء ، أَهوَ من الأصابِع إِلى الكَعْبَينِ ، أَمْ مِنَ الكَعبينِ إِلى الأصابِع؟ فكتبَ عليُّ بن يقطين إِلى أَبي الحسن موسى عليه‌السلام : جُعِلْتُ فِداكَ ، إنّ أَصحابَنا قَدْ اختلفُوا في مسحِ الرجلينِ ، فإِن رأَيتَ أَنْ تَكتُبَ إِليَّ بخطِّكَ ما يكونُ عَملي بحَسَبِهِ (٣) فَعَلْت إِنْ شاءَ اللهُ.

فكتبَ إِليهِ أَبو الحسنِ عليه‌السلام : «فَهِمْتُ ما ذَكَرْتَ مِنَ الاختِلافِ في الوُضوء ، والذي امرُكَ بهِ في ذلكَ أَنْ َتتمضمض ثلاثاً ، وتَستَنْشِقَ ثلاثاً ، وتغسِلَ وَجْهَكَ ثلاثاً ، وتُخَلِّلَ شَعْرَ لحيَتِكَ ( وتَغْسِلَ يدَكَ إِلى المِرفقَينِ ثلاثاً ) (٤) وتمسَحَ رأسَكَ كُلَّه ، وتمسَحَ ظاهِرَ أُذُنَيْكَ وباطِنَهُما ، وتَغْسِلَ رِجْلَيْكَ إِلى الكَعْبَينِ ثلاثاً ، ولا تُخالفْ ذلكَ إلى غيرِه ».

فلمّا وصَلَ الكتابُ إِلى عليِّ بنِ يقطين ، تعجَّبَ ممّا رُسِمَ لَهُ فيهِ ممّا جميعُ العصابةِ على خلافهِ ، ثم قال : مولايَ أَعلمُ بما قال ، وأَنا ممتثلٌ

__________________

(١) ذكره ابن الصباغ في الفصول المهمّة : ٢٣٦ ، وأورده مختصراً ابن شهرآشوب في المناقب ٤ : ٢٨٩ ، والراونديَ في الخرائج والجرائح ١ : ٣٣٤ / ٢٥ ، والطبرسي في إعلام الورى : ٢٩٣ ، ونقله العلامه المجلسي في البحار ٤٨ : ١٣٧ / ١٢.

(٢) كذا في إلنسخ والمتكرر في الاسناد رواية محمد بن اسماعيل المتحد مع محمد بن اسماعيل بن بزيع عن محمد بن الفضيل ، ولا يبعد وقوع التصحيف هنا أيضاً ، لاحظ معجم رجال الحديث ١٧ : آخر ٤٣ ـ ٤٥.

(٣) في «م» وهامش «ش» : عليه.

(٤) ما بين القوسين سقط من نسختي «م» و «ح » وموجودة في نسخة «ش» وأُشير إِليها بأنّها مثبتة من نسخة أُخرى.

٢٢٧

أَمرَهُ ، فكانَ يعملُ في وضوئهِ على هذا الحدِّ ، ويخالفُ ما عليه جميعُ الشِيعةِ ، امتثالاً لأمرِ أَبي الحسنِ عليه‌السلام.

وسُعِيَ بعَليِّ بنِ يقطين إِلى الرشيدِ وقيِلَ لَهُ : إِنّه رافِضي مخالِف لَكَ ، فقالَ الرشيدُ لِبعضِ خاصَّتِه : قَدْ كَثُر عِندي القولُ في عليِّ بن يَقطين ، والقرْفُ (١) له بخلافنا ، ومَيْلُهَ إِلى الرَّفْضِ ، ولَسْتُ أَرى في خِدْمته لي تقصيراً ، وقَدِ امْتَحَنْتُه مِراراً ، فما ظَهَرْتُ منه على مايُقْرَفُ به ، وأُحبّ أَن أستَبرىءَ أَمرَهُ مِنْ حيثُ لايَشْعُرُ بذلك فَيَتَحرّز منّي. فقيلَ له : إِنّ الرافِضَةَ ـ يا أَميرَ المؤمنين ـ تُخالِفُ الجماعةَ في الوُضوء فتُخَفِّفُه ، ولا ترى غَسْلَ الرِجْلين ، فامْتَحِنْهُ مِنْ حَيث لا يَعْلمُ بالوقوفِ على وضوئه. فقال : أَجَلْ ، إِنَّ هذا الوَجْهَ يَظْهَرُ به أَمْرُه.

ثم تركه مدَّةً وَناطَهُ بشيءٍ من الشُّغْلِ في الدارِ حتى دَخَلَ وَقْتُ الصلاة ، وكانَ عليُّ بن يَقْطين يَخلُو في حُجْرةٍ في الدارِ لِوُضُوئهِ وَصَلاتِه ، فلَمّا دَخَلَ وَقْتُ الصلاةِ وَقَفَ الرشيد مِنْ وَراء حائطِ الحُجْرَةِ بحيث يَرى عَليَّ بن يقطين ولا يَراه هو ، فَدَعا بالماءِ لِلْوُضُوء ، فَتَمَضْمَضَ ثلاثاً ، وَاسْتَنْشَقَ ثلاثاً ، وغَسَلَ وَجْهَهُ ، وخَلَّل شَعْرَ لِحْيَتِه ، وغَسَلَ يَدَيْه إِلى المِرْفَقَيْن ثلاثاً ، ومَسَحَ رَأْسَهُ وأُذنَيْه ، وغَسَلَ رِجْلَيْهِ ، والرشيدُ يَنْظُرُ إِليه ، فَلَمَا رآه قد فَعَلَ ذلك لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَهُ حتى أشْرفَ عليه بحيث يَراه ، ثم ناداهُ : كَذبَ ـ يا عليّ بن يقطين ـ مَنْ زَعَمَ أَنّكَ مِنَ الرّافِضَةِ. وصلُحَتْ حالهُ عِنْدَه.

ووَرَدَ عليه كتابُ أَبي الحسن عليه‌السلام : « ابتدِئ من الان يا

__________________

(١) القرف : الاتهام. «الصحاح ـ قرف ـ ٤ : ١٤١٥ ».

٢٢٨

عليَّ بن يقَطين ، تَوَضَّأ كما أَمَرَ اللهُّ ، اغْسلْ وَجْهَكَ مَرّةً فريضةً وأًخْرى إِسباغاً ، وَاغْسلْ يَدَيْكَ مِنَ المِرْفَقَيْنِ كذلكَ ، وَامْسَحْ بِمُقَدَمِ رَأْسِكَ وَظاهِرِ قَدَمَيْكَ مِنَ فَضلِ نَداوَةِ وُضُوئكَ ، فَقَدْ زالَ ما كان يُخافُ عَلَيْكَ ، والسَّلام » (١).

ورَوى عليُّ بن أَبي حَمْزةَ البطائني ، قال : خَرَجَ أَبو الحسن موسى عليه‌السلام في بَعْضِ الأيّام مِنَ المدينة إِلى ضَيْعَةٍ له خارجةٍ عنها ، فصَحِبْتُهُ أَنا وكانَ راكباً بَغْلَةً وأَنَا على حِمارٍ لي ، فَلمّا صِرْنا في بَعْضِ الطريقِ اعْتَرَضَنا أَسَدٌ ، فأَحْجَمْتُ خَوْفاً وأَقْدَمَ أَبو الحسن موسى عليه‌السلام غيرَمُكْتِرثٍ به ، فَرَأَيْتُ الأسدَ يَتَذَلّلُ لأبي الحسن عليه‌السلام ويهُمْهِمُ ، فَوَقَفَ له أَبو الحسن عليه‌السلام كالمُصْغي إِلى هَمْهَمَتِهِ ، ووَضعَ الأسدُ يَدَهُ على كَفَلِ بَغْلَتِهِ ، وقَدْ هَمَّتني نَفْسي من ذلك وخِفْت خَوْفاً عظيماً ، ثمَّ تَنَحّى الأسَدُ إِلى جانبِ الطريقِ وحَوَلَ أَبو الحسن وَجْهَهُ إِلى الْقِبْلَةِ وجَعَلَ يَدْعو ، ويحَرِّكُ شَفَتَيْهِ بما لَمْ أَفْهَمْه ، ثم أَومَأَ إِلى الأسَدِ بيَدِهِ أَن امْضِ ، فَهَمْهَمَ الأسَدُ هَمْهَمَةً طويلةً وأَبو الحسن يَقُول : «آمينَ آمينَ » وَانصَرَفَ الأسَدُ حتّى غابَ مِنْ بَيْنِ أَعْيُنِنا.

ومَضى أَبو الحسن عليه‌السلام لِوَجْهِهِ وَاتَّبَعْتُه ، فَلمّا بَعُدْنا عَن المَوْضِعِ لَحِقْتُهُ فَقُلْتُ لَه : جعِلْت فِداكَ ، ما شأنُ هذا الأسدُ؟ فَلَقَدْ خِفْتهُ ـ واللهِ ـ عليكَ ، وعَجِبْتُ مِنْ شَأنِهِ معك. فقالَ لي أَبوالحسن عليه

__________________

(١) ذكره مختصرا ابن شهرآشوب في المناقب ٤ : ٢٨٨ ، والراوندي في الخرائج والجرائح ١ : ٢٦ / ٣٣٥ ، وذكره مرسلاً الطبرسي في اعلام الورى : ٢٩٣ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨ :٣٨ / ١٤.

٢٢٩

السلام : «إِنَّه خَرَجَ إِليَّ يَشكُو عُسْرَ الوِلادَةِ على لبُوءتِهِ (١) وسَأَلَني أَنْ أَسأَلَ اللهَّ أَنْ يُفَرِّجَ عنها ففَعَلْتُ ذلك ، وأُلقي في روْعي (٢) أَنّها تَلِدُ ذَكَراً له ، فَخَبَّرتُهُ بذلك ، فقالَ لي : امْضِ في حِفْظِ الله ، فلا سلٌطَ اللهُ عليك ولا على ذُرٌيتِك ولا على أحَدٍ من شيعتِكِ شَيْئاً مِنَ السباعِ ، فقُلْتُ : امينَ » (٣).

والأخبارُ في هذا البابِ كثيرةٌ ، وفيما أَثْبَتْناه منها كفايةٌ على الرَّسْم الذي تَقدَّمَ ، والمِنّة للّهِ.

* * *

__________________

(١) اللبُوءة : انثى الأسد ، واللبوة ساكنة الباء غيرمهموزة لغة فيها «الصحاح ـ لبأ ـ ١ : ٧٠».

(٢) الروع : القلبَ. «الصحاح ـ روع ـ ٣ : ١٢٢٣ ».

(٣) ذكره مختصراً ابن شهرآشوب في المناقب ٤ : ٢٩٨ ، والراوندي في الخرائج والجرائح ٢ : ٦٤٩ / ١ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨ : ٥٧ / ٦٧.

٢٣٠

باب

ذِكْرُ طُرَفٍ مِنْ فَضائِلهِ ومَناقِبِهِ

وخِلالِه التي بانَ بها في الفَضْلِ مِنْ غَيْرِهِ

وَكانَ أَبو الحسن موسى عليه‌السلام أَعْبدَ أَهْلِ زَمانِه وأَفْقَهَهمْ وأَسْخاهم كَفّاً وأَكْرَمَهم نَفْساً.

ورُوِي : أَنَّه كانَ يُصلّي نوافلَ الليلِ ويَصِلُها بصلاةِ الصًّبْحِ ، ثمَّ يُعقِّبُ حتّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، ويخرُّ للّهِ ساجِداً فلا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ الدعاءِ والتمْجيدِ(١) حتّى يَقْرُبَ زوالُ الشَمسِ (٢). وَكانَ يَدْعُو كثيراً فَيَقُولُ : « اللّهمَ إِنّي أَسْأَلكَ الراحةَ عِنْدَ المَوْتِ ، والْعَفْوَ عِنْدَ الحساب » (٣) ويكرر ذلكَ.

وكانَ مِنْ دُعائِهِ : «عَظُمَ الذَنْبُ مِنْ عَبْدِك فليَحْسُن العَفْوُ مِنْ عندك » (٤).

وكانَ يَبْكي مِنْ خَشْيَةِ اللهِّ حتّى تَخْضَلَّ لِحْيَتُهُ بالدُموعِ. وكانَ أَوصَلَ الناسِ لأهْلِهِ ورَحِمِهِ ، وكانَ يَفْتَقِدُ فُقَراءَ المدينةِ في اللَّيْلِ فَيَحْمِلُ

__________________

(١) في « م » وهامش « ش » : والتحميد.

(٢) أشار إلى نحو ذلك الخطيب في تاريخه ١٣ : ٣١ ، وابن الصباغ في الفصول المهمة : ٢٣٨ ، وذكره الطبرسي في اعلام الورى : ٢٩٦ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨ : ١٠١ / ٥.

(٣) اعلام الورى : ٢٩٦ ، مناقب ال أبي طالب ٤ : ٣١٨ ، الفصول المهمة : ٢٣٧.

(٤) تاريخ بغداد ١٣ : ٢٧ ، ومناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٣١٨ باختلاف يسير.

٢٣١

إِليهمْ فيه العَيْنَ (١) والوَرِقَ (٢) والأدِقّة (٣) والتُمورَ ، فيوصِلُ إِليهم ذلك ، ولايَعْلَمونَ مِنْ أَيّ جهةٍ هُو (٤).

أَخْبَرني الشَّريفُ أَبومحمد الحسن بن محمد بن يحيى ، قال : حَدَثَنا جَدّي يحيى بن الحسن بن جعفر ، قال : حَدَّثَنا إِسماعيل بن يعقوب ، قال : حدَّثَنا محمد بن عبدالله البَكْري ، قال : قَدِمْتُ المدينةَ أَطلُبُ بها دَيْناً فأَعْياني ، فقُلْتُ : لَوْ ذَهَبْتُ إِلى أَبي الحسن موسى عليه‌السلام فَشَكَوْتُ إِليهِ ، فأتَيتُهُ بنَقَمَى (٥) في ضَيْعَتِهِ ، فَخَرَجَ إِلَيَّ ومعه غلام معهُ مِنْشَفٌ (٦) فيه قَدِيدٌ مُجَزَّعٌ (٧) ، ليس معه غيرُهُ ، فأَكَلَ وأَكَلْتُ معه ، ثم سَأَلَني عن حاجتي ، فَذَكَرْتُ له قِصَّتَي ، فدَخَلَ ولم يُقِمْ إِلّا يسيراً حتى خَرَجَ إِلَيَّ ، فقالَ لغُلامِهِ : «اذهب » ثم مَدَّ يَدَهُ إِليَّ فَدَفَعَ إِليَ صُرَّةً فيها ثلاثمائة دينارٍ ، ثم قامَ فَوَلّى ، فقُمْت ورَكِبْتُ دابَّتي وانصرفتُ (٨).

__________________

(١) العين : الذهب والدنانير. « الصحاح ـ عين ـ ٦ : ٢١٧٠ ».

(٢) الورق : الفضة والدراهم. « الصحاح ـ ورق ـ ٤ : ١٥٦٤ ».

(٣) الأدقة : جمع دقيق وهو الطحين « الصحاح ـ دقق ـ ٤ : ١٤٧٦ ».

(٤) ذكره ابن شهرآشوب في المناقب ٤ : ٣١٨ ، والطبرسي في اعلام الورى : ٢٩٦ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨ : ١٠١ / ذيل الحديث ٥.

(٥) نَقَمَى : موضع من ريف المدينة المنورة كان للآل أبي طالب عليهم‌السلام. «معجم البلدان ٥ : ٣٠٠».

وفي النسخ الخطية بنُقمَى ، لكن الصحيح «بنَقَمَى». كما في نسخة العلامة المجلسي رحمه‌الله من بحاره للارشاد ٤٨ : ١٠٢ ، وفي تاريخ بغداد ١٣ : ٢٨ : ونقَمَى موضع.

(٦) في هامش «ش» : «المنشف : إزار له زِئبر» أي خمل كالقطيفة.

(٧) في هامش «ش» : المجزع : الأبيض والأحمر.

المجزّع : المقطع بألوان مختلفة من الجَزْع. بمعنى القطع. «لسان العرب ـ جزع ـ ٨ : ٤٨ ».

(٨) تاريخ بغداد ١٣ : ٢٨ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨ : ١٠٢ / ٦.

٢٣٢

أخْبَرَني الشريفُ أبومحمد الحسنِ بن محمد ، عن جَدِّه ، عَنْ غير واحد مِن أَصْحابهِ ومَشايِخِهِ : أَنّ رَجُلاً مِنْ ولد عمر بن الخطاب كانَ بالمدينةِ يُؤْذي أَبا الحسن موسى عليه‌السلام ويَسُبُّهُ إِذا رَآه َشْتِمُ عَلياً عليه‌السلام.

فقَال لَه بَعْضُ جُلَسائِهِ يَوْماً : دَعْنا نَقْتُلُ هذا الفاجِرَ ، فَنَهاهُم عَنْ ذلك أَشدَّ النَّهْي وزَجَرَهُمْ أَشدَّ الزَّجْر ، وسَأَلَ عن العُمَرِيّ ، فَذُكِرَ أَنه يَزْرعُ بِناحِيَةٍ من نَواحي المدينةِ ، فَرَكَبَ فَوَجَدَهُ في مَزْرَعَةٍ ، فَدَخَلَ المزْرَعَةَ بحِمارِهِ ، فصاحَ بِهِ العُمَرِيُّ : لا تُوْطئْ زَرْعَنا ، فتوطّأهُ أَبو الحسن عليه‌السلام بالحِمارِ حَتّى وَصَلَ إِليه فَنَزَلَ وجَلَسَ عِنْدَه وباسَطَهُ وضاحَكَه ، وقالَ له : «كَمْ غَرِمْتَ في زَرْعِكَ هذا؟» فقالَ له : مائةَ دينارٍ ، قال : « وكَمْ تَرْجُو أَنْ تُصيب فيه؟» قالَ : لَسْتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ ، قال : «إِنّما قُلْتُ لكَ : كَمْ تَرْجُو أَنْ يَجيئكَ فيه » قالَ : أَرْجُو فيه مِائَتَي دينارٍ. قالَ : فأَخْرَجَ له أَبو الحسن عليه‌السلام صُرَّةً فيها ثلاثُ مائةِ دينارٍ وقال : « ، هذا زَرْعكَ على حالِهِ ، واللهُّ يَرْزُقُكَ فيه ما تَرْجُو» قالَ : فقامَ العُمَريّ فَقَبَّلَ رَأْسَهُ وسَأَله أَنْ يَصْفَحَ عَنْ فارِطِهِ ، فَتَبَسَّمَ إِليهِ أَبو الحسن عليه‌السلام وَانْصَرَفَ.

قال : وراحَ إِلى المسجدِ فَوَجَدَ العُمَريَّ جالساً ، فلَمّا نَظَرَ إِليه قالَ : اللهّ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالاتِهِ. قالَ : فَوَثَبَ أَصْحابُه إِليهِ فقالُوا : ما قِصّتُك؟ قد كنتَ تقول غيرَ هذا ، قالَ : فَقالَ لهُم : قد سَمِعْتُمْ ما قُلْتُ الآن ، وجَعَلَ يَدْعُو لأبي الحسن عليه‌السلام فخاصَمُوهُ وخاصَمَهُمْ ، فَلمّا رَجَعَ أَبو الحسن إِلى دارهِ قالَ لجُلَسائِهِ الَّذينَ سَأَلوهُ في قَتْلِ العُمَريّ : «أَيُّما كانَ خَيْراً ما أَرَدْتُمْ أَو ما أَرَدْتُ؟ إِنَّني أَصْلَحْتُ أَمْرَهُ

٢٣٣

بالمقدارِ الذي عَرَفْتُتم ، وكَفَيْتُ به شَرَّه » (١).

وذَكَرَ جَماعةٌ من أَهْلِ العلمِ : أَنَّ أَبا الحسن عليه‌السلام كانَ يَصِلُ بالمِائتَيْ دينارٍ إِلى الثلاثمائةِ دينارٍ ، وكانَتْ صِرار أَبي الحسن موسى مَثَلاً (٢).

وذَكَرَ ابن عمّار ـ وغَيْرُه من الرُّواة ـ : أَنَّه لمّا خَرَجَ الرشيدُ إِلى الحَجِّ وَقَرُبَ من المدينةِ اسْتَقْبَلَتْهُ الوُجُوهُ من أَهْلِها يَقْدُمُهُم موسى بن جعفر عليهما‌السلام عَلى بَغْلةٍ ، فقالَ لَهُ الرَّبيعُ : ما هذه الدابَّةُ التي تَلَقَّيْتَ عليها أميرَ المؤمنينَ ، وأَنتَ إِن طَلَبْتَ عليها لم تُدرِك ، وِان طُلِبْتَ لم تَفُتْ ، فقال : «إنّها تَطَأْطَأَت عن خُيَلاءِ الخَيْل ، وَارْتَفَعَتْ عن ذِلّةِ العَيْر(٣) ، وخَيْرُ الأمُورِ أَوساطُها» (٤).

قالُوا : وَلمّا دَخَلَ هارونُ الرَّشيدُ المدينةَ تَوَجَّهَ لزِيارَةِ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومَعَهُ الناس ، فتَقَدَّمَ إِلى قَبْرِ رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالَ : السلامُ عَلَيْكَ يا رَسُولَ الله ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا ابنَ عَمِّ؛ مُفْتَخِراً بذلك على غيْرِهِ ، فَتَقدَّمَ أَبُو الحسن عليه‌السلام إِلى الْقَبْرِ فقالَ : «السَّلامُ عليكَ يا رَسُولَ اللهِّ ، السَّلامُ عليك يا أَبه » فَتَغيَّرَ وجْهُ الرَّشيد

__________________

(١) اخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه ١٣ : ٢٨ ، باختلاف يسير ، ورواه مختصراً ابو الفرج الاصفهاني في مقاتل الطالبيين : ٤٩٩ ، وابن شهرآشوب في المناقب ٤ : ٣١٩ ، والطبرسي في اعلام الورى : ٢٩٦ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨ : ١٠٢ / ٧.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤٩٩ ، تاريخ بغداد ١٣ : ٢٨ ، اعلام الورى : ٢٩٦ ، مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣١٨.

(٣) العَيرُ : الحمار الوحشي والاهلي ايضاً «الصحاح ـ عير ـ ٢ : ٧٦٢».

(٤) مقاتل الطالبيين : ٥٠٠ ، اعلام الورى : ٢٩٦ ، مناقب آل ابي طالب ٤ : ٣٢٠ ، باختلاف يسير ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨ : ١٠٣.

٢٣٤

وتَبينَ الغَيْظُ فيهِ (١).

ورَوى أَبو زَيْد قالَ : أَخْبَرَنَي عَبْدُ الحميدِ قالَ : سَأَلَ محمَّدُ بن الحسن أَبا الحسن موسى عليه‌السلام بمَحْضرَ مِنَ الرَّشيد ـ وُهُمْ بمكّة ـ فقالَ له : أَيَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُظَلِّلَ عليه محمِلَه؟ فقالَ له موسى عليه‌السلام : «لا يَجُوز له ذلك مع الاختيارِ» فقالَ له محمَّد بن الحسن : أَفيَجُوزُ أَن يَمْشي تَحْتَ الظِلالِ مُخْتاراً؟ فقال له : «نعَمْ » فتَضاحَكَ محمدُ بن الحسن من ذلك ، فقال لَه أَبو الحسن موسى عليه‌السلام : «أتَعْجَبُ من سُنَّةِ النَبِيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتَسْتَهْزِئ بها! إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله كَشَفَ الظِلالَ في إِحرامِهِ ، ومَشى تَحْتَ الظِلالِ وهوُ مُحْرِمٌ ، وِانَّ أَحْكامَ اللهّ ـ يا محمدُ ـ لا تُقاسُ ، فَمَنْ قاسَ بَعْضَها على بَعْضِ فَقَدْ ضلَّ عنْ سَواءِ السَّبيلِ «فسَكَتَ محمّدُ بن الحسن لا يَرْجعُ جَواباً (٢).

وقد رَوَى النّاسُ عن أَبي الحسن موسى عليه‌السلام فأَكْثَرُوا ، وكانَ أَفقهَ أَهْلِ زمانِه ـ حَسَبَ ما قَدَّمْناهُ ـ وأَحْفَظَهُمْ لِكتاب الله ، وأحْسَنَهم صَوْتاً بالقرآنِ ، وكانَ إِذا قَرَأ يَحْدُرُ (٣) ويبكي ويبكي السَامعونَ لِتِلاوَتِهِ ، وكانَ النّاسُ بالمدينةِ يُسمُّونَه زَيْنَ المتَهجِّدينَ. وسُمِّيَ بالكاظمِ لمِا كَظَمَهُ

__________________

(١) تاريخ بغداد ١٣ : ٣١ ، كفاية الطالب : ٤٥٧ ، تذكرة الخواص : ٣١٤ ، اعلام الورى : ٢٩٧ ، مناقب ابن شهرآشوب ٤ : ٣٢٠ ، الاحتجاج : ٣٩٣ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨ : ١٠٣.

(٢) اعلام الورى : ٢٩٨ ، الاحتجاج : ٣٩٤ ، ونقله العلامة المجلسى في البحار ٩٩ : ١٧٦ / ١.

(٣) في «م» : يُحَزِّن.

٢٣٥

مِنَ الْغَيْظِ ، وصَبَرَعليه من فِعْلِ الظالمينَ بِهِ ، حتى مَضى قَتيلاً في حبسهم ووثاقهم.

* * *

٢٣٦

بابُ

ذِكْرِ السَّبَب في وفاته

وطُرَفٍ مِنْ الَخَبَرِ في ذلك

وكانَ السّببُ في قَبْضِ الرشيدِ على أَبي الحسن موسى عليه‌السلام وحَبْسِهِ وقَتْلِهِ ، ما ذَكَرَهُ أحمدُ بن عُبيدالله بن عمّار ، عن علي بن محمد النوفلي ، عن أَبيه؛ وأَحمدُ بن محمد بن سعيد ، وأَبو محمد الحسنُ ابن محمد بن يحيى ، عن مشايخِهِمْ قالوُا : كانَ السَّببُ في أَخْذِ موسى بن جعفر عليهما‌السلام أَنَّ الرَشيدَ جَعَلَ ابْنَهُ في حِجْرِ جعفر بن محمد بن الأشعث ، فَحَسَدَه يحيى بن خالد بن بَرْمَك على ذلك ، وقالَ : إِنْ أَفْضَتْ إِليهِ الخِلافَةُ زالَتْ دَوْلَتي ودَوْلَةُ ولدي ، فاحْتالَ على جعفر بن محمد ـ وكانَ يَقُولُ بالإمامَةِ ـ حتى داخَلَهُ وأَنِسَ اليه ، وكانَ يُكْثِرُ غِشْيانَهُ في مَنْزِلِه فَيَقِفُ على أَمْرِهِ ويَرْفَعُه إِلى الرَّشيدِ ، ويَزيدُ عليه في ذلك بما يَقْدَحُ في قَلْبِهِ.

ثمَّ قالَ يَوْماً لبَعْضِ ثِقاتِه : تَعْرِفُون لي رَجُلاً من آلِ أَبي طالبٍ لَيْسَ بواسِعِ الحالِ ، يُعرِّفُني ما أَحتاجُ إِليه ، فدُلَّ عَلى عَليّ بن إِسماعيل بن جعفر بن محمد ، فحَمَلَ إِليه يحيى بن خالد مالاً ، وكانَ موسى بن جعفر عليه‌السلام يأنَسُ بعَليّ بن إِسماعيل ويَصِلُهُ ويَبرهٌّ. ثَم أَنْفَذَ إليه يحيى بن خالد يُرَغِّبُهُ في قَصْدِ الرَّشيدِ ، يَعِدُهُ بالإحْسانِ إِليه ، فعَمِلَ على ذلك ، وأَحَسَّ به موسى عليه‌السلام فدَعاهُ فقالَ له : «إلى أيْنَ يَا بْنَ أَخي؟» قال : إلى بغداد. قال : «وما تَصْنَعُ؟» قالَ : عَلَيَّ دَيْنٌ وأنا مُعْلِقٌ. فقالَ لَه موسى : «فأَنا أَقْضي دَيْنَكَ وأَفْعَلُ بك وأَصْنَعُ » فلَمْ يَلْتَفِتْ إِلى ذلك ، وعَمِلَ على

٢٣٧

الخروج ، فاسْتَدْعاهُ أَبو الحسن فَقالَ له : «أَنتَ خارِجٌ؟» قالَ : نعَمْ ، لا بُدّ لي مِنْ ذلك. فقالَ له : « اُنْظُرْ ـ يَا بْنَ أَخي ـ واتَّقِ اللهَّ ، ولا تؤتم أَوْلادي » وأَمَرَ له بثلاثمائةِ دينارٍ وأَربعةِ آلافِ درهمٍ ، فَلمّا قام من بين يديه قالَ أَبو الحسن موسى عليه‌السلام لِمَنْ حضره : «والله ليَسْعَينًّ في دَمي ، وُيؤْتمنَّ أوْلادي » فقالُوا له : جَعَلَنا اللهُ فداكَ ، فأَنْتَ تَعْلَمُ هذا مِنْ حالِهِ وتُعْطِيه وتَصلُه! قالَ لهم : «نعمْ ، حَدَّثَني أَبي ، عَنْ آبائِهِ ، عَنْ رَسوُلِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أَنَّ الرَّحِمَ إِذا قُطِعَتْ فَوُصِلَتْ فَقُطِعَتْ قَطَعَها الله ، وِانَّني أَرَدْتُ أَنْ أَصِلَهُ بَعْدَ قَطْعِهِ لي ، حتّى إِذا قَطَعَني قَطَعَهُ اللهُ ».

قالُوا : فَخَرَجَ علي بن إِسماعيل حتّى أَتى يحيى بن خالد ، فَتَعرَّفَ مِنْه خَبَر موسى بن جعفر عليهما‌السلام ورَفَعَهُ الى الرَّشيدِ وزادَ عليه ، ثم أَوْصَلَهُ إِلى الرًشيدِ فَسَأَله عَنْ عَمِّهِ فَسَعى به إِليه وقالَ له : إنَ الأَموال تُحمَلُ إِليه من المَشْرِقِ والمَغْرِب ، وأنه اشترى ضيعةً سمّاها اليَسيرَةَ بثلاثين أَلف دينار ، فقالَ له صاحِبُهَا ـ وقَدْ أَحْضَره المال ـ لا اخُذُ هذا النَّقْدُ ، ولا آخُذُ إِلا نَقْدَ كذا وكذا ، فأَمَرَ بذلك المال فرُدَّ وأَعطاه ثلاثين أَلف دينارٍ من النَّقْدِ الَّذي سَأَلَ بعَيْنِه. فَسَمِعَ ذلك منه الرَّشيدُ وأمَرَ له بمائتي أَلفِ درهمٍ تَسْبيباً (١) على بَعْضَِ النَّواحي ، فاخْتارَ بَعْضَ كُوَرِ المَشْرِقِ ، ومَضَت رُسُلُه لِقَبْضِ المالِ وأَقامَ يَنْتَظِرهُمْ ، فَدَخَلَ في بَعْضِ تلك الأيام إِلى الخلاءِ فَزَحَر زَحْرَةً خَرَجَتْ منها حشْوَتُهُ (٢) كُلُّها فَسَقَطَ ، وجَهَدُوا في

__________________

(١) في «م» وهامش «ش» : سُبِّبَ.

وسبِّبَ مشتق من السبب ، وهو كل ما يتوصل به الى الشيء ، ومن هذا الباب تسبّبُ مالِ الفيء ، لانّ المسبّب عليه المال جعل سبَباً لوصول المال الى من وجب له من أهل الفيء. «تهذيب اللغة ـ سبب ـ ١٢ : ٣١٤ ، لسان العرب ـ سبب ـ ١ : ٤٥٨».

(٢) في هامش «ش» : الحشوة: ما في البطن.

٢٣٨

رَدِّها فَلَمْ يَقْدِروا ، فوَقَعَ لمِا بِهِ (١) ، وجاءهُ المالُ وهُو َيَنْزِعُ ، فقالَ : ما أَصْنَعُ به وأَنا في الموتِ؟!

وخَرَجَ الرَّشيدُ في تلْكَ السَّنةِ إِلى الْحَجِّ ، وبدَأ بالمدينةِ فَقبضَ فيها على أَبي الحسن موسى عليه‌السلام. ويقالُ : انَّه لَمّا وَرَدَ المدينةَ اسْتَقْبَلهُ موسى بن جعفر في جَماعَةٍ من الأشرافِ ، وانْصرَفُوا مِنْ اسْتِقْبالهِ ، فمَضى أَبو الحسن إِلى المسجد على رَسْمِهِ ، وأَقامَ الرَّشيدُ إِلى الليل وصارَ إِلى قَبْرِ رَسُولِ اللهِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالَ : يا رَسُولَ الله ، إِنَّي أَعْتَذِرُ إِليك مِنْ شيءٍ أُريدُ أَنْ أفْعَله ، أُريدُ أَنْ أحْبسَ موسى بنَ جعفر ، فإِنَّهُ يُريدُ التَّشْتيتَ بَيْنَ أُمَّتِك وسَفْكَ دِمائِها.

ثم أمَرَ به فأُخِذَ مِنَ المَسْجِدِ فأُدْخِلَ إِليه فَقَيَّده ، واسْتَدْعى قبتين فَجَعَلَه في إِحْداهما على بَغْلٍ ، وجَعَلَ القُبَّةَ الأخْرى على بَغْلٍ اخَرَ ، وخَرَجَ البَغْلانِ مِنْ دارِهِ عليهما القُبتانِ مَسْتُورَتانِ ، ومع كلِّ واحدةٍ منهما خَيْلٌ ، فافْتَرَقَتِ الخَيْلُ فمَضى بَعْضُها مع إِحدى القُبَتَيْنِ على طريق البصرةِ ، والأخرى على طريق الكوفةِ ، وكانَ أَبو الحسن عليه‌السلام في القُبّةِ التي مُضِيَ بها على طريق البصرةِ. وانَّما فَعَلَ ذلك الرشيدُ ليُعمّي على الناس الأَمرَ في باب أَبي الحسن عليه‌السلام.

وأَمَرَ القَوْمَ الّذينَ كانوا مع قُبّةِ أبي الحسن أَنْ يُسلِّمُوه إِلى عيسى بن جعفر بن المنصور ، ـ وكانَ على البصرةِ حينئذٍ ـ فَسُلِّمَ إِليه فَحَبَسَه عِنْدَه سَنَةً ، وكَتَبَ إِليه الرَّشيدُ في دَمِهِ ، فاستدعى عيسى بنُ جعفر بَعْضَ خاصَّتِهِ وثِقاتِهِ فَاسْتَشارَهُمْ فيما كَتَبَ به الرَّشيدُ ، فاشاروا عليه

__________________

(١) لما به : اي ان حالته حالة الموت.

٢٣٩

بالتَوَقفِ عن ذلك والاسْتِعْفاءِ منه ، فكَتَبَ عيسى بن جعفر إِلى الرَّشيدِ يَقُولُ لَه : قد طالَ أَمْرُ موسى بن جعفر ومًقامُهُ في حَبْسي ، وقَدْ اخْتَبَرْتُ حالَه ووَضَعْتُ عليه الْعُيُونَ طُولَ هذهِ المُدّة ، فَما وَجَدْتُه يَفْتُرُعن العبادةِ ، ووَضَعْتُ مَنْ يَسْمَعُ منه ما يَقُولُ في دعائِهِ فَما دَعا عليك ولا عَلَيَّ ولا ذَكَرَنا في دُعائِهِ بسوءٍ ، وما يَدْعُو لِنَفْسِهِ إِلا بالمَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ ، فإِنْ أَنْتَ أَنْفَذْتَ إِلَيَ مَنْ يَتَسَلّمُهُ مِنّي وإلّا خَلَّيْتُ سَبيلَه فإِننّي مُتَحَرِّجٌ من حَبْسِهِ.

ورُوي : أنَّ بَعْضَ عُيونِ عيسى بن جعفر رَفَعَ إِليه أَنّه يَسْمَعُهُ كثيراً يَقُولُ في دعائِهِ وهو مَحْبوُسٌ عِنْدَه : «اللّهم إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنّي كُنْتُ أَسْاَلكَ أَنْ تُفَرِّغَني لعبادتِكَ ، اللهُمَّ وقَدْ فَعَلْتَ فلك الحمدُ».

فوجّه الرشيدُ مَنْ تَسَلَّمَهُ من عيسى بن جعفر ، وصَيَّرَ به إِلى بغداد ، فسُلِّم إِلى الفَضْل بن الربيع فبقي عِنْدَه مُدّةً طويلةَ فأَرادَهُ الرشيدُ على شيءٍ من أَمْرِهِ فأَبى ، فكَتَبَ إِليه بتسليمهِ إِلى الفَضْل بن يحيى فَتَسَلَّمَهُ منه ، وجَعَلَهُ في بَعْض حُجَرِ دارهِ ووَضَعَ عليه الرَّصَدَ ، وكانَ عليه‌السلام مَشْغُولاً بالعبادةِ يُحيي اللّيَلَ كُلَّه صلاةً وقراءةً للقرآنِ ودُعاءاً واجتهاداً ، ويَصُوم النَهارَ في أَكْثَرِ الأيّامِ ، ولا يَصْرِفُ وَجْهَهُ مِنَ المِحْرابِ ، فَوَسَّعَ عليه الفَضْلُ بن يحيى وأَكْرَمَة.

فاتَّصل ذِلك بالرشيد وهو بالرَّقَّةِ (١) فكَتَبَ إِليه يُنكِرُ عليه تَوْسِعَتَه على موسى ويأمُرُه بقَتْلِهِ ، فَتَوَقَفَ عن ذلك ولم يُقْدِمْ عليه ، فاغْتاظَ الرَّشيدُ

__________________

(١) الرَقة : مدينة مشهورة على الفرات معدودة في بلاد الجزيرة لأنها من جانب الفرات الشرقي ، وهي الآن احدى مدن سوريا ، انظر «معجم البلدان ٣ : ٥٩ ».

٢٤٠